سمير ندا - الديناصور حلم فنان… قصة

قطرات الشمس تتخذ أشكالا لا يعصم تماسكها زحف ظلال الغروب، تقاطع خشب المشربية يستقطر نمنمات الصفو العتيق، يتشرب دورة الأفلاك الوافدة من اللا زمن، حيث يسود النور والظلام كقرينين، لم تنل منهما بداية اللحظة الفاصلة إلى الوجود.

انقطعت سبحاته وهو يلامس بفرشاته النابضة بالكون باحثة عن لمسة السّر فيه، تلاثمت القطرات النورانية المعتقة مع شعرها الذهبى فى عناق الأصل بالفرع، وإن تباعدت بينهما الأيام، شفتاها تذيبان سحر تلك القوقعة الحبيسة فى مواضى الجمال على ذوب الوهج الدافئ فى ارتعاشة تواصل الأجساد، حين باحت الغابة بسر وجودها، وارتعش فى عش زغب عصفور عاين الحياة لحظتها، وتبادل والده دفء الذكرى فى نظرات موشاة بتغريدة فى حضن الربيع الدائم، رغم الخطر المحيق، وتضوع الحياة بعطاء الوجود.

حنت خصلات السحر على ظهرها تداعبه، والزغب الأصفر يتلاشى فى جب الخيال العميق، وتعانق البارفان، بزخمة الألوان، ومعادلات التكوين، وحضرة العلم، وسألته فبهرته انفراجة الثغر، وتعنت مواكب الأصيل برفيف أجنحة الشوق، وظل الغابة، وعبق السنين

ألوانك غريبة تثير فى الجسد ارتعاشة

قالتها بلغة فرنسية، تثاملت برحيق الثغر الضنين، وجسدها أرق من أن تهزه درجات اللون، يروى فى لوحتك تجربة على حافة الكون مناجيا خبء كثافة الحضور.

جلسا على طنافس متقاربة، ونفرت من زمتة الصيف نسمة تعطرت بالبئر المملوكى، فى صحن المرسم بحارة الطبلاوى، وغنت عصافير بلغة البداية حين ذاع الجمال بمقدم فطرة الجدود، عندما امتطوا جذع شجرة اعتلت نهيرا شق إلى قلب البكارة فى غابة الزمن طريقا، وحط على مرفأ تشكل من أجساد التماسيح، عندما كانت أليفة، تتلقى عطاء الطبيعة، بلا خوف، بلا خطر، فالنهير يتسع للكل، والغابة ملاذ المتعبين، حتى أقبل الديناصور، فتحطم الجذع، واختفى المرفأ بأعماق النهير، ولاذ الجد بكهف أورثه الحفيد، فى حارة الطبلاوى

والعينان تجودان بصفو أمان زرقة السماء، تهز رأسها، وتصد تساؤلها ولا تخفى ملابسها الفضفاضة ارتعاشة جسدها، واللون الوحشى لا يرحم رقتها، فيقول:

درجة اللون الأساسية فضية.. ألا تحبين الفضة يا كارمن؟

تناغم التساؤل بالإنكار، فى دهشة يخامرها غضب رقيق

الفضة منحة الحياة للحياة، حين يمتلئ الكل بالرغبة والفتون

لا تزال فرنسيتها تعزف على ثغرها المنفرج قليلا، يتيح لبقايا الضياء سبيلا إلى أطراف أسنان غارقة فى مرمرية أصيلة، ولسانها يروى الشفتين بذوب أنوثة هيلانه، فتأسر وعى باريس، وتخط النصال حكاية العشق المجنون، فهل يروى كهف الطبلاوى مشهدا، يغرق الوهج الفضى الأشهب بحمرة الوجد حين يصول؟! ليس هو باريس، وإن تحددت هى من أصل هيلانة، واقتطفت من بوهيمية سان جيرمان تدفق الإثارة، ونشوة تلقى، فالعمر ناضب مكدود بين براثن الخريف، وعبثا ينتظر من الربيع صفحه، فليدع هذا الجنون للتاريخ، وراح يومئ كمن يؤكد لنفسه قناعة بلغها، وغمغم:

لست باريس

تساءلت

ماذا تقول؟!

غلبته التعاسة والجدب، فتجهّم، ثم استسلم، وعندئذ يحلو له الضحك، ويُحسن كعادته الدعابة.

هذر التاريخ وخطله فى غفلة من حاضر خدرته حكاية من التاريخ القديم

طوت جبينها على تجعُّدات، نامت ظلال الغروب فيها، وشردت عيناها إلى ركن كثيف الظلمة بغرفة المرسم، تروم التركيز، فيما قاله عزيز، ثم رفعت وجهها يعابسه عدم الفهم، وخذلانها فى معركة ذهنية جديدة.

لا أفهم…

وما أكثر ما دفعها عزيز إلى هذه النهاية، هو يجيد الفرنسية، ويجيد التعبير بها، وإن كانت حروف ألوانه أكثر وضوحا، وأنفذ تأثيرا إلى القلب، وإن ألزمت العقل فى معظم الأحيان قيود الغموض، وترقبت منه إيضاحا، فى هذه المرة، لكنه عكف على أكواب الشاى، وجمرات النارجيلة، يستفز وهجها فى غمرات الغروب، ولم تجد من سبيل إليه، إلا كلمات الرجاء من جديد.

أنت فى حضرة التاريخ، فلم الهذر والخطل يا عزيز؟!

هى فنانة، تتعشق سحر اللون، وانتفاضة الوجد على فرشاة عبثت بها المشاعر، وتمرد العقل على قانون الجاذبية، فى ارتياده المحموم لما وراء النجوم لقيها فى معبد الكرنك بالأقصر منذ شهور، تنقل عن التاريخ لوحات دقيقة، فى انبهار بتحدى اللون لحرقة شمس الصعيد، وغدر السيول بصرامة المنطق، وعبث اللصوص بشهود التاريخ، وغامر به الخيال فظنها أداة فى عصابة لصوص الآثار، حتى اختفت ذات يوم، وتأهب لمشاهدة صورها على صفحات الجرائد متهمة بسرقة التاريخ، حتى جرفته المفاجأة ذات مساء فى معرض اقامه بقاعة أخناتون، قبل أن يزحف إليها الديناصور من حفرية مهملة فى صحراء سقارة، ومضى إلى القاهرة مستترا بليل الخوف من المجهول، وأقام هناك أياما، ثم خلف المعرض ركاما من ذكريات يلهو بها عصف الهوى المحموم، فى ذوب راح الغياب عن الجمال العذرى، فى غابة الزمن القديم، تراها لعنة كارمن؟! طارد هواجسه تلك حتى طردها، وأنكر العقلاء خرافة الديناصور، وقال الضابط..

فلتشكر الله أن أحدا غيرى لم يسمعك يا عزيز.

ماذا يقصد ضابط مباحث قسم قصر النيل، خاطرة تناقلها العقل مع قلبه، وواصل الضابط الشاب

وإلا لأودعوك مصحة المجانين.

ثار الدم فى عروقه.

أنت تكذبنى إذن؟!

قفل المحضر، وطوى أوراقه وفى غير مبالاة

أفق يا عزيز

صرخ وهو غير مقدر للعواقب

إنه الديناصور، وأقسم على ذلك

ضحك فى رنين معدنى تجاوبت به حنايا حلقه

أفق يا عزيز

وقالت كارمن

أفق يا عزيز

رفع رأسه المثقل بهموم التماسيح البريئة، والغابة والزمن، وتاهت عيناه فى الجمرات، وراحت تردد

أفق لتُفهمنى، أم تراك ستتركنى للحيرة، كعادتك

وثار من البئر المملوكى بركان، سرعان ما خمد، وأطل من فوهته الطبلاوى، أغا، فى “حرملك” النساء، يتثنّين بلا حرج، ويتجردن من قيود الحديث عن الهوى، ويصب “الأغا” الماء فى الطسوت، ومن قنينة يقطر ماء الورد، ويلوك الكرامة المبتورة، يفيض فمه بالمر، يبصق فى البئر، تحتد النساء، ويتجلى مملوك هرقلى التكوين، يجذبه بعنف من ملابسه، فلا يشفع له خدر “المنزول” الجهنمى، ويلعن عطّار باب الوزير، ولا يأبه لشواهد القبور حين تبرز من تحت الغمامة المسدلة على وجه المسجى، وحين يشرع فى تذوق الألم النافذ من حد السيف، يفقد الإحساس به، وتكفّن ذكراه، فتاة كفلق الصبح، بحبّات من الدموع، حين يجمعها الفجر إلى الوحدة المخوفة على حافة البئر، لم يأبه بالمصير حين قالت له ذات يوم:

أفق

وقالت كارمن

إن لم تفق، فسأغادرك، ولن ترانى

الموت أهون عليه، من غياب طيوف الجمال، وذكرى أيام انتصاره المدوى، حين امتطى قوس قزح من رحبة مسجد بن العاص، وهتف بالجموع

من تبعنى كتبت له النجاة

وتبعه خلق كثير، وهم يرددون: قل لعينيك لا تذوقا المناما، إن نوم المحب كان حراما. ولما جاعوا خبز لهم ضياء النجوم فشبعوا، ولما عطشوا حلب لهم رحيق الأثير الكونى فارتووا، ثم منح كل مريد زوجة نورانية، ولم تمض رحلة الشوق والنجاة كما أراد لها، فقد حدث انفجار غريب، تناثر على أثره قوس قزح، وجاء سقوطه فوق جبل الثور، وهناك تعرف على أحفاد مريديه، انحنت هاماتهم بالقيود، ومزقت أجسادهم السياط، وهم يحطمون صخور الجبل العنيد، وهمس به أحدهم.

احتفظنا لك بزوجة فى الصعيد

تساءل

كيف أعرفها؟!

قال حفيد المريد

ستراها، وتحبها، وتدينها بقلبك، كما جاء فى لوحة بحرية عثرنا عليها بمغارة الجبل

وحين أراد أن يعرف مصيره مع تلك الزوجة أهوى الحارس على محدثه بالسوط فمضى، ولم يره بعد ذلك، ثم وهى تجمع حاجياتها فى حقيبتها

سأغادرك

تشبث بها، واستمد من تعاسة الخريف طاقة اليأس فتولّد الأمل، وتشابكت حمرة الانتفاضة بنبوءة لوحة المغارة، ووهج جذوات النرجيلة وفيض نشوة الشفتين، حين ارتعش زغب العصفور الوليد، وتناقلت نظرات أبويه حكاية العشق، فترنحت غصون مثقلة بالثمار، غسلها الندى، فراحت تتساقط فى حجر كارمن، وعندما جلس بجوارها، يداعب خصلات شعرها المتهدلة، تناعست عيناها، تدغدغها طيوف غابته وتلعثم بالنشوة صوتها

باريس لا يهرم إن كان رأيى يهمك

وغمرته مشاهد الطبلاوى

ألا تخشين سطوة الآغا؟

وغنّ فمها بضحكة عبثت بجهامة المشهد

دعك من أساطير الخوف الموهوم من إرادة الخصب

وابتلع “ريقه” فلم يشعر بطعم المر، ولم يجد غير نكهة الرحيق، ومذاق حليب النجوم، فارتعش بذكرى الأيام الخوالى، وضمها، وأحس بجسدها يكاد يذوب، ولعن الطبلاوى، لكنه تساءل:

أليست هذه وقائع التاريخ؟!

وهى ترتد متفرسة فيه، معاتبة فى ود تواصل الرغبة بالامتنان فى مقام التلقى

لا يكتب التاريخ إلا فرسان قوس قزح

وسمعا طرقا على الباب فلم يأبها..

وما جدوى الأمر، إذا حطّم الانفجار القوس، وتشتت المريدون، وحاقت اللعنة بالجبل العنيد؟!

هى التى ضمته هذه المرة

وهل نسيت نبوءة اللوح؟!

ثم واصلت

وزوجة الصعيد

وفى نبرة تأنيب

وشكوكك بأننى سارقة للتاريخ

الطرقات تشتد، تحطم صمت القصر، وسكون الحارة، وجدب البئر العتيق، وتذكر إدانة القلب، كما قال الحفيد فى جحيم جبل الثور، وهومأخوذ من دهشة المفاجأة

لكنك فرنسية

وضحكت غير مبالية بعنف الطرقات

حيلة، ما كان ينبغى أن تنطلى على الفارس القديم، واسمى كريمة.. قالتها بلغة عربية مشربة بعبق البخور، واختلاط توابل الدقاقين فى الغورية، وطرقعة حبات المسابح، فى خشوع الفجر، بمسجد الحسين، ونقاء الصبح بالباب الأخضر، يتلقى نفحات شموخ المقطم المنتصب بكرامة الرجال، وإن ساد هنيهة العمر أغوات المماليك.
أفق يا عزيز، فغدا يعود المريدون، وينصاع قوس قزح، ويشرق على الدنيا أخناتون، يشهد فى خشوع، ترانيم ألوانك، وسحر فرشاتك، وحصاد ثورتك على الجاذبية، فى أعماق الكون المجهول..

ومن بعيد ترددت أهازيج عصر حاله انقضى:

قل لعينيك لا تذوقا المناما – إن نوم المحب كان حراما

وتحطم الباب، ولكنهما ثملا بمرائى الوجد، وتمرد الخريف مجتذبا الربيع، فيستجيب لعطاء الخصب، وتتفتح البراعم عن زهور اللوتس تحتل معابد الغابرين، وامتلأت فرجة الباب المحطم، بعمالقة يلوحون “بالنبابيت” فى عتمة الغروب، تقدم رئيسهم هادرا بالغضب.

كشفت أمر الديناصور.

رمقهم بسخرية، وتجاهلتهم هى، وواصل كبيرهم

مريدوك حاصروه فحق عليك العقاب يا عزيز

واجتاحوا المرسم كالعاصفة، وهى تصفف شعرها غير عابئة بوجودهم، تناثرت فضة ألوانه الشهباء، تحاكى رماد العدم، جمع قبضته فى غيظ، وتصلب فكّاه، هم بمقاومتهم، فجذبته كريمة من يده هاتفة

قوس قزح أولى بنضالك..

رمق ضابط مباحث الجمالية حطام المرسم، بعد عدة شهور، عرف فيه ضابط قصر النيل، ابتسم عزيز.

طالت غيبتك وتأخر التحقيق

تنهد الضابط فى حرج

اجراءات النقل وتلكؤ الروتين

وقال وهو يجمع ألوانه

أحسب الديناصور وراء كل ما جرى وما يجرى وما سوف يكون

وحدجه الضابط بنظرات لا معنى لها.

هو خرافة تستعذب الحديث عنها، حتى استعبدتك يا عزيز، تماما كحديثك عن المريدين..

وفى تحد

من حطّم المرسم إذن؟!

وضاق به الضابط

من حطم المرسم هو أنت، فى نوبة من شرودك عن الوجود وازداد تحديه.
والشهود على ما جرى، من الزملاء؟!

وفى ضيق

تحوم الشبهات حولهم، فلا يعتد بشهادتهم القانون وقد ضاق بالأمر جميعا.
وجليستى بالمرسم يومئذ؟!

وضحك ساخرا

هى زوجتك، وعامل التواطؤ هنا لا يمكن إغفاله.

وحملت هبات هواء شمخ بها الجبل ترنيمات أثيره.. قل لعينيك لا تذوقا المناما وأشار عزيز إلى الخارج.

وأناشيد المريدين الآن؟!

وأرتج على الضابط لحظات، وفى نبرات أعياها الاجهاد لطول الجدل

جمع من المجذوبين فى مقهاهم بالباب الأخضر.

وانتهى عزيز من جمع حاجياته، وأحس بالإشفاق على الضابط، وربت عليه، فأجفل الضابط متوجسا شرا، ولم يزايله خوفه إلا حينما ابتسم عزيز وهمس بالضابط.

لنقفل المحضر إذن.
والفاعل الذى تتهمه؟!
الأغا طبلاوى.
سنلقى القبض عليه
نسيت أن أخبرك أنه قُتل
قبل ما جرى للمرسم أو بعده؟
قبل ذلك
متى بالتحديد؟
فى عصر المماليك

وفغر الضابط فمه، وحملقت عيناه تبحثان عن تفسير، لكن ظهور طفل مبارك القسمات نورانى الجبين، ردّه إلى واقع اللحظة، طاويا أوراق التحقيق، وابتسم عزيز فى حب وحنان، وصوت خفقات أجنحة طيور الشوق فى غاية البكارة تجتذبه إلى آفاق اللامحدود.

وقال الطفل

لم تأخرت يا أبى ؟!

وصعق الضابط، لقد تزوج عزيز منذ عدة شهور، فمتى أنجب؟ هز رأسه كمن يطارد كابوسا، وقبل أن يفيق، كان عزيز قد مضى مع ولده، وغرقت غرفة المرسم فى الظلام، واقتربت الترنيمات : إن نوم المحب كان حراما

أحس بحطام المرسم يطبق عليه، بينما كان عزيز يلحق بزوجته ويدفع ابنه فوق كتفيه، ليتيح له فرصة أرحب للشهود، مغادرا رحبة القصر، والبئر القديم، وحارة الطبلاوى، وأناشيدهم، تعانق نجوم السمت، فى وجد أزلى قديم




- مجلة القاهرة – العدد 68 – 15 فبراير 1987




أعلى