أنس الرشيد - انتظارُ ما لا يُنْتَظر../درويشُ يُوقِف فلسفة الحب الأصبهانيّة/الحَزْمِيّة

  • طوبَةٌ أولى ضرورية:
كلُ منتدى إلى زوالٍ مهما طالَ به الأمد، لكنّ منتدى ابن داود الأصبهاني ما زال قائما على قلقِ العشق، ومسارب الهيام، وتطامح القلوب، وما استمراره إلا لأنَّ على عرشه تشتتٌ يُغربلُ فلسفةَ الأصبهاني نفسه...؛ هذا التشتت صَيَّره على سحابةٍ تنتقل عبر الأزمان، لهذا ظُنَّ أنها حالة لا تنتمي للجسد، خرجت بالزمنِ عن نطاقِ سيطرة الكون، فاخترقَ المفاهيم العشقية الحسيّة؛ وثارَ على ابنِ داود...؛ وأخذ المـُنْتَدُون الجُدد يتحدثون: بتعاقبٍ مرسوم تعاقبٍ بين الصوتِ واللسان. وتعاقب فوضوي، كأنهم يُصارعون نواميسَ الطبيعة بنواميس الشِعْر، وكأنهم ينظفون الوعي من أجسادِ الشعراء.

أما سيدة المنتدى فهي انتظارُ مالا يُنتظر؛ لهذا صرعتْ ابنَ داود؛ لأنها لا تُرى، فهي تتمركز داخل وعيه فتضربه وإن أبى؛ لأنَّ تلكَ السيّدة لم يكن لها وجهٌ يُشبه الأميرات! أو فتيات المستشفيات!!، أو حتى بائعة خبزٍ جاءت من نطفةٍ يعشقها الأصبهاني، ولم يكن لها جسد يتراقص فتسيل لارتجاجه مياه دجلة والفرات...؛ كانت نقيضُ ذلك تمامًا؛ كانت جميلة جدا؛ تجذب الجني الذي سكنَ وجدان ذاكرة التاريخ، لهذا انهزم ابنُ داود، وتحوّل الحاضرون إلى أصوات وألسُن تتعالى بالكلمات؛ يفجؤون فطرة اللغة، ويبنون رغبةً جديدة، تقتلُ نفسها، كلما قامَ لها قائمٌ يُصلي في المحراب.

  • طوبةٌ ثانيةٌ ضرورية:
مَرَّ ذلك المنتدى في وعيي؛ كأنه حلم ليلةٍ تعلَّقتْ بيومِ وفاة محمود درويش؛ اليومِ المتعلق بيوم الأيامِ...؛ لاحت لي فيها ظلال وجوهٍ، من إناث وذكور، ضاعت دروبهم، في خرائطِ وعيي..! أو ربما لا ملامح لهم؛ كسرهم دخان الشِعر وهو يشتعل من شجر الطبيعة، كلما أرادَ أحدُهم أن يُخرِج صوتَه غابَ في حشرجةِ الأدخنة. والغريبُ أني أرى الدخانَ لا يَصعدُ للأعلى، ولا يتجه يمينا ولا يسارا.. بل أسمعُ قهقهةً مُتهالكة من الدخان، ربما هم بقايا ابنِ داود الأصبهاني، فرحين أنه (ظِلّ ليس بثلاثِ شُعب)!، لكن في هدأةِ القهقهات لاح لي وجه (أمل دنقل) كسرابٍ بقيعة؛ حسبته ماءً، حتى إذا جئتُه لم أجده ماءً، ووجدتُ الدم عنده، فوفّاني كتابَ الرحيل، والأدبَ النحيل، الذي غرقَ في أمواجِ الرمال العاتية، وبقايا فلسفة من سنون العاصفة. لا أذكرُ إلا أنها ليلة شاتية؛ ليلة قُتل قمرُها! أما كان ديوان دنقل الأول (مقتل القمر)؟ أصُدفة تلك؟ لا أدري! لكنّي أُلصِق الذاكرةَ بالذاكرة، يا ليتها كانت القاضية! فلم يكن الزمان إلا دمك يا دنقل؛ دمك الذي أبحرنا من خلاله في الزمن، وهو الزمن، فطوينا كتابات الطريق؛ فألبسْتَني روحَك، وألبستُك الجسد! وجاءنا الموج من كل مكان؛ فأرانا وجهَ الربِّ يؤنبنا على ذاكرة الأدب، فاتّحدنا بعدما مات الزمان.

لكن درويش، لا يلوح، بل يَسبحُ كغمامةٍ، عاريًا بلا أعضاء؛ يتلو آيات تُحرّك عرشَ السيدة، فتبتسمُ، فيضيء في ساقها عُشب الجليل. وأمَّا أنا فلا أدري أكنتُ عاريًا أم ألبسُ قطنَ الحنان من اللوز في شهر آذار، - كما وصفني درويش- كنتُ حينما أريدُ أن أتلو آياتٍ أعمدُ إلى محاولةِ حمل العرش، ربما كي أَطرُدَ طاقات الحواسّ -التي زرعها ابنُ داود الأصبهاني في المكان- وأمتصُّ نهرَ السيدة وهي تهتزّ؛ فأبني منه غابة سنديان لموضع قدميها، فصارت الغابةُ سفينةً جرت في النهرِ إلى أفق السواد!. والغريبُ أنَّ مَنْ يحضرُ في وعيي يكون بلا وجود، ربما يغيبُ الوجود المعيّن، ويحضر هو في وعيي في فضاءٍ غير متعيّن! وهذا أحد تمثلات درويش المختلطة؛ فقد رأيتُه كأنه يحملُ قبرًا، أعطيتُه دواةَ حبرٍ في قلبِ وردة، حبرٍ معتّق بالذاكرةِ الشعرية؛ كي يُحدثني عن (منطق الشعر القاتل/الثالث غير المرفوع) ؛ حينما نزل إلى القبرِ قال للسادنِ: قاتل القصيدةِ ينجو بفعلته؛ لأن ثمة شاعرا وقارئا وثالثا بينهما. فقال له السادنُ: إما شاعر وإما قارئ. فأجابه درويش: إنه قاتل يكتب الشعر ويقرأ. ثم التفتَ السادنُ قائلا: وكيف نجا قاتل القصيدة؟ فقال: لم يفعل شيئًا سوى أنَّه يُغَنّي للشعب، ويهتفُ باسم مَنْ قال القصيدة! ويسألُ عن ثلاثة: 1. ألِروحِ أحذيةٌ تسير بها إلى دنيا القصيدة؟. 2. متى نشقُّ قلبكَ لتنهمر البحور؛ فأنتَ لنا، وأنتَ مِنَّا لكنَّ الأرض سوداء؟ 3. أتغمسُ المرأة الفرنسيةَ في النبيذ، وتترك نساءَ القضية؟...؛ فأخذَ السادنُ يجرُّ درويشَ بشَعْره ويبصق بحروفٍ تُشْبه العدم: ولكنّها أسئلة وجودية! لكنها أسئلة وجودية.

  • سريرُ الغريبة/ أريكةُ الأصبهاني/ علوية ابن حزم
سرير الغريبة، الذي عُنْوِن به ديوان درويش؛ هو سرير السيدة التي لا تُرى، ونكَّسَت عرشَ الأصبهاني، وأتت به إلى الصرحِ المـــُمَرَّد من قوارير، لتسأله: أهكذا حُبك؟ قال: "كأنه هو". لهذا -ربما-كانت تمثُلات المنتدى أصفى في ذهني؛ إذ الغريبُ أني لما أستيقظ من النوم أجد حوار منتدى ابن داود مكتوبًا...! ربما لأنَّ لسانَ ابنِ داود لما نطق: "كأنه هو"؛ كان لسانًا/وقلمًا؛ في آنٍ واحد...أي أنَّه قريب/حاضر؛ بصفته نُطقًا آنيًا. وبعيد/غائب، بصفته قلما.

خَتمَ درويشُ ديوانَه (سرير الغريبة) بقصيدةٍ مُنَجَّمة بالحروفِ، عنوانها (طوق الحمامة الدمشقي)، وهذا يُحيلنا إلى حُبّ ابنِ حزم ومقولاته في (طوق الحمامة)، تلك المقولات التي خرجت من عباءةِ منتدى الأصبهاني (الزهرة). وابن حزم أَلّف كتابه ليَذْكُرَ" صفة الحب ومعانيه، وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة". ومِن هُنا كانت إحالة درويش على الطوق، مخاتلة مجازية، تنفي وجودَ حقيقة موضوعية للحب، وليس له صفة مطلقة بل يَبْرزُ بالإضافةِ ولهذا قال: (طوق الحمامة الدمشقي). وهذه الإضافة لن تُعزل عن سياقها الأكبر =(الغريبة). أي أنَّ الحبَّ هو الغياب. والغربة غياب بمعنىً ما، أي أنَّ الغريب غائب عن وعيه/بوصلته، لكنَّه حاضر بمعنى آخر في لحظةٍ أخرى، إلا أنَّ وجوده بلا حاضر/بوصلة/وعي، يُبنى عليه...؛ ولهذا فإنَّ صفةَ الحُبّ هي البحث الدائم، وكُلّ لحظة تُحيلُ على لحظةٍ أخرى، وكُلّها بحثًا عَمَّا يسمى الحب؛ لهذا كانت أول قصيدة في الديوان (كان ينقصنا حاضر). إلا أنَّ نُقصانَ الحاضر يمنع من تحديد المكان = (كان ينقصنا حاضر لنرى/أين نحن) أي أنَّ درويش أرادَ أن يخلق معنىً للحب من خلال النقصان نفسه (نقصان الحاضر)، فالحبّ نقصان، في اللحظة التي نتوهم أنه كامل/ مطلق. أي إذا لم يتحدّد المكان فإنَّ البوصلة لا وجود لها، ومن ثم لا وِجْهَةَ تَحضُر، وحينها نكون في لحظةِ تقمّص الحب ذاته، فنتوهم أنه مطلق، ومن ثمَّ نُسبغ عليه المعاني والصفات وغيرها مما ذكرها الأصبهاني وابن حزم. فابن حزم تحديدا -الذي أحال عليه درويش – يشرح لنا ماهيّة الحب قائلا: " وقد علمنا أن سرّ التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال، والشكل دأبا يستدعي شكله، والمثل إلى مثله ساكن، وللمجانسة عمل محسوس، وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد، والموافقة في الأنداد، والنزاع فيما تشابه موجود فيما بيننا، فكيف بالنفس وعالمها العالم الصافي الخفيف، وجوهرها الجوهر الصعّاد المعتدل..." وقد كانت القصيدة الأولى في الديوان، وهي (كان ينقصنا حاضر) تفكيك لمفهوم الحب، الهوية الثابتة، التي أسسها ابن حزم هنا. أي أنَّ ابنَ حزمٍ يضع شرطَ (الاتصال الروحي) للتمازج، و(الانفصال الروحي) للتباين؛ لأنَّ الشكلَ يستدعي شكلَه من خلال اتصال روحي. وعكس هذا يأتي الانفصال. لهذا قال درويشُ ناقضًا ابنَ حزم وجوهريته: ( لنذهب معًا في طريقين مختلفين/ لنذهب كما نحن متّحدين/ ومنفصلين) أي في آنٍ واحد؛ متحدين ومنفصلين، فلا وجود للجوهر الروحي الذي تتآلف الأجساد به، وتتناكر!، ذلك الذي توهمه ابن حزم، معتمدا بذلك على تعاليم دينية كمثل قول: "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" بعد أن وضعها بقالبٍ منطقي/ علمي، كمثل قوله: " وكالنار في الحجر، لا تبرز على قوة النار في الاتصال، والاستدعاء لأجزائها حيث كانت إلا بعد القدح ومجاورة الجِرمَيْن بضغطهما واصطكاكهما، وإلا فهي كامنة في حجرها لا تبدو ولا تظهر" ولهذا كانت القصيدة الأخيرة في ديوان درويش بعنوان (طوق الحمامة الدمشقي) لتُقابل القصيدةَ الأولى فيَنْقَضّ بناء الحب عند ابن حزم. أما الأصبهاني فحكى عن بعض الفلاسفة أنَّ الحب عبارة عن انقسامِ روحٍ مُدوّرة -على هيئة الكرة- بين جسدين. أي أنَّ في الجسد نصفًا من روحٍ مدوّرة، فمتى لقيَ نصفه الآخر، وقع في عشقه؛ لاكتمال الروح بعد أن كانت نصفًا. وذِكْرُ الأصبهانيّ لهذا التعريف؛ كي يُخرج الحبّ من روحانيته الطاغية، لهذا رفضه ابن حزم ونصّ على ذلك قائلا: " والذي أذهبُ إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع، لا على ما حكاه محمد بن داود". فالأصبهاني يجعلُ من الروح مادة إلا أنها بصورة مختلفة عن مفهوم المادة الفيزيائي، ولهذا -ربما- قالَ بأنَّ الروحَ على شَكْلِ كرة؛ لاستحضار شكل الأرض والكواكب الأخرى. وقد كانت قصيدة (كان ينقصنا حاضر) تستحضر نقضَ فكرة الروح المدوّرة، من خلال إغلاق منافذ التقسيمات الروحية سواء كانت أرضية، أم علوية؛ يقول درويش: (هل أنا أنتِ أخرى/ وأنتِ أنا آخر؟/ ليس هذا طريقي إلى أرض حريتي/ ليس هذا طريقي إلى جسدي/ وأنا لن أكون أنا مرتين) أمَّا ابن حزم فقد كانَ يحيل الحب على (أصلٍ رفيع)، وكأنّه بهذا يقول بأنَّ الأرواحَ مُقَسَّمةٌ في مكانٍ أعلى، ومنها يعود التجانس والتنافر، أي كأنَّ هذه الأرواح مُثُل أفلاطون، لكنَّ ابن حزم أعطاها صيغة تجمع بينها وبين الميتافيزيقا في الوعي الديني، بدلا من المفهوم الميتافيزيقي الأفلاطوني الصارم في ذاتيته. إلا أنَّ الجامعَ بين الحب الأصبهاني والحب الحزميّ (نسبة لابن حزم) هو الروح المتغربة عن جسدها، ولكنها عند الأصبهاني تجعل الغربة تدور بين الأجساد (وهذه إحدى الدلالات لمعنى التدوير)، أما ابن حزم فتغربها شوقٌ للأصلِ العلوي، والأصل هنا يحيل على فرع وهو النفس الأرضية التي لا قيمة لها ولا معنى ولا ذاكرة ولا إحالة إلا بأصلها العلوي. لهذا كانت لفظة (الغريبة) عند درويش إحالة إلى غربة الوجود، ولكن بمعنى أنَّ الحب هو الإحساس بالغربة، فهو (سرير الغريبة) أي الحبيبة. والغربة تنشأ من تفكيرنا بالحب، الذي لا وجود له بالمعنى الخارجي عن الجسد ورغباته، لهذا فإنَّ درويشَ كتبَ قصيدة بعنوان (سماء منخفضة)، وهي القصيدة الثالثة في الديوان؛ تُشكِّل -مما تشكل- صورةً للحب كإلهٍ مفترض، لكنَّ سماءَه منخفضة، (فسمائي على كتفي وأرضي لكم) وصفات هذا الإله: 1. السير على القدمين.2. صغير. 3. فقير. 4. المرور بين الأجساد/ التفكير به. درويش من مطلع القصيدة يقول: (هنالك حب)، ويختم القصيدة بــ(هنالك حب...)، وكأنه يعلن وجوده، لكنه وجود بين العابرين وليس له امتداد أعلى. يقول: (هنالك حب يَمر بنا/ دون أن ننتبه/ فلا هو يدري ولا نحن ندري/لماذا تُشرِّدنا وردة في جدار قديم/ وتبكي فتاة على موقف الباص/ تقضم تفاحة ثم تبكي وتضحك/ لاشيء، لا شيء أكثر/ من نحلةٍ عبرت في دمي) ووجود الحب بهذه الصورة، ليس كالحب الأصبهاني؛ إذ الأصبهاني يجعل من مفهوم التنازع والتجاذب والتنافر معانٍ مطلقة معقودة بالروح الأرضية المقسمة بين الأجساد في الأرض، أما درويش فيقول: (لاشيَ لا شيء أكثر/ من نحلة عبرت في دمي) لهذا فإنَّ هذه القصيدة دعوة لخفض التداعي مع مفهوم الحُبّ المطلق: (هنالك حُبّ فقير يُحدّق في النهر/مُستسلمًا للتداعي: إلى أين تركض/ يا فرس الماءِ/ عما قليل سيمتصُّك البحر/ فامشِ الهوينى إلى موتك الاختياري/ يا فرس الماء) ومع خَفضِ التداعي فإنَّه يُشيرُ إلى غريزةِ الأنانية، تلك التي تقضي على معنى النفس الواحدة التي يستشهد بها ابنُ حزم: (هو الذي خلقكم من نَفسٍ واحدة، وجعل منها زوجها). فابنُ حَزمٍ يُعلِّلُ ذلك بسؤال: لِمَ يؤثر الأدنى على الأعلى، وهو يعلم فضل غيره؟ ويجيبُ: لأنَّ الحُبَّ شيءٌ في ذات النفس، وليس بسببٍ من الأسباب؛ تلك التي تَفنى بفناءِ سببها. ومن هُنا يقول ضمن قصيدة: (إذا ما وجدنا الشيء عِلّة نفسه/ فذاك وجود ليس يفنى على الأبد). ودرويش في إيراده لغريزةِ الأنانيّة في النصِّ التالي: (هُنالك حُبّ فقير يُطيلُ/ التأمُّلَ في العابرين ويختارُ/ أصغرهم قمرًا: في حاجةٍ/ لسماءٍ أقلّ ارتفاعًا/فكن صاحبي تَتّسع/ لأنانية اثنين لا يعرفان/ لمن يُهديان زهورهما.../ربما كان يقصدني، ربما/كان يقصدنا دون أن ننتبه) فإنه يوردها بالصورةِ التالية: الحُبّ (الإله المفترض، ذو الصفات المنخفضة) يتأمّلُ في العابرين؛ الذين جعلهم أقمارًا؛ لدلالةِ الإلهِ المفترض/المنخفض، ومن هُنا كان بحثُه عن أصغرهم قمرا؛ لأنه -الحب/الأله المنخفض- يطلبُ سماءً أقلَّ ارتفاعًا؛ مقدار اتساعها: أنانية اثنين لا يعرفان لمن يهديان زهورهما. ثم يطلبُ الحُبُّ من هذا القمر أن يكون صاحبه. فتأتي لحظة التفات الشاعر للغريبة/ الحبيبة: "ربما كان يقصدني، ربما/ كان يقصدنا دون أن ننتبه". وهنا اتحاد مفهوم الحب وصديقه بالشاعر والغريبة/الحبيبة، في سماءٍ حجمها أنانية (الحب والقمر). وهذه الثنائية ليست ثنائية حقيقية، بل هي صيغة شعرية درويشية، لطرحِ مفهومٍ مغاير للحب، لا ينتمي للحُب الأصبهاني القائل بـ (فكرة الأرواح المكورة المعقود بالجسد المتصل الواحد) الذي كان من نتائجها مفاهيم غزليّة افتراضية كـ: (التهالك في الصبابة، والإفراط في الوجد واللوعة، والخشوع والذلة، وإظهار التصابي والرقة) في مقابل: (الخشونة، القوة، الجلادة، الإباء والعز) أي أنَّ علامات الحب الأصبهاني هي علامات جسدية، تظهر بسبب انقسام روح واحدة مدورة بين اثنين. ومن ثمّ فإن اختلالها هي في الافتراق بين القسمين. ولم تكن المفاهيم النابعة من الفكرة الأصبهانية إلا مجازات صنعها الذكر في تاريخه؛ لهذا فإن الذكر حين يتذلل للأنثى فإنَّ تَذَلُّـــله مجازيًا؛ من حيث إنه يعي رفعته الأصيلة وذلة الأنثى. وبما أن العلامات يمكن تصنعها، -وهذا جرى كثيرا في شعر العرب- فإنَّ تطبيقات الحب الأصبهاني افتراضية، ولهذا جاءَ الحُبّ الحَزميّ ليصحح الحب الأصبهاني. والحزمي نسبة لابن حزم، وهو النوع الثاني الذي لا ينتمي إليه أيضا الحب الدرويشي. وحب ابن حزم يقول بــ(فكرة السر العلوي/ الأجزاء الروحية)، أي أنَّ ابنَ حزمٍ لكي يصحح الحب الأصبهاني، ارتكن أول الأمر إلى إعطاءِ الحُبّ ماهية، تنعقدُ بالنفس العلوية، أي أنَّ النفس العلوية واحدة، ولها قوى متعددة، ومتجزئة بالتجاور، لهذا فإنَّ صورَ هذه النفس العلوية الواحدة أنفس جزئية تتمثل بالنفوسِ الأرضيّة. وأما ظهور الحب فمرتبط بنوعِ القوة وتجاورها؛ أي (المناسبة والمجاورة) أي إذا تحابّا امرأة ورجل فإنَّ نفسيهما تناسبتا بالقوى وتجاورتا. أي أنه أزاح المفهوم الأرضي/الجسدي عند الأصبهاني. ثم بعد تأسيس الماهية، ذهبَ لعلاماتها فأحالها إلى معنى أولي يقوم على تجزؤ كتجزؤ النفوس من النفس الواحدة العلوية، ثم هذه العلامات تحيل بالضرورة إلى معنى آخر يقوم على الذوق الصوفي. فالعلامات الأولية -عنده- ليست كما هي عند الأصبهاني (مثلا الذلة في مقابل العزة...إلخ) بل هي إدمان النظر، والبَهْت الذي يقع عند رؤية المحب، والتشوق للحديث معه، والدنو منه لدرجةِ أن يعشق رائحته...إلخ، والعلامات الأخرى هي معاني الحب الصوفي ومثالها: الإعراض عن كل من حضر إلا عن المحبوب جهارًا. لهذا فدرويش يكسر الثنائيةَ، ليؤسِسَ مفهوم (السماء المنخفضة) وهذا مصطلح ابتكرتُه للتعبير عن مفهوم الحب عند درويش.

ولهذا فإنَّ سؤال ابن حزم: "لِمَ يؤثر الأدنى على الأعلى، وهو يعلم فضل غيره؟" نابع من المطلق الذي أسسه في نظريته للحب، ومن ثمّ فإنَّ النسبية تقضي عليه من جهة عامة، وأما من جهة خاصة فيقال: هل غاية الإيثار نفسِه ظاهرة أم باطنة؟ وحينها سيلجأ ابنُ حزم لمذهبه الظاهري، ليحكم على الحالة العشقية بظواهرها، - وهو أقصى ما يستطيعه حين جمع بين الظاهر والباطن في آنٍ واحد- ولا إشكال في هذا لو وعاهُ -كوعي الأصبهاني المادي-، إنما الإشكال أن يجعلَ ظاهرَ الحالة، حُكمًا على باطنها الذي أقرّه هو -وليس نحن- من خلال النفس العلوية. أي قد يكون الإيثار له غايات لا تظهر لك يا ابنَ حزمٍ. ولهذا أورد ابنُ حزم في الطوق سؤالًا استشكاليًّا وردَ عليه؛ مفاده: لو كان ما تقول به نظريتُك صحيحًا، لِمَ لـَمْ تكُن المحبة من الطرفين، طالما أنَّ نظريتك تقول إنَّ الجزأين مشتركان في الاتصال؟ وقد كانت إجابة ابنِ حزم من خلال إنزالِ فلسفته من السماء إلى الأرض، إذ كانت إجابته: إنَّ النفس التي لا تحب من أحبها، بينها وبين جزئها العلوي المتصل بها، حُجُب (جمع حجاب). طبيعةُ هذا الحجاب أرضي لا سماوي. أي أنَّ الجزءَ العلوي متصل فعلا، ولكنَّ الإحساس به لم يظهر بعدُ، وحين تتخلص النفس من الحُجب/ العوارض الأرضية، سيستويان في الاتصال والمحبة. ولجوء ابن حزم إلى المحسوسات هو توضيح أكثر لنظريته؛ أي أنَّه أعطى دورًا مهمًا للمحسوسات من خلال جعل الاتصال بين المحبين يتوقف على الإحساس بالجزء العلوي. إذن الذات المحبة عند ابن حزم ما هي إلا همزة وصل بين الأجزاء العلوية المتفرعة عن النفس الواحدة، والمحسوسات. ومن هنا نعرف لماذا يقول: إن فعل المحبة هو علة نفسه. وهذا يذكرنا بأفلاطون ورؤيته للذات، لكن ابن حزم يقول بالذات المحبة، بينما أفلاطون يتحدث عن الذات نفسها، وهذا يوضح ما أضافه ابن حزم، أي أنه جمع الميتافيزيقا في لحظة نشوئها الإغريقي، مع الميتافيزيقا في لحظة نشوئها داخل الوعي الديني، وأسَّسَ ذاتا محبة تختلف عن الذات التي تعمل طقوسا؛ تطبيقا لتعاليم الدين. وهذه الذات المحبة – عند ابن حزم- تَعرف أنها تحب من خلال كائن أكبر منها هو الله، بينما الذات عند أفلاطون تَعرف ذاتيا؛ أي أنَّ الذات هي علة نفسها. من خلال الاندماج بين المعقول والمحسوس في لحظة تذكُّر المحسوس لما هو معقول من خلال قصدية السؤال. وقصدية السؤال هنا استخدمها ابن حزم في طلب الإحساس بالجزء العلوي؛ كي تزول العوارض، فتحب النفسُ محبَها. أي إذا كانت الذات -عند أفلاطون- تتساءل بشكلٍ تصاعدي: تتذكر عالم المثل التي كانت فيه، ثم تُسقط المعقولات على محاكاتها في عالم المحسوس، فإنَّ إزالةَ العوارض الأرضية عند النفس التي لا تحب مُحبَّها، -من خلال رؤية ابن حزم- تأتي أيضا بشكل تصاعدي، من خلال التخلّص من شوائب الأرض فترتقي النفس التي لا تحب محبها إلى عالم الأجزاء العلوية، فترى أسباب (المناسبة والمجاورة) فتسقطها على ذاتها فتتصل بمحبها. وهنا نستحضر ما قاله درويش في قصيدة سماء منخفضة: (هنالك حب فقير ومن طرفٍ واحدٍ/ هادئٌ هادئٌ لا يُكَسِّرُ/ بِلَّورَ أيامك المنتقاةِ/ ولا يوقدُ النارَ في قمرٍ بارد/ في سريركِ/ لا تشعرين به حين تبكين من هاجسٍ/ ربما بدلا منه/ لا تعرفين بماذا تُحِسِّين حين تَضُمِّين/ نفسك بين ذراعيكِ/أيَّ الليالي تريدين، أي الليالي/ وما لون تلك العيون التي تحلمين/ بها عندما تحلمين؟) إن درويش -هنا- يطرح الإشكالية التي وردت على ابنِ حزم؛ بعد أن وصفَ درويشُ هذا الحب بأنه (فقير)؛ وهذا قد يجعلنا نَظنُّ أنَّ ثمة حبًا غنيًا، وهو مابين طرفين؛ لكن درويش يفاجئنا في المقطع التالي قائلا: (هنالك حب فقير ومن طرفين/ يُقَلِّلُ من عدد اليائسين) كي يلغي الثنائيات الناتجة عن المفاهيم المطلقة. وفي طرحه لإشكالية ابن حزم، فإنه بيّن فقدان الأحاسيس في لحظة الحب من طرف واحد =( هادئٌ هادئٌ لا يُكَسِّرُ/ بِلَّورَ أيامك المنتقاةِ/ ولا يوقدُ النارَ في قمرٍ بارد/ في سريركِ/ لا تشعرين به...) لكن درويش أراد من فقدان الأحاسيس، ليس ارتباطها بأجزاء علوية -كما تشير نظرية الحب المطلقة- إنما ليبيّن أنَّ الحبَّ هو الغربة ذاتها، بصفتها فقدانا للأحاسيس =(لا تعرفين بماذا تُحِسِّين حين تَضُمِّين/ نفسك بين ذراعيكِ...) ومن ثم فإنَّ الحب من طرفين ماهو إلا =(يُقلّل عدد اليائسين/ ويرفع عرش الحمام على الجانبين) أي أنَّ اليأس الناتج من الغربة، هو الأصل، وتقليل هذا الأصل من خلال حب فقير من طرفين، وهذا الحب يأتي من إرادة واعية لفعل أرضي = (عليكِ إذن، أن تقودي بنفسكِ/ هذا الربيع السريع إلى من تحبين) ومن هنا كان الحبُّ لعبةً زمنيةً لا حقيقة موضوعية. والغربة التي يقرن درويش بها الحب، ليست نابعة من معانٍ خارجة عن الذات، بل هي نابعة من إرادة الحب المتجانس التام، ذلك الذي لن يكون، لأن كل نفس متفردة ولا رابط بينها وبين آخر، لذلك كان البديل الدرويشي خلق زمانٍ لغوي =( أي زمانٍ تريدين، أي زمان/ لأصبح شاعِرَه، هكذا هكذا: كلما/ مضتِ امرأة في المساء إلى سرها/ وجدت شاعرا سائرا في هواجسها/ كُلّما غاصَ في نفسه شاعر/ وجد امرأة تتعرى أمام قصيدته...)

إذن مفهوم (السماء المنخفضة)
المصطلح الذي ابتكرتُه للتعبير عن مفهوم الحب عند درويش يقوم على: سماءٍ منخفضة، مقدار اتساعها أنانية اثنين (الحب/القمر) لا وجود لغيرهما، من حيث إنَّ (الحب) إلهٌ مفترض، يتقسّم إلى عشّاق، و(القمر) مجازيّة درويشية لبحث العاشقِ الدائم عن إزالة الغربة من هويته، تلك التي لا تزول، إذ القمر المنتقى هو الأصغر؛ لدلالة السماء المنخفضة وجوديا، ومن خلال طبيعة البحث تنشأ العلاقات والرغبات. فإما أن تكون العلاقة من طرفٍ واحدٍ أو طرفين، فإن كانت من طرفٍ واحد فطبيعةُ البحثِ فقدانٌ للأحاسيس التي تنشأ من تفاعلٍ جسدي، ومن ثم اللجوء إلى ما وراء الجسد، لعَلَّه يزيل غربة الشعور. وإن كان من طرفين فطبيعة البحث إرادة الحب المتجانس التام، فأنشأ -البحث- نظريات في الحب حول الروح الواحدة. والحب المتجانس -عند درويش- لن يكون، لأن كل نفس متفردة؛ لهذا فعلاقة الطرفين تقلل عدد اليائسين فحسب، أي تحويل بحثهما مما وراء الجسد كليا، إلى تجزئته بين الجسد وما وراءه. لهذا يطرح درويش الحب بصفته لعبة زمنية، والشعر يخلق هذا الزمان.
  • الغريب يقع على نفسه: الاستدماج النموذجي/ التراكم العشقي/ السوناتا
مفهوم الحب/الغربة الدرويشية، استدعى نماذج شعرية، كما فعلَ الأصبهانيُّ في منتداه الزهرة، وكما فعل ابن حزم في طوقه، إلا أنَّ نماذجَ درويش انصهرت في مفهومِ الحب الدرويشي شعرًا، لهذا يقع الغريب على نفسه وهذا عنوان قصيدة في ديوان (سرير الغريبة)، أمَّا الأصبهاني وابن حزم فاستدعاؤهما هو استدعاءُ شواهدٍ، لتأكيد نظريتيهما.
ومن مفهوم وقوع الغريب على نفسه؛ وضعَ درويشُ بجوار طوق الحمامة، وجميل بثينة، ومجنون ليلى، (السوناتا)؛ بشكلها الغربي؛ ليطرح التجربةَ الغربية في تشكيل الحب، في مقابل التجربة العربية، أي يضعهما في مقابل بعض في السوناتا نفسها؛ والسوناتا تدور قصائدها حول موضوعات محددة؛ أبرزها الحب والغربة. وقد عَنْوَنَ درويش سِتَّ مقطوعات بــ (سوناتا) واضِعا معها أرقامًا رومانية (من I إلى VI) وهي تتكَوَّن من 14 سطرا شعريا، ومن قوافٍ متجاوبة في أحجام نصّية متقاربة. وهذا الانصهار النموذجي معبر عن مفهوم الحب/ الغربة عند درويش، بكونه مفهوما وجوديا. لهذا سيكون حديثي -هنا- عن مفهومِ وقوعِ الغريب على نفسه في الغريب، وما ينتج عنه من مفاهيم: 1. الاستدماج النموذجي عند درويش، 2. مفهوم التراكم العشقي عند الأصبهاني. 3. قصائد السوناتا الدرويشية.
فأمَّا مفهوم وقوعُ الغريبِ على نفسه في الغريب، فإنَّه يستدعي ما طرحتُه عن مفهوم الحب الدرويشي؛ الذي يحيل على الغربة عنده بالضرورة، أي أنَّ الغربة هي المعادل الموضوعي للحب، لهذا عندما يتّحدُ البحثُ عن إزالة الغربة بين اثنين فإنَّ الحبَّ وقع بينهما؛ الحب بمفهومه الدرويشي، أي ذلك الذي يقوم على اللعبة الزمنية. يقول درويش في القصيدة: (واحد نحن في اثنين/ ينقصنا أن نرى كيف كنا هنا، يا/غريبةُ، ظلين ينفتحان وينغلقان على ما/ تشكَّل من شكلنا: جسدا يختفي ثم يظهرُ/ في جسدٍ يختفي في التباس الثنائية/ الأبدية. ينقصنا أن نعود إلى اثنين/ كي نتعانق أكثر. لا اسم لنا يا غريبة/ عند وقوع الغريب على نفسه في الغريب) في هذه القصيدة وصفٌ لكيفيّة وقوع الحب الدرويشي، والذي يمثله مفهوم (وقوع الغريب على نفسه في الغريب). والصورة تكون بهذا الشكل: في لحظة البحث عما يزيل الغربة، =(...جئنا على عجل من غروب/مكانين في زمن واحد وبحثنا معًا/ عن عناويننا) وقعَ محب/غريب، على ما وقعت عليه مُحبّة/ غريبة، فتشكلا واحدا في اثنين، لكنهما اكتشفا أنه ينقصهما رؤية كيفيتهما، (وهنا مفهوم النقصان الذي ذكرته= كان ينقصنا حاضر)، وهذا نابعٌ من أنَّ مفهومَ الاتحاد يُلغي وضوح الرؤية، أي تمييز الآخر، ومن ثمَّ لا إمكانَ لوقوعِ الاتحاد الكُلّي، إلا في اللعبة الزمنية القائمة على الغربة الوجودية. وقد أكَدّها درويش بقوله: (ينقصنا أن نعود إلى اثنين/ كي نتعانق أكثر) إذ حينها ستكون الرؤية. والحكاية كلها ظِلال، إذ هذان الغريبان/ المحبان، لا يقتبسان شكليهما إلا من الحديقة الخلفية=(...لنا من/حديقتنا خلفنا قوةُ الظل. فلتُظهري/ما تشائين من أرض ليلك، ولتبطني/ما تشائين) أي أننا في كهفٍ أفلاطونيٍ، ونلعب بالزمن كما نشاء، لهذا فإنَّ الثنائيةَ الأبديةَ، تلك التي كانت محطَّ البحث عن فلسفة الحب، هي هنا في لحظة التباس، لأنَّ الجسد يختفي فيها، وحين يختفي الجسدُ لا معنى لحُبّ = (...جسدا يختفي ثم يظهرُ/ في جسدٍ يختفي في التباس الثنائية/ الأبدية). لهذا فإنَّ في لحظة الحب الدرويشية يختفي الاسم، =(لا اسم لنا، يا غريبة عند وقوع/الغريب على نفسه في الغريب) وحين يختفي الاسم يختفي المسمى، وحين يختفي المسمى لا وجودَ. ومن هنا كانت صورة الأمل الشعرية في إيجاد الحب، أن تذهب هي إلى شرق نشيد الأناشيد، راعية للقطا، وهو غرب كتابه...؛ أما هي =(...فاذهبي خلف ظلك/ شرقَ نشيد الأناشيد، راعية للقطا/تجدي نجمةً سكنت موتها، فاصعدي جبلا/مهملا تجدي أمسِ يكمل دورته في غدي/ تجدي أين كنا وأين نكون معًا) وتلك إشارة إلى العود الأبدي، وخلق أنثى تحل محل زرادشت، فتصعدُ جبلًا مُهملًا لتجدَ كينونةَ وجودهما، بعد أن فني الوجود (نجمة سكنت موتها). وأما هو (فاذهب إلى البحر، غرب كتابك/ واغطس خفيفًا خفيفًا كأنك تحمل/نفسك عند الولادة في موجتين/ تجد غابة من حشائش مائيةٍ وسماءً/من الماء خضراء، فاغطس خفيفا/خفيفا كأنك لا شيء في أي شيء/تجدنا معًا) أي إذا امّحى وعيُ الإنسان وجد نفسه، وهذا محال، لهذا كانت لغة الشعر الدرويشية تنقل معنى من نوع مغاير لا مثيل له. ومن هنا كانت شعرية درويش إبداعًا ينتهكُ القوانين، فيصيّر اللغةَ من كونها انعكاسًا للعالم، أو تعبيرًا عنه، أو موقفًا منه، إلى أن تكون عالمــًا بذاتها.
وأما الاستدماج النموذجي، فهو ما استدمجه درويش في ديوانه سرير الغريبة، من رموز صُدِّرَت كعلاماتٍ عشقية: جميل بثينة، وقيس ليلى من جهة، وكتاب طوق الحمامة من جهة أخرى. والاستدماج مرتبط في مفهوم الغريب يقع على نفسه في الغريب، من حيث إنه لا يذكر حبهم كما هو، بل ينقله إلى مستوى آخر، أي بعد أن استدمجه. وهذا يحيلني على قاعدة عشقية عند الأصبهاني تقوم على ثنائية الداء والدواء=(من تداوى بدائه، لم يصل إلى شفائه) ومفادها: إنَّ نظر المــُحب إلى محبوبه -بعد استبطان المحبة في جسده- يزيد كربه ولا يشفيه. وهو لُبُّ مفهوم التراكم العشقي عند الأصبهاني. والجامعُ -هنا- بين الاستدماج النموذجي عند درويش، والتراكم العشقي عند الأصبهاني هو الاستبطان الحِسّي لمفهوم الحب، والاستدماج النموذجي لكليهما، ولكن كٌلٌ على تفسيره؛ أي أنَّ درويشَ وهو يُشَكِّل نموذج الحُب فإنّه يَستدعي الحواسّ المضمرة في التاريخ لموضوع الحب، كي يعيد تنظيمَ خارطةِ المكان، وقيمةِ الزمان، وأمَّا الأصبهاني فإنَّه يستدعي الحواسَّ المضمرة في الجسدِ الممتدّ، ذلك الذي يجمع الأرواح المكوّرة، كي يفسر الحب تفسيرا مطلقا. ومرادي من جمعهما هو أن يكسر الحب الدرويشي (وقوع الغريب على نفسه في الغريب) دورة الحب الأصبهانية؛ لهذا فإني سأذكر -أولا- مفهوم التراكم العشقي لدى الأصبهاني من خلال هذه السردية:
لننظُرَ إلى المريضِ المصاب بالحُمّى، ولنفترض أنَّه أُصيبَ في اليوم الأول بمقدارٍ ما، (يعني لنقل: ارتفعت حرارتُه درجتين) ثم في اليوم الثاني (ارتفعت درجتين كذلك) فمع أنَّ اليومين متساويان في عدد الدرجات، إلا أنه في اليوم الثاني –طبيّا- أصعب على المريض من اليوم الأول.
ومن ثم فإنَّ الأصبهاني يجري هذا القانون الطبي على أصل العشق؛ لهذا فإنَّ النظرة -عند الأصبهاني- تزيد السقم، لكونها تراكمية. من هنا فإنَّ النظر واللمس والشم والسمع هي استبطان لحواسٍ تزيد الكم مع الزمن حتى يتحول إلى لحظة عشقية متكاملة (نوعية). وهذا الاستبطان لا ينفصل عن مفهوم الجسد المتصل عند الأصبهاني.
وأما الاستبطان النموذجي عند الأصبهاني المؤدي لتأكيدِ هذا المفهوم التراكمي، فقد كانَ من خلالِ: 1. غيلان بن عُقبة 2. مجنون ليلى 3. أبي تمام 4. مسلم بن الوليد/صريع الغواني 5. أبي الفرج ابن هندو 6. و7. و8. أبيات له هو (أي للأصبهاني). ومن ثم هي أكثر تعبيرا عن مراد الأصبهاني، وهي أكثر دقة حين تُوازى مع شعر درويش.
أما قولُ غيلان بن عُقبة فهو:
خليليَّ لما خفتُ أن تستفزّني/ أحاديثُ نفسي بالهوى واهتمامُها
تداويتُ من ميٍّ بتكليمةٍ لها/ فما زادَ إلا ضعف شوقي كلامها


ومن البدايةِ يُورد الأصبهاني ثنائية (الداء/الدواء)، كمعادل موضوعي للتراكم العشقي؛ فإذا كانَ الأصبهانيُّ يوردُ قاعدةَ: (من تداوى بدائِه لم يصل إلى شفائه) فإن الداء هنا يُفترض –بحسب القاعدة- أنه (تكليم مي)، والدواء هنا يُفترض أنه هو (الكلام معها). وعدم الوصول إلى الشفاءِ هو الغاية التي يريد أن ينصّ عليها الأصبهاني؛ إذ إن اللحظة العشقية التي جاءت من تراكم حسي طويل لا تزول بل تزيد طالما أن العاشق يراكم.
لكنَّ السؤالَ هل نحن أمامَ ثنائية داء/دواء؟ هل (تكليم مي) هو جوهر الداء أم من أعراضه؟ الأصبهاني يريد أن يمحي مفهوم الجوهر في العشق؛ كي يصل إلى تفسير متكامل للظاهرة، ودون التخلي عن الربط الميتافيزيقي. ومن ثم فإنَّ التراكم نفسه عند الأصبهاني هو الجوهر نفسه؛ لهذا لجأ إلى تأكيد الداء والدواء من خلال الاستدماج النموذجي. فلو قال أحدهم للأصبهاني: إن قول غيلان لا يُوردُ الداءَ والدواء على هذا النحو، إنما يريدُ البيتُ الشعري أن يقول: إنَّ داءه هو مرض عميق في النفس معقود بروح (مي) نفسها، وليس (تكليم مي) إلا عارضا في خضم هذا المرض، كغريقٍ تعلَّق بخشبة صغيرة لعلها تنقذه من أمواج المحيط، فهل يمكن أن نظن أن هذه الخشبة الصغيرة هي مصدر غرقه، أو مصدر نجاته؟، ألم تلحظ يا أصبهاني أنَّ غيلانَ خائف من تغوّل أحاديث النفسِ بهذا الهوى؟ لهذا فكّر أن يُكلّم (ميّ)؛ كي يقطع تغوّل الأحاديث النفسية بيقين القُرب فحسب، كالخشبة الصغيرة فهي قد تؤخر الغرق فحسب ولكن هيهات أن يظن أنها مصدر النجاة التي ستنقله إلى برّ الأمان. ويريدُ أن يتبيّن من هذا القرب إما حبا حقيقيا أو حبا كاذبا، فاكتشف أنه يزيده حبا لها، إذن هو يستنتج أنه يحبها حبا حقيقيا من خلال تجربة القرب، لهذا زاد شوقه. أي أن غيلان يقول: لأختبر حُبّي لميّ بدلا من التغول في أحاديث النفس، فذهب ليخاطبها فزاد شوقه لها، فتبيّن صدق حُبّه. ألا ترى يا أصبهاني هذا المعنى، أيُبيّن أن الدواء الذي عالج به غيلان هو الداء نفسه؟ أم هو دواء اختباري مختلف عن أصل الداء؟
والمراد أنَّ الاستدماج النموذجي لدى الأصبهاني يكشفُ عن إرادةٍ للتفسير الكلي، من خلال الحواس كأصلٍ للعشق، أي أنَّ الأصبهاني سيجيب هذا السائل بقوله: إنَّ غيلان خافَ أن يستهلكه التفكير في طبيعة العشق نفسه، فلجأ إلى الحديث مع ميّ ليُشفى، وهذا يدل على أنَّ غيلان يرى أنَّ الأفعال الحسية مع مي هي العشق نفسه، لكنه لا يميز طبيعته. ومن ثم كان العشق يزيد، ومن هنا كان تفسيري بأن الأفعال الحسية هي العشق لكن بالتراكم. أي أنَّ العشقَ يفجأ النفس كليا، ثم يتجزأ، فغيلان عشق مي كليا من خلال الحاسة الكبرى وهي الجسد المتصل بين الأرواحِ المكورة، ثم كانت الحواس الجزئية تأتي بشكلٍ تراكمي من أول لحظةٍ حسّية رأى (ميَّ) فيها وحتى هذه اللحظة التي عالج نفسه بها وهي لحظة تراكمية إضافية مع ظنه أنها هي العلاج.
من هنا كانَ مفهومُ الحُبِّ الدرويشي، كسرًا لدورة الحب الأصبهاني، أي أنَّ السماء المنخفضة، وتأويلاتها الشعرية تكسر مفهوم الجسد المتصل الواحد، ومن ثم تكسر وجود مفهوم التنازع والتجاذب والتنافر كمعانٍ مطلقة معقودة بالروح الأرضية. ومن هنا فإن سريرَ الغريبة كسرٌ لمجازية العشق التي استدمجها الأصبهاني، فمثلا نرى درويش يُدخل جُمَلا يكسرُ بها حدةَ التفسير المطلق؛ منها: 1.(لا حلول جماعية لهواجس شخصية/ لم يكن كافيا أن نكون معًا) وعدم الكفاية هنا، نقض لمفهوم التراكم الأصبهاني، إذ الانفصال وهو (لنذهب معًا في طريقين مختلفين) يربك التراكم، ويحيل العلاقة إلى انفصالٍ أبدي، ومن ثم فإن العشق الكلي الذي يتجزأ حسيًا لا وجود له.2. (لا، ليس هذا طريقي إلى جسدي/لا حلول ثقافية لهموم وجودية) وكأن العاشق هنا يحدث غيلان والأصبهاني، وينبه بخطأ الطريق إلى الجسد، فغيلان لم يزد على أن مَثَّل صورة عاشق، وكأنه يرى أن الشعر هنا مرآة اجتماعية...؛ يقول درويش:(غريبا يرى نفسه في مرايا غريبته؟) ثم قال: (لا، ليس هذا طريقي إلى جسدي/لا حلول ثقافية لهموم وجودية) 3. (لا اسم لنا يا غريبة عند وقوع الغريب على نفسه في الغريب). وغيلان لو كان غريبا/ محبا، لما كانت لغة شِعره بهذه الصيغة المنطقية الخالية من الشعور الوجودي، بافتراض أنه يخاف من سيطرة أحاديث الهوى. وقصيدة درويش (نمشي على الجسر) تطرحُ الصورةَ الغائبةَ في الحب من خلال استدعاء حواسٍ مضمرة في التاريخ: (الأبدية تصنع أشغالها اليدوية من عُمرِنا...؛) ومن ثم أيّنا الذي يتحدث وأيّنا الذي يعشق، فليس إلا صورة الأبدية، (...أينا قال: قد تحفظ/ اللغةُ الأرضَ مما يُلمُّ بها من/ غيابٍ إذا انتصر الشعرُ؟) ولهذا فإن مجازية القمر المقابل للحب (الإله المفترض)؛ تأتي (قمرا أنثويا لملء فراغ/القصيدة) فيأتي الزمان اللغوي في الحب الدرويشي=(...لا تتركيني تماما، ولا/تأخذيني تماما. ضعي في المكان الصحيح/الزمانَ الصحيح) ثم ينطق الصوتُ: = (فليكن الحب ضربا من الغيب، وليكن/الغيب ضربا من الحب. إني عجبت/لمن يعرف الحب كيف يحب! فقد/يتعب الحب فينا من الانتظار ويمرض/ لكنه لا يقول) وهذه الإحالة الدرويشية، انعكاسية، أي حين يكون الحب ضربا من الغيب فإنَّ الغيبَ ضربٌ من الحب، وذلك إحالة على أنَّ الذاتَ علةُ نفسها، لا موجد لها بنفسِ وجودها ووعيها. ومن ثم فإن الحبّ شيء فينا، أي من رغباتنا ودوافعنا وتساؤلاتنا الدائمة، ولهذا فإن تعبنا ومرضنا هو مرض الحب وتعبه، وما أصل مرضنا وتعبنا إلا الانتظار: وهنا تأتي قصيدة (درس من كاما سوطرا) وهي في فن الانتظار كما قال ذلك درويش؛ =( إلى أن يقول لك الليل/ لم يبقَ غيركما في الوجود/ فخذها، برفقٍ إلى موتكَ المشتهى/وانتظرها!...). ومن ثمَّ فإنَّ صيغة المشي على الجسر تعبيرٌ عن الرغبة اللحظية والولع الآني، والاجتماع البشري المتعدد الصاخب بالأصوات، فيقابله (ونصغي إلى ما بنا من حنين خفي/إلى شارع غامض: لي حياتي هناك/ حياتي التي صنعَتْها القوافل وانصرفت/ وهنا لي حياتي على قدر خبزي/ وأسئلتي عن مصير يُعذبه حاضر/عابر وغد فوضوي جميل) والغد! ما قيمته؟ سيغير الماشين على الجسر، ومن ثم سينسيان الموت (ثالث الاثنين الماشين على الجسر) وينسيان الطريق إلى البيت (...قرب السماء التي خذلتنا كثيرا). لهذا فإنَّ الحُبَّ المطلق -سواء كما أطلقه الأصبهاني أو كما أطلقه ابنُ حزم- لا ينفصل عن مفهوم الحياة الغائية وكينونتها الصغرى المفتقرة للكينونة الكبرى، ومن هنا يأتي درويش ليقول قصيدةَ (أرض الغريبة/أرض السكينة) ليقول بالسكينة الملازمة للغربة، ولكن لا على سبيل الغربة الدينية ومآلاتها، بل على أنَّ السكينة أرضٌ تصنعها لغةُ الغريبة/ المـُحِبَّة، (فلتكن الأرض ما/تومئين إليه...وما تفعلينه). ومن هنا فإن كينونة الحياة (...سوى ما صنعتِ بروحي وما تصنعينه...).

أما الاستدماج الثاني عند الأصبهاني فهو قول مجنون ليلى:
يقولون ليلى بالعراقِ مريضة/فأقبلتُ من مصر إليها أعودها
فو الله ما أدري إذا أنا جئتها/ أأبرئها من دائها أم أزيدها


ولدرويش قصيدة في سرير الغريبة بعنوان (قناع...لمجنون ليلى)؛ ليُظهرَ شكلا آخر للمجنون، مرتبط بالسماءِ المنخفضةِ كفلسفة للحب. وقبل أن أصف علاقة القصيدة بما أنا بصدده، بجدر بي أن أُبيّنَ الصيغةَ الاستدماجيّة لقولِ المجنون الذي أورده الأصبهاني، وهي تتركّز حول اللقاء، بصفته داءً ودواء، واللقاء صيغة شعرية تكاد تلتصق بالمجنون، لهذا كان ثمة علاقة بين اللقاء والقناع. والذي نلحظه -أولًا- بهذا النموذج أنه شكٌّ من المجنون، فهو يتساءل (فو الله ما أدري)؛ مما يحيلنا على الجهل بالداء (مرض ليلى)، ومن ثم الجهل بطبيعة الحب، أي هل هو اللقاء نفسه، أم شيء آخر؟ فكأن المجنون يقول: من أي اتجاه يؤتى الحب؛ كي نفهمه؟. والذي جرى – بناء على المرويات التاريخية- أن المجنون قابل ليلى -ويقابلها قبل هذا المرض وبعده بافتراض وجوده- فلم يشفَ ولم تشفَ، مما يجعلنا نستعيد البيت الشعري على توقعٍ آخر، يفجأ الأصبهاني، أي إزالة مفهوم الداء والدواء منه، إذ الأصبهاني يرى أنَّ الحبيب إذا التقى حبيبته ولم ينطفئ الشوق، فإن ذلك دلالة العشق التراكمي، ومن هنا رأى أن المجنون سعى للقاء؛ لتفسير الحب، ومن ثمَّ التداوي به منه! ولمّا لم ينفع، ظنَّ أن التداوي بالحب من الحب ليس بنافع!. بينما الصيغة المستخدمة من المجنون تبعد مراد الأصبهاني؛ فهو -أولا- كما ذكرتُ صيغةَ شكٍّ بأصلِ الداءِ نفسه ومن ثمَّ الدواء، وثانيا: بناء على هذا، فإن المجنون لم يطرح اللقاء لتفسير الحب، بل لعلاجِ داء آنيٍّ يجهل جوهره (يقولون ليلى ...). ومن هنا كان اللقاء -بصفته صيغة دائمة عند المجنون- حلا عرضيًّا لما يظنه داء. وهنا تأتي قصيدة درويش (قناع... لمجنون ليلى)، وكما ذكرتُ أنَّ القناع واللقاء بينهما علاقة وطيدة؛ إذ في اللقاءات تتبدل الأقنعة. ومن البداية يروي درويش على لسان المجنون: (وجدتُ قناعًا، فأعجبني أن/أكونَ أنا آخَري...) وقد روى الأصبهاني في أغانيه، حكايةً تقولُ: " قلتُ لرجلٍ من بني عامر: أتعرفُ المجنون، وتروي من شعره شيئا؟ قال: أوَ قد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين، إنهم لكثير. فقلتُ: ليس هؤلاء أعني، إنما أعني مجنون بني عامر، الشاعر الذي قتله العشق. فقال هيهات! بنو عامرٍ أغلظ أكبادًا من ذلك، إنما يكون هذا في اليمانية، الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، ...فأما نزار فلا" وهنا تظهرُ آخريّة من آخرياتِ المجنون، وتظهر لعبة الأقنعة، ولعبة اللقاءات، والمجنون سيدها هنا؛ إذ لم يُختلفْ على شخصيةٍ عالية الرمزية كقيسِ ليلى، بين إنكار وجودها، فضلا عن إنكار حقيقة الحب، ومجازية حكايته من خلالِ شعره. والآخر يحيل -مما يحيل- على اللقاءِ، ومن ثمّ فإنَّ المجنون هنا -بالاستدماج الدرويشي- يصنع اللقاءات المجازية/ الشعر/ الوجود؛ بكونه آخر، فيصنعُ الحبَّ كلعبةٍ زمنية. أي أن القناع الذي لبسه قيس، هو الغربة/الحبيبة؛ ليقابل ذاته، فإذن هو ليلى =(... أنا هو أنتِ/ فلابدّ من عدمٍ أزرقٍ للعناق/ النهائي...) وهذه اللعبةُ هي مخاتلة لغوية لمفاجأة الزمان وفضح سرّه، ومن ثم يتجلى الحب لقيس من خلال اللقاء بليلى، لا كاللقاء الاستدماجي عند الأصبهاني، بل هو -هنا- علاج له. المقطع الأول من القصيدة يمكن لي أن أُقسّمَه لثلاث مراحل: 1. صورة ما قبل القناع: (...كنتُ دونَ/الثلاثين، أحسبُ أنَّ حدود/الوجود هي الكلمات. وكنت/ مريضا بليلى كأي فتىً شعَّ/في دمه الملح...) وهُنا تأتي لفظةُ (مريض) لتُحيل إلى مرضِ ليلى وهي بالعراق، اللقاء الذي استدمجه الأصبهاني؛ لكنه هنا (قيس) المريض به وليست هي، أي أن صيغة اللقاء عند الأصبهاني هي أن ليلى هي المريضة بقيس (فو الله ما أدري إذا أنا جئتها/ أأبرئها من دائها أم أزيدها)، لكن هنا يقول من خلال قصيدة درويش: أنه هو المريض، ووضع تعليلا عامًا، وكأنه يمهّد لمجيء القناع، =( كأي فتى شعَّ في دمه الملح)، أي أن هذا السبب الذي هو ليس بسبب!، إنما كان يعني تكذيب المجنون لوجود الحب، إلا من خلال القول/الكلمات =(أحسبُ أنَّ حدودَ الوجود هي الكلمات). لهذا تأتي المرحلة 2. أثناء لبسِ القناع، لتبدأ بــــ (... إن لم تكن هي/ موجودة جسدا فلها صورة الروح/في كل شيء). والصفة التي يفترضها قيس: (... تقربني من/مدار الكواكب. تبعدني عن حياتي/على الأرض) وتشكيكُ قيسٍ بوجود ليلى، معاكس لتشكيك المؤرخين به، وهنا تتجلى الآخرية التي ذكرتها، أي أنَّ قيسًا يستعدُّ لتلبس الآخرية من خلال ليلى/ الغربة =(...فلها صورة الروح/في كل شي) وليلى في الآن نفسه ليست ليلى؛ إذ الافتراض الأكبر الذي يُكمل هذه المرحلة هو =(لا هي موت ولا هي ليلى)، أي تلك التي لها صورة الروح، إنها افتراض قِناعي لرؤية ماهية الحياة/ الحب. وهنا تأتي المرحلة 3. لبسُ القناع: وهي لحظةُ إلقاءِ قيس نفسَه في النهر مُنتحرًا، أي أنَّه أماتَ قَيْسًا؛ ليحيا، ولكن كميّت، من حيث إن الموت أخرٌ للحياة، فالذي أرجعه رجل عابر، مع أنه زوج ليلى، وهنا دلالة الحركة والسكون، في صراع معنى الحب: زوج أم عشيق، وهذه الدلالة يتفرعُ منها كيفيّة النظر للواقع الموضوعي، وهنا أسترجعُ اعتراضَ المجنون (المفترض) على استدلال الأصبهاني حين قلتُ: (فكأن المجنون يقول: من أيّ اتجاه يؤتى الحب؛ كي نفهمه)...؛ لهذا فالرجل العابر (زوج ليلى) أرجع قيسا للموت وليس للحياة، وهنا مجازية القناع تتجلى، من خلال أنَّ الموت/الغربة هو الطريقة لرؤية الحياة/ الحب (...عالجني النهرُ حين/ قذفتُ بنفسي إلى النهر منتحرا/ ثم أرجعني رجلٌ عابر، فسألتُ:/لماذا تُعيد إليَّ الهواء وتجعل/موتي أطولَ؟ قال: لتعرف/نفسك أفضل...من أنتَ؟/ قلتُ أنا قيس ليلى، وأنت؟/ فقال: أنا زوجها).

أمَّا المقطعُ الثاني فهو حديثُ قيس الآخر، (أنا قيس ليلى/ غريب عن اسمي وعن زمني) هنا صار قيس=(صوت ليلى إلى قلبها)، فرى أنَّ الحب في ذاته هو (...فكرة للقصيدة/ ليس لها بلد أو جسد/ وليس لها والدٌ أو ولد). مِن هُنا كان المقطع الثالث مكوّنٌ من سطرين يُغلقان ستارة المسرح العشقي في حوار قيس الآخر الذي رأى كينونة الحب: (أنا كائن لم يكن)، مع قيس الأول الذي صار لا أحد: (أنا قيس ليلى، أنا/ وأنا ... لا أحد!).

أما الاستدماج الثالث عند الأصبهاني فهو قول أبي تمام:
أمتعتُ طرفي يوم ذاك بنظرة/ لا تُمْتِعُ الأرواحَ بالأجساد


الأصبهانيُّ التقطَ حداثةً تماميّة، اصطدمت بفكر المتلقي حين فصلت بين شطري البيت، فصلا تأويليا حداثيا. إذ لم يكن أبو تمام -هنا- مريحا للسامع، بأن يجعل شطر البيت نهاية سعيدة تُقرب للأذهان ما غَمُض في الشطر الأول، بل أبعد النجعة الإبداعية، ليجرّ معه المتلقي إلى فضاء آخر، يعقد بينه وبين الفضاء الأول علاقة تأويلية تصنع قارئًا جديدا يلغي مقولة أبي تمام: (لم لا تفهم ما يُقال). ومن هنا كان التقاط الأصبهاني للبيت إعادة لما قبل الحداثة التمامية، وذلك بأن جَعَلَ الشطرَ الثاني متمما للحواسّ المتفاعلة في الشطر الأول، من حيث إنَّ النفي كان لتأكيد الإثبات. ومن هنا إذا كانَ الحُب -لدى الأصبهاني- هو فعل يبدأ كاملا من خلالِ الجسد المتصل، ثم يتجزأ من خلال الحواس بين كل جزئين تقاسما روحا مكوّرة؛ فإنَّ العشق المتجسِّد في الشطر الأول، المؤكد بالشطر الثاني– لدى الأصبهاني- بصفته داءً لا يمكن أن يكون دواؤه منه، ومن ثم تتأكّد نظريته، في العشق التراكمي.

وبيتُ أبي تمام يُروى بروايتين؛ الأولى كما رواها الأصبهانيُّ، والثانية:
أمتعت سيفك من يديك بضربة/ لا تمتع الأرواح بالأجساد
والسؤال هنا
: لِمَ لمْ يَعُد الأصبهاني للبيتِ السابق على البيت الذي أورده، وصيغته:
وضمائر الأرواح تُقسم أمرها/ فيه، بطون ضمائر الأغماد
ألِكَونِ البيت قد يخلق معادلة كالتالي:
الأرواح مضمرة في الأجساد/ السيوف مضمرة في الأغماد. فيكون المعنى حينئذ: إن الأرواح المضمرة في الأجساد قسمت أمرَها في داخل الممدوح وظهرت بصورة السيوف المضمرة في الأغماد؛ لهذا فقد أمتعت سيفَك =( الذي هو هنا أرواح مضمرة) من خلال يديك، مع أن الأرواح لا تمتع بالأجساد. ومن ثم تنتقض ثنائية الداء والدواء الأصبهانية؟.
إن الحداثة التمامية، ستَجلِبُ من (سرير الغريبة)، أمرين: الأول: حداثة استدماجية درويشيّة لأبي تمام، من خلال ذبح الفعل الذكوري في حداثة أبي تمام، وتتمثل هنا بقصيدة (خذي فرسي... واذبحيها). والأمر الثاني: السوناتا، ليواجه الاستدماج التمّامي بالتجربة الغربية في تشكيل الحب/الغربة، من خلال الصراع في السوناتا نفسها. وقد عَنْوَنَ درويش سِتَّ مقطوعات بــ (سوناتا) واضِعا معها أرقامًا رومانية (من I إلى VI) وهي تتكَوَّن من 14 سطرا شعريا، ومن قوافٍ متجاوبة في أحجام نصّية متقاربة.
فأمَّا الأمرُ الأوّلُ، فإنَّ مقابلةَ أبي تمام الحداثية في بيته بين الأرواح والأجساد كعلاقة متعة، لإنتاج المعنى الحربي حين أمتعت السيوف المضمرة من يد القائد الحربي وفتوحاته (أمتعت سيفك من يديك بضربة). لم يرها درويشُ إلا حداثة رجعية، حين لم تُكَسِّر المعنى الفحولي، بل إن متعة الأرواح بالأجساد -لدى أبي تمام- تلتقي في لحظة مستحيلة هي لحظة السيف الفحولي، أي إن كان المعنى العشقي عند الأصبهاني يبني حُبّا مجازيا، يلحقه لوازمه من التذلل المجازي، فإنَّ استدماجه -أي الأصبهاني- هنا لأبي تمام، نَقَلَ المعنى المجازي للعشق في فلسفته إلى مستوى مجازي آخر بتثبيت عُرى الاستفحال، وهنا تتجلى خدعة الحداثة حين تكون رجعية. ومن هنا كانت عتبة العنوان في قصيدة درويش تستهدف الجذور (خذي فرسي...واذبحيها) وكانَ مطلع القصيدة: (أنتِ -لا هوسي بالفتوحات- عُرسي) ويقابل (أنتِ)= (جميعكِ حافلة بالمريدين من كل جنٍّ وإنس) لإزالة معنى الأنثى التي يُبْحثُ عن مفاهيم العشق باستخدامها كمعنى مُفرغ من إنسانيته، معنى يدور حول تهويمات النظر الذكوري. إن أشهر قول لأبي تمام:
السيف أصدق إنباء من الكتب/في حده الحد بين الجد واللعب.
يأتي هنا كخيطٍ رفيعٍ يربطُ أبا تمام برمزيةِ القصيدة الدرويشية= (دَبُّوس شَعْرِكِ يكسر سيفي وترسي).والغاية الدرويشية في ذبح الفرس وكسر السيف: أن يحمل نفسه حيا وميتا بنفسه. ومن ثم لا قيمة للقول التمّامي:
يا يَومَ وَقعَةِ عَمّورِيَّةَ اِنصَرَفَت/مِنكَ المُنى حُفَّلاً مَعسولَةَ الحَلَبِ
أَبقَيتَ جَدَّ بَني الإِسلامِ في صَعَدٍ/وَالمُشرِكينَ وَدارَ الشِركِ في صَبَبِ

وهذا القول المباشر معادل تقليدي لحداثة: (لا تمتع الأرواحَ بالأجساد). وهنا يطرح درويش ثنائية بين الحلم والحسّ؛ كوصفٍ لحداثة أبي تمام، أي أنَّ أبا تمام جعل الحلم يقابل الحس، حين أسس مفهومًا استفحاليّا حداثيًا بمقولته (لا تمتع الأرواحَ بالأجساد)، ومن ثم فإنَّ القائد الحربي -الذي صنعه أبو تمام في شعره الحداثي- يحقق الحلم مهما بلغت غرائبيته، كمتعة الأرواح بالأجساد. وهنا يقول درويش: (خذي فرسي/واذبحيها/لأمشي مثل المحارب بعد الهزيمة/ من غير حُلم وحسّ...).
وأما السوناتا فتموجاتها الدرويشية غربيّة واستدماجاتها عربية، ليضيع التمركز، التي لم تتخلص منه الحداثة الرجعية؛ وليبني استراتيجية تجعل الحب لا هوية له، ولا إحالة خارجية، إلا الكلام الذي سالَ من الغريبة في الغريبة إلى الغريبة؛ فأوّلُ قصيدةٍ من قصائدِ السوناتا الستة، يُصَوِّر درويشُ مفتتحَ مسرحيةٍ، أبطالها: غريبة، والله، وغريب. ثم في باقي قصائد السوناتا فصولها.
  • الفصل (صفر):
تُفتَحُ الستارة على قرنِ غزالٍ يطعنُ السماءَ، فيسيلُ الكلامُ ندى في عروق الطبيعة. فتكشف الإضاءةُ عن يدِ غريبة/حبيبة، تجلسُ على سرير عرشها، ممسكة بالقرن، وتمصّ عروقَ الطبيعة، ليكشف المسرح عن غريب/حبيب، تائه بسؤالاته -من جراء طعناتها للسماء- وينظر إلى الغريبة -التي وقع على نفسه فيها/وقوع الغريب على نفسه في الغريب- متسائلا: ما اسم القصيدة -التي أسلْتيْها من السماء في عروق الطبيعة- أمام ثنائية الخلق/الحق؟ وهنا يدخل (الله) إلى المسرح، وأخذ يتّحد مع الغريبة كأنهما أسطورة تتشمّس حول أَرْزِ سرير الغريبة ثم علا صوتٌ-واحد متعدد- في أرجاء المسرح: القصيدة هي نون الأنا التي في المثنى، وهي الغريبة نفسها، وهي السماء البعيدة...؛ وهنا تنصهر الثنائيات في مسرح الوجود المزدحم بإلهاتِ مصر وسومر تحت النخيل، وهنَّ يغيرن أثوابهنّ وأسماء أيامهنّ، ويكملن رحلاتهن إلى آخر القافية؛ فيرى الغريبُ: اللهَ /الغريبة، على سرير الغريبة، واحدا/متعددا؛ فكانَ مجيءُ الكلام...

وبدأ حوارُ الغريبِ والغريبة في باقي قصائد السوناتا؛ كلحظةٍ مسرحيّة أزلية فانية في الآن نفسه، واحد متعدد بلا هوية:
  • الفصل الأول:
نهرٌ... على صخرةِ الوجودِ، والغريبةُ تديرُ للنهر ظلها؛ كي يبلل ملابسها من غُموضِهِ...غموضِ النهر. والغريب يفكر بغيمة شاردة...:
  • الغريب: هناك خريف قليل...!
  • الغريبة: ما الغموض في الأمر؟
  • الغريب: يَرشّ على ذكر الأيّل الماءَ من غيمةٍ شاردة.
  • الغريبة: إنه خريف غامض، يُفَكِّر بفلسفةٍ ممكنةٍ متأوّلة...!
  • الغريب: ذاكَ لأنّه عاشَ من فُتاتِ الرحيل الذي تركتيه لنا.
تتداخل الألوان على خشبة المسرح، والغريب يرقص...ويرقص...ويرقص ثم يقف على قدمٍ واحدة بلا نَفَس وكأنه رأى الله/الغريبة فشعر أنه معشوق عتيق...:
  • الغريب: غموضُكِ دربُ الحليب. فها أنا -إذن- أرى الحياةَ من ثُقبِ غُبارِ كواكب لا اسم لها.
  • الغريبة: والحليب درب السماء المنخفضة...
  • الغريب: لكنّ الكلام يضيء بمفردةٍ واحدة. وغموضكِ ليل في لؤلؤ؛ لا يُضيء إلا الماء.
  • الغريبة: أنا من طعن السماء وأسالَ الكلام...!
  • الغريب: ألا تريني وأنا ألفظُ: (أحبكِ)...
  • الغريبة: فماذا؟
  • الغريب: أضاءت ليلَ المهاجر بين معلقتين، وصفَّي نخيل.
  • الغريبة: أنا الكاف في (أحبكِ)... وأنا النون في (أنا) التي في (المثنى)... هل ترى غَدك؟
  • الغريب: حين رأيتكِ ...
  • الغريبة: فماذا رأيت؟
  • الغريب: رأيتكِ تمنحين المجاز وقائع معنى لما سوف يحدث عمَّا قليل.
  • الغريبة: ما يقع ليس حاضرا إلا حين يقع الغريب على نفسه في الغريب.
وتتوالى خيوط المسرحية الأزلية الفانية:
  • الفصل الثاني: (كما نايٍ يتأنى قليلا ليصقل سوناتة) و(كمعنى على أُهبة العري، لا يستطيع الوصولا).
  • الفصل الثالث: و(يا اسم الذي أنا فيه...) (يا اسمي المؤنث) (نامي فلا ناي يبكي على فرس هارب من خيامي)
  • الفصل الرابع: (غد عابر في القصيد) (على فرس من خصالك تنسج روحي سماء طبيعية من ظلالك)
  • الفصل الأخير: (صنوبرة في يمينك... صفصافة في شمالك) (قليل من الضعف في الاستعارة يكفي غدا لينضج توت السياج، وينكسر السيف تحت الندى)
وأمَّا الاستدماج الرابع عند الأصبهاني فقولُ:(مسلم بن الوليد/ صريع الغواني):
إذا ما ملأت العين منها ملأتها/ من الدمع حتى أَنْزفَ الدمع أجمعا
تــــأمــلتُـــهــــا مـــــغتـــرةً فــكأنـــــمـــا/ رأيــتُ بــهـــا مــــن ســــنة البــــدر مـــــطلـــعا

هُنَا نحنُ أمامَ إشكاليّةٍ أصبهانيّة، من حيث إنه أورد قول صريع الغواني إيرادا عابرًا؛ وكأنه قَلِق من معنى متضمن فيها؛ سيتفجّر في مبنى نظريته في العشق التراكمي، فالشاعر ابن الوليد لما رأى مَنْ يهوى في حالة غرور وتكبّر، شبّهها بالبدر...؛ وهنا مصيدة وقع فيها الأصبهاني، فوجْهُ الشبهِ بين مَنْ يهواها صريع الغواني وبين القمر، مختلف. إذ كلا المشبه والمشبه به له بداية ونهاية؛ فللقمر أطوار يمرُّ بمراحل ضرورية، فيتغيّر شكله من مرحلة الهلال ثم البدر ثم المُحاق، وكذا غرور من أحبها مسلم بن الوليد؛ سينتهي بها إلى المُحاق. لهذا قال في البيت الثاني: إنه ملأ العين منها. لكن هذا الملء هو (دمعٌ) حين اكتشف كذبها وغرورها وتكبرها، وهذا الدمع سينزفه كله وهي مرحلة المُحاق للحبيبة.
إن هذا المعنى يحيلنا على استدماجٍ درويشي لصريع الغواني، الذي يتحول هنا لرمزية يوسف النبي، فالمحاق يحيل إلى السنين العجاف من جراء الجفاف. لهذا كان عنوان القصيدة(جفاف)؛ إذ لما ذرفَ ابنُ الوليد دمعَه حتى (الجفاف) في نهايةٍ عشقية مجازية كما المحاق للبدر، فإنّه يستجلبُ قصةَ يوسف بصفته ذكرا/ سجينا فوزير على خزانة مصر/ أجمل الناس، والنساء يسعون له، فتنتهي حكايته -كذكر- بنهاية درامية ينتصر فيها يوسف..، و-كسجين فوزير-، بنهاية ينقذ فيها البلاد. وفي كل حبكةٍ لم يكن ثمة صوت للأنثى التي قصدها يوسف (صارع الغواني)، وفي دلالة التشبيه ما يجعل من ابنِ الوليد صارعًا للغواني، وليس صريعهنّ، مما يُحيلُ على العشقِ المجازي، ومن ثم دلالاتها الفلسفية المُطوّعة للنظرة الأصبهانية/الحزميّة.
من هُنا أوجدَ درويشُ لسانَ الأنثى؛ ليكسرَ فلسفةَ الحبّ الأصبهانيّة، من جهة، وإبراز الصوت الخفي الذي يفضح المجازية الذكورية، في قصة يوسف/مسلم بن الوليد من جهة ثانية، ويؤسس لمعنى الحب/الغربة في فلسفة السماء المنخفضة من جهة أخرى.. فيبدأ المطلع الدرويشي/الأنثوي بإشارةٍ إلى تحولاتِ القمر في لحظة زمن يوسف النبي/ مسلم بن الوليد، وما يستتبعه من تحوّلاتٍ موسميّةٍ وفصليةٍ= (هذه سنة صعبة/ لم يعدنا الخريف بشيءٍ/ ولم ننتظر رسلا)...، وهذه الصيغة تحيلُ إلى مجلس ملك مصر في سنوات الجدب/الجفاف، ولحظة حلمه حين رأى في المنام أنَّ سبعَ بقراتٍ عِجاف يأكلن سبع بقراتٍ سمان، ورأى سبعَ سُنبلات خُضرٍ وآخر يابسات. وتأتي صيغة (لم ننتظر رسلا)؛ بصفتها شارحة لأفق الانتظار آنذاك، لتكون الحكاية انتصارا ليوسف، أي أنَّ سَجْنِه هو ما حجب الانفتاح الأفقي نحو النبوة. وهنا يأتي صوتَ الأنثى ليقول بأن الجفاف/الجدب، هو الأرض المعذبة والسماء المذهّبة؛ وليس كما روتها حكاية يوسف..؛ إذ إن يوسف لما أُخرج من السجن بسبب تأويله للحلم ، لم يخرج إلا بشرط أن تُقر الفتيات أنهن هنّ اللاتي راودنه عن نفسه...؛ أي أنَّ يوسف هُنا في لحظة سُلطة واقعية، ومن ثم كانَ يكتبُ قفلةَ حكايته -كذكر وكوزير متوّج بالانتصار- بعد أن استخدمَ سُلطةَ الوعي في التفسير المنامي. فصوتُ الأنثى يُعيدُ صياغةَ الحكاية من خلال تعريتها، فأول القصة إعلان الحلم الذكوري؛ بسجود الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ليوسف. وما جرى بعدها تعبير في مستوى الحبكة ونهايتها لتحقيق هذا الحلم الذكوري. وكذلك حكاية مسلم بن الوليد، التي تلتقي مع حكاية يوسف وتنتهي كنهايتها؛ فيقابل (ملك مصر ليوسف)=(هارون الرشيد لمسلم بن الوليد)؛ فيروى أولا أنَّ ابن الوليد قال: "أرى نفسي تذوب حسرات من أن يحوي جوائز الخلفاء من لا يوازيني...". وهذه الحسرات كحسرة يوسف أن على خزانة مصر من لا يوازيه كفاءة. وثانيا: كان واسطة مسلم إلى هارون رجلا مقربا من هارون، كما أنًّ واسطة يوسف هو ساقي الملك. وثالثا: كان التماس الساقي لتقريب يوسف هو إخضاع المعاني لمقولاته بعد همٍّ أصابَ الملك. وهي كذلك عند ابن الوليد؛ إذ تقول الرواية: إن هارون الرشيد استحل عليه الفكر في أمور الدنيا، واهتم وغمّ، فنصحه من في المجلس ألا يحبس هذا الفكر عليه يومَه، أو يمنعه مما يستمتع به؛ فطلب هارونُ أن يُدفع عنه ما عراه، وهنا قام واسطةُ مسلم بن الوليد وقال: "يا أمير المؤمنين، خلّفت بالباب آنفا رجلا... متقدما في شعره وأدبه وظرفه...وله أبلغ القول الذي يبعث على إبعاد الهم." ولما أبعد مسلمٌ الهمَّ عن هارون، قربه منه. ورابعا: الشرارة الأولى للقاء يوسف ومسلم بن الوليد بالملِكيْن هي علاقة الذكر بالأنثى جنسيا، فيوسف قصته مع امرأة العزيز، وأما مسلم فقد كانت لحظة القبول والحظوة هي قصيدته التي لقبه فيها هارون بصريع الغواني:
هل العيش إلا أن أروح مع الصِّبا/وأغدو صريع الراح والأعين النُجلِ.
وثمة رواية تجتمع مع الرواية السابقة؛ لتُكمِلَ الالتقاء بين حكايتيهما؛ إذ روى ابنُ عبد ربه في العقد الفريد أنّ العتبي قال: " كان هارون الرشيد يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم، وكان مسلم بن الوليد قد رمي بالتشيع، فطلبه هارونُ، فهرب مسلم، حتى وجد عند قَيْنة ببغداد..." ومحاكمة هارون لمسلم بحسب الرواية الثانية، كمحاكمة الملك ليوسف، وكان الخلاص لكليهما التماس القول المُنقذ للملك، فمسلم قال قصيدة يمدح بها بني العباس، فأعجب بها هارون وقربه منه. وخامسا: حكايتا يوسف ومسلم تعتمد على كثرة الحساد الذي يُشعلون حبكة الحكاية، ويدفعون بها إلى الأمام. فيوسف بدأت حكاية حسّاده مع إخوته...، ومسلم بن الوليد ذكر الجاحظ في رسائله حكاية حُسَّاد مسلم بن الوليد.
من هنا يأتي قول مسلم بن الوليد الذي استدمجه الأصبهاني؛ ليكون إعلان نهاية الحكاية التي ينتصر بها مسلمٌ على الفتيات، كما هو يوسف، وينتصر على حساده ويأخذ الحظوة عند هارون، كما هو يوسف ينتصر على حساده ويأخذ الحظوة عند ملك مصر، لهذا فإن الغرورَ الذي رمى إليه ابنُ الوليد في قوله المستدمج: (تــــأمــلتُـــهــــا مـــــغتـــرةً فــكأنـــــمـــا/ رأيــتُ بــهـــا مــــن ســــنة البــــدر مـــــطلـــعا) فهو نابعٌ من جهله بنفسه، ومن ثم -بالضرورة- لا يعرف الفتاة التي يراها، بله استكشاف معنى العشق في أفعالها؛ وهي استعادة لجهل يوسف، وروايته. يقول درويش: (تخيل ولو مرة أنَّكَ امرأة/ لترى ما أرى). وهنا تأتي الطريقةُ الدرويشية/الأنثوية، لكشفِ حقيقتها/السر الأنثوي؛ وهي استنبات أحاسيس ليست من واقعه الذكوري = (وعليكَ الوصول إلى خبز روحي/لتعرف نفسَك). والوصول إلى خبز الروح الأنثوية صورة محسوسة لا تُرى، وهذا التناقض، كتناقضِ الإحساسِ باللهِ لدى ماديي الفلسفة الدينية، ومن ثمَّ فإنَّ جسدَ الفتاة -هنا- ليس إلا رؤية إحساسية مغايرة، هي 1. المعبد بعد انطباق العذاب/الذهب: يأتي صوتُ الفتاةٍ وهي تقرر ابتداءً: (والجفاف كما هو: أرضٌ مُعذبة/ وسماء مُذهبة/ فليكن جسدي معبدي). 2. البلد: (...لا حدَّ لي/ إن أردتُ:/أُوَّسِّع حقلي بسنبلةٍ/ وأوسِّع هذا الفضاء بتَرْغَلَّةٍ/ فليكن جسدي بلدي). 3. السيّد: تسود بلا حدِّ به، ولا يتسيّد على من لا حدَّ لها إلا هي، ومن هنا كانت تشير الفتاة إلى أنَّ السماءَ حقيقية في الخريف/النهاية،، وابن الوليد ويوسف لا يريْنها؛ لأنهما ليسا امرأة...؛ ومن هنا أنشأ ابن الوليد تشبيها مغايرا للفتاة من خلال مراحل القمر؛ ولما وصل للنهاية لم يرَ إلا المحاق، وهي رؤية ذكورية، فهذا المحاق هو الموقف الذكوري في سجود الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ليوسف. وهذه الرؤية الذكوريّة تكسرها الأنثى قائلة: (والجفاف يُحَدِّق في النهر/ أو يَتطلَّع نحو النخيل/ ويخطئ بئري العميقة/ لاحدّ لي بك.../ إنَّ السماءَ حقيقية في الخريف/ تخيَّل، ولو مرة أنك امرأة/ لترى ما أرى) والذكر في تاريخه صنع مفهوم النبي الموحى إليه، لتخفيف أعباء الوعي الإنساني، وأخذه إلى أوطانٍ تعبت فيها الغربة الأنثوية...؛ لأنَّ: 4. جسدها يتفتّح في جسدها/ ألوهة في السماء المنخفضة: ومن هنا (فما حاجتي للنبوءة؟.../.../ وما حاجتي لكتابكَ ما دام ما بك...بي؟/ جسدي يَتفتّح في جسدي). فتتجلى الأنثى لتقول الحكاية؛ حكاية السنين العجاف، التي يدخل فيها يوسف ومسلم بن الوليد كمفعولين في الحبكة وليسا فاعلين وموجهين لبدايتها وغايتها...=(والجفاف يودع سبع السنين العجاف) إذ لابدَّ أن تبدأ الحكاية كحكايةٍ للحكايات، بأن يكون الذكر أنثى؛ ليرى ما ترى الأنثى؛ والأنثى هنا ترمز للحقيقة الغائبة، وهي هُنا السماء المنخفضة/الحب/الغربة الوجودية، ومن هنا كان الشرط الدرويشي: (لابد من ماعزٍ يقضم العشب من كتب البابليين أو غيرهم/كي تصير السماء حقيقية) أي أن قضم الماعز للكتب -التي تؤسس للحكم الذكوري، -ابتداء من حورابي وغيره- ومن ثم مروياتها، واختيار سرديتها لتكون روايةَ الشعوب- هي الشرط للنظر العشقي المعتمد على السماء المنخفضة. وفي رمزية الماعز الذي يأكل الكتب المؤسسة للحكم سماوية كانت أم أرضية، ما يقابل البقر السمان والعجاف، كآكلٍ ومأكول.

وأمَّا الاستدماجُ الخامس لدى الأصبهاني فقول: (أبي الفرج بن هندو):
تمنيتُ مَنْ أهوى فلمَّا لقيتُه/ بُهتُّ فلم أُعْمِل لسانا ولا طرفا
فأغضيتُ إجلالا له ومهابة/ وحاولت أن يخفى الذي بي فلم يَخْفَ


وهذا الاستدماج يعتمد تقنية أصبهانية، تقوم على الإضمار المعنوي الضروري؛ ليتّسق مع المراد الخارجي المتلائم مع شركائه في الموضوع الشعري وهو هنا الغزل. فإذا أردنا رواية البيت؛ بناء على التقنية الأصبهانية سيكون هكذا: تمنيتُ مَن أهوى...لأقتل هواه/ لأمحو هواه فلما لقيتُه بهتّ فلم أستطع أن أمحو هواه. فأغضيت إجلالا له ومهابة.
لكن بمجرد أن يُقال للأصبهاني: إن المعنى بناء على تقنيتك أيضا، هو: تمنيتُ من أهوى كي أُحدّثه بلساني حديثا طويلا إلى مطلعِ الفجر عن عشقي وغرامي في ليلي الطويل، وأُمتّع نظري بجماله فلما لقيتُه بهتّ...! سينهارُ البنيان الأصبهاني في فلسفته التراكمية، فلسفة الداء والدواء؛ إذ إنَّ لفظة (بهتّ) تخدم المعنى الثاني، وليس المعنى الذي أضمره الأصبهاني، وكلا المعنيين يُوردان بناء على التقنية الأصبهانية، لهذا كانت ورطته..؛ ومن أمارات ورطته أنَّ الشاعر قال: (فأغضيتُ إجلالًا له ومهابة)؛ لأنه لو كان يريد قتل هواه أو محوِه لن يكون المقابل الإغضاء مهابة وإجلالا، بل الصمت والغضب والانزعاج من فشل تجربة قتل الهوى.
ومن هنا يأتي درويشُ بقصيدتي (لم أنتظر أحدا) و(طائران غريبان في ريشنا)؛ ليواجه الاستدماج الأصبهاني لابن هندو. لا من جهة تهافت ارتكازه على التقنية الأصبهانية ليوثق فلسفته في العشق التراكمي، بل من جهةِ مقابلات ابن هندو الثنائية: الإجلال/ المهابة. التي نبعت من الممارسة العشقية لابن هندو غير الكلام والنظر. فأمَّا قصيدة (لم أنتظر أحدا) فلأنَّ إطراق النظر الذي وصفه ابنُ هندو، يحيل على مفهوم الانتظار، انتظار شيءٍ ما. وفي هذا نداء عشقي، بنقيض السماء المنخفضة، أي أن الانتظار المقصود (وحاولت أن يخفى الذي بي فلم يَخْفَ) هو إضمار للمعنى المحدد، ومن ثم تحديد ما يريد، فتنتقض الصيغة الشعرية التي أوردها ابن هندو، وفي هذا ما يحيل على مجازيتها. ولهذا يأتي المطلع: (سأعرف مهما ذهبت مع الريح، كيف/أعيدك) أي إن كانَ عشقك يعيش بين ثنائية جسد أرضي وروح سماوية عالية=(ذهبتَ مع الريح)، فستُعيدك الفتاةُ التي تمنيتَ مقابلتها إلى السماءِ المنخفضة؛ لأنها تعرف =(من أين يأتي بَعيدُك). لكن الذي يفلت منها ومنك ومن الزمن هو نشيدكَ (...واذهبْ/ نشيدُك يُفلتُ مني ومنك ومن زمني) ...؛ فهل أنْشدتَ يا ابن هندو؟ ذاك ما يحيل على المجازية في الإغضاء نفسه، ومن ثم الانتظار. أما الأنثى فلم تنتظر إلا نفسها، ومن كان من نفسِها، فهو نَفسُها...؛ =(كانَ لابُدَّ لي أن أصُبَّ النبيذ/ بكأسين مكسورتين، وأمنع نفسي من/ الانتباه إلى نفسها في انتظارك). وهذا يحيل على التراث الإيروتيكي الهندي حول الآداب الزمانية والمكانية قبل طقس اللقاء بالحبيب، فتبرز هنا قصيدة (درس من كاما سوطرا)، بصفتها خروجا من مجازية الشعر العربي القديم في موضوع الغزل إلى رحابة انتظار مالا يُنتظر. وأما قصيدة (طائران غريبان في ريشنا)، فلأنها تطرح الصورة الحسية الجديدة في لقاءِ ابن هندو مع الفتاة...؛بناء على مفهوم وقوع الغريب على نفسه في الغريب/الحب/ السماء المنخفضة...؛ وتأتي القصيدة على لسان الأنثى بعد أن أطرق ابن هندو: (سمائي رماديّة. حكّ ظهري. وفكَّ/على مهل، يا غريبُ، جدائل شعري. وقل/ لي في مَ تفكر. قل لي ما مرَّ/ في بال يوسف) لتنقُضَ الصوت الأوحد في العشق الذكوري. وصيغة (ما مرّ في بال يوسف) دعوة لتعرية السكوت الذي أورده ابن هندو، من خلال أنه (همّ بها). ومن هنا يوظف درويش الصيغة على أنها ذاته المتحدث إليها؛ لإثبات إرادة الإغضاء والإطراق الحقيقي لصوتِ الأنثى الذي يُحول زرقة السماء إلى اللون الرمادي...(...سمائي/ رمادية فبماذا تفكر حين تكون السماء/ رمادية) ومن ثم فإن المجازية التي يطرحها درويش مجاز صناعة الحقيقة/العالم/ السماء المنخفضة ، لا المجاز الذي يوازي نمط الحقيقة الاجتماعية/الدينية.

وأما سادس الشواهد وسابعها وثامنها المستدمجة لدى الأصبهاني فهي أدقّ ما في الباب عند الأصبهاني؛ لأنها من قوله، وفيها إشارة واضحة نوعا ما حول معاني فلسفته التراكمية (الداء/الدواء). فأما السادس فقول:
إذا كانَ اللقاءُ يزيدُ شوقًا/ وكان فراقُ من أهوى يَشُوقُ
فليس إلى السُلُوّ وإن تمادى/ عِتابُكَ في الهوى أبدا طريقُ
ومن يكُ ذا سَقامٍ إن تداوى/ تزايد سُقْمُهُ فمتى يُفيقُ
وأما السابع فقول:
فهل يصل السقيم إلى شفاء/ إذا كان الدواء هو السقام
وأما الثامن فقول:
أم كيف يبرأ قلبي من صبابته/ بِطبّكُم ودوائي عندكم دائي


في الاستدماج السادس، يأتي درويشُ بحوار بينه وبين جميل بثنية، بقصيدة عنوانها (أنا، وجميل بثينة) وذلك لمعالجة مفهوم اللقاء الجنسي نفسه، ومن ثم نقض الفكرة الفلسفية لدى الأصبهاني. وقبل الإشارة إلى الاستدماج الدرويشي، أُبين مشكلات الاستدماج الأصبهاني؛ فالشاهد السادس يشير الشاعر فيه إلى (اللقاءِ) المتقطّع، بأنه يزيد شوقا، بعلامة أنه يقول: (يزيد شوقا). وهنا فعل مضارع يدل على استمرارِ اللقاء بين حين وحين، وقد قابل بين اللقاء والفراق، مما يدل على اللقاءات المتقطعة، إذ لو كان مراده اللقاء بحد ذاته كمعنى يزيد شوقا، لجعله أولا بصيغة مختلفة، ثُم لما ذكره بالبيت الثاني من تمادي عتاب الحبيب؛ الذي يدلّ على اللقاءات المتقطعة. فيكون السؤال للأصبهاني: هل اللقاءات المتقطعة دلالة الحب العميق، أم دلالة أنَّ الداء هو الدواء؟ أي هل اللقاء المتقطع هو (الداء) في ذهن الشاعر؟ الكلام أعلاه أثبت عكس هذا؛ فلماذا نحت رؤيةُ الأصبهاني إلى جعله هو الداء ومن ثم جعله الدواء؟ ولو كان اللقاء غيرَ متقطّع بمعنى ارتباط دائم بين الحبيبين، أي أقاما في مكان واحد، فماذا سيكون رأي الشاعر؟ ستكون صيغته مختلفة!. إذن ليس داء هذا الشاعر هو اللقاء المتقطع حتى يكون هو دواؤه، بل داؤه أمر آخر...!؛ لهذا لجأ إلى اللقاءات المتقطّعة كــــ (دواء)، -مثل المسكّن لألم الجسم- لكن وجد أن هذه اللقاءات المتقطعة تزيده داءً، إذن الداء غير الدواء! ولهذا قال الشاعرُ البيتَ الأخير، في إشارة إلى أنَّ التداوي الذي اختاره يزيد سقامه ولم يقل إنَّ دواءه هو داؤه، كمن يقول إن المسكن سبّبَ له أعراضًا جانبية، فهذا لا يعني أن المسكّن هو الداء والدواء. ونجد في الشاهد السابع المعنى نفسه، ولكنَّ الإشكال -هنا- جاء من الشاعر، ومن ثم حصل الفهم المغلوط من الأصبهاني؛ إذ سياق البيت:
إذا زار الحبيب أثار شوقا/ تفتت من حرارته العظام
فوصل يكسب المشتاق سقما/ونأي لا يقوم له قوام
فهل يصل السقيم إلى شفاءٍ/ إذا كان الدواء هو السقام


والإشكال الذي حصل من الشاعر هو أنه حدّد (الداء) بــ (الوصل المتقطّع) بأمارة أنه يقول: (إذا زار الحبيب)، ولكن الداء ليس هو الوصل المتقطّع إنما هو إرادة الوصل الدائم والامتلاء بالحبيب لدرجة هدوء النفس واطمئنانها، وأما الوصل المتقطع فعارض وليس جوهر، هو دواء كالمسكّن كما ذكرتُ، فلنفترض أنَّ المسكّن خفف ألم المريض، ثم لما ذهب أثر المسكن عاد الألم، ثم أخذ مسكن فسكت الألم ثم ذهب أثره فعاد الوجع بأشد مما كان، فظن هذا المريضُ أن المسكّن هو داء ودواء. ومن المفارقة أن تكون هذه الأبيات تنسب للأصبهاني نفسه؛ لهذا سيكون الحال كأن يكتب المريض الذي أخذ مسكنا قصيدةً يقول فيها: إن المسكن هو الداء والدواء. وفي هذا الإشكال من الشاعر ما يؤكد أنَّ كثيرا من مُدّعي العشق كَذَبَة، إنما هو تزويق لألفاظ يدعون بها أنهم عرفوا العشق ومارسوه، ويدعون أنهم يعرفون كيف يطرقون موضوع العشق كما يطرقون موضوع المدح ووصف الناقة والبكاء على الأطلال، وهذه من المفارقة حين يعُدون العشق كالمدح ووصف الناقة!! وربما لأن هؤلاء الذكوريين يعتبرون المرأة كالناقة سواء بسواء، وما إرادة العشق المزيف إلا خطابا مزيفا لتشكيل صورة المرأة المعشوقة وكأنها جسد ينتظرهم بشغفٍ فيستخدموه ثم يرموه إلى غيره، خطابا فحوليا للعشق، يعتمد على تشكيل صورتين للمرأة صورة مرتبطة بالمرأة التي في أذهانهم دينيا واجتماعيا وعرفيا المعتمد على الأسرة وقوامة الذكر عليهاـ، وصورة لامرأة يستخدمونها في إظهار قوتهم الجنسية من جهة أو في إظهار قوتهم اللفظية في طرق موضوعات الشعر، ولهذا فنسق الخطاب في أشعار الحب يفضح هذا الأمر؛ إذ هو ذكوري بامتياز. ومثل السابع الشاهدُ الثامن، ويفسّر ذلك أن الشواهد الثلاثة كلها لشاعر واحد!. وهنا يأتي استدماج درويش لجميل بثينة لضربِ الذكورية من داخلها، ويتجلى المعنى المعاكس في قوله: (تزوّجتُها. وهززنا السماء فسالتْ/ حليبا على خبزنا. كلما جئتها فتّحتْ/ جسدي زهرةً زهرةً، وأراقَ غدي/خمره قطرةً قطرةً في أباريقها) وفي هذا ما يعكس الرؤية الذكورية في اللقاء الجنسي بين الفاعل والمفعول، فأولا تأتي لفظة (هززنا السماء) الجامعة للفعل، وليس م طرف واحد، ويأتي معنى هز السماء، كإرادة وجودية متساوية في النظر. ثم ثانيا تأتي لفظة (كلما جئتها فتّحتْ/ جسدي) لمـــّا نسبَ المجيء إلى الذكر نسب التفتيح للأنثى، كفعل متساوٍ، بل إن التفتيح يُنسب دائما للذكورة، فنجد في أقوالهم: (فلانٌ ربّ عُذرتها) ونحو هذه المقولات التي تحيل التفتيح على الذكر، إلا أن درويش هنا يحيلها عليها، بعد مجيء الذكر لها.
  • خاتمة: أورد الأصبهاني قول مجنون ليلى:
تداويت من ليلى بليلى من الهوى/ كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
ألا زعمت ليلى بأنْ لا أُحبُها/ بلى، والليالي العشر والشفع والوتر
إذا ذُكرت يرتاح قلبي لذكرها/ كما انتفض العصفورُ من بلل القَطْر


وهنا معنى يخالف مراد الأصبهاني؛ حيث المجنون يشير إلى نجاح عملية التداوي من ليلى بليلى، كما شعر بذلك حين قال: إذا ذُكرت يرتاح قلبي لذكرها. والأصبهاني يقول إن من يتداوى بدائه لا يصل إلى شفائه! فلو تأمل، لوجد أن نوع التداوي الذي مارسه المجنون هو ذكرها وسماع ذكرها؛ بعلامة أنه قال: (إذا ذُكرت يرتاح قلبي لذكرها)، ومن ثم لم ينتبه أن مراد المجنون في كلا الحالين مخالف لمراده، فإن كان في الأول فهو عكس فلسفته التراكمية (الداء/ الدواء) ، وإن كان في الثاني فالمجنون لم يعنِ أن الداء هو الدواء. لكن لنتأمل أن المجنون شبّه تداويه من ليلى بها، بشارب الخمر الذي يتداوى بالخمر. وهذه المقارنة هي التي أربكت الأصبهاني، لأنَّ تشبيه العشق بالخمر؛ فيه قصور نابع من العجز في فهم العشق؛ لدرجة أن يُشبّه بشيء خاضع للتجارب العلمية، واشتهر عند العرب نموذجها، وهي التي قال عنها أبو نواس:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء/ وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها/ لو مسّها حجرٌ مسّته سراء

لهذا قد يكون المجنون مدرك لهذه المفارقة وهي أن العشق لا يمكن أن نقارنه بما هو معلوم المكونات الكيميائية إلا في حالة أن نُحدد شيئا من الحب نختبره؛ لهذا قابله بالخمر وشارب الخمر، أي لم يجعلها عامة مفتوحة، بل جاءَ بتشبيه محدد يوضح مقصدَه، بأن تداويه من ليلى بليلى ليس المراد به عشقي الغامض لها بل ذكرها وسماع ذكرها والأحاديث عنها. ومن هنا اختار المجنون (ذكر ليلى) فحسب، وجعله في مقابل تداوي شارب الخمر بالخمر، فكلاهما قابل للاختبار، فيكون قول المجنون ( تداويت من ليلى بليلى) إطلاقا للكل وإرادة الجزء. وعلامة هذا التأويل قوله ( إذا ذُكرت يرتاح قلبي لذكرها) فقد حدّدَ المجنونُ نوعَ الدواء وأعلنَ بعد تجربته نجاحها. كما أن الدواء هنا ليس هو الداء، بشكل كامل، بل إنَّ الداء أكبر وأشمل من الدواء، لكنَّ الدواء وهو (الذكر واستماع الأحاديث) بعض الداء أحسّه المجنون فجرّبه، ونجح. ولربما أن علة الأصبهاني -هنا- تتجلى من خلال قولٍ لابن الرومي عندما أصبح أقرع الرأس فسئل عن السبب فقال:
تعممت إحصانا لرأسي برهة / من القر يوما والحرور إذا سفع
فلما وهى طول التعمم لمتي/ فأزرى بها بعد الأصالة والفرع
عزمت على لبس العمامة حيلة/ لتستر ما جرّت علي من الصلع
فيا لك من جانٍ عليَّ جناية/ جعلت إليه من جنايته الفزع


إن ابن الرومي هنا يشير إلى أن (العمّة) هي الداء الذي سبب الصلع، وهي الدواء الذي يستر ما جرته من الصلع. إن هذه المقارنة اللطيفة والطريفة، التي تأخذ سياقا طبيا اجتماعيا، أي أن ( العمّة) هي الداء طبيا، لكنها الدواء اجتماعيا وليس طبيا، أي هي داء ودواء لكن من جهتين مختلفتين.


أنس الرشيد 30 تموز 2021م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى