تماضر الطاهر - شباك النذور

ليس الوفاء من شأن البشر أو الحيوانات فقط، فماذا لو نطقت الجدران؟
لا علم لي إن كانت هواية، أم غراماً أم (مرضة)، لكنها كانت من أحب وأمتع لحظات التأمل، عندما أمُرّ بما كُتب على هذا الجدار أو ذاك، بالفحم المضمون وجوده على طول الطريق، أو بأحجار الجير البيضاء، أو التي يُقارب لونها البنفسجي الفاتح، المتناثرة على أرض الشوارع بين ترابها وما تبقّى من آثار العابرين.
تذكار من فلان، قلبٌ وسهم، حروف وزهور بلا سيقان، وعبارات مُقتبسة كُتبت بأنامل عَجْلى، بداخل برواز يشبه رسم السحابة (فالذكرى ناقوس يدقُ في عالم النسيان)، والجدران تشبه في محتواها عالم يُضجّ بالبوح، بين أوامر تمنع بعض الأفعال، وآراء شجاعة أكثر من المطلوب، وتصريحات واعترافات حصرية: (أنا أحب حنان)!
نساءٌ ورجالٌ يشبهون سكان مملكة عيدان الكبريت، طيور خيالية، وفئران رُسمت على هيئة الاسم (حسن).
وجوه أكبر من أجسادها، وعيون لوزية الشكل، تصطفّ الرموش على جانبيها كجيوش من الحُرّاس، جميلة واسعة بأحجام مختلفة، تبحلق في الناظرين، وربما تخرج من جوفها (كم) دمعة، تظل تلك الرسومات التذكارية واضحة على خد الجدار، ما دام الفحم وفياً لسواده.
كأنّ تلك المناظر التي تعوّدت رؤيتها في الذهاب والإياب، ما هي إلّا بوابات للذكرى، تفصل أصحابها عن النهايات الباهتة وتخرج بهم إلى باحات الخلود.
تُوجد بعض الأساليب التي اعتبرها قاسية لكتابة (التذكار العزيز)، كأن ينحت أحدهم حرفاً بداخل قلب، على شجرة مُورقة غضّة، ليكبر معها، ويتمتع عبرها بالماء والظل، ويشهد على سقوط الثمر.
حروف تبقى طويلاً على الجدران ويمضي أصحابها، أو ربما تمسحها- في وجودهم- يد نقّاش مجددة معمِرة، تتفنّن في صبغ الجدران بألوان العيد الزاهية، أو تنيرها بياض الحج الناصع، ثم تعكف بعد ذلك على تزيين جوانب (أبواب الشارع)، برسومات عفوية لمساجد صغيرة بالأزرق (الظهري) المنسوب لظهرة الغسيل، ثم تكتب عليها: (يا داخل هذا الدار، صلّ على النبي المختار)، (حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً).
لكل تذكار نكهته ولُغة عصره، وسماته التي تمثل جيله، وقد يكتب ضمنه تاريخ يريّح المتأمل من عناء التفكير في متى (6-9-1969) مثلاً، لكن التذكارات المُرتبطة بالنذور، لها وقعٌ مختلف تماماً، فهي حديث قلوبٍ لم تُرسم بالفحم، ورسائل مُناجاة وترجّي لمن هو أدرى بها، تُركت كعلامة (مربوطة) على مكان ما، موثوقة بعهد واجب الوفاء.
عندما زُرت كردفان في حياة الشيخ البرعي، رحمه الله، تجوّلت حُرّة في زريبته، ورأيت ما رأيت من معالم تخصّها وحدها، أذكر منها تلك الشجرة التي لا ثمر لها سوى قطع القماش الملونة، ولفافات الشعر والخيوط المنسولة من عمامة أحدهم، أو (توب) إحداهن.
سألت عنها بفضول خجول. قيل لي: هذه علامات لأصحاب النذور!
مضيت وفي خاطري الكثير عن تلك الشجرة، وطال انشغالي فلم أعد أذكرها، وحل محلها ركام وجوهٍ وحروفٍ مُكررة، لكنها عادت لناظري بقوة عندما زُرت كسلا ورأيت ذلك الشُبّاك الخشبي القديم الذي يشبهها في المعنى والمحتوى.
شبّاك عتيق بالقرب من مدافن قديمة، يطل على جهة الشمال الجغرافي، غامض صامد صامت. زيّنه أصحاب النُذور بقطع القماش الملونة، ولفائف الخيوط والشعر، وكأنه قد صُنع من تلك الشجرة، أو هو منسوب لأصلها، وربما يسفر فتحه ذات يوم، عن رؤية منظرها البديع في كردفان، كما خطر لي.
النذور، عادة قديمة، عرفتها البشرية في أنحاء متفرقة من العالم، تضاربت الأقوال حول حلالها وحرامها، وقد احتوت على الكثير من الوعود الطريفة والخطرة، إذا تم لأحدهم أو إحداهن مُراده وما تمنّى.
ورد ذكرها في القرآن الكريم كنذر الصوم للرحمن، والنذر مُلزم لا ينبغي على العاجز عدم الوفاء به.
قد يصل الخوف من تبعات عدم الإيفاء بالمنذور، للمزيد من الوعود الجديدة، التي تنتهي بالناذر لدوامة لا نهائية مُضحكة، كأن يقول (نذراً عليّ لو أوفيت بنذري أن أنذر..)، وحتماً تعود العشامى لمواضعها، سواءً للشجرة في كردفان، أو للشبّاك في كسلا، فلا المسافات البعيدة، ولا وعورة التضاريس، تثني عزمهم.
تلك الذكريات الصامتة الملونة، ما هي إلا آمال علقت بكفوف العشم، وأحبت مجاورة السعيد لتسعد.
لم يكن بحوزتي سوى هاتف قديم عند زيارتي إلى كسلا، تمكنت عبره من التقاط صورة يتيمة لذلك الشبّاك، وكنت كلما أعدت النظر إليها، أشعر كأنّني أجدد نواياهم، فأدعو لهم بنيل ما أحبّوا، وأخشى عليهم من أثقال الوفاء، التي أوثقوها بعقد متينة ملونة، دوّنت حضورهم في عالم ينتقي الخالدين في تاريخه دون نظامٍ أو معيارٍ مفهوم، حتى إن كانوا لا يستحقون، والسبب فقط، هو أنه يريد، ليس إلّا!



1627283975560.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى