عباس باني المالكي - أزمة الذات ووجودية المسميات) قراءة نقدية لمجموعة الشعرية (نعش الدمى) للشاعر مازن جميل المناف

أزمة الذات ووجودية المسميات )
قراءة نقدية لمجموعة الشعرية ( نعش الدمى ) للشاعر مازن جميل المناف
بقلم / الناقد أ . عباس باني المالكي
حين يكون بناء النص على الهاجس التكويني وضمن التصور الواقعي حولنا ، وهنا تظهر قدرة الشاعر على الارتقاء بهذا الواقع وجعلة في التدارك الذهني للصور التي تنتهجها مشاعره تجاه ما انعكس عليها من الواقع الذي عاشه ، و حتمية الجذب بين هذه المشاعر وهذا الواقع ، والشاعر الذي يستطيع أن يجعل من هذا الواقع رموزاً تقترب من خياله في تكوين الفكرة الإيحائية ، وهذا يعتمد على ملكية الشاعر لمنهاج اللغة ومفرداتها الحية خارج سكونية الواقع المعيشِ ، وما يعطيه سلسلة من الدلالات الرؤيوية ضمن نسق تحسسه لرموز المسميات التي تناظر ما بين بصرية فكرته التي تعكسها كل هذه الأشياء وموقفها المتغير وعلى مبدأ المغايرة والمباعدة والتي تؤدي إلى أحداث المنافرة بين ما يريد أن يراه او يتطلعّ له في حياته ما يراه في الواقع ، ما يجعل هذا التأثر يتزامن مع رؤياه ، فيتحول هذا إلى طاقة انفعالية تنتج داخلة أزمة تكشف له ما هو مغاير لكل تطلعاته ومفاهيمه التي تمثّل له حقيقة ذاته الانتمائية .والشاعر مازن جميل المناف في مجموعته ( نعش الدمى ) أستطاع أن يعيد صياغة الواقع ويحوّله إلى رموز تنتج له المكاشفة الحقيقة لكل ما هو متناقض مع فكره وتطلعاته الحيوية في الحياة ، ليعيد صياغة وعيه على وفق مفاهيمه التي يعيشها في جودية الأشياء ومسمياتها ، ما يجعله يشعر بالعزلة والتوحد مع الذات خارج مفاهيم المجتمع ، لأنه يريد التعايش السلمي مع الذات وسط المجتمع الذي يعيشه ....
نص (نيران صديقة)ص 24
(ما زال شغف الانتصار في فتونه/أجلس على ذلك الكرسي الخلفي /في ليالي حُمر/الوضع خطر متأزم جدا/مائدة مغتصبة/وقامات ممشوقة/داهمتني ضحكاتهم/اجتاحت مبتغاي الرهين/
في أضواء القاعة يبرزون انتصابهم/أخبروني أنْ الجزء الساخن في قضيتي/مازال يعتنق قوانين فطرية/تنهش بسطوتها البلهاء/حواسي المتورمة/كنت أكثر رعباً/أصابتني قشعريرة /وأحصيت بتلك اللحظة/موتى معركة أحد وبدر /وغرقى سفن الحالمين/تحت رحمة الاوغاد/ترى من يدفنوننا ارتدي بدلتي/اشتريتها من شارع الخيام/وربطة عنق فاخرة/بهجمات معاكسة/ونيران صديقة )
عندما يصل الإنسان إلى لحظة التي يشعر بها بعجزه كليا عن أحداث أي :تغير في الحياة التي يعيشها ، وهذه الحالة توصله إلى حالة من العتمة ، فيصل إلى لحظات يفقد تحسسه بالظروف (الغياب الكلي عن الحاضر) ، ما يجعله يعيش تصورات ترسمها مشاعره الداخلية بحسب حجم معاناته ،فتكون هذه على قدر التصور اللاوعي الباطني الذي يعطي أبعاد سيكولوجية تشخيصية لحالة الاستلاب الذي يشعره بحجم التداعيات الذهنية التصورية الإيحائية الترميزية لشخوص كانوا السبب في حالة يعيشها من الداخل ، ببصرية الذاكرة و الرؤيا التي تعكس إحساسه بالوحدة والغربة والضياع النفسي برؤياه كأنه يسعى بالبحث عن باب للخروج من أزمته ، ولكنه لا يمكنه العثور عليه نتيجة الظلام الذي يراه ، وهذه إشارة على الوضعية النفسية السيئة التي يعيشها داخله نتيجة لـمخاوفه التي يشعر بها من المستقبل المجهول. وقد تأتية على شكل أحلام رؤيوية ،تسبب له الرعب والتشظي تنهشه من الداخل (ما زال شغف الانتصار في فتونه/أجلس على ذلك الكرسي الخلفي /في ليالي حُمر/الوضع خطر متأزم جدا/مائدة مغتصبة/وقامات ممشوقة/داهمتني ضحكاتهم/اجتاحت مبتغاي الرهين/في اضواء القاعة يبرزون انتصابهم/أخبروني ان الجزء الساخن في قضيتي/مازال يعتنق قوانين فطرية/تنهش بسطوتها البلهاء/حواسي المتورمة/كنت اكثر رعبا ) و في هذه الحالة لا يستطيع أن يشارك في اشتراطات التي تجعله فعالاً في تكوين حياته ، فتبدأ التداعيات الذهنية برسم صور لشخوص ، وعلى قدر حجم معاناته منهم ،وهنا تبرز منهجية الشاعر مازن على تحوّيل تداعيات الذاكرة إلى الزمن الحاضر على وفق رؤيا ه ، والتي تتّصف برموز مقاربه لكل ما عاشه سابقا، على وفق التشكيل الذي يحقق له الانعتاق من الزمن الماضي وتداخلات اللاوعي مع رموزه الحاضرة ، ليحقق الخروج من أزمته وإعادة صيغة عالمه الذي يريد أن يعيش به وحسب هاجسه الآني والبعيد عن إرهاصات التي تجعله يعيد اصطدامه مع ما خلفه ذلك الماضي من جراحات ، لأنه يريد الانقلاب الكامل على تلك التكوينات النفسية وأزمتها ، لكي يخلق عالما قابلا أن يتصالح معه.
والشاعر أستطاع أن يجذب ما عاشه سابقا ويستحضره في الحاضر لكي يفك رموزه ويعيد صياغتها على وفق التداعي الشعوري الاستدلالي، ليجعله تغيرا كاملا والذي يعيده إلى خارج الحاضر والبعيد عن ما مر به ، لكنه مازال يحمل مخاوفه من ذلك الماضي ، ما يؤدي هذا إلى أن يصاب بالقشعريرة ، وهنا تبين الترائي له ، أي :أنه ليس الوحيد الذي عاش تلك المعاناة بل الكثير عاشها ، وهذه دلالة تصاعدية لكي يصمد داخليا ولا ينهزم ، فيحاول أن يبني ذاكرته على ما حدث في المعارك التاريخية من موتى وإغراق السفن ،ليجنب نفسه الامتداد أو البقاء في تلك المنطقة من ذاكرته ليحاول أن يفتح دلالاته على الحاضر من خلال رسم صوره حديثه استبداليه لحاضره فقد أشترى بدلة من شارع الخيام وربطة عنق ،أي : يحاول أن يبني انساقا وعلاقات سببيه متناظره مع حاضره ليعيد ارتباطه معه ، ويرى حياته كما يريد ، مع كل محاولاته يبقى الشرخ في روحه مخفي ، لأن كل هذا المعاناة سببها له هو صديق أو قريب اليه(أصابتني قشعريرة /وأحصيت بتلك اللحظة/موتى معركة أحد وبدر /وغرقى سفن الحالمين/تحت رحمة الاوغاد/ترى من يدفنوننا أرتدي بدلتي/اشتريتها من شارع الخيام/وربطة عنق فاخرة/بهجمات معاكسة/ونيران صديقة) والشاعر استطاع أن يجعل من عالمه الداخلي رموز ودلالات يبني عليها انساقاً نحوية ودلالية ضمن مخاضات و ارتباطات استبداليه لجملة الشعرية ، لأنه يمتلك القدرة على ملامسة تحسسه الشعوري وتحويله إلى رموز دلالية بكتابة النص النثري .
نص( ارصفة التوحد)ص80
(أي رحلة تشدني إليكَ/إلى محطات منفاكَ الأخير/دعكَ من هذا التمرد /وأرصفة التوحّد /وتلك المتاهات/ وخيالاتك الشاردة/وبعض من اساطير خرفة فرت من هزائمنا المتخاذلة/ أعزف على نهايات السطور /حول خصر حروف العلة /وهج غابة احزاننا/قديس يحصد الرغبة/ على خارطة اليأس/يلملم الاسئلة/ يحرق ما تبقى من صوتنا المبتل/بدعوات وطن مستباح/ على خارطة حزن مستديم /اصابعنا المثقوبة/وقصائدنا الخرساء/ ووجهنا المكفهر/ بخوف الارتقاء/تحاصرنا أحلام زرق/باتت تمكث /في زوايا الضياع / ومدن اللاوعي )
ندرك أن نصوص المجموعة هي محاولات الانفلات من الماضي المتأزم والحاضر المهمش من خلال التمرّد على واقعه ، ومحاولة الابتعاد الكلي عن كلّ ما يحيط به ، لكنّه في نفس الوقت يشعر بالإخفاق وكأن واقعه لا يمكن أن يتمرد عليه أو ينفلت منه ، فتتحول كل محاولاته إلى حالة من المتاهات والخيالات الحالمة ، لوصوله إلى حالة العجز لتغيرّ هذه الظروف ، فينتقل تصوره المدرك المتحسس لكل حالاته ،وكأن ما يحيطه هو أساطير خرافية ، ينهزم أمامها بالتخاذل والتراجع ، ما يزيد من أحزانه ، لأن كل شيء يتحول إلى خارطة من اليأس ، والشاعر استطاع أن يعطي أبعاد الإنسان الذي يصل إلى حالة اليأس لتكالب كل الأشياء حوله وضمن مسمياتها ،و تحولها إلى قوه لا يستطيع أنْ يواجها ويتغلب عليها ، وقد أستطاع أن يجد الدلالة السيميائية الاستعارية الإيحائية ، أي : استطاع أن يبني نصا يتحركّ في فضاء بصري وحسي لزمانين الماضي والحاضر، ما يجعل الصور الشعرية تتشعب بشكل أفقي خاضع لكل المسلمات الداخلية لديه ، ويتدخل عنده الفاعل والمفعول بطريقة امتزاجيه تعبيرية على أزمته الداخلية(أي رحلة تشدّني اليكَ/إلى محطات منفاكَ الأخير/دعكَ من هذا التمرد /وأرصفة التوحد /وتلك المتاهات/ وخيالاتك الشاردة/وبعض من أساطير خرفة فرت من هزائمنا المتخاذلة/أعزف بين نهايات السطور /حول خصر حروف العلة /وهج غابة احزاننا/قديس يحصد الرغبة /على خارطة اليأس)
ويحاول أن يلملم ما يشعر به لكي يعبر أزمته، و هي أزمة الإنسان بصورة عامة ،فيتحول عنده منطق الاستقراء التعبيري إلى حالة شمولية للإنسان الذي يشعر أن هناك قوى لا يستطيع أن يواجها ، من أجل مطالبتها بأحداث التغير، فيتحول وطنه إلى وطن مستباح ما يزيد من أحزانه ، لأنه يشعر أن الحالة الاستباحة هي حالة مستديمة، ويتحول كل شيء إلى حالة من الصمت والخرس، فلم يعد يسمع حتى الأصوات وتصبح حتى القصائد خرساء لا تأثير لها في مقاربة في أحداث تتغير حالته ، وتكون الوجوه الذي يراها مكفهرة بسبب حالة اليأس والضياع التي تعيشها ،ولكي لا تنفجر أزمته في الداخل ،يحاول أن يرتقي بأحلامه وأماله ، لكي يحدث الغياب الكلي عن الحاضر ،والذي يسبب كل هذا الوجع في منطقة اللاوعي عنده (يلملم الأسئلة/ يحرق ما تبقى من صوتنا المبتل/بدعوات وطن مستباح /على خارطة حزن مستديم /أصابعنا المثقوبة/وقصائدنا الخرساء/ ووجهنا المكفهر/ بخوف الارتقاء/تحاصرنا أحلام زرق/باتت تمكث /في زوايا الضياع / ومدن اللاوعي)
استطاع الشاعر أن يبني استدلالاً بصرياَ توظيفياَ على هزيمة الإنسان أمام القوى المتجبرة والمتسلطة ، محقق حالات الوعي الغائب في اللاوعي الحالم المنتظر لأحداث التغير في وطنه وانفراج أزمته الداخلية ، والتي تمثل أزمة الناس في الوطن .
نص(بقايا ظل دخيل)ص98
(حجر في غض طفولتي/كنت أتمازح معه/كأنني اعبد وثن .. نحرته نصفين/قدست النصف الأوّل/وحطمت النصف الآخر/ما زلت الهو وأنا أذبح ملهاتي/أتمضمض بقايا ظلي الدخيل/
انفاسي تزفر وجع رطبا/لم أكره هذه العادات/أتفرد بسلوكي العالق بذهنية معقدة / خلف ثورة مكبوتة)
نتيجة تكالب أزمته الداخلية يحاول أن يعود إلى طفولته ، لكي يحقق الحلم الذي يريد أن يكونه من ذاكرة الماضي، بعد أن عجز عن تحقيق ما يريد في الحاضر، وكأنها حالة هروب من الحاضر، لكي يلامس الماضي كل ما يريد ويتمنى ، ضمن زمن متحول في إشارات يريد أن يحققها، وكأنه يريد أن يرمي الحاضر بحجر ، فيتحول إلى نصفين النصف الأوّل الذات والنصف الثاني الشرخ الذي داخله تجاه وطنه (حجر في غض طفولتي/كنت أتمازح معه/كأنني أعبد وثناَ نحرته نصفين/قدست النصف الأوّل/وحطمت النصف الآخر)
فيتخيّل أنْ يحطم شرخه تجاه الذي كان سبب المعاناة لوطنه ،لأنه يشعر بالقدرة على التحول إلى ثورة لا يستطيع أحد أن يمسكها ، ولكنه يعيش تناقضين معقدين تناقض بالمشاركة من أجل التغير ، والتي تناقض الذي هو يريده من السلام والأمان الداخلي.(ما زلت ألهو وأنا أذبح ملهاتي/أتمضمض بقايا ظلي الدخيل/أنفاسي تزفر وجعاَ رطبا/لم اكره هذه العادات/أتفرد بسلوكي العالق بذهنية معقدة / خلف ثورة مكبوتة )
برغم امتلاكه القدرة على الثورة ولكنّها تبقى ثورته المكبوتة داخله ،لكنه لا يريد أن يفجرها ولا يسعى لها بل يسعى من أجل تحقيق السلام الداخلي والتصالح مع كلّ شيء يعيشه .
والشاعر مازن جميل المناف بنى جملته الشعرية على الاستدلال الذهني لكي يبقى يتحكم في حدود النص وجعله يُعبر عن ما يريد أن يطرحه من رؤيا استنفارية تمازج بين إرهاصاته الذاتية في الماضي والحاضر ، وهذا يعطيه القدرة على التحكم بالدلالات البصرية الإيحائية التي توحد الطاقة الانفعالية داخل شعوره الداخلي ، ما يجعل المعنى الإيحائي حالة جذب تصوري ضمن مستوى المعنى الفعلي لحاضره وماضيه والذي يريد أن يجعل من حاضره هو البديل الكلي عن الماضي ، بمستوى المعنى الدلالي والإشاري والذي يمثل ما عاشه ما أنعكس على تجاربه في الحياة .
الناقد / عباس باني المالكي


1627079227864.png


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى