سعد عبد الرحمن - مطابقة الكلام لمقتضى الحال

أجمع البلاغيون العرب القدماء على أن البلاغة في الكلام هي "مطابقته لمقتضى الحال"، والحال يمكن تعريفها بأنها مجمل الظروف أو الأمور التي تكتنف الكلام وتؤثر فيه فتدعو الإنسان إلى أن يتكلم على وجه معين (مخصوص) بحيث يكون لكلامه خصوصية تزيد عن أصل المراد وهذه الخصوصية هي ما يسمى بـ"مقتضى الحال" والآن يفضل البلاغيون استخدام مصطلح أوسع وأرحب في دلالته على مجمل عناصر الحال هو "السياق"، فالسياق كما يتضمن اللغة كأداة اتصال وتواصل بمختلف خصائصها وقواعدها النحوية والصرفية يتضمن أيضا الحالة النفسية والعقلية لطرفي الحوار والعناصر الثقافية المؤثرة سواء كانت هذه العناصر موروثة كالعادات والتقاليد أو كانت مكتسبة يجمعها تعبير "روح العصر"، فمقتضى الحال إذن هو ذلك الاعتبار المعين الذي يستدعي أن يجري الكلام على سمت مخصوص يناسب الحال، ويستخدم البلاغيون الحال كمرادف في المعنى لـ"المقام"، وتعد مطابقة الكلام لمقتضى الحال حجر الزاوية في "علم المعاني" وهو أحد فروع علم البلاغة الثلاثة بل أهمها لذلك قدموه على أخويه (البيان والبديع)، وقد أخذ البلاغيون فكرة أن يكون لكل حال من الأحوال ما يناسبها من المقال من سيطرة الرغبة في التكسب بالشعر على أذهان طائفة من الشعراء لم تهيئهم طبيعتهم للعمل الكاسب فأخلدوا إلى التبطل وعاشوا عالة على غيرهم من ذوي الثروة والسعة وعرفت تلك الظاهرة لأول مرة في العصر الجاهلي، واشتهر باستخدام الشعر للتكسب والاستجداء في ذلك العصر شعراء من أمثال النابغة الذبياني والأعشى والحطيئة، وهؤلاء الشعراء كانوا حريصين على استخدام الكلام المناسب في مخاطبة ممدوحيهم ممن يطلبون نوالهم ويرجون جداهم وجدواهم* فبقدر ما يكون الخطاب مناسبًا يكون النجاح في استدرار عطف الممدوحين واستثارة أريحيتهم في البذل والعطاء، وقد أفصح الحطيئة* عن ذلك حين قال:
تحنّن علي هداك المليـــك فإن "لكل مقام مقالا"*
ويتبع تعريف البلاغة بأنها "مطابقة الكلام لمقتضى الحال" في كتب التراث البلاغي تفسير الحال في الغالب على أنها حال المخاطب (السامع) أي الشخص الذي يتوجه إليه المتكلم بكلامه فيعدون حال المخاطب بمثابة الأمر الداعي إلى إيراد خصوصية في الكلام، هذه الخصوصية هي مقتضى الحال.
فمثلا كون الشخص المخاطب منكرا لفكرة معينة أو كون هذه الفكرة غير واضحة في ذهنه حالتان تقتضي الأولى منهما من الشخص المتكلم التأكيد وتقتضي الثانية منه التوضيح، فـ"التأكيد والتوضيح" بشتى الوسائل الأسلوبية كلاهما هنا اعتبار مناسب هو مقتضى الحال، وكون الشخص المخاطب أيضا من سادة القوم وأشرافهم أو أصحاب النفوذ واليسار فيهم تجعله يستحق المدح طمعا في جداه وجدواه هي حال أيضا تقتضي من الشخص المتكلم الإطناب في ذكر صفات المخاطب الطيبة والإسهاب في الإشادة بسماته الحميدة لإدخال السرور والانشراح على نفسه وإثارة ما لديه من الأريحية التي تدفعه إلى تعظيم البذل وإجزال العطاء، فـ"الإطناب والإسهاب" هنا كلاهما اعتبار مناسب هو مقتضى الحال، كما أنها من جانب آخر أيضا حال تقتضي أو تتطلب تجنب مخاطبته بما لا يليق بوضعه ومستواه والحرص على الحديث إليه أو عنه في حضرته بما لا يثير استياءه ويستجلب غضبه فتجنب ما لا يليق من الكلام بوضع المخاطب ذي الحيثية ومستواه والحرص على عدم إثارة استيائه أو استجلاب غضبه كلاهما هنا اعتبار مناسب هو مقتضى الحال.
ويفهم من ذلك أن المتكلم لابد أن يكون مدركا لحال الشخص الذي سيتوجه إليه بالكلام، وعليه أن يجتهد كي يجعل كلامه مطابقا لمقتضى هذه الحال من التأكيد أو الإطناب أو الإيجاز إلخ إلخ وإلا عد كلامه غير بليغ، ويتفرع عن تعريف البلاغة في الكلام تعريف آخر يتعلق ببلاغة المتكلم وهي- كما حددها البلاغيون القدامى- ملكة لديه (أي لدى المتكلم) يقتدر بها على تأليف كلام بليغ مطابق لمقتضى الحال (حال المخاطب) مع فصاحته في أي معنى قصده.
وكعب أخيل (أي نقطة الضعف) هنا في مفهوم البلاغة العربية التقليدية سواء بالنسبة إلى الكلام أو المتكلم يكمن في التفسير الأحادي القاصر للحال على أنها حال المخاطب فقط دون تقدير مناسب لحال المتكلم مصدر الكلام .. في الواقع كان هناك إغفال أو إهمال شبه تام لتلك الحال.
ولقد جر التركيز على حال المخاطب وإهمال حال المتكلم التي قد تكون أحق وأولى بالاقتضاء على الأدب والنقد العربيين خلال عصور طويلة من الزمن كثيرا من الإشكالات.
كان من الممكن أن يكون ذلك التوجه في التفسير صحيحا لو أن تطبيقه انحصر في نطاق اللغة العادية التي يستخدمها الناس في حياتهم اليومية حيث يكون الهدف من الكلام التوصيل بصفة أساسية ولكنه مع الأسف عمم على سائر فنون الإبداع اللغوي العربي وفي مقدمة هذه الفنون بالطبع فن الشعر مما أدى إلى حصاد كثير من الأحكام النقدية الخاطئة بخصوص الشعر والشعراء.
وبرغم أن جذور التوجه تعود إلى العصر الجاهلي فإنه لم يبرز ويسيطر على الأذهان إلا مع صيرورة السلطة في الدولة الإسلامية إلى ملك عضوض وتحول الطبقية البسيطة إلى ظاهرة واضحة المعالم حين عرف العرب الطبقية الجلية في الدولة التي اتسع نطاقها الجغرافي متجاوزا حدود الجزيرة العربية وما تبع ذلك من تعدد عرقي للمواطنين، لقد انقسم الناس إلى طبقتين متمايزتين: ملك مطلق السلطان بلقب "خليفة" ومعه حاشيته في جانب وسوقة وهم الطبقة المحكومة في الجانب الآخر، وتقوم علاقتهم مع الطبقة الحاكمة على أساس من الرغب والرهب، وتعمقت ظاهرة الطبقية في المجتمع وزادت الفوارق بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة في العصر العباسي، وأغلب الشعراء- إن لم يكونوا كلهم- من الطبقة الثانية، ولكن الشعر- بوصفه علم قوم لم يكن لهم من قبل علم سواه - كان يجعل الشعراء جزءا من نخبة المجتمع في ذلك العصر ويعطيهم فرصة الاحتكاك بطبقة الحكام بل برأس طبقة الحكام "الخليفة/ الملك أو الملك/ الخليفة" أحيانا وهو برغم سلطته المطلقة أو شبه المطلقة يحتاج إلى قوة ناعمة تدغدغ مشاعره النرجسية وتشبع غريزته التواقة إلى حب الظهور ولكن بوجه اجتماعي يؤثر في نفوس العامة أكثر مما يؤثر فيهم سلطانه الصريح ونفوذه السافر، وفي ظل هذا المناخ السياسي الاجتماعي واضح الطبقية صاغ بشر بن المعتمر* بعض ما جاء في "صحيفته"* من مقولات مؤسسة للدرس النقدي وعلم البلاغة العربية لا سيما حين يوصي المتكلم بقوله: "ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما ولكل حالة من ذلك مقاما حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات"، وتكثر في تراثنا المواقف التي تكشف عن سيطرة ذلك التوجه في تفسير الحال على أنها حال المخاطب- كما سبق أن ذكرنا- على الأذهان.
