أمجد محمد سعيد - الشاعر السوداني يوسف الحبوب من أبوروف إلى رأس الخليج العربي

تقديم لمجموعة الشاعر السوداني يوسف الحبوب ( محاولة لتسلق ظل الوردة ) الصادرة في القاهرة مؤخرا عن دار صفصافة .


كأنما القدر جمع الشاعر السوداني يوسف الحبوب واخوته في القاهرة، ليلتقوا على موعد عجيب، بعد فراق طويل، وليودعوا أباهم الرائع رحمه الله إلى مثواه الأخير، بعد جراحة لم تمهله طويلا. كان كل واحد منهم في مكان، فيوسف في عُمان، والبقية في استراليا وأوربا وأمريكا، وبقي واحد منهم فقط في أمدرمان مع
الوالد والوالدة، قريبا من شواطئ أبوروف. كان والده من أطيب الناس الذين عرفتهم، نسمة صباحية رقيقة، وابتسامة دائمة، وتقوى وعفة وهدوء، كنت أزوره دائما واستمتع بحديثه الجميل، ولم أره إلاوكان قادما من الجامع، أو مغادرا إليه.عرفت يوسف باكراً جداً، في قاعات الشعر والادب والصداقة والشباب، والقراءة والاستماع والسفروالليالي الطويلة التي لا ننام فيها، في بغداد والخرطوم، والموصل والبصرة، والقاهرة وعمّان. ظل يوسف شاعرا، يتعامل مع الشعر تعاملا آنيا، وقد أقول مزاجيا، ينتظر القصيدة إلى أن تأتيه، وقد تأتيه، ولا تجده في البيت، وقد تأتيه وتجده، ولكنها تجده مثلا، قد أضاع قلمه في مكان ما ونسيه البارحة، فترجع الى حيث كانت فكرة عائمة على سطح الذاكرة، وهذا التعامل مع القصيدة هو الذي جعل يوسف بعيداً عن النشر، زاهداً، راضياً أن يكون في ظل شجرة الشعر، وليس بعيداً عنها، ويوسف يكتب قصيدته بانفتاح شديد على الحداثة وقصيدة النثر، منذ زمن طويل قبل أن يشتد ساعد قصيدة النثر هذه في الآونة الأخيرة، وهي أيضا قصيرة مكثفة في غالب الأحيان، إحالاتها غامضة شيئا ما، ولغتها تلعب بالظلال لغة النشوان الساهي.
كنت أقف في محطة البنزين في حي العمارات بالخرطوم، كان الوقت صيفا والحرارة تشتعل بين الأسفلت والتراب، منتظراً دوري في تعبئة سيارتي، واذا بعربة فلكس واكن قديمة، واقفة عن شمالي، وأحدهم يعالج في أسلاكها، وهو بجلابيته البيضاء التي تلطخت بالدهان هنا وهناك، وإذا بهذا الواحد هو الشاعر السوداني يوسف الحبوب، تعانقنا طويلاً، وتواعدنا أن نلتقي، وظللنا نلتقي إلى أن فرقنا الزمان. ظهر فيما بعد أن بين بيتي وبيت يوسف مسافة عدة مئات من الأمتار، ظللت قريبا من يوسف الحبوب، ولم يمر أسبوع أو أسبوعان إلا، وأراه، وكان عليلاً دوماً، وله صداقة حميمة مع الكنين، إذ طالما دهمته الملاريا على حين غفلة، فتطرحه ارضاً اسبوعاً او أسبوعين.
لا أدري لماذا يتمكن مني انطباع عميق، أن يوسف ياخذ من كل شيئ بطرف، في الشعر والمحاماة والسياسة والسفر، ولكن فيه صفة لا تعوض هي حبه للحياة، وانسياقه وراء البهجة البريئة، لا يسأل عن النتائج ويدعها للايام تفعل ما تشاء، يحتاج المال ولا يحبه كثيراً، وقد لا يحتفظ به مدة طويلة.
ونحن من الاصدقاء القليلين الذين يتشاتمون فيما بينهم، ما أن نلتقي حتي يشتمني واشتمه، بعد القبلات طبعا، وما أجمل الشتيمة من فم صديق! لا ادري هل هي عادة عربية قديمة، ونحن أحيانا في العراق حينما نعجب بأحد، ربما شتمناه اعجابا!.
بين حين وآخر ياتيني صوته الصارخ بمودة من مسقط في عمان، محملاً بحرارة رأس الخليج العربي، ونداوة صباحاتها ومساءاتها.
مرة في بيتي في الخرطوم ضحكت طويلاً، حين قال لابنه الصغير كمال، وهو لمّا يتجاوز الزحف إلى الحركة: بالغتَ يا كمال، وكان قد أغرق بنطال أبيه بماء الطفولة! ويوم امس قلت له أين كمال، قال: ذهب الى الدراسة في استراليا عند عمه حفظه الله! ياه، بالغتَ يا يوسف، كم كبرنا وشاخت شرايننا، وصرنا ننام واقفين.
ولي عند يوسف أشياء كثيرة، وله عندي أشياء كثيرة ايضا، يفصل بيننا الآن الوقت، والجغرافيا، وماء عذب، وآخر مالح، وشعر مكتوب، وشعر غير مكتوب، وصدفة أخرى قد نلتقي فيها على قارعة الحياة، وقد لا نلتقي.!
اضافة :
والتقينا ثانية على المحبة والشعر والسفر




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى