محمود الورداني - صديقي الكبير يحي الطاهر عبد الله

كنتُ سعيد الحظ جدا، بسبب تعرّفي في شبابي الباكر، بكثير من كتاب جيل ستينيات القرن الماضي ، وأتيح لي أن أعقد صداقات ممتدة وعميقة مع أغلبهم، ويتمتع يحي الطاهر على وجه الخصوص بو ضع متميز بينهم ، بسبب إقامته بيننا، كأحد أفراد الأسرة حوالي عام كامل خلال الفترة من 1968 إلى 1969 في بيتنا في العمرانية، ثم تردد علينا بعد ذلك عندما انتقلنا إلى الهرم .
وخلال الشهر الماضي مرّت ذكرى ميلاده ورحيله في الشهر نفسه ( 30 إبريل 1930 – 9 إبريل 1981 )وهو في ذروة عطائه وتألقه، حتى أن يوسف إدريس كتب فور رحيله العبثي والمأساوي واصفا إياه ب" النجم الذي هوى"، عندما كانت السيارة التي تقلّه في طريقها للواحات في رحلة لجمع التراث الشعبي هناك، ونجا جميع الركاب، بما في ذلك طفلته أسماء، التي كان يحيطها بذراعيه، بينما ارتطمت رأسه بالأرض وظل ينزف حتى فارق الحياة في الطريق المهجور والخالي من أي أمل في إنقاذه..
السطور التالية لاتهدف للكلام عن الإضافة الكبرى التي أضافها للمتن الكتابي العربي وليس المصري فقط، والسحر والألق والغموض والعنف الذي ميّز أعماله القليلة، وأفسح لها مكانا ومكانة في ديوان القص العربي.
أريد أن أحصر كلامى في تقدير يحي الشديد لنفسه ككاتب، ولم يكن ترديده الدائم بعصبية واضحة للجميع: أنا يحي الطاهر عبد الله كاتب قصة قصيرة، لم يكن عبثا، ولم يكن حفظه لقصصه وإصراره على أن يُسمعها للجميع مصادفة أيضا، وربما كان أول كاتب ينجح في أن يُدوّن في بطاقته الشخصية أن وظيفته كاتب قصة، أما عندما توقف لفترة عن الكتابة، سارع بدخول قسم الأمراض النفسية لقصر العيني لعلاجه من تلك الحالة!!
سأحكي حكاية شخصية حدثت لي عندما كان يقيم معنا في العمرانية عام 1968 على الأرجح. خرجنا في أول المساء، وسرنا ( كان يحي يفضّل السير على قدميه مهما طالت المسافة، إلا لو كان معه نقود ليستقل سيارة أجرة، وهو أمر نادر بطبيعة الحال)حتى وصلنا إلى حي إسمه نصر الدين، حيث التقى على مقهى المعلم حمحم بعدد من أصدقائه العاملين في شركة ماتوسيان للسجائر، وكانوا يرتدون ملابس الدفاع المدني ويجلسون أمام شاطئ ترعة الزمر يدخنون الشيشة!!.
بعد ذلك اصطحبني إلى مسكن غامض ربما كان عشة مبنية على جانب الطريق. رحب صاحبها بيحي، وعمل لنا شايا، وأشعل فحما وجهّز الجوزة والمعسل وماشابه. . أمضى يحي وقتا لابأس به يتحدث حديثه المفكك الذي كان يتميز به، ولايمكن للواحد أن يفهم منه شيئا على الرغم من أنه يشدك ولاتستطيع أن تتوقف عن متابعته..
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا عندما خرجنا . ىسألت يحي عن ذلك الرجل الذي غادرنا عشته لتوّنا، فأجابني ببساطة أنه مخبر مكلّف بمتابعته، وبدلا من أن يكتب المخبر في تقاريره كلاما ضارا، يمرّ هو عليه بين الحين والأخر ويمليه تقريبا مايرغب في أن يكتبه عنه!!
عاودنا السير في الشارع المظلم الخالي في اتجاه بيتنا على شاطئ ترعة الزمر، وقبل أن نصل اعترضنا مخبران، وتعاملا معنا بصلف واضح. طلبا هويتينا، ولم يكن أي منا يمتلك هوية. دار حوار قصير، وبدا أننا في الطريق إلى إلقاء القبض علينا، لكن يحي فاجأهما. عندما أخرج من جيب سرواله الخلفي ورقتين مطويتين . فردهما وأشار على صورته. كانت مجلة الإذاعة والتليفزيون قد نشرت له ثلاث أقاصيص على صفحتين متقابلتين تزينهما صورته. وعلى الفور انقلب الموقف، وبدأ المخبران يشكوان سؤ الحال، وانتهى الأمر بأن يطلبا منه أن يكتب في الصحف عن متاعبهما ومايعانيان منه وماشابه!!
وهكذا أنقذتنا قصص يحي الطاهر عبد الله..




أعلى