يروى مثلا أن الشاعر جرير* وقف بين يدي الخليفة عبد الملك بن مروان* لينشده قصيدته التي يقول في مطلعها:
أتصحو أم فؤادك غيـــر صاحي .. عشيّــــــة هــــم صحبك بالرواح؟
فغضب الخليفة وقال له: بل فؤادك أنت، إذ كيف يتجرأ الشاعر الصعلوك الذي لم يقف هذا الموقف إلا ليستجدي عطاءه فيقول: "فؤادك غير صاحي"؟!، هل نسي الشاعر أنه يقف بين يدي أمير المؤمنين فيصف قلبه بما لا يليق بعظمته وفخامته؟ في الواقع لم يفعل جرير ذلك لأن كل ما في الأمر سوء فهم من الخليفة الذي كان يعد نفسه ظل الله على الأرض فجرير في مطلع القصيدة إنما يناجي نفسه ويتحدث عن قلبه هو الغافل غير المنتبه لا قلب سيد الناس، وهو بهذه المناجاة يمهد لغرضه الأساسي أي مديح الذات العلية واستجداء عطائها.
وقد حدث موقف آخر مشابه مع الشاعر ذي الرمة* حين أنشد بين يدي نفس الخليفة بائيته الشهيرة ومطلعها:
ما بال عينك منها الماء ينسرب .. كأنه مــــن كُلى مفريّـــة سرِب؟
فاستاء الخليفة من مطلع ذي الرُمّة كما استاء من قبل من مطلع جرير، لقد فهم خطأً أنه المخاطب بذلك الكلام، نعم الشاعر يقف بين يدي الخليفة ويخاطبه بشكل عام في قصيدته ولكنه في المطلع وما يليه من أبيات على وجه التحديد يتحدث إلى نفسه قبل أن يصل إلى غرضه الأساسي في القصيدة وهو أسلوب شعري معتاد منذ زمن طويل، ومن الغريب أن النقاد القدامى كانوا يعدون عبد الملك بن مروان من متذوقي الشعر ويتخذون من ردوده على الشعراء من مثل جرير وذي الرمة دليلا على ذلك؛ وقد يكون ذلك صحيحا ولكنهم - غفر الله لهم – لم يفطنوا إلى أن ذات الشاعر كثيرا ما تفرض عليه أن ينتبه إلى مقتضى حالها قبل أن ينتبه إلى مقتضى حال من يخاطبه حتى وإن كان ملكا أو خليفة.
ومثله- مع الفارق- قول الخنساء* ترثي أخاها صخرا قبل الإسلام ولم تكن وهي ترثيه في حضرة أحد عظيم أو حقير، كانت فقط في حضرة لوعتها وأحزانها على فقدان أخيها:
أقذُىً بعيـنك أم بالعيـن عوّار .. أم ذرّفت أن خلت من أهلها الدار؟
هل كانت الخنساء تخاطب شخصا آخر معينا حقيقيا أو حتى افتراضيا في مطلع قصيدتها؟ لا، هي في الواقع لم تكن تخاطب إلا نفسها، والدليل على ما نقول أن الخنساء التفتت* في البيت الثاني فاستبدلت بكاف الخطاب ياء المتكلم:
كأن عيــــني لذكــــراه إذا خطرت .. فيض يسيل على الخدين مدرار
ثم التفتت مرة أخرى عن ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب فقالت:
تبكي خنــاس فما تنفك ما عمــرت .. لها عليـــه رنيـــــن وهي مقتار
تبكي خناس على صخر وحُق لها .. إذ رابها الدهر إن الدهر ضرّار
وإذا جاز لنا أن نعذر الخليفة الأموي في عدم تفهمه مناجاة الشاعر لنفسه في بداية قصيدته لأنه- تعاليا واستكبارا- لا يريد لذات الشاعر أيا كانت درجة بلاغته وفصاحته أن يكون لها وجود مستقل في حضرته فإنه في الحقيقة لا يجوز أن نعذر أهل البصر بالشعر من النقاد الذين عاب بعضهم مثلا على المتنبي*- تأثرا بهذا المفهوم المتخلف القاصر- أن يبدأ قصيدته في مدح كافور الإخشيدي بقوله:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا .. وحسب المنايــــا أن يكـــن أمانيا
إذ في حكمهم كيف يصح الابتداء أمام الأمير بذكر الداء والموت؟!، وفي ذكرهما ما فيه من دواعي الشؤم والطيرة ونذر الشر، لقد خالف المتنبي في نظرهم ما تقتضيه حال ممدوحه الأمير من ضرورة الابتداء بما يبشر ولا ينفر؛ وبما يسر ولا يضر لا سيما أنها أولى مدائحه للأمير.
ولو كان الاعتبار لدى بلاغيينا في تفسير الحال لذات المتكلم لا لذات المخاطب لكان الأمر على خلاف ذلك، فالمتنبي كان في هذا الابتداء يعبر عن حالته النفسية السيئة آنذاك، فهو بعد مفارقة سيف الدولة الحمداني- على غير رغبته- شعر بأن الدنيا قد أدبرت عنه وأن مطامحه العظيمة (التي تعب في مرادها جسمه) قد تقوضت وانهارت تماما أمام عينيه وبشكل مأساوي لم يكن يتوقعه في الوقت الذي كان قاب قوسين أو أدنى من تحقيقها أو هكذا كان يظن، وعلى قدر عظم مطامحه وتعبه الجسدي في سبيل تحقيقها كان تعبه النفسي عندما لم تتحقق فتمنى الموت.
لقد غدا الموت هو السبيل الوحيد أمام المتنبي لشفائه من تأثير تلك الصدمة الكبيرة، وأصبحت المنايا هي الأماني دليلا على فقدان الحياة في نظره لقيمتها ومعناها.
المتنبي لم يخطئ كما اتهمه نقاده وإنما هم الذين أخطأوا حين أرادوا أن يكون كلامه في مطلع القصيدة مطابقا لمقتضى حال كافور لا مقتضى حاله هو.
ولقد كان لأبي تمام* محاولة لم يكتب لها النجاح لضرب هذا المبدأ في مقتل حين أجاب أبا سعيد الضرير الذي علق على قصيدته "هن عوادي يوسف وصواحبه" التي يمدح فيها عبد الله بن طاهر والي خراسان سائلا: لم لا تقول ما يفهم؟ بسؤال مضاد: وأنت لم لا تفهم ما يقال؟ فقد كان من الممكن لهذه الإجابة لو قدر لها أن تذيع ويدقق النقاد في دلالتها أن تؤسس قاعدة جديدة للخطاب الشعري لا يكون فيها الشاعر مجرد شخص منوط به صياغة أو نظم كلام مناسب لحال المخاطب النفسية والعقلية وعلى قدر ذوق السامعين من حاشية المخاطب وسعة فهمهم، مع الأسف ذهبت محاولة أبي تمام سدى ولم تلفت انتباه أحد من النقاد القدامى ومن ثم ظلت السيادة اللهم إلا في قليل من النماذج لقاعدة "مطابقة الكلام لمقتضى الحال" بالمفهوم الخطأ للحال على أنها دائما حال المخاطب.
ولم يكن على الشاعر مراعاة مقتضى الحال في شعره فيطابق بين ما يقوله وما تقتضيه الحال التي تكتنف نصه فحسب؛ بل كان على الناقد أيضا أن يشارك الشاعر- مع الفارق في البواعث والنتائج- الإيمان بنفس المبدأ والحرص على تطبيقه فيسعى في مقاربته النقدية للنص الشعري إلى الإحاطة بالظروف التي تكتنفه كي يصل إلى فهم أعمق له وأشمل ويتجنب في نفس الوقت إساءة تفسير بعض دلالاته، يقول الأستاذ علي أدهم: إن معرفة الناقد بمدى مطابقة الكلام لمقتضى الحال في نص من النصوص يحتاج من الناقد إلى الإحاطة بالظروف التي قيل فيها الكلام ويضرب مثلا لذلك بالأبيات الآتية التي قالها الشريف الرضيّ* يوم حدوث الاعتداء على الخليفة العباسي "الطائع"* وامتهان كرامته من بعض الديلم بإغراء بهاء الدولة الديلميّ.
إذا ظننا وقـــــدّرنا جــــــرى قدر .. بنازل غيــــر موهــــوم ومظنون
أمسيت أرحم من أصبحت أغبطه .. لقـــد تقارب بيـــن العـــز والهون
ومنظر كان بالســـراء يضحكني .. يا قــرب ما عاد بالضـراء يبكيني
هيهات أعتـــز بالسلطان ثانيـــة .. قــد ضـل ولّاج أبـــواب السلاطين
فالقارئ عندما يعلم من مترجمي حياة الشريف الرضي أنه كان طامعا في الخلافة تناجيه بها ظنونه وأحلامه وأن هذا الحادث المحزن كان صدمة عنيفة زلزلت أطماعه وبددت أمانيه أرجح أنه- والكلام هنا للأستاذ علي أدهم- سينظر إلى هذه الأبيات في ضوء جديد ويطيل عندها الوقوف والتأمل ويوازن بين عاطفة الحسرة والأسف التي أوحت بها والتعبير عنها ويدرك الإدراك كله ما فيها من صدق شعور وأمانة تصوير ويعرف بعد ذلك كله إن كان الكلام قد طابق مقتضى الحال أو خالفه، ولكن ما يشير إليه علي أدهم هو ما ينبغي أن يكون إلا أن ما هو كائن أو بتعبير أكثر وضوحا أن ما ساد طوال قرون عديدة من الزمن هو أن الاهتمام لم يكن منصبا على العناصر الداخلية المعتملة في ذات المتكلم بل كان منصبا أكثر على العناصر الخارجية المحيطة بذات المتكلم وفي القلب منها بالطبع ذات المخاطب فظلت هذه الذات هي محور أحاديثهم البلاغية عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وفي ظل هذا الاهتمام بذات المخاطب مع إغفال ذات المتكلم أو إهمالها كانت تتم قراءة الشعر وتذوقه سواء في ذلك القارئ الناقد أو القارئ العادي.
لقد جعل بعض بلاغيينا القدماء قيمة الشعر في مدى توافقه مع العالم الخارجي الذي تمثله حال المخاطب لا في مدى توافقه مع العالم الداخلي الذي تمثله حال المتكلم؛ حال الذات الشاعرة في تفاعلها مع العالم الخارجي ومع ذاتها من قبل ومن بعد، وسار كثير من الشعراء وراء مقولات البلاغيين يطبقونها ويبالغون في تطبيقها لا في مجال المديح فقط الذي كان وسيلتهم الأساسية في استجداء عطايا الأمراء وكبار السراة والموسرين بل في غيره من المجالات الشعرية.
لقد صاروا أسرى هذا المفهوم الذي استقر في وعيهم بمثابة سلطة توجيهية تتحكم في إبداعهم فتمنعهم من استبطان ذواتهم والبوح بمكنوناتها من عواطف ولواعج بسيطة أو معقدة، وتجبرهم على أن يفتحوا أعينهم دائما على الآخر الذي يتجسد في الـ (أنت) خارج الذات لا في الـ (أنا) داخلها لتكون قصائدهم مطابقة لمقتضى حال الآخر لأن هذه هي البلاغة وبما أن حال ذلك الآخر التي يتعامل معها الشعراء هي الحال الظاهرة على الدوام فقد انعكس ذلك لعقود طويلة من الزمن على القصيدة العربية التي فقدت في كثير من نماذجها مقومات الشعر الحقيقي؛ فقدت حرارته وصدقه الفني وفقدت عناصر توليد الدهشة فأصبحت القصيدة باردة في ألفاظها محايدة في موسيقاها سطحية في صورها ضحلة في معانيها وسيطرت على أغراض الشعر المدائح والأهاجي والإخوانيات والغزل المصنوع والألاعيب البلاغية والبديعية وغيرها إلا قليلا لا يمثل سوى الاستثناء من القاعدة.
ودخل الشعر منذ ذلك الحين في غيبوبة طويلة لم يفق منها إلا في نهايات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مع ظهور حركة البعث والإحياء ولكنه لم يلتفت بقوة إلى حال المتكلم (الناطق) أو بتعبير أدق الذات الشاعرة إلا مع ظهور طلائع الاتجاه الوجداني في الشعر العربي الذي مثلته في البداية جماعة الديوان* ثم جماعة المهجر* وجماعة أبوللو* والمتأمل لإبداعات شعراء الجماعات الثلاث يجد أن معظم مظاهر التجديد فيها قد انبثقت من حرصهم على الانحياز في خطابهم الشعري إلى حال ذواتهم الشاعرة أكثر من أي شيء آخر.
*****
هوامش وتعليقات
ص 70: جداهم وجدواهم: الجدا العطاء والجدوى الفائدة. الحطيئة: أبو مليكة جرول بن أوس العبسي (توفي45)؛ شاعرهجاء بذيء اللسان عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام فأسلم (مخضرم)، كان يتكسب بشعره مدحا وهجاء. لكل مقام مقال: يقول السكاكي في كتابه "مفتاح العلوم": إن مقامات الكلام متفاوتة فمقام الشكر يباين مقام الشكاية ومقام التهنئة يباين مقام التعزية ومقام المدح يباين مقام الذم ومقام الترغيب يباين مقام الترهيب، وكذا مقام الكلام مع الذكي يغاير مقام الكلام مع الغبي ولكل من ذلك مقتضى غير مقتضى الآخر، ويقول العسكري في "كتاب الصناعتين": "لايكلم سيد الأمة بكلام الأمة ولا الملوك بكلام السوقة لأن ذلك جهل بالمقامات وما يصلح في كل واحد منها من الكلام، وقد أحسن الذي قال: لكل مقام مقال"، وفكرة الربط بين "المقام والمقال" بوصفهما أساسين من أسس تحليل المعنى كفكرة مجردة - أي بدون قصر الحال المطلوب مراعاتها في الكلام على حال المخاطب فقط - فكرة عبقرية اكتشفها البلاغيون العرب قبل البلاغيين الغربيين بزمن طويل؛ وهي تعد عند علماء الألسنية في الغرب من الكشوف التي جاءت نتيجة لمغامرات العقل في دراسة اللغة (انظر: المصطلح البلاغي اليوم في ضوء البلاغة الحديثة للدكتور تمام حسان بمجلة فصول عدد إبريل/ سبتمبر1987).
ص 71: بشر بن المعتمر: أبو سهل بشر بن المعتمر (توفي 210)؛ كان إخباريا شاعرا متكلما؛ إليه انتهت رئاسة المعتزلة ببغداد. صحيفة بشر بن المعتمر: لم تصلنا الصحيفة ولكن محتواها وصلنا من خلال ما أورده الجاحظ في كتابه البيان والتبيين؛ وتشتمل الصحيفة على جملة من التعليمات والتوجيهات الخاصة بالكتابة والخطابة والشعر والنثر وتناثرت بين مقولاتها إشارات نقدية وبلاغية ذكية في عدة موضوعات كعلاقة اللفظ بالمعنى وعلاقة كليهما بالموضوع والمتلقي؛ وقد عدت مقولات بشر في صحيفته بمثابة نواة لنشأة علمي البلاغة العربية والنقد. حال المخاطب: تبنى الجاحظ مفهوم بشر بن المعتمر ولكنه حاول المساواة بين حال السامع (المخاطب) وحال الناطق ( المتكلم) حين أورد في كتابه "البيان والتبيين" قول الإمام إبراهيم بن محمد: "يكفي من حظ البلاغة ألا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق؛ ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع" معلقا عليه بقوله: "أما أنا فأستحسن هذا القول جدا" ومع ذلك فمعظم النقاد والبلاغيين بعده غلب عليهم انحيازهم إلى حال المخاطب وإغفال حال المتكلم أو الناطق.
ص 72: جرير: جرير بن عطية الخطفي (33 - 110 هـ)؛ من أشهر شعراء العصر الأموي، كان على اتصال ببلاط الأمويين، برع في المدح والهجاء على وجه الخصوص؛ وكان بينه وبين نديه الفرزدق والأخطل معارك شعرية عنيفة؛ وكثير من القصائد الهجائية التي تبودلت بينهم في تلك المعارك يعرف باسم "النقائض". عبد الملك بن مروان: أبو الوليد عبد الملك بن مروان (26 - 86 هـ)، الخليفة الخامس في سلسلة خلفاء الدولة الأموية ولكنه يعد المؤسس الثاني للدولة، كان عالما فقيها على معرفة كبيرة باللغة والأدب، ذواقة للشعر ذا بصر بجيده ورديئه. ذو الرمة: أبو الحارث غيلان بن عقبة التميمي (77 - 117 هـ) من شعراء العصر الأموي المبرزين ، قريب في أسلوب شعره من الشعراء الجاهليين، اشتهر بشعره الغزلي في محبوته مية وشعره في وصف الصحراء ولذلك يلقب بـ"شاعر الحب والصحراء، والبيت المستشهد به من قصيدة تعد من أشهر قصائده. الخنساء: تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية (توفيت 24هـ)؛ عاشت في الجاهلية وأدركت الإسلام (مخضرمة)، اشتهرت كشاعرة بمراثيها الكثيرة لأخويها صخر ومعاوية والبيت المستشهد به من مرثية تعد من أشهر مراثيها. المتنبي: أبو الطيب أحمد بن الحسين (303 - 354 هـ) من أعظم شعراء العربية، طموحه الشديد إلى السلطة وطمعه في أن يكون ملكا أو أميرا وصل به إلى حد اللوثة بـ"جنون العظمة"، والبيت المستشهد به مطلع قصيدة مدح بها المتنبي كافور الإخشيد في بداية قدومه عليه بمصر بعد أن تغير عليه قلب صديقه الأثير سيف الدولة الحمداني. أبو تمام: حبيب بن أوس الطائي (303 - 354 هـ) شاعر مبتكر مجدد من فحول شعراء العصر العباسي؛ دارت حول شعره خصومات نقدية كثيرة، وحين سمع شعره العالم اللغوي ابن الأعرابي قال معلقا: "إن كان هذا شعرا فما قالته العرب باطل" وفي التعليق دلالة على مقدار ما حققه في شعره من تجاوز للسائد والمألوف تشكيلا وتصويرا.
ص 73: كُلى: بضم الكاف جمع كلية. مفرية: مثقوبة. سرب: متدفق. قذًى: ما يصيب العين من ذرات الغبار. عوّار: العوار: ما يمرض العين من رمد وخلافه. ذرّفت: سال دمعها. مدرار: غزير. رنين: نواح. مقتار: بخيلة. رابه الدهر: آلمه وأوجعه.
ص 76: نازل: النازل هو المصيبة والجمع نوازل. أغبطه: آمل أن أكون مثله. الهُون: الهوان والذل.
ص 77: الشريف الرضي: أبو الحسن محمد بن الحسن بن موسى (359 - 406 هـ)؛ عالم دين وفقيه وشاعر فصيح وبليغ، إليه انتهت رئاسة الطالبيين في عصره؛ له عدة مصنفات من أشهرها "نهج البلاغة الذي جمع فيه الكثير مما ينسب إلى الإمام علي بن أبي طالب من خطب وكلمات مأثورة. الطائع بالله:أبوبكر عبد الكريم بن المطيع (320 - 393 هـ)،فرض الديلم في عصره السيطرة على الخلافة وقد خلعوه سنة 381 هـ وأقاموا بدلا منه القادر بالله. حركة البعث والإحياء: اتجاه ظهر في الشعر العربي مع نهاية القرن التاسع عشر سعى أصحابه إلى بعث الروح من جديد في فن الشعرالذي فقد حيويته وتيبست أعضاؤه وتكلست مفاصله طوال العصرين المملوكي والعثماني على وجه التحديد مع الحفاظ على عمود الشعر؛ ومن أبرز رواده البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم. جماعة الديوان: تأسست على قاعدة من أفكار عباس محمود العقاد وعبد الرحمن شكري وإبراهيم عبد القادر المازني وهم شعراء اتصلوا بالثقافة الغربية اتصالا مباشرا ووثيقا ودعوا إلى أن يكون الشعر معبرا عن الشخصية وروح العصر بصدق وأن تكون الوحدة العضوية هي العمود الفقري للقصيدة واتشحت أشعار الجماعة بمسحة رومانسية حذرة في التعبير والتصوير. جماعة المهجر: تكونت من الشعراء الشوام الذين اضطرتهم ظروف بلادهم السياسية والاقتصادية في أواخر القرن الـ19 والقرن الـ20 للهجرة إلى الأمريكتين وتتسم أشعار المهجريين - وقد امتزجت ثقافتهم العربية بالثقافة الغربية بقوة - في الشكل بسلاسة الأسلوب وبساطته وتنويع القافية وفي المضمون بالنزوع إلى تأمل النفس الإنسانية وتحليلها وفيض الحنين والشوق إلى الوطن الذي اغتربوا عنه مضطرين؛ وللمهجريين اهتمام متميز بالطبيعة والتفاعل معها وإسقاط حالاتهم النفسية الوجدانية من خلال مظاهرها المختلفة؛ وتؤمن الجماعة برسالة الشعر في التغني بالجمال والحب والقيم النبيلة. جماعة أبوللو: هم مجموعة من الشعراء الشباب التفوا حول مجلة أبوللو التي أسسها الدكتور أحمد زكي أبو شادي عام 1932؛ وتجلت في أشعارهم أغلب السمات الرومانسية التي تميز هذا الاتجاه ونجدها عند نظرائهم من الشعراء الأوربيين سواء في االتعبير والتصوير(الشكل) أو تناول الموضوعات ومعالجتها(المضمون)؛ وبلغوا على سلم النزعة الوجدانية والانحياز إلى ذواتهم الشاعرة ما لم يبلغه شعراء المهجر والديوان؛ كما تجلت عندهم مظاهر التجديد لاسيما في شكل القصيدة وموسيقاها أكثر من الديوانيين والمهجريين.

سعد عبدالرحمن


- الموضوع من موضوعات كتاب "تأملات في الجهل" الذي صدر مؤخرا عن دار النسيم


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى