د. محمد عبدالله القواسمة - الرواية وفكرة الخلود

سعى الإنسان منذ وجوده على الأرض إلى أن يبقى على قيد الحياة، فهو يرفض فكرة الموت، ويعتقد في دخيلة نفسه بأنه خالد لا يموت، ولهذا حاول أن يجد عقارًا أو مشروبًا أسماه إكسير الحياة أو الخلود ليبقى أبد الدهر. وقد سيطرت فكرة الخلود على عقله وقلبه، فأقام المعابد والقصور والمسلات والمدرجات لتخليد ذكره، ووضع في قبره أشياءه التي استخدمها في الحياة ليستخدمها عند قيامته من الموت، كما فعل الفراعنة عندما بنوا الأهرامات في مصر.

ولم يكتف الإنسان في تجسيد فكرة الخلود بتلك المظاهر الماديّة بل تعدّاها إلى المظاهر المعنوية كالأساطير والخرافات والحكايات، وكانت الملاحم الشعرية في مقدمة المظاهر التي اختلقها الإنسان للتعبير عن رغبته في حياة أبدية لا موت فيها. والمعروف أن الملحمة هي الأصل الذي تحدّرت منه الرواية الحديثة. من أشهر هذه الملاحم ملحمة " جلجامش" التي تروي قصة الملك جلجامش الذي شد الرحال بعد موت صديقه أنكيدو ليبحث عن عشبة الخلود، وفي النهاية يعود خائبًا، ويدرك أنه ميت لا محالة، وأن تلك العشبة لا يمتلكها إلا الآلهة.

واستمرت فكرة الخلود مسيطرة على عقول الناس حتى تبلورت في أعمال أدبية كثيرة؛ فمن الطبيعي، كما يرى فرويد، أن نواجه الموت بصياغة الأدب من رواية ومسرحية، ونأتي فيهما بشخصيات ترغب في الحياة، ولا تخاف الموت؛ ففي الأدب وبخاصة في الرواية نعيش مختلف التجارب، ومنها تجربة الموت، ونخرج منها أحياء.

من أولى الروايات التي عالجت موضوع الخلود ونقيضه الموت رواية الأديب الأيرلندي برام ستوكر "دراكولا" (1897م). وقد ألهمت الرواية كثيرًا من الفنانين والأدباء ليتناولوا عالمها، عالم مصاصي الدماء الذي استلهمه ستوكر من الفلكلور السلافي في القرن الحادي عشر. وفي رواية ستوكر يعيش الكونت دراكولا مئات السنين على دماء ضحاياه، ومن حوله جماعته من مصاصي الدماء الذين كانوا يحوّلون النسوة الجميلات إلى كائنات ملعونة تعيش بدورها على الدماء التي تضمن لهن سر البقاء. وهكذا تشترك الأعمال التي تناولت هذا العالم بأن مصاصي الدماء لا يموتون.


ومن الروايات التي عالجت فكرة الخلود رواية "كل البشر فانون" للفيلسوفة والروائية الفرنسية سيمون دي بوفوار، فمع أن الكونت بطل الرواية ينجح في الوصول إلى الخلود إلا أنه يصاب باليأس والضجر؛ إذ يجد أن الخلود يقتل الحب والذاكرة ويفسد العيش. ومثلها رواية الأديب الفرنسي ميشال ويلبك " شبه الجزيرة" التي تفضح ما يطلق عليه "الخلود الاصطناعي" الذي ينتج عن عملية الاستنساخ التي تُمنح فيها الحياة لأشخاص غير جديرين بها؛ في طموح للخلود بطريقة بشعة وغير إنسانية.

ويأتي الروائي الفرنسي الساخر ميلان كونديرا ليعالج فكرة الخلود في رواية تحمل العنوان" الخلود" (1990)، وهو يعد الخلود نوعًا من السراب الذي لا يتحقق. بخلاف ما رأته الرقابة في روسيا عندما اعترضت على عنوان رواية نيقولاي غوغول" الأنفس الميتة" واتهمت مؤلفها بأنه يحارب الخلود؛ لأن النفوس حسب رؤيتها خالدة لا تموت.

ومن الروايات التي تناولت فكرة الخلود ومواجهة الموت روايات الروائي المصري أشرف الخمايسي، وهي: "الصنم"( 1999) "منافي الرب" (2013)، "انحراف حاد"(2014). ففي هذه الروايات يبحث الخمايسي عن الخلود، ويسلك أبطال رواياته في سبيل ذلك طرقًا صعبة، ونجده في روايتي: "الصنم" و"منافي الرب " يترك البطل يبحث عن الخلود وحيدًا كما فعل جلجامش، أما في رواية "انحراف حاد" فيجعل شخصياتها جميعًا تغرق في البحث.

من الملاحظ على الروايات التي تناولت الخلود أنها أظهرته صعب المنال، وليس حقيقيًا كالموت، وكانت معظم شخوصها محطمة حزينة، ومن اختبر الخلود منهم لم يجدوا فيه المكان الآمن؛ وفقدوا الإحساس بالمستقبل؛ لأنهم حاولوا الخروج عن نواميس الحياة. ومع ذلك تظل فكرة الخلود تداعب الفكر الإنساني، وموضوعًا من الموضوعات التي يعالجها الأدب وبخاصة الرواية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى