أمجد محمد سعيد - في ذكرى وفاته : الشاعر والإذاعي المصري فاروق شوشه عاشق اللغة العربية وعاشق العراق

يعتبر الشاعر واللغوي والإذاعي المصري الكبير فاروق شوشه رحمه الله واحدا من أبرز الشعراء والمثقفين والإعلاميين العرب الذين أكدوا وجودهم
المستمر , وحضورهم الفاعل , وتواجدهم المضيء على الساحة الثقافية المصرية والعربية , منذ أكثر من ستة عقود . وقد يكون معروفا من كل تلك الأجيال التي واكبت نشاطه الإعلامي الإذاعي قبل غيره من النشاطات الأخرى , وقبل أن تتحد اهتماماته الثقافية العديدة في مشهد متعدد الإبداعات فيه الكثير من الخصوصية والتفرد .
ربما تكون مجموعة الشاعر واللغوي والإذاعي الكبير فاروق شوشة الشعرية ( ربيع خريف العمر) الصادرة عام 2008 من أبرز مجموعاته التي تعبر عن ذلك الحزن الشفيف الذي يغمر كلمات الشاعر وهو يرى الأيام تمضي , والسنوات تمر, والعمر يسرع الخطى , ولكنه بقدرته الموضوعية على تفهم الحياة , وخبرته الشديدة الإتساع يدرك أقانيم الحياة , ومسيرة الأنسان لتعمير الأرض , وبإيمان رحب يظل ماسكا صولجان التفاؤل , ومطلِقا أغاني الحروف , وبهجة الإبداع , فها هو في قصيدة ( ظلال لوجه قديم ) يقول :
( .. أحدق في زوايا الأمس / أبحث عن بداية ذلك الخيط الذي / يلتف حولي الآن / حين أشده آناً / وأرخيهِ, / فيمضي العمرْ / تسوخ خطايَ أحيانا / وتقفز حين تعتدل الطريقُ / وتصبح الأنوار كاشفة ً/ وتنفسح السماءُ , / فأنجم الليل الوديع بشائر الغبطة / ووجه الأفق ممتدٌ ,/ ومتسع بحجم الحلم / وأشرعة تحلق بي / وتحملني على موج رخيٍّ / هادئ النبرةْ / هنالك حيث كان الأمس طفلا / لم يجِّرب بعد / ولا يدري عن الدنيا سوى ما تحمل البهجة ).
ونحن دائما إذ نجدد احتفالنا بفاروق شوشه نؤكد اعتزازنا بما قدمه لشعبه وأمته العربية وللشعر واللغة العربية وللإبداع الإعلامي عموما , ولابد لنا أن نستذكر أبرز منجزاته لا سيما تلك المؤلفات والدواوين الكثيرة التي أبدعها في مختلف مجالات المعرفة , ونستذكر تلك الجوائز وشهادات التقدير التي حصل عليها من مختلف الجهات مصرية وعربية وإسلامية ودولية . وتلك المشاركات والندوات والمهرجانات الكثيرة التي شارك فيها سواء داخل جمهورية مصر العربية أو على الساحة العربية والعالمية .
أعرف الشاعر والإذاعي الكبير وعاشق اللغة العربية فاروق شوشه منذ الستينات , وأعرف هنا بمعنى أسمع به وبنشاطه وبشعره , حينها كنت أستمع إلى برنامجه الجميل ( لغتنا الجميلة ) الذي كان يذاع من إذاعة القاهرة , عبر الراديو ذي العين السحرية الخضراء , وأنا في مدينة الموصل بالعراق . وكان يقدم أجمل مختاراته من الشعر العربي القديم , ويقرؤها بصوته الشجي المعبر , وأدائه الساحر , وبلغته المضبوطة الراقية , حتى عملت في القاهرة عاصمة مصر العربية , مديرا للمركز الثقافي العراقي أعوام 89/90/1991 , فازددت قربا من حيث أستطيع معرفة ومتابعة نشاطات فاروق شوشة المختلفة .
أما بعد العام 2005 حيث استقر بي المقام في القاهرة , فقد ازدادت معرفتي بالشاعر معرفة وثيقة , وظللت ألتقيه عن كثب في أمسيات لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة , وفي أمسيات بيت الشعر المصري في منطقة الأزهر , وفي مهرجانات الشعر العربي بالقاهرة , ومرة أو مرتين في غرفته بمجمع اللغة العربية , حيث كان يشغل بجدارة منصب الأمين العام للمجمع , وفي العديد من النشاطات الثقافية العامة التي كان فاروق شوشه أحد وجوهها البارزين .
وفاروق شوشه كما عرفته من جيل المثقفين المصريين والعرب الذين يتعاملون مع الإبداع بحرفية عالية , وتخصص دقيق , وباهتمام شديد لا مجال فيه للخطأ أو للتهاون , وبهدوء مسكون بالثقة التي لا تستعجل الإنجاز إلا بعد التأكد من أنه على أفضل ما يكون قبل إخراجه إلى الناس , وحتى حينما كان يشارك ويتحدث في الجلسات والندوات والأمسيات الثقافية والشعرية , كان حديثه حديث الواثق من رصيده الثقافي والأدبي والعلمي , ومن قدرته التي تعمقت عبر السنين والأيام , فكان يعطي المشاركة حقها من إيصال المعلومة الصحيحة , أو تفسير ما غمض منها , أو طرح الجديد من التحليل الذي يبادر به حين يكون ذلك ضروريا .
وأزعم أن فاروق شوشه ظل متألقا في مشهد منوع من الأبعاد الثقافية اللغوية , والشعرية , والإذاعية , في حلقة أبداعية منصهرة بعضها ببعض , زائدا ما يتعلق بهذه الأطر من تنويعات طبيعية ذات صلة بالمشهد الرئيسي العام .
وبقدر ما اهتم فاروق شوشه بانتمائه الأصيل لمصريته الإبداعية , في مختلف شئون الثقافة والفكر والفن والإبداع والشعر , فأنه كان مرتبطا ارتباطا جذريا بهويته القومية العربية , وهويته الإسلامية , وحين نتابع ما كان ينشره فاروق شوشه يؤكد ذلك البعد العربي القومي في كتاباته كلها .
وطالما اهتم شوشة باللغة العربية وشعرها وآدابها وتاريخها وعلمائها , وكل ما يتعلق بشئونها على المستويات الشخصية والرسمية , وها هو يدعو إلى الإهتمام بإبراز جماليات اللغة العربية التي عشقها إهتماما علميا واعيا :
( البدء في الوعي المعاصر بجمال العربية‏,‏ أن ننطلق من مواضعات علم جديد هو علم الأسلوب‏,‏ يفيد من نظرية النظم عند عبد القاهر ـ التي طبقها على إعجاز القرآن ـ وهي النظرية التي تحلق بجناح الصحة أو الصواب الذي هو خلاصة علوم اللغة وحسن تركيب الكلام وجناح الجمال الذي هو خلاصة علوم البلاغة‏.‏ سرعان ما يتجاوز علم الأسلوب هذا الأفق‏,‏ باحثا في سياق الكلام كله وليس في جزئية من جزئياته‏,‏ متناولا هندسة تركيب الكلام وتنامي صيغ التعبير فيه وتآزرها‏,‏ وتكامل الفكرة مع ثوبها اللغوي وصولا إلى معنى الإبلاغ الجميل أو إنتاج الدلالة المدهشة‏.‏الطريف أن التأمل السريع لجدلية العلاقة بين الجمال والهوية‏,‏ يكشف عن الجذور البعيدة في مسيرة الإبداع العربي منذ كان زهير بن أبي سلمي يهتف بقوله‏:‏
وكائن ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف‏,‏ ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
لابد لي في هذه الإطلالة الحميمة على حياة وجهود ومنجزات الشاعر فاروق شوشة أن أعرج على تلك الجهود العميقة التي ظل فاروق شوشة يبذلها دعما للثقافة والمثقفين العراقيين , إذ طالما اهتم بالشعر والأدب العراقي من خلال موقعة في الإذاعة المصرية والمجلس الأعلى للثقافة ومجمع اللغة العربية وكانت المشاركة العراقية واضحة في أغلب النشاط الثقافي المصري ,
ولأن فاروق شوشه علم كبير من أعلام الشعر واللغة العربية والإعلام الإذاعي , فأن حديثي عنه سيتركز على بعض علاقته المتميزة بالعراق بلدا وثقافة وشعرا , تاريخا وحاضرا ومستقبلا , وحين يتحدث فاروق شوشه فإنه يستفيد من المرجعيات الثقافية المختلفة فهو حين يذكر العراق نراه يختار مقولات كبار المثقفين العرب والأجانب , فهو مثلا يستشهد بقول الدكتور سليمان العسكري ـ رئيس تحرير مجلة العربي الكويتية , وكتاب العربي‏ السابق في مقدمة كتابه ( كلمات من طمي الفرات ) إذ يقول :
( إن ارض السواد هي أحد الأسماء التي يسمى بها العراق‏,‏ مثل‏:‏ بلاد الرافدين أو مابين النهرين‏.‏ وهو الاسم الذي أختاره الأديب المعروف عبد الرحمن منيف اسما لرواية من ثلاثة أجزاء يعرض فيها جانبا من تاريخ هذا البلد الضارب بجذوره في التاريخ‏.‏ ذلك السواد من تلك الطبقات من الطمي التي راكمتها مياه دجلة والفرات على وجه هذا البلد منذ آلاف السنين‏,‏ ومن هذا الطمي علت هامات النخيل‏,‏ وارتفعت حدائق بابل طابقا بعد آخر‏,‏ في رغبة مستحيلة للوصول إلى السحب‏.‏ وعلى ألواح الطين نقش حمورابي أول شريعة تنظم ـ لا العلاقة بين البشر الذين يسكنون على حافة النهر فقط‏,‏ ولكن بينهم وبين الحيوانات التي يتعاملون معها أيضا‏ ) .
وها هو نيابة عن المثقفين العرب يقدم الشكر للدكتور جابر عصفور , وللمجلس الأعلى للثقافة , وللناقد الدكتور عبده بدوي الذين أتاحوا الفرصة للقراء للاطلاع الأعمال الكاملة للشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة‏ .‏ ويقول : لولاهم ما كان من الميسور قراءة نازك قراءة عميقة هادئة خاصة في أعمالها النثرية التي تكشف عن حس فني عال , وبصيرة نقدية صائبة وقدرة فذة على التذوق والتأمل والتحليل واستنباط القواعد والضوابط والأصول من خلال رؤية شاملة لمسار القصيدة العربية وإبداع الشعراء القدامى والمحدثين خاصة في تناولها المرهف الرصين للشاعر الملاح التائه علي محمود طه‏.‏
وحول علاقته بالشاعر الراحل بدر شاكر السياب يقول فاروق شوشة :
( كنا ثلاثة : الشاعر الكويتي علي السبتي والشاعر والناقد والمناضل الفلسطيني ناجي علوش وأنا‏,‏ نقف في مطار الكويت في السادس من يوليو عام‏1964,‏ ننتظر وصول الطائرة المقلة للشاعر العراقي الذي طبقت شهرته آفاق العالم العربي‏:‏ بدر شاكر السياب‏.‏ كان بدر يجتاز المرحلة الأخيرة من مرضه العضال الذي داهمه قبل هذا التاريخ بعدة سنوات‏,‏ واضطر بسببه إلى التنقل المستمر طلبا للعلاج في مستشفيات بيروت وبغداد وباريس ولندن‏,‏ وإحساسه الضاغط بالموت يطارده ويلاحقه‏,‏ وبنات الجن تخايله في يقظته ومنامه‏,‏ وهواجسه تعصف به وتفت من عافيته ومقاومته‏.‏
وصلت الطائرة في حوالي التاسعة صباحا‏,‏ وحين صعدنا لاستقباله والترحيب به‏,‏ كان لا يزال جالسا لأنه لم يكن يستطيع الوقوف أو المشي‏,‏ وكان كما وصفه ناجي علوش في المدخل الذي كتبه لمقدمته النقدية والشخصية عنه في مستهل ديوانه الذي يضم أعماله ـ شبه الكاملة ـ كان يبتسم وكان يبدو مرحا‏,‏ ساعدناه على الوصول إلى الأرض حملا‏ :‏ وجه أسمر معروق‏,‏ أنف طويل حاد‏,‏ عينان براقتان‏,‏ جسم هزيل تلفه دشداشة حريرية‏,‏ وسترة ميالة إلى الخضرة الزاهية‏.‏ أذكر ـ ونحن نحمله من الطائرة ـ أن كان دوري حمله من ناحية رأسه‏,‏ فهتف بي بصوت واهن‏ :‏ حاسب على رأسي يا فاروق‏.‏ لم يعد في جسمي سليم غيره‏,‏ أما بقية جسمي فيفتك بها الشلل‏.‏
في المستشفي الأميري بالكويت عاش السياب شهورا من المعاناة وضراوة مواجهة الموت‏,‏ مع إحساسه بأن الحياة تتسرب من بين أصابعه‏,‏ والنهاية المحتومة تترصده‏.‏ كنا مجموعة من الأدباء والشعراء ـ لا نكاد نغادره‏,‏ ونتردد عليه صباحا ومساء‏,‏ ونستمع إلى قصائده الأخيرة التي يحاول بها الانتصار على عجزه بينما هي تكشف عن سيطرة فكرة الموت تماما عليه يمليها ـ لأنه لا يستطيع الكتابة ـ على ممرضاته‏,‏ أو بعض زائريه‏,‏ بعد أن يبقيها في رأسه محفوظة حتى مطلع الصباح‏.‏ ومن خلال الأحاديث اليومية ـ التي لم يفقد خلالها قدرته الفذة على الكلام والحوار .
و يقول شوشةعن زكي مبارك ونوادره في كتابه البديع ليلي المريضة في العراق :
إنها تذكرنا بزمان جميل‏,‏ كانت فيه الأواصر والروابط الثقافية بين القاهرة وبغداد تجسيدا للحلم العربي‏,‏ ومياها تتدفق بين النيل ودجلة والفرات‏,‏ وكان الأساتذة المصريون الكبار من أمثال أحمد حسن الزيات وأحمد أمين وزكي مبارك وبدوي طبانة يحاضرون في الجامعة العراقية وفي دار المعلمين العالية ـ التي درس فيها السياب ونازك والبياتي والحيدري ـ وفي المنتديات الأدبية والثقافية‏,‏ ويحملون في أعطافهم ـ وهم عائدون إلى مصر ـ بعض عطر الكرخ والرصافة‏,‏ وبعض السحر من بابل‏,‏ والنفحات الروحية من النجف وكربلاء‏,‏ وأقباسا من إبداع المبدعين العراقيين الكبار في الأدب والفن والحياة وبخاصة في الشعر والموسيقي والغناء‏.‏
ثم يعود ليتحدث عن الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري فيقول :
( الهدير الشعري‏,‏ المتدفق‏,‏ يجسد فن الجواهري‏,‏ وقدرته الفذة علي التأثير باللوحة الدامية والمشهد الفاجع , والنبض الوطني والقومي الجياش‏ .‏ فلا عجب إذن أن نجد شعراء الحركة الشعرية الجديدة‏ ,‏ شعراء الحداثة‏,‏ وهم يتأملون شعره , ويتتلمذون عليه‏,‏ ويفيضون في إكباره , والإعراب عن حجم تأثيره‏.‏ يصفه محمود درويش بأنه أهم شاعر كلاسيكي في القرن العشرين‏,‏ ويقول‏ :‏ الجواهري حاضر في كل شاعر عاصره , وفيمن سيأتي بعده‏.‏ قصيدة الجواهري تدل على أن الشعر العربي الكلاسيكي‏,‏ يثابر في كل العصور بالنضارة ذاتها‏,‏ وبهاجس البحث الدائم عن جماليات اللغة العربية ‏.‏ أعتبره أحد أنهار العراق الثلاثة‏,‏ فهناك دجلة والفرات والجواهري‏ ,‏ وأنا فخور ـ على المستوي الشخصي ـ بأني كنت في شبابي أحفظ شعره‏.‏
ولعلنا في هذه المناسبة نستذكر هنا قصيدة بغداد للشاعر فاروق شوشة والتي تعد واحدة من أجمل القصائد التي قيلت في عاصمة الرشيد , بعد الاحتلال الامريكي الغاشم , ومن أكثرها قدرة على تصوير معاناة العراق وشعبه , ومن أشدها إحساسا بالحزن والمرارة والألم , وهي تستحق دراسة منفردة مستقلة لما فيها من أبعاد فنية وفكرية وموضوعية , وهي أيضا زاخرة بالإشارة والإشادة بالمعالم التاريخية والحضارية العراقية , إضافة إلى الشواخص الحاضرة من مدنية بغداد وأبنائها , يقول الشاعر في مطلعها :
كيف الرقاد ! وأنت الخوف والخطر
وليل بغداد ليل ماله قمر
ها أنت فى الأسر : جلاد ومطرقة
تهوي عليك وذئب بات ينتظر
وذابحوك كثير ؟ كلهم ظمأ
إلى دماك ؟ كأن قد مسهم سعر
أين المفر؟ وهولاكو الجديد أتى
يهيئون له أرضا فينتشر
أنى التفت فثم الموت ؟ تعزفه
كفان بينهما التاريخ ينشطر

أمجد محمد سعيد



- ( نشر المقال في مجلة الفكر المعاصر المصرية في العدد الخاص بالاحتفاء بالشاعر قبل سنوات , وقد عدلت فيه بعض الشئ بعد وفاته )





أعلى