د. محمد عبدالله القواسمة - الشاعر والاستئناس بالذئب

من أشد الأحاسيس المؤلمة للإنسان، وخاصة إذا كان شاعرًا إحساسه بالغربة، فعندما يحس بأنّ لا قيمة له، ولا وزن، مع أنه على مستوى عال من المعرفة والأخلاق، ومتعاون مع الآخرين بتسامح ومحبة يلجأ إلى الهروب من مجتمعه القاسي إلى مجتمع آخر لا يعرف الكره، ولا الحقد، ولا الغدر، مجتمع الضباع والذئاب والثعالب والأسود.
يواجهنا في العصر الجاهلي شعراء الصعاليك الذين نبذوا قبائلهم، ليتعايشوا مع حيوانات الصحراء، ويبرز من بينهم الشنفرى، الذي يعلن بأنه استدبل قومه بجماعة الوحوش: الذئب، والنمر، والضبع، لأنها حيوانات لا تخذله، ولا تفضح سره، يقول:
ولي دونكم أهلون: سِيد عَمَلَّسٌ وأرْقَطُ زُهلولٌ وَعَرْفاءُ جيْألُ
هم الأهل لا مستودع السرِّ ذائع لديهم ولا الجاني بما جرّ يُخذل
لقد وجد الشاعر في خضم إحساسه المر بالغربة، وضجره من ظلم المجتمع ونكرانه لإنسانيته أن الذئب أقرب إليه من الناس، فاستأنس به، وفضل عواءه على الصوت البشري. كما عبر الشاعر الأحيمر السعدي(ت170هـ) عن ذلك:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير
كما أُعجب غيره من الشعراء بشجاعة الذئب المتهورة، وحبه العمل، ومساعدة غيره من الذئاب، وتباهى آخرون بيقظته، وحذره من الأعداء. قال حميد بن ثور الهلالي (ت30ه)ـ
يَنَامُ بِإحْدَى مُقْلَتَيهِ وَيَتَّقِي بِأُخْرَى الأَعَادِي فَهْوَ يَقْظَانُ نَائِمُ.
ومع ما يتصف به الذئب من غدر فإننا نجد شعراء يطمئنون إليه، ويحاورونه كأنه إنسان مثلهم، فهذا الشاعر الفرزدق (ت 38 ه) يدعو الذئب إلى أن يشاركه الطعام ليكون له صديقًا، فيروى أنه صادف في صحراء الكوفة ذئبًا أغبر جائعًا فيعطف عليه، ويدعوه إلى أن يقاسمه الزاد.
وَأَطلَسَ عَسّالٍ وَما كانَ صاحِبًا دَعَوتُ بِناري موهِنًا فَأَتاني
فَلَمّا دَنا قُلتُ اِدنُ دونَكَ إِنَّني وَإِيّاكَ في زادي لَمُشتَرِكانِ
فَبِتُّ أُسَوّي الزادَ بَيني وَبَينَهُ عَلى ضَوءِ نارٍ مَرَّةً وَدُخانِ
فَقُلتُ لَهُ لَمّا تَكَشَّرَ ضاحِكًا وَقائِمُ سَيفي مِن يَدي بِمَكانِ
تَعَشَّ فَإِن واثَقتَني لا تَخونَني نَكُن مِثلَ مَن يا ذِئبُ يَصطَحِبانِ
وقد بلغ الاهتمام بالذئب ومقارنته بالإنسان وتفضيله عليه ليس عند الشعراء الأقدمين فحسب بل عند الشعراء المعاصرين أيضًا، فهذا الشاعر محمود درويش في قصيدته "أنا يوسف يا أبي" يتعالق مع النص القرآني في إظهار الذئب بأنه أكثر حنانًا ورحمة من بني قومه، الذين خذلوه بالتخلى عن نصرته، بل واضطهاده وظلمه، ودفنه مع قضيته، مع أنه لا يستحق ذلك.
أنت سميتني يوسفًا،
وهمو أوقعوني في الجبِّ، واتهموا الذئب
والذئب أرحم من إخوتي..
أبتي! هل جنيت على أحد عندما قلت إنّي:
رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر، رأيتهم لي ساجدين؟
ولم يقتصر إبراز الصفات الإيجابية للذئب، وتقديمه على الإنسان على كثير من المتون الشعرية فحسب، بل تعدى ذلك إلى جعله علامة أساسية في عناوين بعض الأعمال الشعرية على اختلاف ما ترمز إليه؛ ففي الشعر الأردني، على سبيل المثال، نقرأ عناوين الدواوين والمجموعات الشعرية: "ضجر الذئب" و"خط الهزلاج" ( الهزلاج: الذئب الصغير) ليوسف أبو لوز، و"ذئب الخطيئة" لعبدالله رضوان، و"ذئب الأربعين" ليوسف عبد العزيز، و"ذئب المضارع" لنضال برقان.
في النهاية يمكن القول: إن الإنسان سواء أكان شاعرًا أم إنسانًا عاديًّا لا يمكن أن يلجأ إلى الذئب، ويتغنى بانتمائه ووفائه لأفراد جنسه، ويمتدح حتى أذاه وغدره لو أنه يعيش في مجتمع تتحقق فيه العدالة والمساواة، وتسود بين أعضائه الرحمة والتسامح، والمحبة والتعاون. مجتمع يعترف بقيمة أفراده، والإنسان فيه لا يضيق صدره بأخيه الإنسان، فأي بلاد تتسع لمن فيها، ولكن المشكلة تكمن في إنسانها. يقول عمرو بن الأهتم المنقري( ت 164 ه):
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق .

د. محمد عبدالله القواسمة


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى