لعل إحدى نتائج هذا البحث سوف تصدم بعض القراء ، وهى النتيجة التى تقول بأن الجماعات الأدبية والفنية ، قد بدأت تفقد وهجها ، بل تفقد جدواها ووجودها ، فقد كان لهذه الجماعات دور فعال فى حياتنا العربية فى الفترة التى اشتعل فيها أوار الحداثة ، أى فى مرحلة السبعينيات ، قبلها وبعدها وفى أثنائها ، وهى المرحلة التى تبّنى فيها معظم الفنانين والكتاب قضية الحداثة ، بعدّها هذا الهدف العزيز المنوط به تطوير حياتنا الاجتماعيـة والثقافية والإبداعية .
إن تكوين الجماعة الأدبية أو الفنية المتجانسة أمر شديد الارتباط بالحداثة ، لذلك فسوف يقل أو ينعدم الآن ، أو فى المراحل المقبلة ، بالتدريج ، لأن الحداثة نفسها لم تعد لها المركزية والنصوع الذى كان فى العقود السابقة ، لصالح سيادة فكر آخر يتسيد وجودنا بشكل هائل فى حياتنا اليومية ، وفى طبيعة مجتمعاتنا ، واقتصادنا ، وثقافتنا وفننا هو فكر “ما بعد الحداثة” .
ولعل الحداثة نفسها ، بدأت تدخل متحف التاريخ بالتدريج ، وإن كانت طبيعة المرحلة التى نعيشها تسمح بوجود بعض أطيافها التى تتبخر الآن شيئاً فشيئاً ، وذلك لأن من قوانين المرحلة التى نعيشها الآن تواجد وتوازى المدارس الفكرية والفنية المتعددة ، إذن فلابد أن تكون الحداثة بينها لأنها كانت آخر التوجهات التى عايشناها طوال العقود الفائتة .
لقد ارتبط تكوين الجماعة (الأدبية ، وغير الأدبية) بالحداثة ، لأن تجميع الأفكار الفردية المتجانسة كان من سبيله أن يؤدى إلى قوة هذه الأفكار ، وكان الحداثيون يبحثون عن القوة لمواجهة فكر التقليديين الذين كانوا يحاربون التجديد ، ويحاربون كل ما يمكن أن يسحب البساط من تحت أقدامهم ، على الرغم من أن هذه التجديدات ، والرؤى المتغيرة ، كانت تعبر عن احتياجات اجتماعية وثقافية وليدة لابد من أن تثبت وجودهـا ، وهذا ما حدث بالفعل من خلال انتصار الحداثة طوال المراحل السابقة ، أما الآن فلم تعد هناك أهمية كبيرة لتكوين الجماعة التى تحمى الفرد ، لأن أى شخص يستطيع ، وحـده ، ودون مساعدة من أحد ، أن يمتلك القوة الكافية للاستمرار ، وأن يجمع كل ما يريده من معلومـات وأفكار ، ويستطيع ، وهو لا يزال فى حجرة نومه ، قبل خروجه فى الصباح ، أن يخاطب العالم كله بلغة الإنترنت ، من خلال جهازىّ الكمبيوتر أو الهاتف المحمول .
وكان تكوين الجماعة الأدبية فى فترة الحداثة أيضاً دليلاً على انتصار مفهوم آخر ، هو مفهوم الديمقراطية ، وهو المفهوم الذى ارتبط بالحداثة ارتباطاً وثيقاً ، وهو يجسد معنى التحضر والرقى فى المجتمع الإنسانى ، المجتمع المدنى الحى متعدد الأصوات . وكان تكوين الجماعات المختلفة فى فترة السبعينيات يمثل مقياساً كاشفاً لحقيقة تشبّع المثقفين والمبدعين بقضية حقوق الكتاب فى المساهمة فى صناعة الحاضر والمستقبل الثقافى والاجتماعى والاقتصادى للمجتمع . وإن تكوين الجماعات الأدبية سيعبر عن قدرة الكتاب والمبدعين على التخطيط والإدارة الذاتية لمختلف شؤونهم ، وقدرتهم على تنظيم علاقاتهم بجمهور القراء والمتعاملين مع الإبداع ، وقدرتهم على التحرر من الجمود والسلبية والاتكال على أجهزة الدولة . والسعى الحثيث من أجل الابتكار والتفوق.
ولعل المسـألة يكون لها علاقة بتطور قضايا “المجتمع المدنى” التى ناقشها “هيجل” ، وعدد من المفكرين التقدميين من بعده ، وأهمهم “جرامشى” الذى صاغ القضية بشكل دقيق ، حتى استقر الكثير من المفاهيم وأصبح المقصود من تعبير “المجتمع المدنى” بشكل عام هو تعيين ميدان للحرية خارج الدولة والمؤسسات الرسمية ، فهو ميدان للاستقلال الذاتى Autonomy والتعددية والانطلاق الجماعى الذى يؤكد التنوع والثراء وتعميق وإغناء مفهوم الهوية .
لقد أصبحت التعددية اليوم ، ملمحاً أساسياً لكل مجتمع متحضر ، وبخاصة بعد أن تفسخت معظم الكليات التقليدية ، واليقينيات القديمة ، لأن المفهوم التقليدى يفترض كليّة موحدَّة ومغلقة . ولم يعد أمامنا الآن سوى أن نعترف بقيمة وأهمية التمايز والاحتياجات المختلفة المتعددة للمجتمع البشرى الواحد . والوضع الاجتماعى اليوم هو الوضع الذى يحترم التعدد ، فلم يعد هناك مسار واحد لحل المشكلات الإنسانية المعاصرة فى أى ظاهرة من ظواهر الحياة الجديدة ، لابد من تجاور اتجاهات عديدة لكى تشبع كل هذه التيارات الوليدة ، بسبب الغزارة الشـديدة لكافة المعطيات والظروف التى يعيشها المجتمع اليوم ، هناك تسارع غير مسبوق فى النظريات الأدبية ، وفى الأفكار الفلسفية والثقافية ، ولن يكفى اتجاه مركزى واحد لاستيعابها جميعاً ، ولابد من وجود أنشطة أدبية وثقافية متعددة حتى تتمكن من استيعاب كل هذه التوجهات العديدة الوليدة.
والجماعات الأدبية كانت منذ البداية من أهم هذه الجمعيات قدرة على صياغة أشواق الناس وأحلامهم البسيطة لما للأدب من قدرة حدسية ومستقبلية على مس الحاجات الحقيقية للبشر ، والجماعات الأدبية ليست جمعيات بالمعنى القانونى إلا فى أقل الحالات ، ولكننا إذا كنا نعنى روح القانون لا شكله ، فالجماعات الأدبية كانت أكثر الأشكال تعبيراً عن جوهر نشاط المجتمع ، لأن عملها يتصل بقضايا الفكر ومجالاته الفلسفية والعملية قوية التأثير فى صياغة الموقف الكلى للمجتمع الإنسانى . والجماعة الأدبية تتكون لتعبر ـ فى الغالب ـ عن تيار أدبى لا يمكن أن تقبله الاتجاهات الأدبية السائدة ، فيصبح حينئذ كما لو كان ملاذا يحتمى به مبدعوا التيار الجديد الذى يعبر بالضرورة عن حاجة جمالية واجتماعية لها تواجدها الفعلى فى الحياة .
*
جماعة الفن والحرية
وهناك على سبيل المثال الجماعة السريالية [ نحو المجهول ] ، وأيضاً جماعة [ الثقافة الجديدة ] فى الإسكندرية فى الأربعينيات من القرن الماضى ، أما الجماعة السريالية الأشهر والأكثر تأثيراً فقد تكونت من جورج حنين ، وفؤاد كامل ، وأنور كامل ، وكامل التلمسانى ، وغيرهم ، وقد أسـموا جماعتهم : [ الفن والحرية ] وقد كانت ذات دور كبير فى تغيير الإبداع المصرى بقوة من خلال صدمة السريالية التى تدفع بمتلقيها إلى أعادة النظر الجذرية فى الحياة والفن ، وقد عرف المتلقى هذا بداية من البيان الصادر بعنوان [ يحيا الفن المنحط ] الذى هاجم السلطات الجائرة ونادى بوجوب توحيد كلمة الفنانين والتقدميين وتوحيدهم فى العالم بأسره ، وكان منه :
[ من المعروف أن المجتمع الحاضر ينظر بعين الاشمئزاز إلى كل خلق جديد فى الفن أوفى الأدب طالما يهدد النظم الثقافية التى تثبت قدم المجتمع سواء أكان من ناحية التفكير أم من ناحية المعنى . ويظهر هذا الشعور بالاشمئزاز جلياً فى البلاد الأوتوقراطية النزعة ، وخصوصاً فى ألمانيا حيث يتجسم التعدى الشنيع ضد الفن الحر الذى دعاه هؤلاء الغشم “الفن المنحط” . فمن سيزان إلى بيكاسو ، وكل ماأنجزته العبقرية الفنية المعاصرة .. هذا الانتاج الكثير الحرية والقوى الشعور بالإنسانية ، قد قوبل بالشتائم وديس بالأقدام . نحن لانرى فى هذه الأساطير الرجعية إلا سجوناً للفكر . إن الفن بصفته مبادلة فكرية وعاطفية دائمة تشترك فيها الإنسانية جمعاء لن يقبل مثل هذه الحدود المصطنعة . فيينا المتروكة الآن للهمج ، يمزقون صور رنوار ويحرقون مؤلفات فرويد فى الميادين العامة . إن ألمع منتجات كبار الفنانين الألمان أمثال ماكس أرنست وبول كلى وكارل هوفر وكوكشكا وجورج جروس وكاندينسكى قد صودرت وأحل محلها الفن النازى عديم القيمة ] .
*
جماعة جاليري 68
وقد تكونت الجماعة المشرفة على مجلة [جاليرى 68] من محموعة من طليعة المثقفين المصريين فى الستينيات ، وكما قال أحدهم تكونت الفكرة فى مقهى (ريش) ، وفى هذا إشارة قوية لمعنى مهم هو أن الثقافة فى هذه الفترة كانت تنطلق من قلب الشارع المصرى والمعاناة المصرية ، وكان مقهى (ريش) مكاناً مفضلاً يلتقى فيه معظم المثقفين المصريين بكافة اتجاهاتهم وبخاصة فى مساء وليل الجمعة من كل أسبوع .
وعبرت المجلة [جاليرى 68] عن التوجه التقدمى الطليعى للثقافة المصرية ، فى عناقه للحداثة الآتية من أوربا ، فى أصفى صورها وأنقاها ، وطرحت المجلة بالفعل إبداعاً مصرياً له نكهة خاصة شديدة التميز ، شحنت حياتنا الثقافية بطاقة فكرية وإبداعية مهمة علّمت أجيالاً ودفعت بالإبداع المصرى فى طريق جديدة خطوات غير مسبوقة . وقد صدر العدد الأول من [جاليرى 68] فى إبريل / مايو 1968 بعد أن تكونت هيئة الإشراف على المجلة ، وهى الهيئة التى أشرفت على إصـدار الأعداد الأولى ، وأعضاؤها هم :
رئيس التحرير : أحمد مرسى .
هيئة التحرير : إبراهيم منصور ـ إدوار الخراط ـ سيد حجاب ـ غالب هلسا ـ د. يسرى خميس .
سكرتيرا التحرير : إبراهيم عبد العاطى ـ سعد عبد الوهاب .
مدير التحرير : جميل عطية إبراهيم .
المشرف الفنى : حسن سليمان .
وهذه الأسماء تمثل بالفعل مجموعة ممتازة من المثقفين والمبدعين النشطين فى هذه الفترة والممتزجين بحميمية مع معظم المثقفين الطليعيين ، بحيث أنهم كانوا أقدر الجميع على تمثيل المثقفين ، وعلى التعامل معهم من خلال مجلة مستقلة ، يعمل كل من فيها متطوعين ، وكذلك كانت الأعمال المنشورة تقدم بشكل تطوعى لتحقيق هدف أساسى هو إنجاح هذا المشروع الثقافى المستقل الذى سحب البساط بقوة من تحت أقدام منابر الثقافة الرسمية فى ذلك الوقت .
لقد استمرت هيئة التحرير تدير العمل ولكن هناك ظروف مختلفة غيرت من التكوين الشكلى الأساسى لترتيب الأسماء الذى طرح فى العدد الأول ، فكان هذا الترتيب يختلف بين الحين والحين ، فالعدد الصادر فى نوفمبر عام 1968 ، طرح ترتيب أسماء الهيئة المشرفة على التحرير هكذا :
أشرف على إصدار الكتاب : إبراهيم عبد العاطى ـ إبراهيم منصور ـ إدوار الخراط ـ جميل عطية ابراهيم ـ سيد حجاب ـ غالب هلسا ـ د . يسرى خميس .
المشرف الفنى : أحمد مرسى .
والعدد الصادر فى أكتوبر 1969 اختصرت فيه الأسماء كثيراً وأضيف لها اسم جديد ، فصارت الصياغة هكذا :
أشرف على إصدار هذا الكتاب : إبراهيم منصور ـ أحمد مرسى ـ إدوار الخراط ـ جميل عطية إبراهيم ـ محمد إبراهيم مبروك .
أما العدد الأخير ، الصادر فى فبراير 1971 فقد اكتفت المجلة فبه بهذه الصياغة :
أشرف على إصدار هذا الكتاب : إبراهيم منصور ـ أحمد مرسى ـ إدوار الخراط ـ جميل عطية .
بل وهناك صياغات أخرى أكثر تبايناً ، على مدار رحلة إصدار المجلة ، ولكن تكفى هذه الصياغات الأربعة على الأقل لتبيان كيفيات التغير التى حدثت ، وتكفى للإشارة إلى دلالات محددة منها : إصرار المثقفين المصريين الطليعيين على إصـدار مجلتهم ، وحرصهم الشديد على استمرارها كمشروع مستقل للكتاب والمبدعين المصريين ، ومنها هذه الروح الديمقراطية التى أكدت مدى قيمة العمل المشترك وأهمية العمل الجماعى من أجل اكتساب المزيد من القوة من أجل الاستمرار فى قلب ظروف شديدة الصعوبة ، وكان كل مثقف قادر على تغيير موقعه ببساطة لأن الأهم هو استمرار صدور المجلة .
وقد اعتمدت المجلة على التبرعات الفردية ، وعلى نشر بعض الإعلانات الثقافية ، والإعلان الثقافى هو أفقر الإعلانات مادياً فى كل زمان ومكان ، وبالرغم من ذلك تركت هذه الجماعة ومجلتها رد فعل عميق فى حياة المصريين الثقافية ، وبخاصة أنها قدمت أسماء كتاب فى غاية الأهمية من مثل القصـاصين : إبراهيم أصلان ، وإدوار الخراط ، وبهاء طاهر ، ورؤوف مسعد ، وعبد الحكيم قاسم ، ومحمد ابراهيم مبروك ، ومحمد البساطى ، ومحمد حافظ رجب ، ويحيى الطاهر عبد الله ، ويوسف الشارونى وغيرهم .
والشعراء : أسامة غزول ، وأمل دنقل ، وثروت البحر ، وسعيد نافع ، وسيد حجاب ، وعزت عامر ، وفتحى فرغلى ، ومحمد سيف ، ومحمد عفيفى مطر ، ومحمد صالح ، وغيرهم .
والنقاد : إبراهيم فتحى ، وخليل كلفت ، ورؤوف نظمى ، و شفيق مجلى ، وصبرى حافظ ، وغالى شكرى ، وغيرهم .
*
جماعة كتّاب الغد
وعرفت الحياة الثقافية المصرية فى السبعينيات النشاط الشهير لجماعة أخرى من المثقفين والكتاب الطليعيين ، وهم الذين كوّنوا جمعية “كتاب الغد” ، وهى الجمعية التى قامت بدور كبير أضاف الكثير لرحلة الأدب المصرى ، من خلال مجموعة من المبادئ التقدمية التى تنادى بالتجديد بما يتناسب مع طبيعة المجتمع المصرى ، وهى المبادئ التى ستختلف مع كافة الجوانب التقليدية الشائخة فى حياتنا الثقافية والأدبية ، وطرحت الجمعية أنشطتها من خلال اللقاء الفكرى والأدبى فى ندوة منتظمة وناجحة ، وقادرة على جذب جمهور متحمس ومتفاعل ، وقد تحلق حول هذه الندوة عدد كبير من الأدباء المصريين ، حتى هؤلاء الذين عدُّوا أنفسهم مجرد أصدقاء للجمعية ، ولكن جميع المثقفين المصريين كانوا يكنّون احتراماً لهذه المبادئ المخلصة لقضايا الوطن والثقافة ، ولكن المشكلة التى وقعت فيها هذه الجمعية هى عدم قدرتها على فتح حوار متعمق مع الاتجاهات الأخرى ، مما جعل البعض يصفها بأنها سقطت فيما يمكن أن نسميه بالمعتقدية ، وهذه المسألة تقترب بها من المثالية من حيث لاتدرى ، مما جعلها تُقْدم شيئاً فشيئاً على الوقوع فيما كانت تناضل ضده منذ البداية ، وهو سيادة توجه واحد يشمل كافة مناحى الفكر والإبداع فى مصر .
*
جماعة إضاءة 77
تكونت جماعة [ إضاءة 77 ] وكما يشير اسمها فى عام 1977 وصدر العدد الأول من مجلتها فى أول يوليو من العام نفسه ، ليطرح أفكار وأشواق مجموعة من الشعراء الجدد الذين يبشرون برؤى جديدة فى الشعر العربى بعد أن تأزمت قصيدة الشعر الحر ، وأصبحت غير قادرة على الوفاء بمتطلبات الإبداع الشعرى الجديد .
حرر العددان الأول والثانى : حلمى سالم ورفعت سلام وحسن طلب وجمال القصاص ، وبداية من العدد الثالث انفصل عن الجماعة رفعت سلام ، وأصدر مجلته المستقلة : كتابات ، وانضم إلى جماعة “إضاءة 77” إسمان جديدان ، همـا ماجد يوسف ، وأمجد ريان ، وظل أعضاء الجماعة يحررون المجلة حتى فى حالة غياب البعض منهم أوسفرهم إلى خارج الوطن ، وانضم فيما بعد أعضاء آخرون ، وعندما أصدرت دار الملتقى المجلد الذى احتوى جميع أعداد مجلة إضاءة ، وردت فى الصفحة الأولى أسماء جميع أعضاء إضاءة على الوجه التالى :
جماعة إضاءة 77 : أمجد ريان ـ جمال القصاص ـ حسن طلب ـ
حلمى سالم ـ ماجد يوسف ـ محمد خلاف ـ
محمود نسيم ـ وليد منير .
وقد كان الهدف الأساسى من إصدار المجلة هو حماية الصوت الجديد للشعرية المصرية ، وهو الصوت الوليد الذى توالت على رفضه المجلات التقليدية ، والنقاد المحافظون ، وكان لابد من وصول هذا الصوت لجمهور الشعر العريض ، بعد أن ظلت الخبرات الشعرية التى قدمتها مدرسة الشعر الحر تجتر نفسها لفترة طويلة حتى تكون عمود الشعر الذى أسماه البعض عمود مدرسة الشعر الحر ، وهو معنى يتهكم من التقليدية الجديدة التى بدأت هذه المدرسة تفرضها على حياتنا الشعرية . وقد تمكنت جماعة [ إضاءة 77 ] من أن تعبر عن وعى جديد يستشرى فى الواقع الشعرى كرد فعل لكافة أشكال الاستلاب فكرياً وثقافياً وإبداعياً .
احتوى العدد الأول من مجلة “إضاءة 77” البيان الجمالى للجماعة والذى يعد منطلقها الفكرى الذى التزمت به والتفت من حوله الجماعة ومناصروها ، ومما جاء فيه : [ إن ضرورة تجمع الشعراء والأدباء الشبان حول بؤرة فنية جمالية تنتظم وتنضج إبداعهم الفنى وترقى وعيهم الجمالى والفكرى ليست ضرورة طارئة ، بل هى هدف عزيز تحدد أمام شباب الشعراء والكتاب المصـريين منذ فترة غير قصيرة ، ولقد حاولوا المرة تلو المرة ، ـ وما يزالون ـ تحقيق هذا الهدف النبيل . ونحن إذ نتجمع اليوم فى (إضاءة 77) ، إنما نمارس محاولتنا المخلصة فى تحقيق هذا الهدف الحى ، متواكبين فى ذلك مع مسيرة الحركة الديمقراطية المصرية فى سنواتها الأخيرة نحو تحقيق تمايز واستقلال الاتجاهات والاجتهادات المختلفة فى الساحة الوطنية ، على مستوياتها السياسية والفكرية والفنية والجمالية . نحن إذن استكمال لكل المحاولات المستقلة الجادة فى هذا السبيل ، وإذ نستكمل تلك المحاولات ـ مقدرين لها جهدها وإخلاصها الحقيقى ـ إنما نسعى إلى تجاوز ما نعتقد أن تلك المحاولات السـابقة ـ فى نماذجها البارزة ـ قد وقعت فيه من أخطاء ] .
لقد تمرد شعراء هذه الجماعة على المفاهيم الشعرية السائدة وطرحو رؤية مغايرة تطرح فلسفياً وجمالياً [ التعدد ] فى مقابل [ الأحادية ] ، ذلك التعدد الذى تميزت من خلاله الرؤية الشعرية أساساً ، ثم تجلى ذلك فى كافة أدوات الشاعر وتقنياته بناء ، ولغة وتشكيلاً وإيقاعاً .
وأعلن شعراء الجماعة فى مجلتهم أنهم لا يدّعون اكتمال النضج الفنى والجمالى ، وأنهم لا يسعون كشعراء إلى التطابق لأن هذا يتناقض مع الطبيعة الشعرية أصلاً ، بل هم يدعون كافة الشعراء أن يتمسك كل شاعر بخصوصيته الذاتية ، لأن هذه الخصوصية هى مفتاح التفرد والإضافة الحقيقية فى الفن بشكل عام وفى الأدب والشعر بشكل خاص ، وأعلن الشعراء يأسهم من الأجهزة الثقافية الرسمية ، واعتدادهم بكل التجارب المستقلة .
وطرح شعراء الجماعة مجموعة من المفاهيم الجمالية التى تخص تجربتهم التى اعتبروها متفاعلة مع تجربة شعراء السبعينيات بشكل عام ، وكان منها ، تعريفهم للفن بعدِّه إدراكاً جمالياً للواقع ، لا يعكسه عكساً آلياً، بل يخلق بطرائق التعبير المجازى ـ موازاة رمزية للواقع ، فهو إذن موقف وتشكيله ، موقف من العالم وتشكيل جمالى لهذا الموقف . وعلى هذا فإن أى جهد لغوى لن يكون ترفاً أو تعالياً منفصلاً ، فاللغة التى تجسد الحاجة والتطور الاجتماعيين هى عماد الكتابة وجوهر التشكيل .
ورأى شعراء الجماعة بأنه قد سقطت النماذج التى تنازلت عن الشعر فى سبيل الشعار ، والشعر الصحيح فى رأيهم يتضمن دائماً ـ ضمن مايتضمن ـ الشعار الصحيح ، لكن الشعار الصحيح لا يتضمن بالضرورة الشعر الصحيح .
لقد عدت جماعة [إضاءة 77] نفسها جزءاً لا يتجزأ من الحركة الشعرية الشابة فى السبعينيات ، وامتداداً لذلك فهى جزء من تجربة شعرية شابة جديدة باتساع الوطن العربى متقاربة الملامح ، والمهام ، والشوق للنهوض بإنجاز خطوة جديدة من خطوات مسيرة القصيدة الجديدة .
*
جماعة أصوات
تكونت جماعة [ أصوات ] من مجموعة الشعراء: [ أحمد طه ـ عبد المقصود عبد الكريم ـ عبد المنعم رمضان ـ محمد سليمان ـ محمد عيد ابراهيم ـ محمود الهندى ] وقد تولى الأخير مسـألة الإشراف الفنى على مطبوعاتهم ، وقد نشأت هذه الجماعة ، ومارست فعالياتها فى التوقيت نفسه تقريباً الذى تواجدت فيه جماعة إضاءة ، أو بعده بقليل ،فصارا كما لو كانتا جماعتين متنافستين ، وبخاصة بسبب هذا التقارب الفكرى جمالياً ، وإن كانت هناك فروق ذات طابع أيديولوجى ، ولكنها أخذت قناعاً جمالياً فى معظم الأحوال . وقد تسائل الكثيرون من المثقفين عن إمكانية اندماج الجماعتين ، وبالفعل ناقش أعضاء جماعة إضاءة فى اجتماعاتهم الأخيرة إمكانية انضمام عضوين بارزين من أصوات هما عبد المنعم رمضان عبيد ومحمد سليمان إلى جماعة إضاءة وبخاصة أن جماعة [ أصوات ] وقتها كانت قد تفككت عراها تماماً وانتهى تواجـدها الفعلى ، ولكن هـذا الانضمـام نفسـه لم يحدث .
لم تصدر جماعة أصوات [ مجلة ] فى بداية الأمر ، ولكن اقتصر نشاطها على إنجازين أساسيين : هما الندوة شـبه المنتظمـة التى كانت تعقد غالباً فى بيت [ أحمد طه ] ، وإصدار مجموعة من الدواوين لأعضاء الجماعة ، ولقد صدرت بالفعل دواوين [ أزدحم بالممالك ـ لعبد المقصود عبد الكريم ] و [ أعلن الفرح مولده ـ لمحمد سليمان ] و [ الحلم ظل الوقت .. الحلم ظل المسافة ـ لعبد المنعم رمضان ] و [ طور الوحشـة ـ لمحمد عيد ] و [ لاتفارق اسمى ـ لأحمد طه ] كما أصدرت الجماعة ديوان [ لامبررات الوجود ـ للشاعر المصرى جورج حنين ] والذى ترجمه عن الفرنسية بشير السباعى .
وفى المقدمة التى كتبها عبد المنعم رمضان لديوان محمد عيد إبراهيم تحدث عن الهاجس الذى يتحلق حوله أعضاء جماعة [ أصوات ] ، ووصفه بأنه : [ هاجس الكشف لا التنسيق ، التنسيق الذى ينبنى بالتناظر والإيجاز أو ثمة وسائل أخرى بغية التوصيل ، هاجس الإبداع لا التعبير ، حيث فى التعبير تنتج الفكرة كلاماً يعبر عنها ، يصوغها ويقولبها بمعنى أدق ـ يترجمها ، الفتنة الناشئة هنا فتنة صياغة تؤلف وتؤالف ، وظيفة الكلمات محت كثافة الكلمات ، الكلمات محض أداة ، فتنتها المؤقتة العابرة التى سرعان ما تزول تنبع من العطاء الإجمالى لها ، من استمرارها القضبانى ، إنها تستمد الكثافة من كونها دلالة ، إحالة إلى شئ ، من كونها عناصر تتابع لتشكل سلسلة من المقاصد والغايات ، هنا تتقلص الكلمة لتعنى شيئاً واحداً ، إنها رمزية خائبة ، الكلمات هنا لايمكنها الورود بنفسها ، السؤال القاطع حولها هو لصالح ماذا ترد الكلمات ، مفاضلة الكلمات هنا مفاضلة فى مدار الدقة ، إنه فن خيطىّ خطّى ، مطرد ومستمر يبدأ من نقطة لينتهى إلى نقطة يعرفها منذ لحظة البدء ، الكلمات إذن مستمرة لا تنحفر وإنما تتلاشى ، كلمات إقناعية حيادية تتلاقى فى حوار مع الآخرين . ] .
ولكن طبيعة الخلافات الحادة التى شاعت فى الحياة الثقافية فى ذلك الوقت أثرت على البنيان الداخلى للجماعات الأدبية ، وبالفعل حدث انشقاقان كبيران داخل جماعة اصوات ، الانشقاق الأول هو الذى تم فيه إخراج محمد سليمان من الجماعة ليحل فى محله محمد بدوى ، وبعد هذا الانشقاق مباشرة أصدرت الجماعة العدد الأول من مجلة [ الكتابة السوداء ] حاوياً أسماء المسؤولين عن المجلة بهذه الصياغة الجديدة ، أما الانشقاق الثانى الباتر الذى أنهى عمل الجماعة تماماً فقد كان سببه هذا الخلاف الجذرى الذى تولد بين أحمد طه وعبد المنعم رمضان .
ولايقل الأثر الذى تركته جماعة [ أصوات ] فى الحياة الثقافية المصرية عن الأثر الذى تركته جماعة إضاءة ، والحقيقة هى أن الجماعتين طرحتا معطيات وأفكار شديدة التكامل مما جعل جهود الجماعتين ، بالإضافة إلى جهود بعض الشعراء المستقلين خارجهما تشكل جميعاً القسمات الجديدة لشعرية السبعينيات التى ظلت حتى وقت قريب تدفع الشعرية العربية بشحنات قوية من الإبداع الجديد .
لقد انجز شعراء [ أصوات ] مجموعة من النصوص الشعرية المهمة ، وكذلك مجموعة من الإنجازات النظرية المهمة أيضاً وإن كانت قليلة ، منها مقالة أحمد طه التى كانت بمثابة افتتاحية للعدد الأول من مجلة [ الكتابة السوداء ] ضمَّنه نظريته عن التحول الشعرى من الإنشاد إلى الكتابة ، جاء فيه : [ والشاعر المعاصر يحمل لغته العربية فى ذاكرته ، بينما يعيش فى حياته التى تعمل على نفى هذه اللغة ـ بافتراض رغبته فى كتابة عصره ونفسه ومكانه ـ ومن خلال الجدل بين عوامل الهدم عند الشاعر تلك التى يعيشها ويتنفسها ، وعوامل التقليد المهيمنة على ذاكرته يكمل إنجاز الشاعر وموقعه وزاوية رؤيته إلى عصره وإلى مجتمعه ، وإلى ذاته ] ويتضح هنا التصور المهم عن أزمة الشاعر المعاصر الذى تنتمى ثقافته بل وذاكرته كلها إلى منطقة لم يعد لها وجود فى حياتنا العملية اليوم ، وهذا هو الصراع الذى أصبح يخوضه كل شاعر ، وتختلف القدرة بين شاعر وآخر فى مدى استيعاب القضية ومدى تجاوزه لها ، فبعض الشعراء يتمكنون من تجاوز الماضى ، والبعض الآخر لايزال غارقاً فى المنطق الشفوى الذى عبر عن نموذج الشعر العربى منذ البداية ، هذه الشفوية التى تتطلب الإنشاد أمام الجمهور ، ويقابله الإصغاء من قبل هذا الجمهور ، وهذا يعنى وجوب أن يهتم الشاعر بالصـوتى والتطريبى : كالوزن والقافية والتكرار والاستطراد ، والبراعة فى صياغة الضمير الجمعى ، ضمير المستمعين ، وهذا يعنى هيمنة الجمهور التامة على الشاعر ، و يعنى افتقاد الشاعر لصوته الخاص .
*
جماعة نصوص 90
أما جماعة نصوص [90 ] والتى نشأت فى التوقيت الذى يشير إليه اسمها ، فقدت أسستها جماعة من الأصدقاء هم مجموعة من الكتاب كانوا يسعون لأن يحققوا مساهمة فى الحياة الثقافية ، ونظراً لحالة البطء الشديد فى عملية النشر ، وعدم قدرة أجهزة النشر على مواكبة هذا التدفق الإبداعى فإن هؤلاء الكتاب وهم : [ سعيد عبد الفتاح ، وربيع الصبروت ، والسيد نجم ، وسيد الوكيل ، ومصطفى الضبع ، وأمين ريان ، ورمضان بسطاويسى ، ومجدى توفيق ] قرروا التحلق حول مشروع ثقافى ينظم إصدار أعمالهم وأعمال آخرين ، فأنشأوا سلسلة من المطبوعات للأعمال الأدبية ، واحتوى أول إصـداراتهم ، وهو رواية [ أيام يوسف المنسى ] للقاص : [السيد نجم ] على البيان الأول للسلسلة تحت عنوان : [ مفتتح ] أعلن فيه المؤسسون أنهم مجموعة من الكتاب تطورت رؤاهم عبر ورشة عمل ثقافية استمرت لسنوات من خلال اللقاء المنتظم الذى كانوا يعقدونه فى أحد مقاهى وسط القاهرة ، تطورت فى أثنائها خبرات أعضائها ونمت قدراتهم الإبداعية ، وبإزاء هذا الاصطدام الذى حدث مع الأنظمة البيروقراطية لأجهزة النشر فقد قرروا إنشاء هذه السلسلة التى استمرت لفترة من الزمن تصـدر أعمالاً ثقافية ، وكذلك انضـم للمجموعـة أدباء آخرون هم : [ عبد المنعم عواد يوسف ، محمد محمود عبد الرازق ، بدر نشأت ، مصطفى عطية جمعة ] ، وعلى الرغم من أن البيان الافتتاحى يرى أنهم جميعاً ليسوا سوى مجموعة متباينة ، متعددة الاتجاهات ، والأساليب لا تجمع بينها مدرسة واحدة فى الأدب ، ولايلتف أفرادها حول هدف أيديولوجى محدد ، وحاولوا تأكيد هذه القضية بالبرهنة من خلال الإشارة إلى اختلاف إبداع [ السـيد نجم ] عن إبداع [ السيد الوكيل ] ، أو اختلاف جيل [ أمين ريان ] عن جيل [ مصطفى الضبع ] ولكن المتأمل يمكن أن يكتشف أشياء أخرى ، لأن الاختلاف من كاتب إلى كاتب أمر طبيعى ، ولا يستطيع أحد مهما اكتسب من قدرة على الإثبات والبرهان أن يثبت وجود تطابق تام بين أديبين ، على مدى تاريخ الكتابة كله ، والحقيقة هى أننا بإزاء جماعة وليس مجموعة ، جماعة متجانسة فكرياً وأيديولوجياً إلى حد كبير ، بل بأصفى ما يكون التجانس ، وهناك أدلة كثيرة أبسطها ما جاء فى البيان الافتتاحى نفسه ، عندما قال بالسعى فى طريق [ تأسيس رؤية للكتابة والنقد ] مما لا تستطيعه إلا جماعة متجانسة ، بل منسجمة فى أفكارها الفلسفية والأيديولوجية ، ويجد المرء نفسه متأملاً للمعانى الأيديولوجية التى يلتف حولها أعضاء جماعة بعكس ما صرحوا (أنهم ليس لهم توجه أيديولوجى ) ، وإذا قرأنا المقدمة مرة أخرى فسنستطيع أن نحدد بعض المعانى التى تتقاطع مع أفكار أيديولوجية بشكل أو بآخر من مثل : انتقاد وضع أجهزة النشر فى بلادنا ، والتعليق على مايحدث فى [ الواقع المصرى والعربى ] و وعى بـ [ المنعطف الاجتماعى والسياسى الذى تمر به مصر والأمة العربية ] و متابعة [ التاريخ الثقافى للأمة ] وتأكيد قيمة [ مناخ ديمقراطى حر ] وغير هذا الكثير مما ورد فى أحاديثهم بعد ذلك .
كما أكـد البيان مجموعـة من الأشـواق والقيم التى يتحـلق حولها أعضاء [ الجماعة ] ويؤمنون بها ، ومنها : الإيمان بالعقل المفتوح ، ورفض أن تكون هناك أية مصادرات ، بل سـيعملون على اكتشاف أنفسهم مع القارئ من خلال الكتابة ، وعبروا عن احترامهم ، وتقديرهم لجهود الرواد السابقين والحاليين فى الإبداع المصرى والعربى ومحاولة مشاركتهم الهموم الثقافية والإبداعية ، فهم يقدمون أعمالهم وإبداعهم فى صمت فى محراب هذا البلد ، وهكذا يعود البيان لتأكيد التجانس القوى لأعضاء الجماعة التى تشعر بالتعاطف مع الحركة الأدبية [ كلها ] ، وتبدى التعاطف مع [ جميع ] روادها ، واعتبار مصر كياناً متوحداً ، تخشع فيه النفوس كما لو كانت فى محراب مقدس . وهذا التوحد فى النظر إلى القضايا الكبرى لهو أهم دليل على وجود قاسم مشترك أعلى بين أعضاء الجماعة .
وعبّر البيان أيضاً عن التحلق حول مجموعة أخرى من القيم من مثل عدم السعى للشهرة ، والأمل فى تأسيس قيم جديدة فى الحياة الأدبية ، والاعتماد على الذات ، وجعل العمل الأدبى أساساً للحوار ، وأساساً للتواجد ، وهكذا .
*
جماعة الجراد
وهناك جماعة أخرى نشأت فى التسعينيات ، هى جماعة [ الجراد ] ، على الرغم من حرص مؤسسـها الشاعر أحمد طه ، وباقى الجماعة على رفض فكرة الجماعة ، وعدِّ مجلتهم [ الجراد ] مجلة حرة تنشر الكتابات الجديدة ، دون الحاجة إلى تكوين جماعة ، ولكن تأمل القضية سيصل بنا إلى عمل فكرى وثقافى لا يصدر إلا عن جماعة منظمة ، من حيث التجانس الفكرى والثقـافى ، والعمل المنتظم ، واللقاء الدورى ، وإصدار مجلة ، والأهم من كل هذا الدعوة إلى أفكار جديدة متفاعلة مع أوضاع تولد وتصبح جزءاً من الحياة مشكلة ملامح غير مسبوقة ، أفكار يتحلق حولها أعضاء الجماعة بقوة .
أكدت المجلة فكرة انطلاق الحساسية الجديدة اليوم من خلال مفهوم مختلف ، يتناقض مع المفهوم السابق ، فهو لا يبحث عن الرؤى والفلسفات الكبيرة السابقة التى تتصف بالتكامل والانغلاق على نفسها ، بل على العكس هو يبحث عن التحديد والتفصيل والتجزئ ، ويبدأ من خلال نسبية معرفية ، وليس أفكاراً مطلقة مما ساد فى التوجهات الفلسفية والفكرية والجمالية الفائتة ، نسبية تطرح تشككاً فى كل المنظورات المستقرة والجاهزة . وقد انتعشت هذه التوجهات منذ أصبحنا فى العقد الأخير من القرن الماضى ، فى الظروف التى تطلق عليها تسمية “ما بعد الحداثة ” ، و “ما بعد التصنيع” ، و”ما بعد البنيوية” ، ومختلف التسميات التى استخدم فيها اللفظ الانجليزى Post…) ) فى مصطلحات تصف واقع ثقافة هذا القرن .
وعلى الرغم من أن واقعنا العربى لم ينجز تجربة الحداثة بشكل كامل ، بل إن بيئات عربية عديدة لا زالت ترزح تحت نير التخلف ، إلا أن الظروف الجديدة تدفعنا دفعاً إلى دخول شبكة علاقات كونية جديدة ، تثمر أوضاعاً تجعلنا فى قلب الروح الجديدة للعالم بأسره . وهناك تغيرات شاملة على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية تحللت بإزائها أعتى القيم الراسخة .
لقد تمرد الفكر الجديد على الحداثة وإنجازاتها فى العقل والإبداع ، ورفض الكتاب الجدد المهارات الفنية المحكمة ، وبالتالى رفضوا فكرتى الاكتمال والخلود التى اهتم بها مبدعوا الحداثة ، ورفضوا المرجعيات السابقة على الكتابة لتصبح الكتابة معالجة حية مباشرة ، تطرح معاناة الذات وممارساتها الشخصانية الجزئية والتفصيلية ، بعدّ ذلك شهادة جديدة فى الحياة ، تؤكد عدم الثقة فيما مضى ، وتؤكد البحث عن مسار جديد للفكر والكتابة .
أصدرت المجلة عددين بالجهود الذاتية لأعضائها ، ونشرت قصائد لأسامة الدناصورى ، وإيمان مرسال ، ومحمد متولى ، وأحمد يمانى ، وبهاء عواد ، وياسر شعبان ، وماهر صبرى ، وهيثم الشواف ، وغيرهم . ونشرت مجموعة من المقالات والدراسات التى تتعاطف مع أشكال التمرد والانقطاع الأدبى التى مورست فى التاريخ الأدبى سواء فى الثقافة العربية أو فى الثقافات الأجنبية ، فجعلت افتتاحية العدد الثانى على سبيل المثال مقالة للشاعر المصرى “جورج حنين” ، وهو الذى عاش مع مجموعة من أقرانه المصريين فى فرنسا وكونوا جماعة تنادى برؤى جديدة فى الحياة والفكر والكتابة ، وهذه المقالة التى ترجمها بشير السباعى ، تهاجم إمكانية التواصل مع الرومانسية ، أى أنها تطرح تمرداً على الرومانسية ، وهذا يعنى قضية مهمة فى التوقيت الذى كتبت فيه ، وقد جاء فيها : [ يروق للمرء تصوير الشعراء والكتاب والفنانين الأكثر تقدماً فى زماننا على أنهم مواصلون للحركة الرومانسية . على أن تحليلاً نزيهاً وصارماً للعلاقات القائمة بين المحتوى الأدبى للقرن التاسع عشر والمحتوى الأدبى لعصرنا ، من شأنه أن يجبرنا على الاعتراف بوجود قطيعة فى الاستمرارية بين الاثنين . فالأدب الرومانسى ينطوى على التأمل الدائم من جانب ذات معينة للدراما الخاصة بها . فكل واحد يستغرق فى أحزانه وتمزقاته العميقة . إن أبسط ارتباك أخلاقى وأبسط مأزق مؤثر يصبحان قصيدة مثيرة للتوجع أو دراما من خمسة فصول لا يحل شئ ، ولا يتم إنقاذ شئ فى ختامها . إن الرومانسية عاطفية وذاتية . فهى عاطفية بمعنى أن العاطفة تتطور عندها فى حرية تامة دون أن تكف البتة عن هدهدة نفسها بأشكالها التى لا حصر لها ، ودون أن تطلب شيئاً غير مرآة يطيل المرء النظر فيها إلى نفسه ، أو لا يرى غير نفسه . وهى ذاتية بمعنى أن الذات تعتبر الواقع الوحيد الجدير بالوجود ـ بمعنى أن الذات لا تهتم بالعالم بقدر ما أن العالم لا يهتم بها ، وهكذا يصبح الإنسان وحيداً على الأرض . والأسوأ من ذلك أنه يصبح وحيداً دون أرض] .
*
جماعة الرواد
ومثلما ضجت القاهرة بمثل هذه الفعاليات الأدبية المستقلة ، فقد عرفت الأقاليم المصرية جميعها ، فعاليات موازية لاتقل عنها قيمة وتنوعاً ، وإن كانت تعانى من بعض المحدودية بسبب بعد هذه الأقاليم عن مصادر الإشعاع الإعلامى فى العاصمة ، وبسبب عدم قدرة الأدباء الفردية على الاستمرار والتصدى لفترة طويلة ، فكانت النتيجة هى أن امتلأت الحياة الثقافية المصرية فى كل مكان طوال السبعينيات ، وما قبلها وبعدها ، بهذا الوهج الثقافى المستقل الذى أحيا الإبداع والعمل الثقافى والوعى ، وأعطى للثقافة المصرية طاقة دفع لعلها تسير بها حتى الآن ، وإذا أخذنا “دمياط” كمجرد مثال على ما عرفته أقاليم مصر كلها من حراك ثقافى فى تلك الآونه فيمكننا أن نتحدث فى البداية عن أنه بالرغم من الوضع الفكرى والسياسى المتأزم فى “دمياط” ، فقد ظهرت بعض الفعاليات الثقافية المهمة ، رغم ما تعانيه من حصار ، و قد التقى مجموعة من الأدباء فى “دمياط” هم كامل الدابى ومحمد النبوى سلامة ومصطفى أحمد الأسمر ، وقرروا تكوين جماعة أدبية ، فأسسوا عام 1960 “جماعة الرواد ” ، واتخذوا من مركز دمياط الثقافي (الجامعة الشعبية) مقرا لها .
وفى نهاية عام 1966 تطور هذا الكيان لكى تنشأ “جمعية الرواد الأدبية” وهى أشهر جمعية أدبية عرفتها مصر خارج العاصمة ، وكان من الطبيعى أن يحدث الصدام المباشر مع السلطة السياسية حتى صدر قرار وزارى عام 1970 بدمج جمعية الرواد بجمعية أخرى هي جمعية رواد قصور الثقافة ، وهذا يتنافى مع أبسط قوانين التعدد الثقافى ، وهكذا اختنقت الجمعية الأدبية الوحيدة المستقلة ، وانتهت من خلال محاولة احتوائها ، على الرغم مما قوبلت به هذه المحاولة من رفض تام من قبل الأعضاء .
وعرفت دمياط بعد ذلك الجيل الجديد الذى أصدر مجلة “رسالتنا” التى كان من أهم شعاراتها أن الحركة الأدبية فى دمياط هى ملمح من ملامح الثقافة المصرية الشاملة ، وكان أهم أدباء هذا الجيل : “طاهر السقا” ، و”السيد النماس” ، و”أنيس البياع” ، ثم “الحسيني عبدالعال” وغيرهم . وكانت هذه الجماعة الأدبية شديدة الاهتمام بالقضايا الوطنية إلى جوار الإبداع ، وربما كان الإسهام النظرى للشاعر “السيد النماس” دور مهم فى تأكيد دور الجماعة ، وجذب اهتمام المبدعين الجدد من شباب الكتاب ، وهذا ما يؤكده “محمد الزكي” من خلال دراسة متأنية لجهد “النماس” الفكرى ، وهو على سبيل المثال يرى ” أن الكاتب ليس أداة سلبية ، ولا ينبغي أن يكون صنما للكتابة ، وإنما الكاتب ذات واعية ناقدة ترصد المجتمع بعين متأملة ومتمعنة فاحصة ناقدة ترى ما يعتري المجتمع من تغيرات” .
وفى الثمانينيات ، وكما هو الحال فى معظم أنحاء مصر ، هاجر الكثيرون من أدباء دمياط ، وطوى الكثيرون صفحة الأدب ليتجه بعضهم وجهة أخرى فينضوى فى فعاليات ذات طابع سياسي مثلما حدث للأدباء “أنيس البياع” ، و”الحسيني عبد العال” ، و”عبدالرحمن أبوطايل” ، في حين انشغل كثيرون بالسعى وراء لقمة العيش ، أو البحث عن طرائق مختلفة من أجل أن يتحققوا بشكل كريم .
*
جماعة 73
وتكونت بعد ذلك (جماعة 73) التى تعبر عن ظهور مجموعة من الأدباء الجدد الذين يعبرون عن تميز من نوع جديد ، هم القاص “محسن يونس” ، والشاعر “محمد علوش” ، والشاعر “مصطفى العايدي” ، والشاعر “سمير الفيل” ، والقاص “السيد النعناعي” ، وهم مجموعة من الأدباء الجدد الذين يرفضون الانضواء تحت عباءة التصورات الفكرية والجمالية السائدة ، وقد أصدرت الجماعة العدد الأول من مجلتها ، محتوياً مقدمة مهمة كتبها القاص محسن يونس ، تعرضت لقضايا الخصوصية ، وأن 73 ليست قارب نجاة ، ولا هي تدعي ذلك ، وإنما تحاول بناء جو أدبي أكثر صلابة ، بدلا من جو التيه وكثرة المنظرين ـ على قلة الإبداع ـ واختفاء الدليل لعمل جاد . وهنا لا تبدو 73 ظلاً لرغبات ملحّة سرعان ما تتلاشى وسط الملالة المستكنة في بعض النفوس ، وإنما دليل عمل وفعل ، وهي مع هذا لن تقبل استبداد الأحكام التي ستطلق عليها بلا موضوعية مستهدفة خنقها ، حتى تثبت إلى أي حد قد بددت جو السأم .
وتعرضت هذه الجماعة لحصار أمنى شديد لدرجة أن “سمير الفيل” يقول أن الجماعة قامت بجمع نسخ المجلة بمعرفتها ، وقامت بإشعال النار فيها خوفاً من مسائلة الأجهزة الأمنية ، واضطر أعضاء الجماعة بعد ذلك أن يتابعوا أنشطتهم في مقاهي المدينة .
وقد تلت هذه الجماعة ، عدة جماعات أخرى ، أهمها جماعة صغيرة أصدرت مجلة ” الشارع ” وكان أعضاؤها هم : :”محمد الشربيني” ، و”محمد غندور” ، و”محمد الزِّكي” ، و”مجدي الجلاد” ، وقد عبر العدد الأول عن حالة رفض شديدة : (تتحرك أقلامنا الناهضة في تلك البقعة المضيئة المتواضعة بعد ان حاصرتنا خيول المرتزقة من الذين نصبوا أنفسهم ـ دون وجه حق ـ فرسانا علينا مدعين أن أقلامهم سيوفاً تدفع عن مصر غائلة المخربين ، فإذا بهم ، وياللأسف المرّ يقطعون رقاب الذين يتغنون باسمها) .
ويشير “سمير الفيل” أيضاً إلى مجموعة من التغيرات ، ومحاولات التعبير عن رؤى جديدة تتبناها الأجيال الجديدة كافة فأشار إلى احتضان نادي المسرح لكوكبة ( الشارع ) ، لكى تصدر مجموعة من الأعداد التى كتب فيها :”أحمد عبدالرازق ابوالعلا” ، و”محمد الزِّكي” ، و”محمد الشربيني” ، وهي إصدارات أشرف عليها كاتب جاد من جيل الرواد هو “محمد أبوالعلا السلاموني” .
وتم بعد ذلك إنشاء جمعية “ضفاف” التى أعلنت فى عددها الأول ، أنها ليست وليدة اللحظة ، أو نشأت بمحض الصدفة ، بل هى تسعى لتحقيق مجموعة محددة من الأهداف ، ويبدو أن فكرة الاستقلال عن الأجهزة الحكومية كانت هي الرغبة المستبدة بعقول مجموعة من الشباب الذين نجحوا في تأسيس هذه الجمعية في الرابع من يناير 1988 ، وقد نهضت الجمعية بنشاط كبير ، واستضافت عدداً لا بأس به من رموز الثقافة المصرية ، لكن غياب الخبرة ، وغياب الكوادر المدربة أدى بعد فترة إلى تجمد نشاط الجمعية تماماً .
وقد تكونت جماعات أخرى صغيرة ، ومنها جماعة في مدينة “الزرقا” اسمها “شروق” تحمل الهم نفسه ، وقد عبرت بقوة عن فكرة الاستقلال ، ومن أعضاء هذه الجماعة الناقد “جمال سعد محمد” ، وقد ظهرت لسنوات معدودة ثم خفت تأثيرها بالتدريج .
كما لا يمكن أن نغفل هذه الأنشطة الجماعية التى مورست من خلال اللقاءات الثقافية بالأحزاب ، ومنها لقاء “الأربعاء” بحزب التجمع ، ولقاء “الجمعة ” بحزب الوفد ، كما أنشأ المثقف المتميز “محمد التوارجي” صالونه الأدبي بمدينة دمياط الجديدة ، ليعقد لقاءاته فى الجمعة الأولى من كل شهر ، ويستضيف مختلف المثقفين والأدباء والمفكرين ، وقد قام بدور ملموس فى إثراء الحركة الثقافية فى دمياط .
ويلاحظ المتابع للحركة الثقافية هذا التغير الذى طرأ على “رواد” فقد بدأت تهتم بإصدار أعداد تطرح ملفات كاملة حول القضايا المختلفة ، فيصدر العدد الأول بعد التجديد ، فى أغسطس 1982 مدينا ذلك العدوان الإسرائيلى على جنوب لبنان ، كما تم تخصيص ثلاثة أعداد متتالية لأجناس أدبية بعينها ، حول القصة القصيرة ، وشعر العامية ، وشعر الفصحى . ثم يصدر عدد جديد متضمنا ملفاً عن الدراسات الأدبية ، كما صدرت بعض الأعداد التكريمية حول إنجازات بعض الأدباء ، فصدر عدد حول أعمال القاص مصطفى الأسمر ، وعدد عن أعمال الشاعر الراحل طاهر أبو فاشا ، وعدد آخر عنوانه (السيد النماس ، الشاعر الموقف الإنسان) ، كما صدر عدد عنوانه (السيد الغواب ، بيرم زمانه) وهكذا ..
*
هذا استعراض سريع لطبيعة أنشطة بعض الجماعات الأدبية ، التى تكونت طوال العقود الماضية ، مما شكل جزءاً عضوياً فى تطور تاريخنا الأدبى المعاصر ، ولا يعنى هذا بالطبع الحصر الشامل الدقيق ، ولكن الهدف منه الإشارة إلى جوهر توجهات بعض الجماعات الأدبية التى عرفتها الحياة الثقافية المصرية على المدى الزمنى الأقرب ، وإظهار إلى أى مدى تمثل الجماعات الأدبية النشاط الأدبى الأكثر فاعلية والأكثر تأثيراً فى تطور حركة الأدب فى العقود الماضية ، وأيضاً يمكن أن يكون هناك هدف آخر لهذا الاستعراض ، وهو المقارنة وتوضيح الاختلافات بين الجماعات الأدبية ، فى تكوينها ، والمراحل التاريخية والثقافية التى نشأت فيها ، وطبيعة أهدافها ، واتجاهاتها ، والظاهرة الأدبية التى تهتم بها كل جماعة ، ولعل الاختلاف بين الجماعات الأدبية ، وبخاصة تلك التى تنشأ فى مرحلة زمنية واحدة ، يكون باعثاً على الإحساس بالتكامل فيما بينها . لكى تثرى التوجهات المختلفة بتفاعلها الكلى روح الحياة الأدبية ، وتعالج أى نقص يعترى الحياة الثقافية .
مصادر
1 ـ مجلة إضاءة 77 ـ العدد الأول ـ القاهرة 1977
2 ـ من الحداثة الصلبة إلى سيولة ما بعد الحداثة ـ عبد الوهاب المسيرى ـ موقع المعرفة www.aljazeera.net/NR/exeres ـ فى 31 / 12 / 2005.
3 ـ هيجل والمجتمع المدنى ـ موقع قضايا عربية ـ www.arabtopics.com
أغسطس 2007
4 ـ علياء محمد حسين ـ نشأة وتطور المجتمع المدنى بين مكوناته وإطاره التنظيمى (معالجة لأفكار جرامشى)
ـ موقع الصباح ـ www.alsabaah.com ـ 12 أغسطس 2007
5 ـ صامويل هنتنجتون ـ صدام الحضارات ـ ترجمة طلعت الشايب ـ تقديم صلاح قنصوه ـ القاهرة .
6 ـ عزيز الحاج ـ الغزو الثقافى ومقاومته ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت ـ 1983
7 ـ عبدالله الجسمي ـ مفهوم التعددية فى الفلسفة المعاصرة ـ موقع بلاغ ـ www.balagh.com ـ أول أغسطس 2007
8 ـ د. أمانى على فهمى ـ رمسيس يونان وجماعة نحو المجهول ـ موقع الورشة ـ www.alwarsha.com ـ 7 أغسطس 2007
9 ـ مجلد مجلة جاليرى 68 ـ توزيع دار الثقافة الجديدة بالقاهرة
10 ـ مجلد إضاءة 77 ـ إصدار دار الملتقى ـ القاهرة 1994.
11 ـ مجلة الجراد العدد الثانى ـ تحرير أحمد طه ـ يوليو 1994
12 ـ حوار مع السيد نجم حول جماعة نصوص 90 ـ موقع فوانيس ـ www.alfawanis.com ـ أجرت الحوار نجوى شعبان وحسام عبد القادر .
13 ـ سمير الفيل ـ قراءة في أوراق الحركة الأدبية بدمياط ـ موقع القصة العربية ـ www.arabicstory.net .
إن تكوين الجماعة الأدبية أو الفنية المتجانسة أمر شديد الارتباط بالحداثة ، لذلك فسوف يقل أو ينعدم الآن ، أو فى المراحل المقبلة ، بالتدريج ، لأن الحداثة نفسها لم تعد لها المركزية والنصوع الذى كان فى العقود السابقة ، لصالح سيادة فكر آخر يتسيد وجودنا بشكل هائل فى حياتنا اليومية ، وفى طبيعة مجتمعاتنا ، واقتصادنا ، وثقافتنا وفننا هو فكر “ما بعد الحداثة” .
ولعل الحداثة نفسها ، بدأت تدخل متحف التاريخ بالتدريج ، وإن كانت طبيعة المرحلة التى نعيشها تسمح بوجود بعض أطيافها التى تتبخر الآن شيئاً فشيئاً ، وذلك لأن من قوانين المرحلة التى نعيشها الآن تواجد وتوازى المدارس الفكرية والفنية المتعددة ، إذن فلابد أن تكون الحداثة بينها لأنها كانت آخر التوجهات التى عايشناها طوال العقود الفائتة .
لقد ارتبط تكوين الجماعة (الأدبية ، وغير الأدبية) بالحداثة ، لأن تجميع الأفكار الفردية المتجانسة كان من سبيله أن يؤدى إلى قوة هذه الأفكار ، وكان الحداثيون يبحثون عن القوة لمواجهة فكر التقليديين الذين كانوا يحاربون التجديد ، ويحاربون كل ما يمكن أن يسحب البساط من تحت أقدامهم ، على الرغم من أن هذه التجديدات ، والرؤى المتغيرة ، كانت تعبر عن احتياجات اجتماعية وثقافية وليدة لابد من أن تثبت وجودهـا ، وهذا ما حدث بالفعل من خلال انتصار الحداثة طوال المراحل السابقة ، أما الآن فلم تعد هناك أهمية كبيرة لتكوين الجماعة التى تحمى الفرد ، لأن أى شخص يستطيع ، وحـده ، ودون مساعدة من أحد ، أن يمتلك القوة الكافية للاستمرار ، وأن يجمع كل ما يريده من معلومـات وأفكار ، ويستطيع ، وهو لا يزال فى حجرة نومه ، قبل خروجه فى الصباح ، أن يخاطب العالم كله بلغة الإنترنت ، من خلال جهازىّ الكمبيوتر أو الهاتف المحمول .
وكان تكوين الجماعة الأدبية فى فترة الحداثة أيضاً دليلاً على انتصار مفهوم آخر ، هو مفهوم الديمقراطية ، وهو المفهوم الذى ارتبط بالحداثة ارتباطاً وثيقاً ، وهو يجسد معنى التحضر والرقى فى المجتمع الإنسانى ، المجتمع المدنى الحى متعدد الأصوات . وكان تكوين الجماعات المختلفة فى فترة السبعينيات يمثل مقياساً كاشفاً لحقيقة تشبّع المثقفين والمبدعين بقضية حقوق الكتاب فى المساهمة فى صناعة الحاضر والمستقبل الثقافى والاجتماعى والاقتصادى للمجتمع . وإن تكوين الجماعات الأدبية سيعبر عن قدرة الكتاب والمبدعين على التخطيط والإدارة الذاتية لمختلف شؤونهم ، وقدرتهم على تنظيم علاقاتهم بجمهور القراء والمتعاملين مع الإبداع ، وقدرتهم على التحرر من الجمود والسلبية والاتكال على أجهزة الدولة . والسعى الحثيث من أجل الابتكار والتفوق.
ولعل المسـألة يكون لها علاقة بتطور قضايا “المجتمع المدنى” التى ناقشها “هيجل” ، وعدد من المفكرين التقدميين من بعده ، وأهمهم “جرامشى” الذى صاغ القضية بشكل دقيق ، حتى استقر الكثير من المفاهيم وأصبح المقصود من تعبير “المجتمع المدنى” بشكل عام هو تعيين ميدان للحرية خارج الدولة والمؤسسات الرسمية ، فهو ميدان للاستقلال الذاتى Autonomy والتعددية والانطلاق الجماعى الذى يؤكد التنوع والثراء وتعميق وإغناء مفهوم الهوية .
لقد أصبحت التعددية اليوم ، ملمحاً أساسياً لكل مجتمع متحضر ، وبخاصة بعد أن تفسخت معظم الكليات التقليدية ، واليقينيات القديمة ، لأن المفهوم التقليدى يفترض كليّة موحدَّة ومغلقة . ولم يعد أمامنا الآن سوى أن نعترف بقيمة وأهمية التمايز والاحتياجات المختلفة المتعددة للمجتمع البشرى الواحد . والوضع الاجتماعى اليوم هو الوضع الذى يحترم التعدد ، فلم يعد هناك مسار واحد لحل المشكلات الإنسانية المعاصرة فى أى ظاهرة من ظواهر الحياة الجديدة ، لابد من تجاور اتجاهات عديدة لكى تشبع كل هذه التيارات الوليدة ، بسبب الغزارة الشـديدة لكافة المعطيات والظروف التى يعيشها المجتمع اليوم ، هناك تسارع غير مسبوق فى النظريات الأدبية ، وفى الأفكار الفلسفية والثقافية ، ولن يكفى اتجاه مركزى واحد لاستيعابها جميعاً ، ولابد من وجود أنشطة أدبية وثقافية متعددة حتى تتمكن من استيعاب كل هذه التوجهات العديدة الوليدة.
والجماعات الأدبية كانت منذ البداية من أهم هذه الجمعيات قدرة على صياغة أشواق الناس وأحلامهم البسيطة لما للأدب من قدرة حدسية ومستقبلية على مس الحاجات الحقيقية للبشر ، والجماعات الأدبية ليست جمعيات بالمعنى القانونى إلا فى أقل الحالات ، ولكننا إذا كنا نعنى روح القانون لا شكله ، فالجماعات الأدبية كانت أكثر الأشكال تعبيراً عن جوهر نشاط المجتمع ، لأن عملها يتصل بقضايا الفكر ومجالاته الفلسفية والعملية قوية التأثير فى صياغة الموقف الكلى للمجتمع الإنسانى . والجماعة الأدبية تتكون لتعبر ـ فى الغالب ـ عن تيار أدبى لا يمكن أن تقبله الاتجاهات الأدبية السائدة ، فيصبح حينئذ كما لو كان ملاذا يحتمى به مبدعوا التيار الجديد الذى يعبر بالضرورة عن حاجة جمالية واجتماعية لها تواجدها الفعلى فى الحياة .
*
جماعة الفن والحرية
وهناك على سبيل المثال الجماعة السريالية [ نحو المجهول ] ، وأيضاً جماعة [ الثقافة الجديدة ] فى الإسكندرية فى الأربعينيات من القرن الماضى ، أما الجماعة السريالية الأشهر والأكثر تأثيراً فقد تكونت من جورج حنين ، وفؤاد كامل ، وأنور كامل ، وكامل التلمسانى ، وغيرهم ، وقد أسـموا جماعتهم : [ الفن والحرية ] وقد كانت ذات دور كبير فى تغيير الإبداع المصرى بقوة من خلال صدمة السريالية التى تدفع بمتلقيها إلى أعادة النظر الجذرية فى الحياة والفن ، وقد عرف المتلقى هذا بداية من البيان الصادر بعنوان [ يحيا الفن المنحط ] الذى هاجم السلطات الجائرة ونادى بوجوب توحيد كلمة الفنانين والتقدميين وتوحيدهم فى العالم بأسره ، وكان منه :
[ من المعروف أن المجتمع الحاضر ينظر بعين الاشمئزاز إلى كل خلق جديد فى الفن أوفى الأدب طالما يهدد النظم الثقافية التى تثبت قدم المجتمع سواء أكان من ناحية التفكير أم من ناحية المعنى . ويظهر هذا الشعور بالاشمئزاز جلياً فى البلاد الأوتوقراطية النزعة ، وخصوصاً فى ألمانيا حيث يتجسم التعدى الشنيع ضد الفن الحر الذى دعاه هؤلاء الغشم “الفن المنحط” . فمن سيزان إلى بيكاسو ، وكل ماأنجزته العبقرية الفنية المعاصرة .. هذا الانتاج الكثير الحرية والقوى الشعور بالإنسانية ، قد قوبل بالشتائم وديس بالأقدام . نحن لانرى فى هذه الأساطير الرجعية إلا سجوناً للفكر . إن الفن بصفته مبادلة فكرية وعاطفية دائمة تشترك فيها الإنسانية جمعاء لن يقبل مثل هذه الحدود المصطنعة . فيينا المتروكة الآن للهمج ، يمزقون صور رنوار ويحرقون مؤلفات فرويد فى الميادين العامة . إن ألمع منتجات كبار الفنانين الألمان أمثال ماكس أرنست وبول كلى وكارل هوفر وكوكشكا وجورج جروس وكاندينسكى قد صودرت وأحل محلها الفن النازى عديم القيمة ] .
*
جماعة جاليري 68
وقد تكونت الجماعة المشرفة على مجلة [جاليرى 68] من محموعة من طليعة المثقفين المصريين فى الستينيات ، وكما قال أحدهم تكونت الفكرة فى مقهى (ريش) ، وفى هذا إشارة قوية لمعنى مهم هو أن الثقافة فى هذه الفترة كانت تنطلق من قلب الشارع المصرى والمعاناة المصرية ، وكان مقهى (ريش) مكاناً مفضلاً يلتقى فيه معظم المثقفين المصريين بكافة اتجاهاتهم وبخاصة فى مساء وليل الجمعة من كل أسبوع .
وعبرت المجلة [جاليرى 68] عن التوجه التقدمى الطليعى للثقافة المصرية ، فى عناقه للحداثة الآتية من أوربا ، فى أصفى صورها وأنقاها ، وطرحت المجلة بالفعل إبداعاً مصرياً له نكهة خاصة شديدة التميز ، شحنت حياتنا الثقافية بطاقة فكرية وإبداعية مهمة علّمت أجيالاً ودفعت بالإبداع المصرى فى طريق جديدة خطوات غير مسبوقة . وقد صدر العدد الأول من [جاليرى 68] فى إبريل / مايو 1968 بعد أن تكونت هيئة الإشراف على المجلة ، وهى الهيئة التى أشرفت على إصـدار الأعداد الأولى ، وأعضاؤها هم :
رئيس التحرير : أحمد مرسى .
هيئة التحرير : إبراهيم منصور ـ إدوار الخراط ـ سيد حجاب ـ غالب هلسا ـ د. يسرى خميس .
سكرتيرا التحرير : إبراهيم عبد العاطى ـ سعد عبد الوهاب .
مدير التحرير : جميل عطية إبراهيم .
المشرف الفنى : حسن سليمان .
وهذه الأسماء تمثل بالفعل مجموعة ممتازة من المثقفين والمبدعين النشطين فى هذه الفترة والممتزجين بحميمية مع معظم المثقفين الطليعيين ، بحيث أنهم كانوا أقدر الجميع على تمثيل المثقفين ، وعلى التعامل معهم من خلال مجلة مستقلة ، يعمل كل من فيها متطوعين ، وكذلك كانت الأعمال المنشورة تقدم بشكل تطوعى لتحقيق هدف أساسى هو إنجاح هذا المشروع الثقافى المستقل الذى سحب البساط بقوة من تحت أقدام منابر الثقافة الرسمية فى ذلك الوقت .
لقد استمرت هيئة التحرير تدير العمل ولكن هناك ظروف مختلفة غيرت من التكوين الشكلى الأساسى لترتيب الأسماء الذى طرح فى العدد الأول ، فكان هذا الترتيب يختلف بين الحين والحين ، فالعدد الصادر فى نوفمبر عام 1968 ، طرح ترتيب أسماء الهيئة المشرفة على التحرير هكذا :
أشرف على إصدار الكتاب : إبراهيم عبد العاطى ـ إبراهيم منصور ـ إدوار الخراط ـ جميل عطية ابراهيم ـ سيد حجاب ـ غالب هلسا ـ د . يسرى خميس .
المشرف الفنى : أحمد مرسى .
والعدد الصادر فى أكتوبر 1969 اختصرت فيه الأسماء كثيراً وأضيف لها اسم جديد ، فصارت الصياغة هكذا :
أشرف على إصدار هذا الكتاب : إبراهيم منصور ـ أحمد مرسى ـ إدوار الخراط ـ جميل عطية إبراهيم ـ محمد إبراهيم مبروك .
أما العدد الأخير ، الصادر فى فبراير 1971 فقد اكتفت المجلة فبه بهذه الصياغة :
أشرف على إصدار هذا الكتاب : إبراهيم منصور ـ أحمد مرسى ـ إدوار الخراط ـ جميل عطية .
بل وهناك صياغات أخرى أكثر تبايناً ، على مدار رحلة إصدار المجلة ، ولكن تكفى هذه الصياغات الأربعة على الأقل لتبيان كيفيات التغير التى حدثت ، وتكفى للإشارة إلى دلالات محددة منها : إصرار المثقفين المصريين الطليعيين على إصـدار مجلتهم ، وحرصهم الشديد على استمرارها كمشروع مستقل للكتاب والمبدعين المصريين ، ومنها هذه الروح الديمقراطية التى أكدت مدى قيمة العمل المشترك وأهمية العمل الجماعى من أجل اكتساب المزيد من القوة من أجل الاستمرار فى قلب ظروف شديدة الصعوبة ، وكان كل مثقف قادر على تغيير موقعه ببساطة لأن الأهم هو استمرار صدور المجلة .
وقد اعتمدت المجلة على التبرعات الفردية ، وعلى نشر بعض الإعلانات الثقافية ، والإعلان الثقافى هو أفقر الإعلانات مادياً فى كل زمان ومكان ، وبالرغم من ذلك تركت هذه الجماعة ومجلتها رد فعل عميق فى حياة المصريين الثقافية ، وبخاصة أنها قدمت أسماء كتاب فى غاية الأهمية من مثل القصـاصين : إبراهيم أصلان ، وإدوار الخراط ، وبهاء طاهر ، ورؤوف مسعد ، وعبد الحكيم قاسم ، ومحمد ابراهيم مبروك ، ومحمد البساطى ، ومحمد حافظ رجب ، ويحيى الطاهر عبد الله ، ويوسف الشارونى وغيرهم .
والشعراء : أسامة غزول ، وأمل دنقل ، وثروت البحر ، وسعيد نافع ، وسيد حجاب ، وعزت عامر ، وفتحى فرغلى ، ومحمد سيف ، ومحمد عفيفى مطر ، ومحمد صالح ، وغيرهم .
والنقاد : إبراهيم فتحى ، وخليل كلفت ، ورؤوف نظمى ، و شفيق مجلى ، وصبرى حافظ ، وغالى شكرى ، وغيرهم .
*
جماعة كتّاب الغد
وعرفت الحياة الثقافية المصرية فى السبعينيات النشاط الشهير لجماعة أخرى من المثقفين والكتاب الطليعيين ، وهم الذين كوّنوا جمعية “كتاب الغد” ، وهى الجمعية التى قامت بدور كبير أضاف الكثير لرحلة الأدب المصرى ، من خلال مجموعة من المبادئ التقدمية التى تنادى بالتجديد بما يتناسب مع طبيعة المجتمع المصرى ، وهى المبادئ التى ستختلف مع كافة الجوانب التقليدية الشائخة فى حياتنا الثقافية والأدبية ، وطرحت الجمعية أنشطتها من خلال اللقاء الفكرى والأدبى فى ندوة منتظمة وناجحة ، وقادرة على جذب جمهور متحمس ومتفاعل ، وقد تحلق حول هذه الندوة عدد كبير من الأدباء المصريين ، حتى هؤلاء الذين عدُّوا أنفسهم مجرد أصدقاء للجمعية ، ولكن جميع المثقفين المصريين كانوا يكنّون احتراماً لهذه المبادئ المخلصة لقضايا الوطن والثقافة ، ولكن المشكلة التى وقعت فيها هذه الجمعية هى عدم قدرتها على فتح حوار متعمق مع الاتجاهات الأخرى ، مما جعل البعض يصفها بأنها سقطت فيما يمكن أن نسميه بالمعتقدية ، وهذه المسألة تقترب بها من المثالية من حيث لاتدرى ، مما جعلها تُقْدم شيئاً فشيئاً على الوقوع فيما كانت تناضل ضده منذ البداية ، وهو سيادة توجه واحد يشمل كافة مناحى الفكر والإبداع فى مصر .
*
جماعة إضاءة 77
تكونت جماعة [ إضاءة 77 ] وكما يشير اسمها فى عام 1977 وصدر العدد الأول من مجلتها فى أول يوليو من العام نفسه ، ليطرح أفكار وأشواق مجموعة من الشعراء الجدد الذين يبشرون برؤى جديدة فى الشعر العربى بعد أن تأزمت قصيدة الشعر الحر ، وأصبحت غير قادرة على الوفاء بمتطلبات الإبداع الشعرى الجديد .
حرر العددان الأول والثانى : حلمى سالم ورفعت سلام وحسن طلب وجمال القصاص ، وبداية من العدد الثالث انفصل عن الجماعة رفعت سلام ، وأصدر مجلته المستقلة : كتابات ، وانضم إلى جماعة “إضاءة 77” إسمان جديدان ، همـا ماجد يوسف ، وأمجد ريان ، وظل أعضاء الجماعة يحررون المجلة حتى فى حالة غياب البعض منهم أوسفرهم إلى خارج الوطن ، وانضم فيما بعد أعضاء آخرون ، وعندما أصدرت دار الملتقى المجلد الذى احتوى جميع أعداد مجلة إضاءة ، وردت فى الصفحة الأولى أسماء جميع أعضاء إضاءة على الوجه التالى :
جماعة إضاءة 77 : أمجد ريان ـ جمال القصاص ـ حسن طلب ـ
حلمى سالم ـ ماجد يوسف ـ محمد خلاف ـ
محمود نسيم ـ وليد منير .
وقد كان الهدف الأساسى من إصدار المجلة هو حماية الصوت الجديد للشعرية المصرية ، وهو الصوت الوليد الذى توالت على رفضه المجلات التقليدية ، والنقاد المحافظون ، وكان لابد من وصول هذا الصوت لجمهور الشعر العريض ، بعد أن ظلت الخبرات الشعرية التى قدمتها مدرسة الشعر الحر تجتر نفسها لفترة طويلة حتى تكون عمود الشعر الذى أسماه البعض عمود مدرسة الشعر الحر ، وهو معنى يتهكم من التقليدية الجديدة التى بدأت هذه المدرسة تفرضها على حياتنا الشعرية . وقد تمكنت جماعة [ إضاءة 77 ] من أن تعبر عن وعى جديد يستشرى فى الواقع الشعرى كرد فعل لكافة أشكال الاستلاب فكرياً وثقافياً وإبداعياً .
احتوى العدد الأول من مجلة “إضاءة 77” البيان الجمالى للجماعة والذى يعد منطلقها الفكرى الذى التزمت به والتفت من حوله الجماعة ومناصروها ، ومما جاء فيه : [ إن ضرورة تجمع الشعراء والأدباء الشبان حول بؤرة فنية جمالية تنتظم وتنضج إبداعهم الفنى وترقى وعيهم الجمالى والفكرى ليست ضرورة طارئة ، بل هى هدف عزيز تحدد أمام شباب الشعراء والكتاب المصـريين منذ فترة غير قصيرة ، ولقد حاولوا المرة تلو المرة ، ـ وما يزالون ـ تحقيق هذا الهدف النبيل . ونحن إذ نتجمع اليوم فى (إضاءة 77) ، إنما نمارس محاولتنا المخلصة فى تحقيق هذا الهدف الحى ، متواكبين فى ذلك مع مسيرة الحركة الديمقراطية المصرية فى سنواتها الأخيرة نحو تحقيق تمايز واستقلال الاتجاهات والاجتهادات المختلفة فى الساحة الوطنية ، على مستوياتها السياسية والفكرية والفنية والجمالية . نحن إذن استكمال لكل المحاولات المستقلة الجادة فى هذا السبيل ، وإذ نستكمل تلك المحاولات ـ مقدرين لها جهدها وإخلاصها الحقيقى ـ إنما نسعى إلى تجاوز ما نعتقد أن تلك المحاولات السـابقة ـ فى نماذجها البارزة ـ قد وقعت فيه من أخطاء ] .
لقد تمرد شعراء هذه الجماعة على المفاهيم الشعرية السائدة وطرحو رؤية مغايرة تطرح فلسفياً وجمالياً [ التعدد ] فى مقابل [ الأحادية ] ، ذلك التعدد الذى تميزت من خلاله الرؤية الشعرية أساساً ، ثم تجلى ذلك فى كافة أدوات الشاعر وتقنياته بناء ، ولغة وتشكيلاً وإيقاعاً .
وأعلن شعراء الجماعة فى مجلتهم أنهم لا يدّعون اكتمال النضج الفنى والجمالى ، وأنهم لا يسعون كشعراء إلى التطابق لأن هذا يتناقض مع الطبيعة الشعرية أصلاً ، بل هم يدعون كافة الشعراء أن يتمسك كل شاعر بخصوصيته الذاتية ، لأن هذه الخصوصية هى مفتاح التفرد والإضافة الحقيقية فى الفن بشكل عام وفى الأدب والشعر بشكل خاص ، وأعلن الشعراء يأسهم من الأجهزة الثقافية الرسمية ، واعتدادهم بكل التجارب المستقلة .
وطرح شعراء الجماعة مجموعة من المفاهيم الجمالية التى تخص تجربتهم التى اعتبروها متفاعلة مع تجربة شعراء السبعينيات بشكل عام ، وكان منها ، تعريفهم للفن بعدِّه إدراكاً جمالياً للواقع ، لا يعكسه عكساً آلياً، بل يخلق بطرائق التعبير المجازى ـ موازاة رمزية للواقع ، فهو إذن موقف وتشكيله ، موقف من العالم وتشكيل جمالى لهذا الموقف . وعلى هذا فإن أى جهد لغوى لن يكون ترفاً أو تعالياً منفصلاً ، فاللغة التى تجسد الحاجة والتطور الاجتماعيين هى عماد الكتابة وجوهر التشكيل .
ورأى شعراء الجماعة بأنه قد سقطت النماذج التى تنازلت عن الشعر فى سبيل الشعار ، والشعر الصحيح فى رأيهم يتضمن دائماً ـ ضمن مايتضمن ـ الشعار الصحيح ، لكن الشعار الصحيح لا يتضمن بالضرورة الشعر الصحيح .
لقد عدت جماعة [إضاءة 77] نفسها جزءاً لا يتجزأ من الحركة الشعرية الشابة فى السبعينيات ، وامتداداً لذلك فهى جزء من تجربة شعرية شابة جديدة باتساع الوطن العربى متقاربة الملامح ، والمهام ، والشوق للنهوض بإنجاز خطوة جديدة من خطوات مسيرة القصيدة الجديدة .
*
جماعة أصوات
تكونت جماعة [ أصوات ] من مجموعة الشعراء: [ أحمد طه ـ عبد المقصود عبد الكريم ـ عبد المنعم رمضان ـ محمد سليمان ـ محمد عيد ابراهيم ـ محمود الهندى ] وقد تولى الأخير مسـألة الإشراف الفنى على مطبوعاتهم ، وقد نشأت هذه الجماعة ، ومارست فعالياتها فى التوقيت نفسه تقريباً الذى تواجدت فيه جماعة إضاءة ، أو بعده بقليل ،فصارا كما لو كانتا جماعتين متنافستين ، وبخاصة بسبب هذا التقارب الفكرى جمالياً ، وإن كانت هناك فروق ذات طابع أيديولوجى ، ولكنها أخذت قناعاً جمالياً فى معظم الأحوال . وقد تسائل الكثيرون من المثقفين عن إمكانية اندماج الجماعتين ، وبالفعل ناقش أعضاء جماعة إضاءة فى اجتماعاتهم الأخيرة إمكانية انضمام عضوين بارزين من أصوات هما عبد المنعم رمضان عبيد ومحمد سليمان إلى جماعة إضاءة وبخاصة أن جماعة [ أصوات ] وقتها كانت قد تفككت عراها تماماً وانتهى تواجـدها الفعلى ، ولكن هـذا الانضمـام نفسـه لم يحدث .
لم تصدر جماعة أصوات [ مجلة ] فى بداية الأمر ، ولكن اقتصر نشاطها على إنجازين أساسيين : هما الندوة شـبه المنتظمـة التى كانت تعقد غالباً فى بيت [ أحمد طه ] ، وإصدار مجموعة من الدواوين لأعضاء الجماعة ، ولقد صدرت بالفعل دواوين [ أزدحم بالممالك ـ لعبد المقصود عبد الكريم ] و [ أعلن الفرح مولده ـ لمحمد سليمان ] و [ الحلم ظل الوقت .. الحلم ظل المسافة ـ لعبد المنعم رمضان ] و [ طور الوحشـة ـ لمحمد عيد ] و [ لاتفارق اسمى ـ لأحمد طه ] كما أصدرت الجماعة ديوان [ لامبررات الوجود ـ للشاعر المصرى جورج حنين ] والذى ترجمه عن الفرنسية بشير السباعى .
وفى المقدمة التى كتبها عبد المنعم رمضان لديوان محمد عيد إبراهيم تحدث عن الهاجس الذى يتحلق حوله أعضاء جماعة [ أصوات ] ، ووصفه بأنه : [ هاجس الكشف لا التنسيق ، التنسيق الذى ينبنى بالتناظر والإيجاز أو ثمة وسائل أخرى بغية التوصيل ، هاجس الإبداع لا التعبير ، حيث فى التعبير تنتج الفكرة كلاماً يعبر عنها ، يصوغها ويقولبها بمعنى أدق ـ يترجمها ، الفتنة الناشئة هنا فتنة صياغة تؤلف وتؤالف ، وظيفة الكلمات محت كثافة الكلمات ، الكلمات محض أداة ، فتنتها المؤقتة العابرة التى سرعان ما تزول تنبع من العطاء الإجمالى لها ، من استمرارها القضبانى ، إنها تستمد الكثافة من كونها دلالة ، إحالة إلى شئ ، من كونها عناصر تتابع لتشكل سلسلة من المقاصد والغايات ، هنا تتقلص الكلمة لتعنى شيئاً واحداً ، إنها رمزية خائبة ، الكلمات هنا لايمكنها الورود بنفسها ، السؤال القاطع حولها هو لصالح ماذا ترد الكلمات ، مفاضلة الكلمات هنا مفاضلة فى مدار الدقة ، إنه فن خيطىّ خطّى ، مطرد ومستمر يبدأ من نقطة لينتهى إلى نقطة يعرفها منذ لحظة البدء ، الكلمات إذن مستمرة لا تنحفر وإنما تتلاشى ، كلمات إقناعية حيادية تتلاقى فى حوار مع الآخرين . ] .
ولكن طبيعة الخلافات الحادة التى شاعت فى الحياة الثقافية فى ذلك الوقت أثرت على البنيان الداخلى للجماعات الأدبية ، وبالفعل حدث انشقاقان كبيران داخل جماعة اصوات ، الانشقاق الأول هو الذى تم فيه إخراج محمد سليمان من الجماعة ليحل فى محله محمد بدوى ، وبعد هذا الانشقاق مباشرة أصدرت الجماعة العدد الأول من مجلة [ الكتابة السوداء ] حاوياً أسماء المسؤولين عن المجلة بهذه الصياغة الجديدة ، أما الانشقاق الثانى الباتر الذى أنهى عمل الجماعة تماماً فقد كان سببه هذا الخلاف الجذرى الذى تولد بين أحمد طه وعبد المنعم رمضان .
ولايقل الأثر الذى تركته جماعة [ أصوات ] فى الحياة الثقافية المصرية عن الأثر الذى تركته جماعة إضاءة ، والحقيقة هى أن الجماعتين طرحتا معطيات وأفكار شديدة التكامل مما جعل جهود الجماعتين ، بالإضافة إلى جهود بعض الشعراء المستقلين خارجهما تشكل جميعاً القسمات الجديدة لشعرية السبعينيات التى ظلت حتى وقت قريب تدفع الشعرية العربية بشحنات قوية من الإبداع الجديد .
لقد انجز شعراء [ أصوات ] مجموعة من النصوص الشعرية المهمة ، وكذلك مجموعة من الإنجازات النظرية المهمة أيضاً وإن كانت قليلة ، منها مقالة أحمد طه التى كانت بمثابة افتتاحية للعدد الأول من مجلة [ الكتابة السوداء ] ضمَّنه نظريته عن التحول الشعرى من الإنشاد إلى الكتابة ، جاء فيه : [ والشاعر المعاصر يحمل لغته العربية فى ذاكرته ، بينما يعيش فى حياته التى تعمل على نفى هذه اللغة ـ بافتراض رغبته فى كتابة عصره ونفسه ومكانه ـ ومن خلال الجدل بين عوامل الهدم عند الشاعر تلك التى يعيشها ويتنفسها ، وعوامل التقليد المهيمنة على ذاكرته يكمل إنجاز الشاعر وموقعه وزاوية رؤيته إلى عصره وإلى مجتمعه ، وإلى ذاته ] ويتضح هنا التصور المهم عن أزمة الشاعر المعاصر الذى تنتمى ثقافته بل وذاكرته كلها إلى منطقة لم يعد لها وجود فى حياتنا العملية اليوم ، وهذا هو الصراع الذى أصبح يخوضه كل شاعر ، وتختلف القدرة بين شاعر وآخر فى مدى استيعاب القضية ومدى تجاوزه لها ، فبعض الشعراء يتمكنون من تجاوز الماضى ، والبعض الآخر لايزال غارقاً فى المنطق الشفوى الذى عبر عن نموذج الشعر العربى منذ البداية ، هذه الشفوية التى تتطلب الإنشاد أمام الجمهور ، ويقابله الإصغاء من قبل هذا الجمهور ، وهذا يعنى وجوب أن يهتم الشاعر بالصـوتى والتطريبى : كالوزن والقافية والتكرار والاستطراد ، والبراعة فى صياغة الضمير الجمعى ، ضمير المستمعين ، وهذا يعنى هيمنة الجمهور التامة على الشاعر ، و يعنى افتقاد الشاعر لصوته الخاص .
*
جماعة نصوص 90
أما جماعة نصوص [90 ] والتى نشأت فى التوقيت الذى يشير إليه اسمها ، فقدت أسستها جماعة من الأصدقاء هم مجموعة من الكتاب كانوا يسعون لأن يحققوا مساهمة فى الحياة الثقافية ، ونظراً لحالة البطء الشديد فى عملية النشر ، وعدم قدرة أجهزة النشر على مواكبة هذا التدفق الإبداعى فإن هؤلاء الكتاب وهم : [ سعيد عبد الفتاح ، وربيع الصبروت ، والسيد نجم ، وسيد الوكيل ، ومصطفى الضبع ، وأمين ريان ، ورمضان بسطاويسى ، ومجدى توفيق ] قرروا التحلق حول مشروع ثقافى ينظم إصدار أعمالهم وأعمال آخرين ، فأنشأوا سلسلة من المطبوعات للأعمال الأدبية ، واحتوى أول إصـداراتهم ، وهو رواية [ أيام يوسف المنسى ] للقاص : [السيد نجم ] على البيان الأول للسلسلة تحت عنوان : [ مفتتح ] أعلن فيه المؤسسون أنهم مجموعة من الكتاب تطورت رؤاهم عبر ورشة عمل ثقافية استمرت لسنوات من خلال اللقاء المنتظم الذى كانوا يعقدونه فى أحد مقاهى وسط القاهرة ، تطورت فى أثنائها خبرات أعضائها ونمت قدراتهم الإبداعية ، وبإزاء هذا الاصطدام الذى حدث مع الأنظمة البيروقراطية لأجهزة النشر فقد قرروا إنشاء هذه السلسلة التى استمرت لفترة من الزمن تصـدر أعمالاً ثقافية ، وكذلك انضـم للمجموعـة أدباء آخرون هم : [ عبد المنعم عواد يوسف ، محمد محمود عبد الرازق ، بدر نشأت ، مصطفى عطية جمعة ] ، وعلى الرغم من أن البيان الافتتاحى يرى أنهم جميعاً ليسوا سوى مجموعة متباينة ، متعددة الاتجاهات ، والأساليب لا تجمع بينها مدرسة واحدة فى الأدب ، ولايلتف أفرادها حول هدف أيديولوجى محدد ، وحاولوا تأكيد هذه القضية بالبرهنة من خلال الإشارة إلى اختلاف إبداع [ السـيد نجم ] عن إبداع [ السيد الوكيل ] ، أو اختلاف جيل [ أمين ريان ] عن جيل [ مصطفى الضبع ] ولكن المتأمل يمكن أن يكتشف أشياء أخرى ، لأن الاختلاف من كاتب إلى كاتب أمر طبيعى ، ولا يستطيع أحد مهما اكتسب من قدرة على الإثبات والبرهان أن يثبت وجود تطابق تام بين أديبين ، على مدى تاريخ الكتابة كله ، والحقيقة هى أننا بإزاء جماعة وليس مجموعة ، جماعة متجانسة فكرياً وأيديولوجياً إلى حد كبير ، بل بأصفى ما يكون التجانس ، وهناك أدلة كثيرة أبسطها ما جاء فى البيان الافتتاحى نفسه ، عندما قال بالسعى فى طريق [ تأسيس رؤية للكتابة والنقد ] مما لا تستطيعه إلا جماعة متجانسة ، بل منسجمة فى أفكارها الفلسفية والأيديولوجية ، ويجد المرء نفسه متأملاً للمعانى الأيديولوجية التى يلتف حولها أعضاء جماعة بعكس ما صرحوا (أنهم ليس لهم توجه أيديولوجى ) ، وإذا قرأنا المقدمة مرة أخرى فسنستطيع أن نحدد بعض المعانى التى تتقاطع مع أفكار أيديولوجية بشكل أو بآخر من مثل : انتقاد وضع أجهزة النشر فى بلادنا ، والتعليق على مايحدث فى [ الواقع المصرى والعربى ] و وعى بـ [ المنعطف الاجتماعى والسياسى الذى تمر به مصر والأمة العربية ] و متابعة [ التاريخ الثقافى للأمة ] وتأكيد قيمة [ مناخ ديمقراطى حر ] وغير هذا الكثير مما ورد فى أحاديثهم بعد ذلك .
كما أكـد البيان مجموعـة من الأشـواق والقيم التى يتحـلق حولها أعضاء [ الجماعة ] ويؤمنون بها ، ومنها : الإيمان بالعقل المفتوح ، ورفض أن تكون هناك أية مصادرات ، بل سـيعملون على اكتشاف أنفسهم مع القارئ من خلال الكتابة ، وعبروا عن احترامهم ، وتقديرهم لجهود الرواد السابقين والحاليين فى الإبداع المصرى والعربى ومحاولة مشاركتهم الهموم الثقافية والإبداعية ، فهم يقدمون أعمالهم وإبداعهم فى صمت فى محراب هذا البلد ، وهكذا يعود البيان لتأكيد التجانس القوى لأعضاء الجماعة التى تشعر بالتعاطف مع الحركة الأدبية [ كلها ] ، وتبدى التعاطف مع [ جميع ] روادها ، واعتبار مصر كياناً متوحداً ، تخشع فيه النفوس كما لو كانت فى محراب مقدس . وهذا التوحد فى النظر إلى القضايا الكبرى لهو أهم دليل على وجود قاسم مشترك أعلى بين أعضاء الجماعة .
وعبّر البيان أيضاً عن التحلق حول مجموعة أخرى من القيم من مثل عدم السعى للشهرة ، والأمل فى تأسيس قيم جديدة فى الحياة الأدبية ، والاعتماد على الذات ، وجعل العمل الأدبى أساساً للحوار ، وأساساً للتواجد ، وهكذا .
*
جماعة الجراد
وهناك جماعة أخرى نشأت فى التسعينيات ، هى جماعة [ الجراد ] ، على الرغم من حرص مؤسسـها الشاعر أحمد طه ، وباقى الجماعة على رفض فكرة الجماعة ، وعدِّ مجلتهم [ الجراد ] مجلة حرة تنشر الكتابات الجديدة ، دون الحاجة إلى تكوين جماعة ، ولكن تأمل القضية سيصل بنا إلى عمل فكرى وثقافى لا يصدر إلا عن جماعة منظمة ، من حيث التجانس الفكرى والثقـافى ، والعمل المنتظم ، واللقاء الدورى ، وإصدار مجلة ، والأهم من كل هذا الدعوة إلى أفكار جديدة متفاعلة مع أوضاع تولد وتصبح جزءاً من الحياة مشكلة ملامح غير مسبوقة ، أفكار يتحلق حولها أعضاء الجماعة بقوة .
أكدت المجلة فكرة انطلاق الحساسية الجديدة اليوم من خلال مفهوم مختلف ، يتناقض مع المفهوم السابق ، فهو لا يبحث عن الرؤى والفلسفات الكبيرة السابقة التى تتصف بالتكامل والانغلاق على نفسها ، بل على العكس هو يبحث عن التحديد والتفصيل والتجزئ ، ويبدأ من خلال نسبية معرفية ، وليس أفكاراً مطلقة مما ساد فى التوجهات الفلسفية والفكرية والجمالية الفائتة ، نسبية تطرح تشككاً فى كل المنظورات المستقرة والجاهزة . وقد انتعشت هذه التوجهات منذ أصبحنا فى العقد الأخير من القرن الماضى ، فى الظروف التى تطلق عليها تسمية “ما بعد الحداثة ” ، و “ما بعد التصنيع” ، و”ما بعد البنيوية” ، ومختلف التسميات التى استخدم فيها اللفظ الانجليزى Post…) ) فى مصطلحات تصف واقع ثقافة هذا القرن .
وعلى الرغم من أن واقعنا العربى لم ينجز تجربة الحداثة بشكل كامل ، بل إن بيئات عربية عديدة لا زالت ترزح تحت نير التخلف ، إلا أن الظروف الجديدة تدفعنا دفعاً إلى دخول شبكة علاقات كونية جديدة ، تثمر أوضاعاً تجعلنا فى قلب الروح الجديدة للعالم بأسره . وهناك تغيرات شاملة على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية تحللت بإزائها أعتى القيم الراسخة .
لقد تمرد الفكر الجديد على الحداثة وإنجازاتها فى العقل والإبداع ، ورفض الكتاب الجدد المهارات الفنية المحكمة ، وبالتالى رفضوا فكرتى الاكتمال والخلود التى اهتم بها مبدعوا الحداثة ، ورفضوا المرجعيات السابقة على الكتابة لتصبح الكتابة معالجة حية مباشرة ، تطرح معاناة الذات وممارساتها الشخصانية الجزئية والتفصيلية ، بعدّ ذلك شهادة جديدة فى الحياة ، تؤكد عدم الثقة فيما مضى ، وتؤكد البحث عن مسار جديد للفكر والكتابة .
أصدرت المجلة عددين بالجهود الذاتية لأعضائها ، ونشرت قصائد لأسامة الدناصورى ، وإيمان مرسال ، ومحمد متولى ، وأحمد يمانى ، وبهاء عواد ، وياسر شعبان ، وماهر صبرى ، وهيثم الشواف ، وغيرهم . ونشرت مجموعة من المقالات والدراسات التى تتعاطف مع أشكال التمرد والانقطاع الأدبى التى مورست فى التاريخ الأدبى سواء فى الثقافة العربية أو فى الثقافات الأجنبية ، فجعلت افتتاحية العدد الثانى على سبيل المثال مقالة للشاعر المصرى “جورج حنين” ، وهو الذى عاش مع مجموعة من أقرانه المصريين فى فرنسا وكونوا جماعة تنادى برؤى جديدة فى الحياة والفكر والكتابة ، وهذه المقالة التى ترجمها بشير السباعى ، تهاجم إمكانية التواصل مع الرومانسية ، أى أنها تطرح تمرداً على الرومانسية ، وهذا يعنى قضية مهمة فى التوقيت الذى كتبت فيه ، وقد جاء فيها : [ يروق للمرء تصوير الشعراء والكتاب والفنانين الأكثر تقدماً فى زماننا على أنهم مواصلون للحركة الرومانسية . على أن تحليلاً نزيهاً وصارماً للعلاقات القائمة بين المحتوى الأدبى للقرن التاسع عشر والمحتوى الأدبى لعصرنا ، من شأنه أن يجبرنا على الاعتراف بوجود قطيعة فى الاستمرارية بين الاثنين . فالأدب الرومانسى ينطوى على التأمل الدائم من جانب ذات معينة للدراما الخاصة بها . فكل واحد يستغرق فى أحزانه وتمزقاته العميقة . إن أبسط ارتباك أخلاقى وأبسط مأزق مؤثر يصبحان قصيدة مثيرة للتوجع أو دراما من خمسة فصول لا يحل شئ ، ولا يتم إنقاذ شئ فى ختامها . إن الرومانسية عاطفية وذاتية . فهى عاطفية بمعنى أن العاطفة تتطور عندها فى حرية تامة دون أن تكف البتة عن هدهدة نفسها بأشكالها التى لا حصر لها ، ودون أن تطلب شيئاً غير مرآة يطيل المرء النظر فيها إلى نفسه ، أو لا يرى غير نفسه . وهى ذاتية بمعنى أن الذات تعتبر الواقع الوحيد الجدير بالوجود ـ بمعنى أن الذات لا تهتم بالعالم بقدر ما أن العالم لا يهتم بها ، وهكذا يصبح الإنسان وحيداً على الأرض . والأسوأ من ذلك أنه يصبح وحيداً دون أرض] .
*
جماعة الرواد
ومثلما ضجت القاهرة بمثل هذه الفعاليات الأدبية المستقلة ، فقد عرفت الأقاليم المصرية جميعها ، فعاليات موازية لاتقل عنها قيمة وتنوعاً ، وإن كانت تعانى من بعض المحدودية بسبب بعد هذه الأقاليم عن مصادر الإشعاع الإعلامى فى العاصمة ، وبسبب عدم قدرة الأدباء الفردية على الاستمرار والتصدى لفترة طويلة ، فكانت النتيجة هى أن امتلأت الحياة الثقافية المصرية فى كل مكان طوال السبعينيات ، وما قبلها وبعدها ، بهذا الوهج الثقافى المستقل الذى أحيا الإبداع والعمل الثقافى والوعى ، وأعطى للثقافة المصرية طاقة دفع لعلها تسير بها حتى الآن ، وإذا أخذنا “دمياط” كمجرد مثال على ما عرفته أقاليم مصر كلها من حراك ثقافى فى تلك الآونه فيمكننا أن نتحدث فى البداية عن أنه بالرغم من الوضع الفكرى والسياسى المتأزم فى “دمياط” ، فقد ظهرت بعض الفعاليات الثقافية المهمة ، رغم ما تعانيه من حصار ، و قد التقى مجموعة من الأدباء فى “دمياط” هم كامل الدابى ومحمد النبوى سلامة ومصطفى أحمد الأسمر ، وقرروا تكوين جماعة أدبية ، فأسسوا عام 1960 “جماعة الرواد ” ، واتخذوا من مركز دمياط الثقافي (الجامعة الشعبية) مقرا لها .
وفى نهاية عام 1966 تطور هذا الكيان لكى تنشأ “جمعية الرواد الأدبية” وهى أشهر جمعية أدبية عرفتها مصر خارج العاصمة ، وكان من الطبيعى أن يحدث الصدام المباشر مع السلطة السياسية حتى صدر قرار وزارى عام 1970 بدمج جمعية الرواد بجمعية أخرى هي جمعية رواد قصور الثقافة ، وهذا يتنافى مع أبسط قوانين التعدد الثقافى ، وهكذا اختنقت الجمعية الأدبية الوحيدة المستقلة ، وانتهت من خلال محاولة احتوائها ، على الرغم مما قوبلت به هذه المحاولة من رفض تام من قبل الأعضاء .
وعرفت دمياط بعد ذلك الجيل الجديد الذى أصدر مجلة “رسالتنا” التى كان من أهم شعاراتها أن الحركة الأدبية فى دمياط هى ملمح من ملامح الثقافة المصرية الشاملة ، وكان أهم أدباء هذا الجيل : “طاهر السقا” ، و”السيد النماس” ، و”أنيس البياع” ، ثم “الحسيني عبدالعال” وغيرهم . وكانت هذه الجماعة الأدبية شديدة الاهتمام بالقضايا الوطنية إلى جوار الإبداع ، وربما كان الإسهام النظرى للشاعر “السيد النماس” دور مهم فى تأكيد دور الجماعة ، وجذب اهتمام المبدعين الجدد من شباب الكتاب ، وهذا ما يؤكده “محمد الزكي” من خلال دراسة متأنية لجهد “النماس” الفكرى ، وهو على سبيل المثال يرى ” أن الكاتب ليس أداة سلبية ، ولا ينبغي أن يكون صنما للكتابة ، وإنما الكاتب ذات واعية ناقدة ترصد المجتمع بعين متأملة ومتمعنة فاحصة ناقدة ترى ما يعتري المجتمع من تغيرات” .
وفى الثمانينيات ، وكما هو الحال فى معظم أنحاء مصر ، هاجر الكثيرون من أدباء دمياط ، وطوى الكثيرون صفحة الأدب ليتجه بعضهم وجهة أخرى فينضوى فى فعاليات ذات طابع سياسي مثلما حدث للأدباء “أنيس البياع” ، و”الحسيني عبد العال” ، و”عبدالرحمن أبوطايل” ، في حين انشغل كثيرون بالسعى وراء لقمة العيش ، أو البحث عن طرائق مختلفة من أجل أن يتحققوا بشكل كريم .
*
جماعة 73
وتكونت بعد ذلك (جماعة 73) التى تعبر عن ظهور مجموعة من الأدباء الجدد الذين يعبرون عن تميز من نوع جديد ، هم القاص “محسن يونس” ، والشاعر “محمد علوش” ، والشاعر “مصطفى العايدي” ، والشاعر “سمير الفيل” ، والقاص “السيد النعناعي” ، وهم مجموعة من الأدباء الجدد الذين يرفضون الانضواء تحت عباءة التصورات الفكرية والجمالية السائدة ، وقد أصدرت الجماعة العدد الأول من مجلتها ، محتوياً مقدمة مهمة كتبها القاص محسن يونس ، تعرضت لقضايا الخصوصية ، وأن 73 ليست قارب نجاة ، ولا هي تدعي ذلك ، وإنما تحاول بناء جو أدبي أكثر صلابة ، بدلا من جو التيه وكثرة المنظرين ـ على قلة الإبداع ـ واختفاء الدليل لعمل جاد . وهنا لا تبدو 73 ظلاً لرغبات ملحّة سرعان ما تتلاشى وسط الملالة المستكنة في بعض النفوس ، وإنما دليل عمل وفعل ، وهي مع هذا لن تقبل استبداد الأحكام التي ستطلق عليها بلا موضوعية مستهدفة خنقها ، حتى تثبت إلى أي حد قد بددت جو السأم .
وتعرضت هذه الجماعة لحصار أمنى شديد لدرجة أن “سمير الفيل” يقول أن الجماعة قامت بجمع نسخ المجلة بمعرفتها ، وقامت بإشعال النار فيها خوفاً من مسائلة الأجهزة الأمنية ، واضطر أعضاء الجماعة بعد ذلك أن يتابعوا أنشطتهم في مقاهي المدينة .
وقد تلت هذه الجماعة ، عدة جماعات أخرى ، أهمها جماعة صغيرة أصدرت مجلة ” الشارع ” وكان أعضاؤها هم : :”محمد الشربيني” ، و”محمد غندور” ، و”محمد الزِّكي” ، و”مجدي الجلاد” ، وقد عبر العدد الأول عن حالة رفض شديدة : (تتحرك أقلامنا الناهضة في تلك البقعة المضيئة المتواضعة بعد ان حاصرتنا خيول المرتزقة من الذين نصبوا أنفسهم ـ دون وجه حق ـ فرسانا علينا مدعين أن أقلامهم سيوفاً تدفع عن مصر غائلة المخربين ، فإذا بهم ، وياللأسف المرّ يقطعون رقاب الذين يتغنون باسمها) .
ويشير “سمير الفيل” أيضاً إلى مجموعة من التغيرات ، ومحاولات التعبير عن رؤى جديدة تتبناها الأجيال الجديدة كافة فأشار إلى احتضان نادي المسرح لكوكبة ( الشارع ) ، لكى تصدر مجموعة من الأعداد التى كتب فيها :”أحمد عبدالرازق ابوالعلا” ، و”محمد الزِّكي” ، و”محمد الشربيني” ، وهي إصدارات أشرف عليها كاتب جاد من جيل الرواد هو “محمد أبوالعلا السلاموني” .
وتم بعد ذلك إنشاء جمعية “ضفاف” التى أعلنت فى عددها الأول ، أنها ليست وليدة اللحظة ، أو نشأت بمحض الصدفة ، بل هى تسعى لتحقيق مجموعة محددة من الأهداف ، ويبدو أن فكرة الاستقلال عن الأجهزة الحكومية كانت هي الرغبة المستبدة بعقول مجموعة من الشباب الذين نجحوا في تأسيس هذه الجمعية في الرابع من يناير 1988 ، وقد نهضت الجمعية بنشاط كبير ، واستضافت عدداً لا بأس به من رموز الثقافة المصرية ، لكن غياب الخبرة ، وغياب الكوادر المدربة أدى بعد فترة إلى تجمد نشاط الجمعية تماماً .
وقد تكونت جماعات أخرى صغيرة ، ومنها جماعة في مدينة “الزرقا” اسمها “شروق” تحمل الهم نفسه ، وقد عبرت بقوة عن فكرة الاستقلال ، ومن أعضاء هذه الجماعة الناقد “جمال سعد محمد” ، وقد ظهرت لسنوات معدودة ثم خفت تأثيرها بالتدريج .
كما لا يمكن أن نغفل هذه الأنشطة الجماعية التى مورست من خلال اللقاءات الثقافية بالأحزاب ، ومنها لقاء “الأربعاء” بحزب التجمع ، ولقاء “الجمعة ” بحزب الوفد ، كما أنشأ المثقف المتميز “محمد التوارجي” صالونه الأدبي بمدينة دمياط الجديدة ، ليعقد لقاءاته فى الجمعة الأولى من كل شهر ، ويستضيف مختلف المثقفين والأدباء والمفكرين ، وقد قام بدور ملموس فى إثراء الحركة الثقافية فى دمياط .
ويلاحظ المتابع للحركة الثقافية هذا التغير الذى طرأ على “رواد” فقد بدأت تهتم بإصدار أعداد تطرح ملفات كاملة حول القضايا المختلفة ، فيصدر العدد الأول بعد التجديد ، فى أغسطس 1982 مدينا ذلك العدوان الإسرائيلى على جنوب لبنان ، كما تم تخصيص ثلاثة أعداد متتالية لأجناس أدبية بعينها ، حول القصة القصيرة ، وشعر العامية ، وشعر الفصحى . ثم يصدر عدد جديد متضمنا ملفاً عن الدراسات الأدبية ، كما صدرت بعض الأعداد التكريمية حول إنجازات بعض الأدباء ، فصدر عدد حول أعمال القاص مصطفى الأسمر ، وعدد عن أعمال الشاعر الراحل طاهر أبو فاشا ، وعدد آخر عنوانه (السيد النماس ، الشاعر الموقف الإنسان) ، كما صدر عدد عنوانه (السيد الغواب ، بيرم زمانه) وهكذا ..
*
هذا استعراض سريع لطبيعة أنشطة بعض الجماعات الأدبية ، التى تكونت طوال العقود الماضية ، مما شكل جزءاً عضوياً فى تطور تاريخنا الأدبى المعاصر ، ولا يعنى هذا بالطبع الحصر الشامل الدقيق ، ولكن الهدف منه الإشارة إلى جوهر توجهات بعض الجماعات الأدبية التى عرفتها الحياة الثقافية المصرية على المدى الزمنى الأقرب ، وإظهار إلى أى مدى تمثل الجماعات الأدبية النشاط الأدبى الأكثر فاعلية والأكثر تأثيراً فى تطور حركة الأدب فى العقود الماضية ، وأيضاً يمكن أن يكون هناك هدف آخر لهذا الاستعراض ، وهو المقارنة وتوضيح الاختلافات بين الجماعات الأدبية ، فى تكوينها ، والمراحل التاريخية والثقافية التى نشأت فيها ، وطبيعة أهدافها ، واتجاهاتها ، والظاهرة الأدبية التى تهتم بها كل جماعة ، ولعل الاختلاف بين الجماعات الأدبية ، وبخاصة تلك التى تنشأ فى مرحلة زمنية واحدة ، يكون باعثاً على الإحساس بالتكامل فيما بينها . لكى تثرى التوجهات المختلفة بتفاعلها الكلى روح الحياة الأدبية ، وتعالج أى نقص يعترى الحياة الثقافية .
مصادر
1 ـ مجلة إضاءة 77 ـ العدد الأول ـ القاهرة 1977
2 ـ من الحداثة الصلبة إلى سيولة ما بعد الحداثة ـ عبد الوهاب المسيرى ـ موقع المعرفة www.aljazeera.net/NR/exeres ـ فى 31 / 12 / 2005.
3 ـ هيجل والمجتمع المدنى ـ موقع قضايا عربية ـ www.arabtopics.com
أغسطس 2007
4 ـ علياء محمد حسين ـ نشأة وتطور المجتمع المدنى بين مكوناته وإطاره التنظيمى (معالجة لأفكار جرامشى)
ـ موقع الصباح ـ www.alsabaah.com ـ 12 أغسطس 2007
5 ـ صامويل هنتنجتون ـ صدام الحضارات ـ ترجمة طلعت الشايب ـ تقديم صلاح قنصوه ـ القاهرة .
6 ـ عزيز الحاج ـ الغزو الثقافى ومقاومته ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت ـ 1983
7 ـ عبدالله الجسمي ـ مفهوم التعددية فى الفلسفة المعاصرة ـ موقع بلاغ ـ www.balagh.com ـ أول أغسطس 2007
8 ـ د. أمانى على فهمى ـ رمسيس يونان وجماعة نحو المجهول ـ موقع الورشة ـ www.alwarsha.com ـ 7 أغسطس 2007
9 ـ مجلد مجلة جاليرى 68 ـ توزيع دار الثقافة الجديدة بالقاهرة
10 ـ مجلد إضاءة 77 ـ إصدار دار الملتقى ـ القاهرة 1994.
11 ـ مجلة الجراد العدد الثانى ـ تحرير أحمد طه ـ يوليو 1994
12 ـ حوار مع السيد نجم حول جماعة نصوص 90 ـ موقع فوانيس ـ www.alfawanis.com ـ أجرت الحوار نجوى شعبان وحسام عبد القادر .
13 ـ سمير الفيل ـ قراءة في أوراق الحركة الأدبية بدمياط ـ موقع القصة العربية ـ www.arabicstory.net .
تاريخ الجماعات الأدبية – صدى: (ذاكرة القصة المصرية )
مقالات عن تاريخ الجماعات الأدبية كتبها sadazakera
sadazakera.wordpress.com