تماضر الطاهر - مغناطيس العناية..

كان ابن عطاء الله السكندري فقيهاً وعالماً متبحراً في علوم الدين، وكان شديد الإنكار للتصوف، حتى جذبه مغناطيس العناية.
تحدثت النظريات الفلسفية القديمة عن الرعاية التي تحل بالمخلوقات بوسائل غير منظورة، واستعانوا بها في إثبات أو دحض الزعم الأزلي بوجود خالق للكون.
نفي وجودها أصحاب النظريات العلمية ، فهم يؤمنون بتخلق الكون ذاتياً نتيجة الانفجار العظيم، و جميع المعتقدات الدائرة حوله.
كذلك تحدثت عنها الأديان السماوية وعرفتها كرعاية من الرب لمخلوقاته عامة، وللبشر خاصة، وهي اختيارات مسبقة ، تحدث في الميقات المحدد وتوافق المشيئة الإلهية.
وفي الديانة المسيحية -تحديداً. تتلخص ﻋﻘﻴﺪﺓ ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ في الآتي :
" ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻷﺯﻟﻲ، ﺑﺈﺭﺍﺩﺗﻪ ﺍﻟﺤﺮﺓ، ﺳﺒﻖ ﻭﻋﻴﻦ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺳﻴﺤﺪﺙ؛ ﻭﻟﻜﻦ ﻫﺬﺍ ﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﺃﺑﺪﺍً ﺃﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﺼﺪﺭ ﺍﻟﺨﻄﻴﺔ؛ ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﺰﻳﻞ ﻣﺴﺌﻮﻟﻴﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻋﻦ ﺇﺧﺘﻴﺎﺭﺍﺗﻪ" .
وعند المسلمين ربطها البعض باصطفاء النبيين ومراحل التبليغ، وما يؤيدها من نصر ونجاة من الأخطار وغيرها، مع الربط الإيماني بينها وبين المشيئة وإرادة الخالق.
وبالنظر لوضعية كوكب الأرض الخجولة، وحجمه الصغير جداً، بالنسبة للكواكب في المجرة وظلامها السرمدي، وشهبها ونيازكها وثقوبها السوداء الشرسة، يسأل الإنسان نفسه عن تلك الحماية المطمئِنة المضروبة حول الأرض، التي تجعله ينام وياكل ويشرب ويتناسل، ويفعل الخير والشر أيضاً، دون أن يهتم بمركز الأرض ومحور دورانها، إن ظل على حاله او مال كل الميل.
وحتى الحاجة لبناء مراكز المراقبة والمراصد الفلكية، لا يجد البعض لها فائدة تذكر، طالما ان تفادي الخطر مستحيل مستحيل، وأن تلك المهمة تتولاها جهة أخرى منذ ملايين السنوات بكفاءة واقتدار.
لا يشترط لحلول عناية الله بمخلوقاته الكثير من العبادات والطاعات أولاً، فهو سبحانه غني عن خلقه جميعهم، طيبهم وخبيثهم.
وللعناية درجات متفاوتة، وتفضيل للبعض على البعض الآخر، تماما كما في المواهب و الأرزاق، فنراها تظهر بجلاء في الأمور البسيطة التي نمر عليها دون توقف، كما نجدها في الخطوب العظيمة التي يخفق لها القلب وتتقطع حيالها الأنفاس.
مثلاً وببساطة شديدة، إذا نهض احدهم فجأة من نوم عميق في ليلة ظلماء، ووضع يده بدقة شديدة على كتلة صغيرة تتحرك بجواره، فحملها ورماها بعيداً عنه، ثم نهض ورأى أنها نملة عملاقة، كادت ان تفتك به (لولا)،
وما بعد لولا هو ما يشرح القليل من وجوه ما نحن بصدده اليوم.
ﻭﺇﺫﺍ ﺍﻟﻌِﻨَﺎﻳﺔ ﻻﺣَﻈَﺘﻚ ﻋُﻴﻮﻧﻬﺎ
(ﻧَﻢ)
ﻓَﺎﻟﺤﻮَﺍﺩﺙ ﻛُﻠﻬُﻦ ﺃﻣَﺎﻥُ
يقول اهل التصوف والعلوم اللدنية: إن العناية الإلهية هي سعادة مسبقة، واصطفاء ومحبة وتقريب، ظهرت لدى اكابر العلماء ممن تولوا في مؤلفاتهم الخالدة، مشقة تهذيب النفوس، وتدريجها على سلالم السمو، التي ترفع الروح وتخفض الجسد.
وكأن للعناية مغناطيس يجذب من يشاء لحضرة العطاء، فيخرج مكنونه للعيان على هيئة، علوم وفنون وحكم، وتجارب إنسانية نافعة كثيفة الحضور والإلهام.
ولولا مغناطيس العناية لما كانت الدروس والحكم و الأشعار والمؤلفات، التي اخترت نموذجاً لعرضها من سيرة الشيخ الجليل ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ، ﺃﺑﻮ ﺍﻟﻔﻀﻞ ﺗﺎﺝ ﺍﻟﺪﻳﻦ، ﺍﺑﻦ ﻋَﻄَﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺴﻜﻨﺪﺭﻱ.
كان منكراً صريحاً للتصوف دون تعصب ظالم، وبعد ان حضر مجلس العلم الذي يعقده الشيخ المرسي ابو العباس، شهد له بالفتح الرباني ولزم صحبته وتتلمذ على يديه.
فأصبح محبوباً من الناس، وصار له ميعاد يحرص عليه خلق كثير ،وقد كان رجل تألفه النفوس، له ذوق رفيع في مخاطبة القلوب وتطويعها.
يجد المختلف والمتفق معه العبرة والهدى في حديثه،
وقد قال في بعض الحكم المنسوبة إليه والمجموعة في مؤلف بعنوان(الحكم العطائية) :-
(ﺷﺘﺎﻥ ﺑﻴﻦ ﻣﻦ ﻳُﺴﺘﺪَﻝُّ ﺑﻪ ﻭﻳُﺴﺘﺪَﻝُّ ﻋﻠﻴﻪ)
(ﺍﻟﺤﻖ ﻟﻴﺲ ﺑﻤﺤﺠﻮﺏ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺍﻟﻤﺤﺠﻮﺏ ﺃﻧﺖ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ)
(ﺃﺻﻞ ﻛﻞ ﻣﻌﺼﻴﺔ ﻭﻏﻔﻠﺔ ﻭﺷﻬﻮﺓ ﺍﻟﺮﺿﺎ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﻔﺲ)
(ﻻ ﺗﺮﻓﻌﻦ ﺇﻟﻰ ﻏﻴﺮﻩ ﺣﺎﺟﺔ ﻭﻫﻮ ﻣﻮﺭﺩﻫﺎ ﻋﻠﻴﻚ)
(ﺍﻟﻌﺠﺐ ﻛﻞ ﺍﻟﻌﺠﺐ ﻣﻤﻦ ﻳﻬﺮﺏ ﻣﻤﺎ ﻻ ﺍﻧﻔﻜﺎﻙ ﻟﻪ ﻋﻨﻪ)
(ﻻ ﺗﺼﺤﺐ ﻣﻦ ﻻ ﻳﻨﻬﻀﻚ ﺣﺎﻟﻪ، ﻭﻻ ﻳﺪﻟﻚ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﻘﺎﻟﻪ)
(ﺣﺴﻦ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺣﺴﻦ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ)
(ﻣﺎ ﺍﺳﺘُﻮﺩِﻉ ﻓﻲ ﻏﻴﺐ ﺍﻟﺴﺮﺍﺋﺮ، ﻇَﻬَﺮَ ﻓﻲ ﺷﻬﺎﺩﺓ ﺍﻟﻈﻮﺍﻫﺮ)
(ﻻ ﺗﻄﻠﺐ ﻣﻨﻪ ﺃﻥ ﻳﺨﺮِﺟَﻚَ ﻣﻦ ﺣﺎﻟﺔٍ ﻟﻴﺴﺘﻌﻤﻠﻚ ﻓﻴﻤﺎ ﺳﻮﺍﻫﺎ، ﻓﻠﻮ ﺃﺭﺍﺩﻙ ﻻﺳﺘﻌﻤﻠﻚ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺇﺧﺮﺍﺝ)
أجاد وابدع أهل الشروحات ووتفكيك المرادات من هياكل المعاني، في شرح مراميه التي تضمنتها كتبه ومؤلفاته، إلا أن الحكم العطائية تظل من أروع وأبدع والطف ما جادت به عليه فيوضات المدد الرباني وسبق عنايته، ولن يخرج من يتمعن جمال معانيها أبدا دون أن تحدث فيه تغيير، لا تقدر عليه إلا يد العناية ومغناطيسها.
فما أحوج الإنسان في ظل هذا العصر المادي الجاف، لاستشعار العناية في الأنفاس التي تتوالى وتتجدد، وفي تلك الرسائل المستمرة من الله إلى عباده بمختلف الصور، حتى بعد انقطاع الوحي.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى