حسام المقدم - عباءة تسع طيور العالم.. قصة

مدت “نوال” زجاجة المياه المملوءة أمامي على الترابيزة العريضة، وقالت إنها غسلتها جيدا بعد رائحة سجائري العالقة بفوهتها منذ عام! رأيت أظافرها المهندمة تحوط الزجاجة وبها دوائر من الأخضر الباهت. بعد قليل ستقول “نوال” إنها قضت وقتا طويلا في عمل المحشي، وبسطت أصابعها أمام “سامية” زميلتنا التي تشاركنا الجلسة. راقبتها وهي تتأمل أظافرها، إلى أن فتحت دفتر تحضيرها وأمسكت القلم بأصابع ثلاثة تجري على السطور بلهفة، في حين كوّرت يدها الأخرى في قبضة جامدة نفرت معها العروق الخضراء الرقيقة. كل شيء كان ساكنا في تلك اللحظة من الأسبوع الأخير للعام، والتلاميذ القلائل ملتزمون في الفصول الأربعة التي تجاورنا على امتداد الطرقة بالدور الثالث. “سامية” قالت إنها نازلة لمكتب المديرة لتسليم كشوف أعمال السنة. الله! هذا الهدوء القدري- عزيز المنال- بالتأكيد لم يجئ عبثا.. وهذه البنت “شيماء” (5/2) القادمة من آخر الطرقة مبتسمة بوجهها المشع؛ أتت في الوقت المناسب. لليال طويلة شغلتني تلك البنت. كنت في فصلهم جالسا على الكرسي، راجعا بظهري للوراء، تاركا إياهم يكتبون ما على السبورة؛ حين وجدتها أمامي فجأة تبحلق في وجهي. سألتها عما بها فقالت لا شيء، ” بس شكلك زعلان يا أستاذ”! ولما رددت عليها مستفسرا كيف عرفت، قالت إن ذلك يبين في عينيّ. ناديت “شيماء” وقلت لنوال إن هذه أحسن تلميذة أحبها هنا، ثم حكيت لها ما حدث. وأفضت بأن “شيماء” لها مستقبل رائع لسبب بسيط وهو أنها، في هذه السن، تعلمت كيف تقرأ الوجوه، تلف الخيوط على بعضها وتجدل ضفيرة حلوة من التواصل الإنساني. كنت أتكلم عن أفكار تشغلني وتحرقني حقا: هناك جدار صلب يفصل بين صنفين من الناس رغم أن خالقهم الأعلى واحد.. كانت “شيماء” تقف أمامي بعيون مفتوحة مدهوشة، و”نوال” تكتب كلمة في الدفتر ثم ترفع وجهها الملفوح المُحمر ناحيتي. في هذه اللحظة طلبتُ من “شيماء” أن ننزل معا واستأذنتُ من “نوال”.

**

بعد غياب يومين يا “نوال” تعودين. أُقبل نحوك إقبال طفل يرفع يده بتحية طائرة في الهواء. ترفعين يدك الجميلة الدقيقة بتحية مع إيماءة رأس.. تحية موظفين لها طعم طبيخ بدون ملح! لأيام عديدة بعدها سأصبح كائنا متعادلا، تعادلية من نوع ذاتي محض. ميزاني في وضع أفقي لا تتقلقل فيه الكفتان. أين الجدار الصلب؟ ما الحضور والغياب؟ صرتِ تتجنبين جلستي إلا ضمن مجموعة. تنسحبين حين يجلجل ضحكي معهم بنكتة. في حجرة الكمبيوتر التي تجاورنا تدخلين لعمل شاي، ثم تنادين عليّ حين يغلي الماء. كنتِ في السابق تأتين لي بالكوب وتضعينه أمامي مع ابتسامة و”اتفضل”. مع لحظة ملامسة الكوب للترابيزة وتأملي ليدك تنقدح شرارة فأرد بشكر هامس وعيون لامعة. الآن تقفين أمامي مائلة مرتكزة على الترابيزة، تعبثين بأزرار التليفون وتكلمين “س” أو “ص” من الجالسين معنا. كنتُ قد طلبتُ منكِ ألا نتحدث في أمور معينة أمامهم، لكنكِ تُصرين فتكون النتيجة أن يلازمك لقب “الدكتورة” بعد انصرافك. تطول وقفتك وتتحرك عيونك الواسعة تترصد الناظر. تمشين بضع خطوات وترجعين بوجهك الخمري المنهك اللائق بوجه أم.

**

مرة أخرى يتآمرالهدوء القدري بغياب التلاميذ جميعهم. في ذلك اليوم أتت “نوال” بالعباءة السوداء، وكانت أول مرة أكتشف فيها أن الأسود يتلألأ. خطواتها اكتسبت طابع التأني المفرط، مع تداخل والتفاف ثنيات العباءة الواسعة من قدّام ومن خلف. من قدّام تهفهف طيور النورس بمناقيرها، ومن خلف تربض بطتان برّيتان تتناجيان بمنقاريهما. من أسفل هناك زوج من الحمام الأبيض الممتلئ. وقفت أمامنا ولمت العباءة بين ساقيها، وطرحت ربطتين من الملوخية على الترابيزة وراحت تقطف الأوراق. تميل يمينا وشِمالا. تترك الملوخية وتنشغل بالعباءة: عاوزة أضيق العباية دي. لا أسمع شيئا بعد ذلك، وأمضي بعيدا لأرى “نوال” واقفة في هيئة أسطورية تؤدي حركات متعمقة متشنجة. عباءتها منتفخة بالهواء، ومن قدميها تسيل دماء طازجة الحمرة. في يديها سكينتان مرهفتان تلمعان في الضوء الشاحب. من فتحة الصدر أرى طيورا تصيح وتلغط في عصبية واستغاثة. بحركة اليد شبه المُنومة تجز رأس طائر. تتابعت الحركات والرؤوس المتناثرة على الأرض بعيون جاحظة. في النهاية تُغمض عينيها وترمي السكينتين وتمضي في قلب ظلام.

حين يُعيدني “س” أو”ص” إلى العالم أراها ما زالت تقطف الأوراق. أدقق في عملية القطف وكتلة العيدان النائمة بين يديها فأعرف أنه طائر، وأنها تنتف ريشه. بعد قليل أراها غير ثابتة في وقفتها فأفكر أن الطيور في طريقها للطيران.

**

ساعة طابور الصباح تقفين يا “نوال” أمام فصلك. أُلقي “صباح الخير” فيكون الرد: وعليكو بالسلام. أصمم على الصباح وتتمسكين بسلامك. بعد تحية العلم تمشين أمام الأولاد بنفس الأنف الحاد الذي يميزك. هذه أنتِ، أنف وعينان واسعتان و”عليكو بالسلام”! إنها الحقيقة التي لابد من تفجيرها وتفجير هذا الصمت المتواطئ. هاهو الطابور انتهى، والعام كله يلم أذياله بحلوه ومره. تجلسين الآن معهن في صخب وضحك. أراكِ وأراهن من نافذة فصل ملمومات في ركن بجانب الحوش تلمع على وجوهكن شمس أوائل مايو الساخنة. وحدي ولابد من كشف حساب، كشف حساب أُعده لمواجهتك التي أعرف أنها لن تجيء. “نوال” أنتِ لم تري نفسك حين رن تليفونك ذلك الرنين القبيح الشارخ للأذن، لحظتها انتفضتِ وتناولتِ التليفون ومشيتِ بضع خطوات وعُدتِ ساهمة. مع الرنين الثاني اكتفيتِ بالنظر إلى الشاشة من أعلى أنفك المتجاهل. قلتِ في النهاية إنه مُعاكس عنيد، وأن “أبوأحمد” رد عليه وشتمه أكثر من مرة ولم يتعظ. يومها جرى الكلام بين الجالسين عن المعاكسات، ولما لم يرن التليفون مرة أخرى عرفتُ أنكِ أغلقتِ الخط. لم تري نفسك حين طلبتُ منك مفتاح حجرة الكمبيوتر ورحتِ تقلبين حقيبتك رغم أن المفتاح أمامك على الكرسي. حديثك في لحظة من لحظات التجلي عن “كاظم الساهر”، كرد على حبي للأغاني القديمة ودندنتي بها بشكل دائم. ثم سؤالك عن الذين ما زالوا يسمعون هذه الأغاني. إنهم موجودون ولم يموتوا بسبب أنك ذكرتِ حُبكِ لكاظم أمام “أبوأحمد” فرد عليكِ: يعني إيه بتحبيه؟ كل هذا غير تعنيفك لي على كلمة حلوة عادية قُلتُها لإحدى السينات من الزميلات. ولما واجهتك بانفعالك غير المبرر قلتِ بانفعال أشد: عشان مِش انتَ، فاهم.. مِش انتَ.

**

أدخل حجرة الكمبيوتر فأطرق الباب الذي صار مواربا بشكل دائم على ثلاثة تتوسطهن “نوال”. جلوسهن على الترابيزة أصبح نادرا بل منعدما. رأيتها تتزعم هذا التمرد الساذج بعد الانفجار الذي ظل مكتوما في الدواخل طوال العام. “سامية” الطويلة الممشوقة البيضاء تقول عن “نوال”: دي طالعة فيها، و”نوال” ترد بأنها لن تنزل لمستوى حوار “سامية” التي أوقعت الدنيا في بعضها بنقل الكلام وشغل الطابور الخامس. والنتيجة هذا الانسحاب إلى داخل الحجرة الرطبة الخافتة مع اثنتين كانتا بعيدتين عنها في السابق. أصبحت أدخل لعمل الشاي بنفسي. أُقلب الكوب تقليبات متماوجة بطيئة وأنظر لها. لم أكن أعرف شيئا عما حدث، وتحرقني هذه العزلة المفاجئة. وذات مرة قبل أن أحمل كوبي وأخرج؛ رأيتها بمفردها فخرجت كلماتي تائهة هامسة: كويس إن الواحد يقعد مع نفسه كتير اليومين دول! ردت بعد نظرة طويلة: لا أبدا.. مِش انتَ المقصود. وقالت إن اشتباكها مع “سامية” حدث بعد أن نزلنا أنا و”شيماء” وتركناها وحدها. كانت تتحدث عن تلك الجِلسة النادرة- هكذا وصفتها- بكل تفاصيلها كأنها منذ دقائق، وأنها كانت تفكر في كلامي وفي “شيماء” حتى جاءت “سامية” وسينات وصادات وحصل ما حصل. أنسحب إلى ترابيزتي الخالية الممتدة رغم الجالسين معي. تتحرك شفتاي بالهمس مع أن داخلي يعوي بالصراخ: ضعيفة مثل نملة.

**

إنه الخميس الأخير السابق لسبت الامتحانات. لم يجئ غير أربعة صبيان وبنتين. جاءوا للعب ليس أكثر. هاهي المدرسة.. المبنى القديم كابي اللون، والدكك أصنام في الفصول. الحوش بترابه الناعم وآثار أقدام الأولاد. مشهد جدير بشجرة عملاقة تقف عارية بلا أوراق. لم أكد أتم المشهد من موقعي في قلب الحوش؛ حتى وجدتهم يجرون تجاهي وبينهم “شيماء”. يسألون عن الامتحان والسهولة والصعوبة، فأجيب وأُطمئِن. أمرُ على وجوههم وجها وجها، وألمح “نوال” تطل علينا من شباك فصل. بالأمس حملتُ كشف حسابي في عقلي ومضيت إليها طالبا الكلام. قبل أن أنطق بكلمة انفجرت فيّ: سيبني يا أخي حرام عليك! لحظتها استدرتُ ومشيتُ بدم ساخن. هكذا وضع العام نهايته، حرام وحلال و”سلامو عليكو” و”عليكو بالسلام” ودمتم والعزاء قاصر على تشييع الجنازة. تقول “شيماء”: قلت لبابا أنا زعلانة إن السنة خلصت عشان مش هاشوفك يا أستاذ. أُطبطب على ظهرها وألتقط ورقة ممدودة بابتسامة من “أحمد العوضي” (6/1). قال إنها قصيدة شعر عن الأم كتبها بنفسه وحلف بالله العظيم على ذلك. أمشي وسطهم وهم يطيرون من حولي. كانوا طيورا حقيقية.

***


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى