إن تجربة كتابة المعجم تعني تأصيلاً للظاهرة، أو ما يرتبط بها من نصوص، فالمعجم هو المرجع الأول في التفسير والبيان، وعنده تتداخل المعاني وتتم أرشفتها وفق سلطة الأصل نفسه. وتعتبر تجربة الخمر في الثقافة العربيّة من التجارب التي لا يمكن تجاوز حضورها، ما جعل العديدين يلجؤون إلى تأليف معاجم مرتبطة بها رغبة في التأًصيل، وبناء مرجعية للمعنى والمجاز الذي يحمله الخمر، وما تختزنه من طاقة شعريّة وجمالية وروحيّة. كذلك الإحاطة بألفاظها ومعانيها.
من أشهر هذه المعاجم "أسماء الخمر" لأبي سعيد عبد الملك الأصمعي، و"كتاب أسماء الخمر وعصيرها" لمحمد بن الحسن بن رمضان، و"تنبيه البصائر في أسماء أم الكبائر" لأبي الخطاب عمر بن حسين بن علي الكوفي، و"الجليس الأنيس في أسماء الخندريس" للفيروزابادي. ويلاحظ من أسماء المعاجم السابقة الموقف المرتبط بالخمر بوصفها أم الكبائر، أو بوصفها جليساً وأنيساً، ليبدو التفاوت في موقف التدوين في ما يتعلق بظاهرة الخمر. في ما يلي بعض الجوانب التي ذكرتها المعاجم في أحوال الخمر وأسمائها و مجالسها.
طبائع الخمر
تعددت أسماء الخمر، وهي إما بحسب ألوانها أو تأثيرها أو صفاتها، أو طرق تحضيرها. وتعداد أسمائها والشواهد المرتبطة بها صعب الحصر. وقد حاول الفيروز آبادي في معجمه ذلك، إذ تحضر شواهد الأسماء من الشعر المتأخر أو المتقدم، ومن أسمائها حسب اللون "الصهباء" ( اللون الأَصفر الضارب إلى شيءٍ من الحمرة والبياض)، و"الكميت" (لما فيها من سوادٍ وحمرة)، و"المشعشعة" (ما خالطها الضوء إثر مزجها بالماء)، و"الصافية" (غير المخلوطة). أما حسب طعمها فـ"أرقها الصهبا، وأعذبها الحميّا، وألطفها السلاف، وأخفها المٌدام، وأظرفها القهوة، تُقهِي أي تُكْرِه الطعام أو تُقْعِدْ عنه، وأقبحها القرقف وأفضلها الراح".
وهذه الأسماء تتغير معانيها لتحيل للأحوال أو أسماء الأشياء، فكل اسم مشتق إما من السياق أو الصفة التي تعطيها الخمر. إذ إن مفهوم التسميّة، مرتبط بالتجربة الشعريّة، بموازاة الآلية الطبيعية للتسمية والمرتبطة بمراحل التحضير أو اللون. فالشعر أغنى معجم الخمر في اللغة العربيّة، لنقف أمام ألفاظ انحرفت معانيها عن المعاني الأصلية، فتكون التجربة الشخصية للشاعر هي ما يشكل أساس المعجم ومادته الخام قبل تدوين المعجم، بوصف قول الشاعر مرجعية وجود هذا اللفظ.
ونورد قول البحتري هنا:
شرب على زهر الرياض يشوبه... زهر الخدود وزهرة الصهباء
من قهوة تنسى الهموم وتبعث الـ... شوق الذي قد ضل في الأحشاء
يخفى الزجاجة لونها فكأنها... في الكف قائمة بغير إناء
ولها نسيم كالرياض تنفست... في أوجه الأرواح والأنداء
طبائع الندماء
شرب الخمر، يتجاوز كونه متعة ذاتية، ليكون متعة أشد احتفاليةً بوجود الآخرين، أو الندماء. وقد كثرت المؤلفات في آداب المنادمة وشرب الخمر، فالنديم تأتي من "الندامة، أو من الندم إما لأنه يندم على مفارقته لوجود الراحة والأنس، أو لأنه يندم على ما يتكلم به في حال سكره". وقد تفنن العرب بالمنادمة وآدابها، وقيل فيها حسب ابن المعتز الحق: "قلة الخلاف، والمعاملة بالإنصاف، والمجاملة في الشراب، والتغافل عن رد الجواب، وإدمان الرضا، وإطراح ما مضى، واستعمال ما حضر، و إحضار ما تيسّر، وستر العيب وترك العتب والطرب بلا هرج ولا صياح، و ترك الافتخار بالحب و النسب..."
الإحاطة بهذه الآداب تستدعي الممارسة، والتأليف في هذا المجال يؤكد على أهميتها، وأهمية النديم، رفيق الكأس وحضوره في المجلس، بوصف الخمر لا تحلو إلا بحضور الآخر، لأنها تفتح القلب على الحديث، وهنا نذكر بعض ما قيل في الندماء:
قلت والراح في أكف الندامى... كنجوم تلوح في أبراج
أمداماً خرطتم لمدام... أم زجاجاً سبكتم لزجاج
كذلك قول ديك الجن الحمصي:
فقام تكاد الكأس تخضب كفه... وتحسبه من وجنتيه استعارها
مشعشعة من كف ظبي كأنما... تناولها من خده فأدارها
فظلنا بأيدينا نتعتع روحها... وتأخذ من أقدامنا الراح ثأرها
طبائع السقاة
يعتبر دور الساقي على أهمية مشابهة لتلك التي يمتلكها النديم، بوصفه "بديع الجمال، زائد في الصرف والدلال، يفوق ببديع محاسنه الأتراب، ويدهش بلطف شمائله عقول أولي الألباب". ومن آدابه "أن يستأذن جلساءه وندماءه في المزج أو عدمه، فمنهم من لا تناسبه الراح إلا صرفاً..." وغيرها من الصفات. لتكون مكانة الساقي محفوظة، ولطالما كان محطّ قول الشعراء والندماء، ويفرد له في القلب مكانة تقارب مكانة المعشوق أحياناً كقول أبي نواس:
جنان حصلت قلبي... فما أن فيه من باق ِ
لها الثلثان من قلبي... وثلثا ثلثه الباقي
وثلثا ثلث ما يبقى... وثلث الثلث للساقي
فتبقى أْسهم ٌ ست ٌ... تُجزأ بين عشاق ِ
أو كقول العسكري:
ذاب في الكأس عقيق فجرى... وطفا الدر عليه فسبح
نصب الساقي على أقداحها... شبك الفضة تصطاد الفرح
طبائع الأدنان (الكؤوس)
تفنن العرب في أسماء الكؤوس والأباريق والأدنان، وأنواعها وصفاتها، وأيها أكثر جمالاً وتأثيراً على الشراب. فقيل: "إذا كان ملآنَ يسمّى كأساً، وإذا كان فارغاً يسمّى قدحاً، ويسمّى الجام أيضاً"، "كما عرف تفضيل الزجاج على الذهب والفضة، لأن الزجاج شفاف، وبالإمكان أن ترى الشراب فيه، وهنا اشتهر قول الصاحب بن عباد:
رقت الكاس ورقت الخمر... وتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما الخمر في كأسٌ... وكأنما الكأسُ خمرُ
كذلك قول التنوخي:
وراح من الشمس مخلوقة = بدت في قدح من نهار
هواء ولكنه ساكن = وماء ولكنه غير جاري
إذا ما تأملته وهي فيه = تأملت ماء محيطاً بنار
إن الإحاطة بطقوس الخمر وتحولاته تحتاج إلى دراسات هائلة، فالأمر يمتد ليشمل الأغاني والأهازيج والأشعار، ووصف المجالس وزينتها وحليّها، لنرى أنفسنا أمام ظاهرة في التراث العربي تستحق الكثير من التفرغ لدراستها، لتراوحها بين ما هو مقدس وديني وبين ما هو حياتي ومحرّم.
من أشهر هذه المعاجم "أسماء الخمر" لأبي سعيد عبد الملك الأصمعي، و"كتاب أسماء الخمر وعصيرها" لمحمد بن الحسن بن رمضان، و"تنبيه البصائر في أسماء أم الكبائر" لأبي الخطاب عمر بن حسين بن علي الكوفي، و"الجليس الأنيس في أسماء الخندريس" للفيروزابادي. ويلاحظ من أسماء المعاجم السابقة الموقف المرتبط بالخمر بوصفها أم الكبائر، أو بوصفها جليساً وأنيساً، ليبدو التفاوت في موقف التدوين في ما يتعلق بظاهرة الخمر. في ما يلي بعض الجوانب التي ذكرتها المعاجم في أحوال الخمر وأسمائها و مجالسها.
طبائع الخمر
تعددت أسماء الخمر، وهي إما بحسب ألوانها أو تأثيرها أو صفاتها، أو طرق تحضيرها. وتعداد أسمائها والشواهد المرتبطة بها صعب الحصر. وقد حاول الفيروز آبادي في معجمه ذلك، إذ تحضر شواهد الأسماء من الشعر المتأخر أو المتقدم، ومن أسمائها حسب اللون "الصهباء" ( اللون الأَصفر الضارب إلى شيءٍ من الحمرة والبياض)، و"الكميت" (لما فيها من سوادٍ وحمرة)، و"المشعشعة" (ما خالطها الضوء إثر مزجها بالماء)، و"الصافية" (غير المخلوطة). أما حسب طعمها فـ"أرقها الصهبا، وأعذبها الحميّا، وألطفها السلاف، وأخفها المٌدام، وأظرفها القهوة، تُقهِي أي تُكْرِه الطعام أو تُقْعِدْ عنه، وأقبحها القرقف وأفضلها الراح".
وهذه الأسماء تتغير معانيها لتحيل للأحوال أو أسماء الأشياء، فكل اسم مشتق إما من السياق أو الصفة التي تعطيها الخمر. إذ إن مفهوم التسميّة، مرتبط بالتجربة الشعريّة، بموازاة الآلية الطبيعية للتسمية والمرتبطة بمراحل التحضير أو اللون. فالشعر أغنى معجم الخمر في اللغة العربيّة، لنقف أمام ألفاظ انحرفت معانيها عن المعاني الأصلية، فتكون التجربة الشخصية للشاعر هي ما يشكل أساس المعجم ومادته الخام قبل تدوين المعجم، بوصف قول الشاعر مرجعية وجود هذا اللفظ.
ونورد قول البحتري هنا:
شرب على زهر الرياض يشوبه... زهر الخدود وزهرة الصهباء
من قهوة تنسى الهموم وتبعث الـ... شوق الذي قد ضل في الأحشاء
يخفى الزجاجة لونها فكأنها... في الكف قائمة بغير إناء
ولها نسيم كالرياض تنفست... في أوجه الأرواح والأنداء
طبائع الندماء
شرب الخمر، يتجاوز كونه متعة ذاتية، ليكون متعة أشد احتفاليةً بوجود الآخرين، أو الندماء. وقد كثرت المؤلفات في آداب المنادمة وشرب الخمر، فالنديم تأتي من "الندامة، أو من الندم إما لأنه يندم على مفارقته لوجود الراحة والأنس، أو لأنه يندم على ما يتكلم به في حال سكره". وقد تفنن العرب بالمنادمة وآدابها، وقيل فيها حسب ابن المعتز الحق: "قلة الخلاف، والمعاملة بالإنصاف، والمجاملة في الشراب، والتغافل عن رد الجواب، وإدمان الرضا، وإطراح ما مضى، واستعمال ما حضر، و إحضار ما تيسّر، وستر العيب وترك العتب والطرب بلا هرج ولا صياح، و ترك الافتخار بالحب و النسب..."
الإحاطة بهذه الآداب تستدعي الممارسة، والتأليف في هذا المجال يؤكد على أهميتها، وأهمية النديم، رفيق الكأس وحضوره في المجلس، بوصف الخمر لا تحلو إلا بحضور الآخر، لأنها تفتح القلب على الحديث، وهنا نذكر بعض ما قيل في الندماء:
قلت والراح في أكف الندامى... كنجوم تلوح في أبراج
أمداماً خرطتم لمدام... أم زجاجاً سبكتم لزجاج
كذلك قول ديك الجن الحمصي:
فقام تكاد الكأس تخضب كفه... وتحسبه من وجنتيه استعارها
مشعشعة من كف ظبي كأنما... تناولها من خده فأدارها
فظلنا بأيدينا نتعتع روحها... وتأخذ من أقدامنا الراح ثأرها
طبائع السقاة
يعتبر دور الساقي على أهمية مشابهة لتلك التي يمتلكها النديم، بوصفه "بديع الجمال، زائد في الصرف والدلال، يفوق ببديع محاسنه الأتراب، ويدهش بلطف شمائله عقول أولي الألباب". ومن آدابه "أن يستأذن جلساءه وندماءه في المزج أو عدمه، فمنهم من لا تناسبه الراح إلا صرفاً..." وغيرها من الصفات. لتكون مكانة الساقي محفوظة، ولطالما كان محطّ قول الشعراء والندماء، ويفرد له في القلب مكانة تقارب مكانة المعشوق أحياناً كقول أبي نواس:
جنان حصلت قلبي... فما أن فيه من باق ِ
لها الثلثان من قلبي... وثلثا ثلثه الباقي
وثلثا ثلث ما يبقى... وثلث الثلث للساقي
فتبقى أْسهم ٌ ست ٌ... تُجزأ بين عشاق ِ
أو كقول العسكري:
ذاب في الكأس عقيق فجرى... وطفا الدر عليه فسبح
نصب الساقي على أقداحها... شبك الفضة تصطاد الفرح
طبائع الأدنان (الكؤوس)
تفنن العرب في أسماء الكؤوس والأباريق والأدنان، وأنواعها وصفاتها، وأيها أكثر جمالاً وتأثيراً على الشراب. فقيل: "إذا كان ملآنَ يسمّى كأساً، وإذا كان فارغاً يسمّى قدحاً، ويسمّى الجام أيضاً"، "كما عرف تفضيل الزجاج على الذهب والفضة، لأن الزجاج شفاف، وبالإمكان أن ترى الشراب فيه، وهنا اشتهر قول الصاحب بن عباد:
رقت الكاس ورقت الخمر... وتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما الخمر في كأسٌ... وكأنما الكأسُ خمرُ
كذلك قول التنوخي:
وراح من الشمس مخلوقة = بدت في قدح من نهار
هواء ولكنه ساكن = وماء ولكنه غير جاري
إذا ما تأملته وهي فيه = تأملت ماء محيطاً بنار
إن الإحاطة بطقوس الخمر وتحولاته تحتاج إلى دراسات هائلة، فالأمر يمتد ليشمل الأغاني والأهازيج والأشعار، ووصف المجالس وزينتها وحليّها، لنرى أنفسنا أمام ظاهرة في التراث العربي تستحق الكثير من التفرغ لدراستها، لتراوحها بين ما هو مقدس وديني وبين ما هو حياتي ومحرّم.