كان دليل البعثة قد أوقد نارا صغيرة.. الآن صار يركع ويسجد في صلاة غير موقوتة من النوع الذي لا ينتهي.. ثمة في أرجاء صمت المجابات الكبرى الكوني أزيز ينفذ من كل الجهات.. كنا نتهيأ للنوم.. كل واحد أخذ مجثمه، القناصة في جانب، وأنا وڤَلْڤاَلَه في جانب.. وعلى مسافة قصيرة، انتصب السرير الوحيد في البعثة، وبجانبه ڤُوسْتْبَاسْتَر وفاله.. الباحث الأثري كان مصباحه مضاء وفي يمناه قلم، وبين يديه دفتر ضخم. اقتربت منه فاله ووضعت ذقنها على عاتقه تنظر في الدفتر، وسألته:
ـ ماذا تصنع؟
ـ أكتب في أوقات فراغي...
ـ أوقات انشغالك بالكتابة، من سينشغل بي أنا؟ سألته متدللة مغتاظة ..
ـ الموضوع هو أنت، يا حبيبتي ..
ـ كيف؟
ـ نعم أنت.. إنني أكتب قصتك...
ـ إيه؟ هذا رائع! اقرأ لي ما كتبت، أريد أن أسمع ما كتبت عني؟
ـ آآآ... آآ... ولكن ما أكتبه لم ينته بعد ...
ـ لا بأس! دعني أسمع ما كتبت منه.. هيا، أسمعني، أرجوك!
ـ أَيْوَ... أَيْوَ... البداية كانت ليلة ليلاء، حينما كانوا يسمنونك..
» كان البدر قد طلع لتوه، مازال منعزلا في الأفق، كأنه تهديد غريب يتوعد الأرض.. يبدو أحمر قليلا كأنما يخجل من المثول أمام الكون، بعد غياب الشمس، كأنه يخاف أن ترجع من حيث غربت معلنة قيام الساعة!!
» كنتِ ـ في ذلك الوقت ـ تغمسين شفتيك العسليتين في قدح مليء باللبن وكنت تجدين صعوبة في الإمساك به بين يديك.. لم تكوني تستطيعين وضعه على الأرض، مخافة الحَرْطَاِنيَّة القاسية التي تضغط على قدمك اليسرى بين فكي كلابة الژَّيَّارْ، لو وضعتِه فسيشتد الضغط.. كنت توهمينها أنك تشربين.. الواقع أنك تغمسين شفتيك فقط.. كنت تمعنين النظر في البدر الطالع، تفحصين باستغراب نقاط الكلف الداكن على جبينه الناصع.. فكرت أنها يمكن أن تشكل حروفا تحاولين أن تجدي لها معنى، كالمفسر الذي يحاول أن يعطي تأويلا لحروف فواتح السور القرآنية... فجأة، كدت تصعقين من الألم، لقد ضغطت الحَرْطَاِنيَّة بقوة على كلابة الژَّيَّارْ.. خيل إليك أن قدمك تهشمت.. حصل لك ما يحصل لأي حيوان مستوحش يقبض الشرك الحديدي على رجله.. سقطت عيناك في قدح اللبن بين يديك.
» "فاله! هل تعتقدين أنك ستخدعينني! تريدين أن أبقى ساهرة إلى جنبك طول الليل، لأنك تماطلين في إنفاد لبنك؟"!.
» هكذا صاحت في وجهك وهي تواصل الضغط على الژَّيَّارْ. حبست صيحة ألم كادت أن تدوي بين شفتيك وكاد القدح أن يسقط من يديك.. كان اللبن الأبيض يمتد في خيوط بيضاء طويلة على ذقنك ورقبتك، وفوق ملحفتك السوداء، التي تركت على بشرتك غشاء رقيقا من صباغتها المزرقة.
» "أناشدك رَيْحَانَه!، دعيني ألتقط نفسا قليلا، وقتا قصيرا، مجرد لحظة، طرفة عين.. إذا واصلت الشرب فسأتقيأ، القيء قريب!".
» "اشربي! واسكتي! لا أريد كلاما.. اشربي حتى ولو كنت ستتقيئين!"..
» هكذا قالت وبنبرة حاسمة لا تقبل أي جواب وقرصتك قرصة مؤلمة، كادت تطيح بلحمة حية من فخذك. أغمست شفتيك في القدح. بلعت مرة أولى، ثانية، ثالثة، بتقزز شديد، تأملين أن تحسي ارتخاء لذيذا في قبضة الژَّيَّارْ على قدمك..
» تحت خيمة الوبر، التي أضاءت نصفها الشرقي أشعة القمر الذي ارتفع قامة، كنت تلعنين الدهر.. كنت تحسدين أخويك الأصغرين النائمين من غير ثياب على طرف الحصير.. تحسدينهما على النوم بلا مبالاة، وكيفما يشاءان: »لماذا لم أخلق ذكرا؟ ما الذي جعل البنات يراد لهن السمنة؟ ربما لو كانت أمي هنا الليلة، لكانت أمرت رَيْحَانَه أن تنفس عني قليلا». أمكِ كانت قد لحقت بخيمة أهلها غاضبة من أبيك.. ترجاها أبوك كثيرا.. لقد تشفع بالعجوزين الشمطاوين الشديدتي النفوذ في الحي.. ولأول مرة خابت شفاعتهما.. أمك كانت عنيدة ..إحدى الشمطاوين حضرت أمس إلى أبيك، بُوڤَرْنْ.. أخبرته أن أمك توافق على العودة إلى بيت الزوجية، بشرط أن يقدم بين يدي عودتها ترضية خاصة تتمثل في أطقم معروفة من حلي وَلاَتَه. احتج أبوك على هذا المطلب:
» "المرأة ليست عاقلة! من أين لي بهذه الحلي؟ ليس لهذه الأنواع من الحلي سوق في هذه الأرض.. ووَلاَتَه في أقصى الدنيا!".
» "دبر أمرك! أنت تعلم أن ابن عمك شَنَّانْ قدم لزوجته ترضية أغلى من هذا".
» "الرضوخ لهذا الابتزاز هو الذي دمرنا.. لقد أصبح لزاما على كل واحد أن يقلد ابن عمه، حتى ولو كان وضعه لا يسمح!".
» "لن نسمح لك بالخروج عن أعرافنا! الترضية لابد منها وأنت تعلم ذلك جيدا".
"» أعرف! أعرف! لكن أنا لا أدري ما الذي أغضبها أصلا!".
» "هي تفعل ما يفعله النساء جميعا، لابد أن تغتاظ بين الحين والآخر، لكي تعرف إن كنتَ ما زلت تحبها!"
» "هذا غريب، مناف للعقل!".
» كان مَانُو يوقظ سيده كل صباح على ألحان أوتار التِّيدِنِيتْ.. غالبا ما يكون ذلك بنوتات قوية، قاسية، يهيمن عليها ائتلاف رِي ـ لا. كان الفنان دائما يلبس دراعة بيضاء من قماش قطني، ويعتم عمامة من نفس القماش، يدوِّرها على رأسه ووجهه، كأنها ضمادة على حرق كبير.. كان في عمر الخمسين، يتقن فنه.. في ذلك اليوم استيقظ بُوڤَرْنْ على مَانُو وهو يعزف "مَكَّ مُوسَ"، مدخل "كَرْ" من الطريق البيضاء في التِّيدِنِيتْ، مقام الشوق والحب؛ ألحان في تناغم أفقي تغلب عليه الدرجة الخامسة من سلم دُو ويردد نغمتي رِه وفا#. كانت أمة شابة تضع إبريق الشاي على الفرن المملوء جمرا.. صبت الكأس الأولى.. أفرغها بُوڤَرْنْ في بلعومه برشفة واحدة.. طعم الشاي المنعش أيقظ مكامن القوة في نفسه.. قرر أن يجهز جيشا للغارة على وَلاَتَه.
» "مَانُو! أريد منك أن تذيع في الحلة أني منطلق بجيش غدا في اتجاه الحوض، على أن يتجمع الرجال أولى ساعات الفجر عند الخيمة"!.
» استدعى مَعْطَڸَّ، العبد الشمري المجرب، الذي يرافقه في كل غاراته.
» "مَعْطَڸَّ، أريدك أن تختار اثنين من الجمال، نحن ذاهبون إلى الغارة غدا قبل مطلع الشمس"!.
» كانت نجمة الصبح مازالت ترسل بأناة خيوط لمعانها الفضي الآسر، عندما اكتمل الجمع أمام خيمتكم، نحو الثلاثين من الرجال المسلحين بالسيوف وبواريد الڤَشْمَه. كانت الجمال متقنة الأدب، لا يسمع لها صوت.. تفهم بالإشارة، تكتفي بنصف بركة، لتمكن الفرسان من اعتلائها بسرعة خاطفة.. كان مَانُو ينشد بصوت عال بيت حرب ويعزف أَسَرْبَاتْ، الإطار النغمي الذي يعبر عن الاندفاع، ويمنح الزهو والقوة والحماس.
» لما أعطى أبوك إشارة الانطلاق، غادرت الكتيبة الحلة، باتجاه الجنوب الشرقي.. كانوا يتغنون، يعيرون الكسالى المتخلفين عن الغارة:
» "حَرْ الغِيدْ من رَجّالَتْهم لَمْسَنبْيِينْ ☆ دَفّايين لَمْعَاڤَلْ شَرّابينْ اشْنِينْ"
ويتمنون اليوم الذي يرجعون فيه إلى أهلهم وأصدقائهم، سالمين غانمين:
" ألّا اتْصَلِّ وَلا َّاتْصُوم واتْخَطْ لَڨْزَانَ ☆ يا الرب ابْجَاهْ المعصوم لا احْرَمْتْ مَلْڨانَ"
» أبوك لم يرجع بعد.. وما زال عندك عدة أقداح من اللبن يتحتم شربها.. كنت وحدك مع رَيْحَانَه وأخواك الأصغران النائمين.. الليلة الخريفية الحارة كانت مطبقة على الحي بلا رحمة ..والجو مثقل بالرطوبة. الموسم كان ممطرا هذا السنة.. النار في الموقد أمام الخيمة كان يحوم على ضوئها حشد من الحشرات.. صارت البروق تتخاطف في الأفق الشرقي، بينما كان مؤذن صلاة العشاء يدعو للفلاح.. البروق تشق غيوما كثيفة، داكنة، مظلمة، ما لبثت أن غطت كامل النصف الشرقي من السماء.. عصفت رياح عاتية، كثيفة الغبار والظلام، يتخللها لمعان البروق.. اقتلعت الرياح معظم الخيام.. وسادت الحلة فوضى وذعر شديدان.. كان النوء سريعا، فلم يجد الناس الوقت الكافي لتهيئة الخيام.. صيحات الرجال كانت تسمع، والأطفال يبكون، والنساء يصرخن، ويسترحمن الله.. عندما يضيء البرق على هذه الفوضى، يظهر وجهك النشوان لما فعله النوء الذي عبث بأقداح اللبن التي قلبتها الرياح، وتركت اللبن يسيل في كل اتجاه.. دوى الرعد وهطل المطر.. كنت في قمة السعادة لأن رَيْحَانَه نسيتك، وتتوسلين للمطر أن يظل هاطلا: "زيدي! زيدي!". تعالى حنين الإبل، وخوار البقر، وثغاء الشاء الجريحة بفعل أشواك الزرائب التي بعثرتها الرياح وأطارتها في الهواء... كانت الرياح قد ضعفت، فيما اشتد وقع المطر الذي استمر وقتا طويلا ..
» رفعوا الخيام الساقطة المبللة على أعمدة قصيرة.. وراح بعضهم يبحث عن الماشية التي أفلتت ورضعها أولادها التي أطارت الرياح حظائرها.. كان كل شخص يفتش عن ثوب يابس، يبيت به ليلته أو عن وسادة أو حصير لم يطلها المطر، في انتظار طلوع الشمس.. كنت المستفيدة مما حدث: انقلبت الأقداح وأهريق اللبن.. نمتِ بقية ليلتكِ مرتاحة ..
» أيقظك معلم القرآن مبكرا.. نهضت متثاقلة.. تفركين عينيك اللتين مازالت بهما بقايا النعاس بعد نوم عميق.. كان الضوء قد غمر الأرض، وتساوت الأشياء في الوضوح.. يوم جديد ككل الأيام، تزيد به أعمار الكائنات وتنقص.
» "فاله! قومي إلى لوحك!".. قالها لك حامد بصوته الأجش الذي تنطق نبرته بالوعيد!
» خرجت من الخيمة تتمايلين، تناولت اللوح ورحت تقرئين درس الأمس بصورة متلعثمة من بقايا النوم وكسل الأعضاء.
» "استعيذي بالله من الشيطان الرجيم واقرئي بإتقان!".
» أشعة الشمس الأولى صارت تلامس سطح الأرض. كان العبيد قد أخذوا في حلب الماشية.
» "أحضري اللوح والدواة"!
» دخلتِ تحت الخيمة، دون أن توقفي قراءتك.. أخرجت الدواة من تحت أَرَحَّالْ وأخذت اللوح المنجور من شجر آڤْلاَلْ وناولته للمعلم مع الدواة. كان وجهَا اللوح مكتظين بالكتابة، غسل حامد أحد وجهي اللوح في إناء وسمى الله وشرب الغسيل.. حرك الدواة فوجد أنها بحاجة إلى إضافة ماء قليل.. انتقى عودا من الثمام، وأتقن بريه بالموسى، ثم أحدث في رأسه شقا لطيفا يساعده على حمل الكمية اللازمة من المِداد عندما يغمس في الدواة.. وضع اللوح على فخذه اليسرى، وتناول القلم بيده اليمنى وراح يكتب..
» كانت أسْراح الماشية تغادر المراحات متباطئة، يحثها الرعاة.. جميع أُسر الحي كان لهم ماشية، بعضهم أكثر ماشية من بعض، حسب مكانته في القبيلة.. كان أبوك يملك ماشية كثيرة وعددا وافرا من العبيد، من بينهم رَيْحَانَه التي كانت موضع ثقته، يسكنها في بيته ويعهد لها ببعض الشؤون الخاصة.. الحَلَّة كانت لها رحلة شتاء وصيف، من الزمور إلى الحوض، ومن الحوض إلى الزمور.
تعالت أصوات الأطفال بقراءتهم في ألواحهم، لا يطلق سراح أحد منهم ليأخذ فطوره من اللبن البارد، إلا إذا تمكن من إتقان قراءة لوحه.. لذلك كانوا يتنافسون في الرفع من أصواتهم.. أتقنتِ حفظ درس الأمس، وكنت ما زلت تعاودين قراءة درس اليوم.. كان معلمك ينصت إليك، ويصحح لك قراءة بعض الآيات، ويدربك على كيفية نطق بعض الحروف.
» أوقد الفرن ووضع عليه الْمِغْرَاجْ.. وعندما فار، هيأ الكُونْتِيّه.. أخرج منها الكاسات ووضعها في شكل هلال مضيء على طست من النحاس الأصفر اللماع، مزينة بالنقوش ورسوم الأزهار والأغصان المورقة.. وضع إبريق الرصاص ذا اللون الفضي في منحنى الهلال وأخرج السكر والشاي.. أخذ أحد الكؤوس، وغرف من مفتول الشاي إلى مستوى ثلثي الكأس .. صب الشاي في الإبريق وصب عليه قليلا من الماء المغلي.. أخذ أحد الكؤوس وكسر بها قطعة من السكر ألقى بها في الإبريق، وهو يفكر بقول ولد محمد آسْكَرْ: «السَّكْرْ الدَّڤْدِيڤُ بَالْكَاسْ ☆كَانْ اڤْبَيْل أَلاَّ فِيهْ بَاسْ ☆وَمْنَادَمْ عَنْدُ مَاهُ عَاسْ ☆مَنْ كَرْ الِّ إِڤُولْ السَّكَّرْ☆ بِيهَالِّ كَرْ اتْجِيبْ النَّاسْ ☆ أُكَرْ اتْجِيبْ السَّكَّاكْ إِكَرْ ☆وَالِّ وَيْلُ حَدْ ابْصَكْرُ ☆لاَبُدَّالُ بَنُّ يَنْكَرْ☆سَكْرُ وَمَّلِّ لاَنَكْرُ☆ لاَبُدَّالُ مَنْ يَنْكَرْ كَرْ».. أمهل السكر ليذوب، ثم وضع الإبريق قليلا على الجمرات المتقدة في الفرن ليستعيد الشاي سخونته.. سحب الإبريق وصب في إحدى الكؤوس، ثم أرجعها إلى الإبريق، لإحكام تخليط الشاي والسكر، ثم صب رشفة صغيرة رفعها إلى فيه وشفطها بصوت مسموع، أتبعها بنفس طويل مخلوط بما يشبه الأنين: طعم الشاي والسكر كانا يتنازعان الدورة الأولى.. كان طعم الشاي مهيمنا، لكنها هيمنة ستنهزم بشكل تصاعدي في الدورتين الثانية والثالثة، حيث تصبح هيمنة طعم السكر حاسمة.
» كنتِ تحبين هذا المشروب، ويفتنك لونه الأحمر الذهبي؛ تتابعين بانتباه التقلبات التي تطرأ على لونه من الأحمر الكميت إلى الأشقر الفاتح، ما بين الدورة الأولى والأخيرة.. الرغوة البيضاء التي تتوج الكؤوس، تذكرك بإطار الشيب الأبيض الذي يطوف هامة عجوز أصلع.. تمنيت أن تواتيك الجرأة، لتطلبي من حامد أن يعطيك كأسا.. ولكن من أين لك الجرأة؟ فالشاي محرم على النساء.. وعلى الصغيرات منهن خاصة.. شربته مرات نادرة، خلسة مع خادمتك رَيْحَانَه...
» أخذت الشمس تفقد سلطانها بقدر ما تميل عن كبد السماء، باتجاه مهبطها، خلف الأفق.. الظلال تطاولت متناسية منابعها الأصلية، كلما طالت كلما انخفضت نسبة الشبه بينها. كان هذا وقت خروجك مع صديقاتك للفرجة والرياضة وفرصة اللقاء في مكان بعيد عن أنظار الكبار.. غالبا ما يترصدكن في هذه الأوقات الشبان المراهقون.. كنت تنتظرين بفارغ الصبر هذا الوقت من النهار، الذي أصبح له بعد جديد في نفسك بعد ما بلغت الثانية عشرة.. أصبحت تفهمين الاضطراب الذي يحدثه حضورك عند الشبان، تفهمين معنى نظراتهم التي ترتع على جبينك وخديك وشفتيك، وتستحم في بحيرة عينيك.. تحسين لها دفئا منشطا يغري بالحياة وجمالها.. تعودت أن تصغي بلا مبالاة مصطنعة لعبارات الإطراء التي يتفنن الشبان في إلقائها عليك.. كنت تتصدقين على أحدهم، بعد بخل طويل وبلا مبالاة ظاهرة، بنظرة خاطفة.. كنت تتلذذين في داخلك بالغيرة التي تصيب الآخرين عندما تخصين أحدهم بنظرة.. لقد نصحتك أمك أن لا تصدقي مع الرجال أبدا. كانت تقول لك دائما: "إذا أحببت رجلا، فلا تقرِّي له أبدا بحبك! احتفظت المرأة بغريزة الكائنات الضعيفة: التظاهر بالحب عندما لا يكون ثمة حب، والتظاهر بعدمه عندما تقع فيه.. ذلك هو سر سلطة المرأة على الرجل!".. لكنك أنت كنت تحلمين برجل يمكنك أن تصارحيه.. يمكنك أن تقولي له "أحبك!" ويقدر أن يجيبك بهدوء "أعرف!"... »
ـ كنت أحلم بك أنت!
»... بما أن الخيمة في هذا الوقت لم يكن بها أحد، قررت أن تتجملي على عجل.. فتحت علبة الحلي، أخرجت المرآة والمِرْوَد وحجر الكُحْل.. حككت المرود على الإِثْمِد قبل أن تمرريه على خط أشفار الرموش.. تاهت عيناك في جمال عينيك.. كان الأصيل المتباطئ الذي ينسلخ رويدا رويدا يمضي، تبتلعه الأبدية، يحمل للأشياء شعورا بالكآبة، إحساسا بالعدمية المقتربة... خرجتِ متوجهة ناحية الشمال الغربي، تبحثين عن وجه أليف.. عندما علوت قمة الكثيب، رأيت جماعة الشبان والفتيات في الغوطة، لم يكن بإمكانك تحديد هوياتهم؛ فقط تميزين الدراريع من الملاحف.. كنت ما تزالين في منتصف الطريق، عندما استقبلك ثلاثة من الشبان.. سمعت موسيقى آرْدِينْ، المزهر النسائي في موسيقى البيظان.. كانوا متحلقين حول مُنِّينَه مَنْتْ مَانُو التي كانت تعزف لهم آرْدِينْ، وقد أسندت قائمته إلى منكبها، ممسكة بها بين الكف والإبهام، تداعب الأوتار بأناملها العشر، وقاعدة أردين إلى الأرض قرب حجرها.. قاعدة آردين عبارة عن قدح متوسط مغطى بجلد، مسلح بمجموعة من الجلاجل تصدر رنينا منتظما مع كل جسة وتر من الأوتار الاثني عشر، المثبتة بمسافات متساوية على عود أفقي هو بمثابة القطر في دائرة القدح.. ومن أحد طرفي هذا العود ترتفع قائمة آرْدِينْ بزاوية منفرجة قليلا.. مع هذه القائمة تتسلق أعصاب الأوتار صعودا وبمسافات مضبوطة، بحيث تستطيع العازفة أن تؤدي جميع المقامات والأَشْوَارْ، دون أن تضطر إلى إعادة الدوزنة.. كانت مُنِّينَه تعزف موسيقى بيضاء نفّاذة، تجمع البساطة والعمق، تلامس مكامن اللذة في النفوس الشابة، التي كانت تفور في نظرات ندية.. وكانت تغني طَلْعَه من لَبْتَيْتْ على ألحان آرْدِينْ:
» " ڤُولْ الْفَالَه مَعْمُولْ اعْلِيهْ ☆لَخْبِيطْ إِلَ عَادَتْ تَبْغِيهْ
اخْبِيطْ الوَاڤِ مَخْبَرْ فِيهْ ☆أُمَخْبَرْ فَخْبِيطْ الرَّمْڤَانِ
أُنَعْرَفْ زَادْ الشُّورْ الِّ فِيهْ ☆اخْنِيڤْ الْمُهْرْ الفَوْڤَانِ.."
...
» مع ارتقاء الشمس على مدراج عرشها، تبخرت قطرات الندى التي خلفتها نسائم السحر على الأعشاب.. تقلصت الظلال شيئا فشيئا، راجعة إلى منابعها وهبت الرياح الشرقية الحارة، المحملة بصغار الذباب العضوض، إِتِيتْ، الذي يتجمع على جروح الدواب، يمتص دماءها.. تسمر الناس في ظلال الخيام من شدة الحر.. الجو القائظ المضيء أصبح لزجا.. موجات الحرارة ولمعان الضوء شكلت بحرا من سراب.. تباطأت الحركات وتميع الهواء، مجال النظر صار بحريا. كنتِ في هذا الوقت تمسكين بقدح لبن الضحى تحت مراقبة رَيْحَانَه التي لا تنام..
» "رَيْحَانَه، شُوفِي ذُوكْ بُويَ جَايْ امْعَ الْغَزِّ!"
» عرفتِ أباك من بعيد على جمله الأبيض، كأنه ربان يصارع شراع سفينته.. أناخ الجمل أمام الخيمة وقفز عن الرحل.. ترك الجمل للعبيد الذين تواثبوا لاستقباله.. نزع أحدهم الحقيبة الجلدية المثبتة خلف الرحل، لينة مزينة بأشكال هندسية ملونة سوداء، حمراء، صفراء.. علائقها الملساء، من رقاق الجلود المختارة، محكمة الفتل.. ثم حل غرض الرحل، ونزع اللبدة. حمل الرحل والحقيبة إلى داخل الخيمة، وأخذ آخر بزمام الجمل إلى خارج الحَلّة وقيده.. أسرعت رَيْحَانَه إلى الفرن توقده، ونصبت الْمِغْرَاجْ.. أحدث مجيء بُوڤَرْنْ حركة في الحَلَّة؛ خرجوا من خَدَرهم رغم شدة القيظ، ينظرون، يتشوّفون.. بعضهم كان يعرج على خيمة أجدادكِ.. كان الهدوء قد عاد إلى الحي عندما صبت رَيْحَانَه الكأس الأولى؛ وطأة الشمس أعادت لكل خيمة أهلها، وأرغمتهم على السكون.. رجعوا إلى نعاس القيلولة.. أحدثت نكهة الشاي القوية انحسارا في ما كان يشعر به بُوڤَرْنْ من وعثاء السفر...
» بعيد صلاة المغرب، وبعدما كانت الأسراح قد عادت إلى مراحاتها وامتلأت بها عرصات الخيام، جاء الناس إلى خيمة بُوڤَرْنْ: عجائز متنفذات، شديدات الاعتداد بآرائهن، صارمات في ما يعن لهن من الأمور، يحتفظن رغم كهولتهن ببقية جمال؛ وإماء تنبئ روائح العرق الفائحة منهن عن يوم مشحون بالشمس والتعب؛ وأطفال يحركهم الفضول الزائد، كأنما يرون الناس والأشياء لأول مرة؛ وعائلة أهل مَانُو التي أحضرت عتادها الموسيقى: التِّدِينِيتْ، آرْد ِينْ والطبل.. النار الموقدة أمام الخيمة تضيء الوجوه بداخل الخيمة ومن حولها كانت الأرض غارقة في ظلام كثيف والسماء مزينة بأعداد لا حصر لها من جواهر النجوم اللماعة؛ بين الحين والأخر، تنطلق واحدة منها مسرعة مخلفة وراءها ميسما من نور على جبين السماء. لكن، لما يظهر القمر، ستنير نظراته ظلمات الأرض، وينفخ في الأشياء من روحه.. كانت إحدى الإماء تقيم الشاي في طرف الخيمة.. وجهها الآبنوسي يعبر عن عناء متوارث منذ القدم، يحتج عليه بيأس قانط الضوء الملتمع في عينيها المتقدتين.. الفنانون كانوا يطيبون آلاتهم في كَرْ، مقام الشباب والاستمتاع والفرح، الذي يفتتح السلم الموسيقي البِيظَانِي.. كانت الألحان والنغمات المندمجة معها، تعبر عن قسوة في لين، هي من خصائص مداخل الطريق البيضاء في التِّدِينِيتْ.. جاءت أمكِ تتهادى بين اثنتين من مَاتْرُونَات الحلة.. نظر إليها أبوك دون أن يخاطبها وصرف نظره عنها بسرعة، احتراما للتقاليد.. لكن، عندما يتفرق الملأ ويخفت الضجيج، ولا يبقى من كل ذلك غير بصماته الخفية في الهواء، سينفردان في الظلام، ليس معهما غير أطفالهما النيام.. حينئذ سيكون بإمكانه الكشف عن مدى فرحته باللقاء، بعد غيظ وفراق، وتكونين أنت حاضرة، يفر من عينك النوم، تحاولين أن تحبسي نفَسك الذي يشتد ويتسارع…» توقف ڤُوسْتْبَاسْتَر عن القراءة، أطبق دفتره وأعاده إلى الحقيبة..
ـ إلى هنا وصلت..
ـ كتابتك رائعة! أنا أحبها!
قبلته على خده المكسو بالشعر، واحتضنته بين ذراعيها، في حركة مفعمة بالحنان. أطفأ مصباحه وصعد المتكأ.. قفزت إلى جانبه واختفت في حضنه.. راح يهدهدها بين جناحيه، فتصدر عنها قهقهة خافتة، كتكتكة الديكة، لاهثة من الشبق.. فيما كان القناصة يلوثون نسائم الليل بشخيرهم كالذبائح.. عيناي اللتان تحررتا من ضوء مصباح البَطْرُونْ انصرفتا نحو السماء...
ـ ماذا تصنع؟
ـ أكتب في أوقات فراغي...
ـ أوقات انشغالك بالكتابة، من سينشغل بي أنا؟ سألته متدللة مغتاظة ..
ـ الموضوع هو أنت، يا حبيبتي ..
ـ كيف؟
ـ نعم أنت.. إنني أكتب قصتك...
ـ إيه؟ هذا رائع! اقرأ لي ما كتبت، أريد أن أسمع ما كتبت عني؟
ـ آآآ... آآ... ولكن ما أكتبه لم ينته بعد ...
ـ لا بأس! دعني أسمع ما كتبت منه.. هيا، أسمعني، أرجوك!
ـ أَيْوَ... أَيْوَ... البداية كانت ليلة ليلاء، حينما كانوا يسمنونك..
» كان البدر قد طلع لتوه، مازال منعزلا في الأفق، كأنه تهديد غريب يتوعد الأرض.. يبدو أحمر قليلا كأنما يخجل من المثول أمام الكون، بعد غياب الشمس، كأنه يخاف أن ترجع من حيث غربت معلنة قيام الساعة!!
» كنتِ ـ في ذلك الوقت ـ تغمسين شفتيك العسليتين في قدح مليء باللبن وكنت تجدين صعوبة في الإمساك به بين يديك.. لم تكوني تستطيعين وضعه على الأرض، مخافة الحَرْطَاِنيَّة القاسية التي تضغط على قدمك اليسرى بين فكي كلابة الژَّيَّارْ، لو وضعتِه فسيشتد الضغط.. كنت توهمينها أنك تشربين.. الواقع أنك تغمسين شفتيك فقط.. كنت تمعنين النظر في البدر الطالع، تفحصين باستغراب نقاط الكلف الداكن على جبينه الناصع.. فكرت أنها يمكن أن تشكل حروفا تحاولين أن تجدي لها معنى، كالمفسر الذي يحاول أن يعطي تأويلا لحروف فواتح السور القرآنية... فجأة، كدت تصعقين من الألم، لقد ضغطت الحَرْطَاِنيَّة بقوة على كلابة الژَّيَّارْ.. خيل إليك أن قدمك تهشمت.. حصل لك ما يحصل لأي حيوان مستوحش يقبض الشرك الحديدي على رجله.. سقطت عيناك في قدح اللبن بين يديك.
» "فاله! هل تعتقدين أنك ستخدعينني! تريدين أن أبقى ساهرة إلى جنبك طول الليل، لأنك تماطلين في إنفاد لبنك؟"!.
» هكذا صاحت في وجهك وهي تواصل الضغط على الژَّيَّارْ. حبست صيحة ألم كادت أن تدوي بين شفتيك وكاد القدح أن يسقط من يديك.. كان اللبن الأبيض يمتد في خيوط بيضاء طويلة على ذقنك ورقبتك، وفوق ملحفتك السوداء، التي تركت على بشرتك غشاء رقيقا من صباغتها المزرقة.
» "أناشدك رَيْحَانَه!، دعيني ألتقط نفسا قليلا، وقتا قصيرا، مجرد لحظة، طرفة عين.. إذا واصلت الشرب فسأتقيأ، القيء قريب!".
» "اشربي! واسكتي! لا أريد كلاما.. اشربي حتى ولو كنت ستتقيئين!"..
» هكذا قالت وبنبرة حاسمة لا تقبل أي جواب وقرصتك قرصة مؤلمة، كادت تطيح بلحمة حية من فخذك. أغمست شفتيك في القدح. بلعت مرة أولى، ثانية، ثالثة، بتقزز شديد، تأملين أن تحسي ارتخاء لذيذا في قبضة الژَّيَّارْ على قدمك..
» تحت خيمة الوبر، التي أضاءت نصفها الشرقي أشعة القمر الذي ارتفع قامة، كنت تلعنين الدهر.. كنت تحسدين أخويك الأصغرين النائمين من غير ثياب على طرف الحصير.. تحسدينهما على النوم بلا مبالاة، وكيفما يشاءان: »لماذا لم أخلق ذكرا؟ ما الذي جعل البنات يراد لهن السمنة؟ ربما لو كانت أمي هنا الليلة، لكانت أمرت رَيْحَانَه أن تنفس عني قليلا». أمكِ كانت قد لحقت بخيمة أهلها غاضبة من أبيك.. ترجاها أبوك كثيرا.. لقد تشفع بالعجوزين الشمطاوين الشديدتي النفوذ في الحي.. ولأول مرة خابت شفاعتهما.. أمك كانت عنيدة ..إحدى الشمطاوين حضرت أمس إلى أبيك، بُوڤَرْنْ.. أخبرته أن أمك توافق على العودة إلى بيت الزوجية، بشرط أن يقدم بين يدي عودتها ترضية خاصة تتمثل في أطقم معروفة من حلي وَلاَتَه. احتج أبوك على هذا المطلب:
» "المرأة ليست عاقلة! من أين لي بهذه الحلي؟ ليس لهذه الأنواع من الحلي سوق في هذه الأرض.. ووَلاَتَه في أقصى الدنيا!".
» "دبر أمرك! أنت تعلم أن ابن عمك شَنَّانْ قدم لزوجته ترضية أغلى من هذا".
» "الرضوخ لهذا الابتزاز هو الذي دمرنا.. لقد أصبح لزاما على كل واحد أن يقلد ابن عمه، حتى ولو كان وضعه لا يسمح!".
» "لن نسمح لك بالخروج عن أعرافنا! الترضية لابد منها وأنت تعلم ذلك جيدا".
"» أعرف! أعرف! لكن أنا لا أدري ما الذي أغضبها أصلا!".
» "هي تفعل ما يفعله النساء جميعا، لابد أن تغتاظ بين الحين والآخر، لكي تعرف إن كنتَ ما زلت تحبها!"
» "هذا غريب، مناف للعقل!".
» كان مَانُو يوقظ سيده كل صباح على ألحان أوتار التِّيدِنِيتْ.. غالبا ما يكون ذلك بنوتات قوية، قاسية، يهيمن عليها ائتلاف رِي ـ لا. كان الفنان دائما يلبس دراعة بيضاء من قماش قطني، ويعتم عمامة من نفس القماش، يدوِّرها على رأسه ووجهه، كأنها ضمادة على حرق كبير.. كان في عمر الخمسين، يتقن فنه.. في ذلك اليوم استيقظ بُوڤَرْنْ على مَانُو وهو يعزف "مَكَّ مُوسَ"، مدخل "كَرْ" من الطريق البيضاء في التِّيدِنِيتْ، مقام الشوق والحب؛ ألحان في تناغم أفقي تغلب عليه الدرجة الخامسة من سلم دُو ويردد نغمتي رِه وفا#. كانت أمة شابة تضع إبريق الشاي على الفرن المملوء جمرا.. صبت الكأس الأولى.. أفرغها بُوڤَرْنْ في بلعومه برشفة واحدة.. طعم الشاي المنعش أيقظ مكامن القوة في نفسه.. قرر أن يجهز جيشا للغارة على وَلاَتَه.
» "مَانُو! أريد منك أن تذيع في الحلة أني منطلق بجيش غدا في اتجاه الحوض، على أن يتجمع الرجال أولى ساعات الفجر عند الخيمة"!.
» استدعى مَعْطَڸَّ، العبد الشمري المجرب، الذي يرافقه في كل غاراته.
» "مَعْطَڸَّ، أريدك أن تختار اثنين من الجمال، نحن ذاهبون إلى الغارة غدا قبل مطلع الشمس"!.
» كانت نجمة الصبح مازالت ترسل بأناة خيوط لمعانها الفضي الآسر، عندما اكتمل الجمع أمام خيمتكم، نحو الثلاثين من الرجال المسلحين بالسيوف وبواريد الڤَشْمَه. كانت الجمال متقنة الأدب، لا يسمع لها صوت.. تفهم بالإشارة، تكتفي بنصف بركة، لتمكن الفرسان من اعتلائها بسرعة خاطفة.. كان مَانُو ينشد بصوت عال بيت حرب ويعزف أَسَرْبَاتْ، الإطار النغمي الذي يعبر عن الاندفاع، ويمنح الزهو والقوة والحماس.
» لما أعطى أبوك إشارة الانطلاق، غادرت الكتيبة الحلة، باتجاه الجنوب الشرقي.. كانوا يتغنون، يعيرون الكسالى المتخلفين عن الغارة:
» "حَرْ الغِيدْ من رَجّالَتْهم لَمْسَنبْيِينْ ☆ دَفّايين لَمْعَاڤَلْ شَرّابينْ اشْنِينْ"
ويتمنون اليوم الذي يرجعون فيه إلى أهلهم وأصدقائهم، سالمين غانمين:
" ألّا اتْصَلِّ وَلا َّاتْصُوم واتْخَطْ لَڨْزَانَ ☆ يا الرب ابْجَاهْ المعصوم لا احْرَمْتْ مَلْڨانَ"
» أبوك لم يرجع بعد.. وما زال عندك عدة أقداح من اللبن يتحتم شربها.. كنت وحدك مع رَيْحَانَه وأخواك الأصغران النائمين.. الليلة الخريفية الحارة كانت مطبقة على الحي بلا رحمة ..والجو مثقل بالرطوبة. الموسم كان ممطرا هذا السنة.. النار في الموقد أمام الخيمة كان يحوم على ضوئها حشد من الحشرات.. صارت البروق تتخاطف في الأفق الشرقي، بينما كان مؤذن صلاة العشاء يدعو للفلاح.. البروق تشق غيوما كثيفة، داكنة، مظلمة، ما لبثت أن غطت كامل النصف الشرقي من السماء.. عصفت رياح عاتية، كثيفة الغبار والظلام، يتخللها لمعان البروق.. اقتلعت الرياح معظم الخيام.. وسادت الحلة فوضى وذعر شديدان.. كان النوء سريعا، فلم يجد الناس الوقت الكافي لتهيئة الخيام.. صيحات الرجال كانت تسمع، والأطفال يبكون، والنساء يصرخن، ويسترحمن الله.. عندما يضيء البرق على هذه الفوضى، يظهر وجهك النشوان لما فعله النوء الذي عبث بأقداح اللبن التي قلبتها الرياح، وتركت اللبن يسيل في كل اتجاه.. دوى الرعد وهطل المطر.. كنت في قمة السعادة لأن رَيْحَانَه نسيتك، وتتوسلين للمطر أن يظل هاطلا: "زيدي! زيدي!". تعالى حنين الإبل، وخوار البقر، وثغاء الشاء الجريحة بفعل أشواك الزرائب التي بعثرتها الرياح وأطارتها في الهواء... كانت الرياح قد ضعفت، فيما اشتد وقع المطر الذي استمر وقتا طويلا ..
» رفعوا الخيام الساقطة المبللة على أعمدة قصيرة.. وراح بعضهم يبحث عن الماشية التي أفلتت ورضعها أولادها التي أطارت الرياح حظائرها.. كان كل شخص يفتش عن ثوب يابس، يبيت به ليلته أو عن وسادة أو حصير لم يطلها المطر، في انتظار طلوع الشمس.. كنت المستفيدة مما حدث: انقلبت الأقداح وأهريق اللبن.. نمتِ بقية ليلتكِ مرتاحة ..
» أيقظك معلم القرآن مبكرا.. نهضت متثاقلة.. تفركين عينيك اللتين مازالت بهما بقايا النعاس بعد نوم عميق.. كان الضوء قد غمر الأرض، وتساوت الأشياء في الوضوح.. يوم جديد ككل الأيام، تزيد به أعمار الكائنات وتنقص.
» "فاله! قومي إلى لوحك!".. قالها لك حامد بصوته الأجش الذي تنطق نبرته بالوعيد!
» خرجت من الخيمة تتمايلين، تناولت اللوح ورحت تقرئين درس الأمس بصورة متلعثمة من بقايا النوم وكسل الأعضاء.
» "استعيذي بالله من الشيطان الرجيم واقرئي بإتقان!".
» أشعة الشمس الأولى صارت تلامس سطح الأرض. كان العبيد قد أخذوا في حلب الماشية.
» "أحضري اللوح والدواة"!
» دخلتِ تحت الخيمة، دون أن توقفي قراءتك.. أخرجت الدواة من تحت أَرَحَّالْ وأخذت اللوح المنجور من شجر آڤْلاَلْ وناولته للمعلم مع الدواة. كان وجهَا اللوح مكتظين بالكتابة، غسل حامد أحد وجهي اللوح في إناء وسمى الله وشرب الغسيل.. حرك الدواة فوجد أنها بحاجة إلى إضافة ماء قليل.. انتقى عودا من الثمام، وأتقن بريه بالموسى، ثم أحدث في رأسه شقا لطيفا يساعده على حمل الكمية اللازمة من المِداد عندما يغمس في الدواة.. وضع اللوح على فخذه اليسرى، وتناول القلم بيده اليمنى وراح يكتب..
» كانت أسْراح الماشية تغادر المراحات متباطئة، يحثها الرعاة.. جميع أُسر الحي كان لهم ماشية، بعضهم أكثر ماشية من بعض، حسب مكانته في القبيلة.. كان أبوك يملك ماشية كثيرة وعددا وافرا من العبيد، من بينهم رَيْحَانَه التي كانت موضع ثقته، يسكنها في بيته ويعهد لها ببعض الشؤون الخاصة.. الحَلَّة كانت لها رحلة شتاء وصيف، من الزمور إلى الحوض، ومن الحوض إلى الزمور.
تعالت أصوات الأطفال بقراءتهم في ألواحهم، لا يطلق سراح أحد منهم ليأخذ فطوره من اللبن البارد، إلا إذا تمكن من إتقان قراءة لوحه.. لذلك كانوا يتنافسون في الرفع من أصواتهم.. أتقنتِ حفظ درس الأمس، وكنت ما زلت تعاودين قراءة درس اليوم.. كان معلمك ينصت إليك، ويصحح لك قراءة بعض الآيات، ويدربك على كيفية نطق بعض الحروف.
» أوقد الفرن ووضع عليه الْمِغْرَاجْ.. وعندما فار، هيأ الكُونْتِيّه.. أخرج منها الكاسات ووضعها في شكل هلال مضيء على طست من النحاس الأصفر اللماع، مزينة بالنقوش ورسوم الأزهار والأغصان المورقة.. وضع إبريق الرصاص ذا اللون الفضي في منحنى الهلال وأخرج السكر والشاي.. أخذ أحد الكؤوس، وغرف من مفتول الشاي إلى مستوى ثلثي الكأس .. صب الشاي في الإبريق وصب عليه قليلا من الماء المغلي.. أخذ أحد الكؤوس وكسر بها قطعة من السكر ألقى بها في الإبريق، وهو يفكر بقول ولد محمد آسْكَرْ: «السَّكْرْ الدَّڤْدِيڤُ بَالْكَاسْ ☆كَانْ اڤْبَيْل أَلاَّ فِيهْ بَاسْ ☆وَمْنَادَمْ عَنْدُ مَاهُ عَاسْ ☆مَنْ كَرْ الِّ إِڤُولْ السَّكَّرْ☆ بِيهَالِّ كَرْ اتْجِيبْ النَّاسْ ☆ أُكَرْ اتْجِيبْ السَّكَّاكْ إِكَرْ ☆وَالِّ وَيْلُ حَدْ ابْصَكْرُ ☆لاَبُدَّالُ بَنُّ يَنْكَرْ☆سَكْرُ وَمَّلِّ لاَنَكْرُ☆ لاَبُدَّالُ مَنْ يَنْكَرْ كَرْ».. أمهل السكر ليذوب، ثم وضع الإبريق قليلا على الجمرات المتقدة في الفرن ليستعيد الشاي سخونته.. سحب الإبريق وصب في إحدى الكؤوس، ثم أرجعها إلى الإبريق، لإحكام تخليط الشاي والسكر، ثم صب رشفة صغيرة رفعها إلى فيه وشفطها بصوت مسموع، أتبعها بنفس طويل مخلوط بما يشبه الأنين: طعم الشاي والسكر كانا يتنازعان الدورة الأولى.. كان طعم الشاي مهيمنا، لكنها هيمنة ستنهزم بشكل تصاعدي في الدورتين الثانية والثالثة، حيث تصبح هيمنة طعم السكر حاسمة.
» كنتِ تحبين هذا المشروب، ويفتنك لونه الأحمر الذهبي؛ تتابعين بانتباه التقلبات التي تطرأ على لونه من الأحمر الكميت إلى الأشقر الفاتح، ما بين الدورة الأولى والأخيرة.. الرغوة البيضاء التي تتوج الكؤوس، تذكرك بإطار الشيب الأبيض الذي يطوف هامة عجوز أصلع.. تمنيت أن تواتيك الجرأة، لتطلبي من حامد أن يعطيك كأسا.. ولكن من أين لك الجرأة؟ فالشاي محرم على النساء.. وعلى الصغيرات منهن خاصة.. شربته مرات نادرة، خلسة مع خادمتك رَيْحَانَه...
» أخذت الشمس تفقد سلطانها بقدر ما تميل عن كبد السماء، باتجاه مهبطها، خلف الأفق.. الظلال تطاولت متناسية منابعها الأصلية، كلما طالت كلما انخفضت نسبة الشبه بينها. كان هذا وقت خروجك مع صديقاتك للفرجة والرياضة وفرصة اللقاء في مكان بعيد عن أنظار الكبار.. غالبا ما يترصدكن في هذه الأوقات الشبان المراهقون.. كنت تنتظرين بفارغ الصبر هذا الوقت من النهار، الذي أصبح له بعد جديد في نفسك بعد ما بلغت الثانية عشرة.. أصبحت تفهمين الاضطراب الذي يحدثه حضورك عند الشبان، تفهمين معنى نظراتهم التي ترتع على جبينك وخديك وشفتيك، وتستحم في بحيرة عينيك.. تحسين لها دفئا منشطا يغري بالحياة وجمالها.. تعودت أن تصغي بلا مبالاة مصطنعة لعبارات الإطراء التي يتفنن الشبان في إلقائها عليك.. كنت تتصدقين على أحدهم، بعد بخل طويل وبلا مبالاة ظاهرة، بنظرة خاطفة.. كنت تتلذذين في داخلك بالغيرة التي تصيب الآخرين عندما تخصين أحدهم بنظرة.. لقد نصحتك أمك أن لا تصدقي مع الرجال أبدا. كانت تقول لك دائما: "إذا أحببت رجلا، فلا تقرِّي له أبدا بحبك! احتفظت المرأة بغريزة الكائنات الضعيفة: التظاهر بالحب عندما لا يكون ثمة حب، والتظاهر بعدمه عندما تقع فيه.. ذلك هو سر سلطة المرأة على الرجل!".. لكنك أنت كنت تحلمين برجل يمكنك أن تصارحيه.. يمكنك أن تقولي له "أحبك!" ويقدر أن يجيبك بهدوء "أعرف!"... »
ـ كنت أحلم بك أنت!
»... بما أن الخيمة في هذا الوقت لم يكن بها أحد، قررت أن تتجملي على عجل.. فتحت علبة الحلي، أخرجت المرآة والمِرْوَد وحجر الكُحْل.. حككت المرود على الإِثْمِد قبل أن تمرريه على خط أشفار الرموش.. تاهت عيناك في جمال عينيك.. كان الأصيل المتباطئ الذي ينسلخ رويدا رويدا يمضي، تبتلعه الأبدية، يحمل للأشياء شعورا بالكآبة، إحساسا بالعدمية المقتربة... خرجتِ متوجهة ناحية الشمال الغربي، تبحثين عن وجه أليف.. عندما علوت قمة الكثيب، رأيت جماعة الشبان والفتيات في الغوطة، لم يكن بإمكانك تحديد هوياتهم؛ فقط تميزين الدراريع من الملاحف.. كنت ما تزالين في منتصف الطريق، عندما استقبلك ثلاثة من الشبان.. سمعت موسيقى آرْدِينْ، المزهر النسائي في موسيقى البيظان.. كانوا متحلقين حول مُنِّينَه مَنْتْ مَانُو التي كانت تعزف لهم آرْدِينْ، وقد أسندت قائمته إلى منكبها، ممسكة بها بين الكف والإبهام، تداعب الأوتار بأناملها العشر، وقاعدة أردين إلى الأرض قرب حجرها.. قاعدة آردين عبارة عن قدح متوسط مغطى بجلد، مسلح بمجموعة من الجلاجل تصدر رنينا منتظما مع كل جسة وتر من الأوتار الاثني عشر، المثبتة بمسافات متساوية على عود أفقي هو بمثابة القطر في دائرة القدح.. ومن أحد طرفي هذا العود ترتفع قائمة آرْدِينْ بزاوية منفرجة قليلا.. مع هذه القائمة تتسلق أعصاب الأوتار صعودا وبمسافات مضبوطة، بحيث تستطيع العازفة أن تؤدي جميع المقامات والأَشْوَارْ، دون أن تضطر إلى إعادة الدوزنة.. كانت مُنِّينَه تعزف موسيقى بيضاء نفّاذة، تجمع البساطة والعمق، تلامس مكامن اللذة في النفوس الشابة، التي كانت تفور في نظرات ندية.. وكانت تغني طَلْعَه من لَبْتَيْتْ على ألحان آرْدِينْ:
» " ڤُولْ الْفَالَه مَعْمُولْ اعْلِيهْ ☆لَخْبِيطْ إِلَ عَادَتْ تَبْغِيهْ
اخْبِيطْ الوَاڤِ مَخْبَرْ فِيهْ ☆أُمَخْبَرْ فَخْبِيطْ الرَّمْڤَانِ
أُنَعْرَفْ زَادْ الشُّورْ الِّ فِيهْ ☆اخْنِيڤْ الْمُهْرْ الفَوْڤَانِ.."
...
» مع ارتقاء الشمس على مدراج عرشها، تبخرت قطرات الندى التي خلفتها نسائم السحر على الأعشاب.. تقلصت الظلال شيئا فشيئا، راجعة إلى منابعها وهبت الرياح الشرقية الحارة، المحملة بصغار الذباب العضوض، إِتِيتْ، الذي يتجمع على جروح الدواب، يمتص دماءها.. تسمر الناس في ظلال الخيام من شدة الحر.. الجو القائظ المضيء أصبح لزجا.. موجات الحرارة ولمعان الضوء شكلت بحرا من سراب.. تباطأت الحركات وتميع الهواء، مجال النظر صار بحريا. كنتِ في هذا الوقت تمسكين بقدح لبن الضحى تحت مراقبة رَيْحَانَه التي لا تنام..
» "رَيْحَانَه، شُوفِي ذُوكْ بُويَ جَايْ امْعَ الْغَزِّ!"
» عرفتِ أباك من بعيد على جمله الأبيض، كأنه ربان يصارع شراع سفينته.. أناخ الجمل أمام الخيمة وقفز عن الرحل.. ترك الجمل للعبيد الذين تواثبوا لاستقباله.. نزع أحدهم الحقيبة الجلدية المثبتة خلف الرحل، لينة مزينة بأشكال هندسية ملونة سوداء، حمراء، صفراء.. علائقها الملساء، من رقاق الجلود المختارة، محكمة الفتل.. ثم حل غرض الرحل، ونزع اللبدة. حمل الرحل والحقيبة إلى داخل الخيمة، وأخذ آخر بزمام الجمل إلى خارج الحَلّة وقيده.. أسرعت رَيْحَانَه إلى الفرن توقده، ونصبت الْمِغْرَاجْ.. أحدث مجيء بُوڤَرْنْ حركة في الحَلَّة؛ خرجوا من خَدَرهم رغم شدة القيظ، ينظرون، يتشوّفون.. بعضهم كان يعرج على خيمة أجدادكِ.. كان الهدوء قد عاد إلى الحي عندما صبت رَيْحَانَه الكأس الأولى؛ وطأة الشمس أعادت لكل خيمة أهلها، وأرغمتهم على السكون.. رجعوا إلى نعاس القيلولة.. أحدثت نكهة الشاي القوية انحسارا في ما كان يشعر به بُوڤَرْنْ من وعثاء السفر...
» بعيد صلاة المغرب، وبعدما كانت الأسراح قد عادت إلى مراحاتها وامتلأت بها عرصات الخيام، جاء الناس إلى خيمة بُوڤَرْنْ: عجائز متنفذات، شديدات الاعتداد بآرائهن، صارمات في ما يعن لهن من الأمور، يحتفظن رغم كهولتهن ببقية جمال؛ وإماء تنبئ روائح العرق الفائحة منهن عن يوم مشحون بالشمس والتعب؛ وأطفال يحركهم الفضول الزائد، كأنما يرون الناس والأشياء لأول مرة؛ وعائلة أهل مَانُو التي أحضرت عتادها الموسيقى: التِّدِينِيتْ، آرْد ِينْ والطبل.. النار الموقدة أمام الخيمة تضيء الوجوه بداخل الخيمة ومن حولها كانت الأرض غارقة في ظلام كثيف والسماء مزينة بأعداد لا حصر لها من جواهر النجوم اللماعة؛ بين الحين والأخر، تنطلق واحدة منها مسرعة مخلفة وراءها ميسما من نور على جبين السماء. لكن، لما يظهر القمر، ستنير نظراته ظلمات الأرض، وينفخ في الأشياء من روحه.. كانت إحدى الإماء تقيم الشاي في طرف الخيمة.. وجهها الآبنوسي يعبر عن عناء متوارث منذ القدم، يحتج عليه بيأس قانط الضوء الملتمع في عينيها المتقدتين.. الفنانون كانوا يطيبون آلاتهم في كَرْ، مقام الشباب والاستمتاع والفرح، الذي يفتتح السلم الموسيقي البِيظَانِي.. كانت الألحان والنغمات المندمجة معها، تعبر عن قسوة في لين، هي من خصائص مداخل الطريق البيضاء في التِّدِينِيتْ.. جاءت أمكِ تتهادى بين اثنتين من مَاتْرُونَات الحلة.. نظر إليها أبوك دون أن يخاطبها وصرف نظره عنها بسرعة، احتراما للتقاليد.. لكن، عندما يتفرق الملأ ويخفت الضجيج، ولا يبقى من كل ذلك غير بصماته الخفية في الهواء، سينفردان في الظلام، ليس معهما غير أطفالهما النيام.. حينئذ سيكون بإمكانه الكشف عن مدى فرحته باللقاء، بعد غيظ وفراق، وتكونين أنت حاضرة، يفر من عينك النوم، تحاولين أن تحبسي نفَسك الذي يشتد ويتسارع…» توقف ڤُوسْتْبَاسْتَر عن القراءة، أطبق دفتره وأعاده إلى الحقيبة..
ـ إلى هنا وصلت..
ـ كتابتك رائعة! أنا أحبها!
قبلته على خده المكسو بالشعر، واحتضنته بين ذراعيها، في حركة مفعمة بالحنان. أطفأ مصباحه وصعد المتكأ.. قفزت إلى جانبه واختفت في حضنه.. راح يهدهدها بين جناحيه، فتصدر عنها قهقهة خافتة، كتكتكة الديكة، لاهثة من الشبق.. فيما كان القناصة يلوثون نسائم الليل بشخيرهم كالذبائح.. عيناي اللتان تحررتا من ضوء مصباح البَطْرُونْ انصرفتا نحو السماء...
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com