عبدالله البقالي - من ذاكرة "مدرسة غفساي المركزية" وأول مصافخة مع الفكر الاشتراكي.

الأستاذ محمد الأخضري

مر بمدرسة غفساي المركزية في فترة الستينيات مجموعة من الأساتذة المتميزين تركوا بصماتهم بشكل ما. تلك البصمات التي تراوحت ما بين الانطباع المستمد من مظهرهم الخارجي المتسم بالاناقة ، و أستحضر هنا كمثال الأستاذ " الصاب" أو الأستاذ " العربي المسناوي" أو من خلال أسلوب عملهم كالأستاذ" عبدالله الراشدي" و الأستاذ الكتامي و سي عبود الذين لم أتشرف بالتتلمذ على أياديهم. و في هذه الحلقة أستحضر أستاذا صنع تميزا على مستويات شتى. و ظل حضوره متواصلا حتى بعد انقضاء تلك الفترة بوقت طويل.
الأستاذ محمد الأخضري
تركيبة عجيبة غريبة قد حوت كل المتناقضات. و لإن كان التناقض يعتبر مشكلا أو عائقا يحول دون وضوح الرؤية، فمثال الرجل يبرز و بمنتهى الوضوح أن التناقض هو أيضا دليل حياة.
الأستاذ الأخضري هو من خريجي جامع القرويين. يحفظ القرآن عن ظهر قلب. وملم بكل الشروح و التفاسير. وهو ضليع في اللغة العربية و له مرفقات متصلة بقواعدها و طرائفها. إلا أنه مثل مع كل هذا نموذجا مختلفا عن كل الخريجين. فهو يدخن.و له جنوح فطري لعشق الحياة و التفاعل مع ما تتيحه من بهجة. وهو منفتح عن قضايا العصر. لكن الأكثر أهمية من كل هذا هو أنه عن طريقه تمت أولى المصافحات الاجيال التي تعاقبت على فصوله مع الفكر الإشتراكي.
الأستاذ الأخضري هو ابن المنطقة. متوقد الذهن. يحسن قراءة خلفيات تلاميذه الاجتماعية. و لأن تلاميذ القسم الخامس عادة ما يكونوا قد بلغوا مرحلة متقدمة من النضج مقارنة بباقي المستويات، فهو في علاقته بهم قد نصب نفسه في موقع المحاور على عكس باقي الأساتذة الذين اصروا على التمسك بموقع الوصي.
لم يكن يرقه مشهد المدير وهو يجلد التلاميذ وسط الساحة نتيجة بلاغ كان يقدمه عادة أعضاء تعاونية المدرسة، و الذي كان يهم ما يعتبر تجاوزات ارتكبها التلاميذ خارج أوقات الدراسة كارتياد المقاهي او لعب الكرة في الطريق.
أذكر أن الأستاذ الأخضري لاحظ مرة أن محفظة أحد التلاميذ كانت منتفخة بشكل مبالغ فيه. و حين فتحها، وجدها ممتلئة بأقساط من خبز المطعم( الكومير) . و فتح تحقيقا اسنتج في نهايته أن هناك تلاميذ يقومون بإنجاز تمارين و فروض منزلية اصالح تلاميذ آخرين، أو يقومون بتسهيل عمليات الغش و النقل في الامتحانات مقابل حصصهم من خبز المطعم.
نظر الأستاذ إلى التلاميذ الذين سلبت منهم حصصهم و احتار في كيفية التعامل معهم. اعتبر في البدء أن حرمانهم من ذلك الخبز كان عقابا كافيا. لكنه تبين له فيما بعد أن المشكل هو أكبر من شكله الظاهر.
شعر الاستاذ الأخضري من خلال النظرات المستفهمة و كأن كلامه بلا معنى. فهو ادان سلوك المدير. و عبره ادان كل من يمارس البطش عوض الحوار. و ربما انتبه الى الدور الذي لم يقم به باعتباره موجها و محفزا للناس من ان احل ان يومنوا بقدرتهم على صنع قدرهم. وربما رأى ان ذلك التقاعس او غياب اي فكرة عن مجتمع بديل هو سبب ان الناس لا يفكرون في صنع حياة بمعطيات مختلفة.. و لان معظم الناس لم يسبق لهم ان سافروا ليروا نماذج اخرى للحياة. و من ثم غامر بنصب ذلك الجسر وهو يقدم مجتمعات يعيش مواطنوها بكيفية تحفظ كرامتهم. و بذلك سمع التلاميذ لأول مرة عن المجتمع الاشتراكي الذي ينعدم فيه التمايز بين البشر.
ربما أحس الأستاذ الأخضري أنه تورط و كان لزاما أن ينفي عليه صفة الهبل. و لذلك وجد نفسه مجبرا على التصريح ان
ما قاله ليس خيالا. بل هو حقيقة تعيشها مجتمعات كثيرة كانت افقر من مجتمعنا. لكنها رفضت مجتمع الاستعباد. و لكي يجسد الفكرة، عمل على بناء مقارنة بين كناس الشارع و الطبيب. و كيف انهما يحصلان على نفس الاجر. و ذلك لان الاول يهتم بنظافة المجتمع، و الثاني بصحته. و لهذا فادوارهما متكاملة، و لذلك افتقد التميز الى مبرراته.
انفحر التلاميذ ضاحكين و شعر الأستاذ أن موقغه ازداد حرجا. و الحقيقة أنه كان يصعب تصديق الوضع. كناس الشارع بهيأته الرثة و رائحة العفونة التي تصدر منه، يتساوى مع الطبيب الذي لم يشاهد يوما يمشي على قدميه. و دائما يتحرك بسيارته السوداء الفارهة وهو يضع في فمه غليونا يشبه شكل لحيته. معقول؟
أستعيد أني كنت أكثر التلاميذ حماسا و تفاعلا بخصوص هذا الأمر. حتى أني ركضت بكل قواي إلى البيت بعد الحصة لأبلغ العالم هذا الجديد الذي امتلكني. و حين وصلت البيت. حكيت بحماس لامي كل ما تفوه به المدرس. لكنها صدمتني حين اوضحت لي بان هذا المدرس يجب ان يهرول الى "سيدي علي بوسرغين" او يهرول الى " برشيد" اعله يتعافى مما هو فيه.
لا ادري كيف تصرف باقي التلاميذ مع هذه الحكاية. لكني لاول مرة شعرت بشرخ و تصدع يتنامى بيني و بين امي.
و انتابني اليفين بان الحياة محكومة بقوانين خفية لا يراها احد. و النس بمقتضى تلك القوانين يعيشون اقدار فرضت عليهم.
لم أكن وفيا في نقل رد فعل امي اتجاه طرحات الأستاذ الأخضري. و أحسب أنه شعر بانحصار حماسي. لكنه حين استوفى الاستماع الجميع، قال: آباؤكم و أمهاتكم ينظرون للحاضر بعيون الماضي. أما أنتم فعليكم أن تنظروا للحاضر بعيون المستقبل. و حينها ستدركون أنكم لم تعوا سوى جانبا بسيطا من حرمان شامل.
بدت العبارات مرة أخرى مغرقة في الإبهام. و حاولت تجسيدها بطريقتي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
هؤلاء علمونا
المشاهدات
1,064
آخر تحديث
أعلى