من كتاب رحلة إلى شاطئ النار والنور
بعث الله النبي شعيب عليه السلام إلى أهل مدين، وهم قوم يعبدون الأيكة وهي شجرة كثيفة الأغصان، وقد كانوا عصاة،أصحاب خلق سيء، وذمة فاسدة.
كانوا تجارا يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيها، ويفعلون كل شيء للحصول على المال والربح السريع المضاعف حتى وإن ظلموا وسرقوا، وغشوا، وخالفوا كل المبادئ السوية...
إن حال وصفات أصحاب الأيكة، يشبه كثيرا حال تجار وأصحاب رؤوس المال في بلادنا الآن!!
فهم يتشابهون معهم إلى درجة مذهلة، فتجد التاجر منهم يتحصل على أرباح خرافية حتى تتضخم أرصدته في البنوك والمصارف، وتتعدد عقاراته ما بين عمارات وشاليهات وقصور وفيلات، وهكذا تظل تتضاعف، وتتراكم ممتلكاته، حتى يصل إلى مرحلة من الثراء الفاحش وهو مستمر في غيه لا يتوقف عن جمع المال وجعله هدفه الأول والأخير.
وليست ثمة مشكلة في السعي لجمع المال
فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا، ولكن المشكلة الكبرى في تلك الممارسات التي تتم في إطار من الجشع والفساد!!
على سبيل المثال :
تجار اللحوم يسيطرون على حصص معينة في شبه منظومة احتكارية- كشأن معظم السلع - تمنع اختراقها، وتمنع تحقيق حالة المنافسة الشريفة التي تضبط السوق، فهم يتسببون في اشتعال سعر اللحوم ، وقد كانوا يستطيعون عرض لحومهم بأسعار تقل كثيرا عن ما يفرضون ، ولكنهم للأسف لا يهدفون إلى الربح المعقول، ولكنهم ينشدون ربحا خرافيا حراما، ولو على حساب جوع الناس، ومعانتهم الشديدة ....
أما تجار السيارات فحدث ولا حرج، فهم يوفرون للمجتمع سيارات بأقل مستوى من الجودة، وأقل قدر من معدلات الأمان ، وبأعلي سعر مقارنة بمثله في الدول الأخرى، التي نصفها بالكفر ...
ولو التفتنا إلى باقي القطاعات فسنجد مهازل عديدة مثل المقاولين وما يطرحونه من شقق ضعيفة الأساسات بأسعار خيالية لتزداد أزمة الإسكان..... ومافيا أصحاب المدارس الخاصة، و كوارث أصحاب المستشفيات الذين يتاجرون في دماء البشر.....
لا رحمة ولا شفقة ولا دين ولا خلق، ولا شبع تقريبا في شتى القطاعات الاقتصادية!!
هل هؤلاء القوم لا يدركون أنهم بعد مرحلة معينة من تحقيق احتياجتهم و رفاهيتهم، فإن الأموال التي تدخل مصارفهم، داخل الدولة، أوخارجها تصبح مجرد أرقام لا تسمن ولا تغني من جوع؟!
إن التاجر في الدول الأجنبية ، حتى وإن كان فاسدا، عندما تصل أمواله إلى حد معين فإنه عادة ما يراجع نفسه، ويقوم بالتبرع بالملايين للدولة وللمؤسسات الخيرية،والمجتمعية، وكأن لسان حاله يقول لا تسألوني كيف جمعت المليون الأول ولكن اسألوني عن ما جمعته بعده!!
أما تجارنا نحن فلا يصلون أبدا إلى هذه النقطة...
نقطة حساب النفس.....
نقطة مراجعة الضمير...
نقطة الشبع...
نقطة الرحمة؟!
مثلهم مثل تجار أصحاب الأيكة ، فهل يعرف هؤلاء التجار نهاية أصحاب الأيكة ؟!
***.
في أرض “معان” من أطراف بلاد الشام، ثمة مدينة كبيرة تسمى “مدين”، تقع بالقرب من بحيرة قوم لوط عليه السلام التي دمّرها الله سبحانه.
وسميت “مدين” نسبة إلى جدهم مدين بن مديان، وهو من أحفاد إبراهيم عليه السلام.
كانت مدينة جميلة واسعة الأرجاء، وسكانها كانوا قليلي العدد، ثم بارك الله في نسلهم وتكاثروا، وهم ذوو تجارة رابحة جدا.
لكنهم بدلا من أن يشكروا نعم الله عليهم، اتخذوا لأنفسهم شجرة يعبدونها من دونه، ويقرّبون لها القرابين،و هي شجرة الأيكة (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين) (الحجر، 78)
كانوا يتوافدون عليها جماعات و فرادی ، يفعلون الكثير من المنكرات والقبائح، وكانوا يغّشون في تجارتهم، رغم ربحهم الوفير.
كان التاجر منهم، إذا باع للناس يعطي المشتري أقل مما ينبغي ،بينما هو يأخذ المال كله مستوفى غير منقوص.
، أما إذا أراد هذا البائع أن يشتري بضاعة لا توجد عنده من بائع آخر فإنه يريد أن يعطيه القليل ويأخذ سلعا كثيرة.
كان هذا حالهم، فهم من أسوأ الناس معاملة فيما بينهم، و كل واحد منهم يتفنن في أن يغش الآخر في التجارة.
كانت بلادهم منطقة تجارية واسعة، ولذلك كان سكان البلدان المجاورة يأتون إليها ليتاجروا فيها، فكانوا يقطعون عليهم طريقهم، ويأخذون منهم ما شاءوا من الأموال، ثم إذا وصل التجار الوافدون إلى المدينة فإن أهلها لا يتركونهم يدخلون إلى السوق حتى يعطوهم قسطا من المال، فجمع بذلك أهل مدين أنواعا من الشرور والظلم.
وهم بذلك يعيشون في ظلام دامس من الشرك بالله، و ظلم العباد.
ولما كانوا على هذه الحالة من الفساد، أراد الله بهم خيرا ، فبعث إليهم شعيبا عليه السلام نبيّا ورسولا، يتكلم بعربية فصيحة، وكان أول أمر بدأهم به هو عبادة الله وحده لا شريك له:
(وإلى مدين أخاهم شُعيبًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيرهُ) [الأعراف، 85]،
ولكنهم لم يهتموا بخطبه التي يلقيها عليهم فاستنكروا هذا الأمر وقالوا له: كيف لصلواتك أن تأمرنا أن نترك ما كان يعبد أباؤنا؟!
هم ظنوا أن شعيبًا عليه السلام يكتفي بالصلاة، ثم يتركهم في ضلالهم وكفرهم، وجهلوا أن الصلاة تجعل الإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وظنوا أيضا، أن آبائهم كانوا مهتدين لمّا عبدوا تلك الشجرة، فأراد شعيب عليه السلام أن يبين لهم أن آبائهم كانوا في ضلال مبين، وأن الحق أحق أن يتبع، ولكنهم أعرضوا إعراضا شديدا، وعظُم في أنفسهم أن يكون آباؤهم في ضلال مبين.
ثم إنّ شعيبا أراد أن يذكرهم بالنعم والخيرات التي أعطاها الله سبحانه لهم، فقال: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) [الأعراف، 86]،
فلقد كنتم من أقل الناس عددا ثم زاد عددكم كثيرا في مدة قصيرة حتى إن الناس تعجبوا لهذه الكثرة، فمن الذي كثّركم، أهذه الشجرة التي تعبدون أم أنه الله سبحانه وحده؟
لكن عقولهم جامدة لا تعقل، وقلوبهم قاسية لا تلين، وقد أوتي شعيب إرادة لا تكلّ، وقوة لا تنثني، وذلك مما جعله لم يعجز عن دعوة قومه مع أنهم غلاظ قساة، ما زال يذكرهم ويعظهم لعلهم يهتدون.
أراد شعيب عليه السلام أن يبين لهم أن ما هم فيه من الغش وقطع الطريق حرامٌ وظلم لا يحبه الله ولا يرضاه، فخاطب التجار
(فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم) (الأعراف، 85)،
يأيها التجار إذا وزنتم للبائع فزنوا له بالحق ولا تعطوه منقوصا لأن هذا من الظلم، وإذا كثر فيكم ذلك كنتم من المفسدين في الأرض، لذلك قال لهم: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) (الأعراف، 85)،
فما يربحونه في تجارتهم كثير، وهم ليسوا بحاجة إلى هذا الغش والظلم:
(إني أراكم بخير) (هود، 84)،
فلماذا تفعلون هذه القبائح، رغم أن تجارتكم مربحة؟!
كره قومه ما جاءهم به، وأخذوا في البداية يستهزئون به حتى يفشل في دعوته لهم، فقالوا له:
كيف تمنع عنا أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟
فبظنهم السيء اعتقدوا أن الدين شيء، والمال شيء آخر، وأن الغش ليس له علاقة بالصلاة.
ثم أكملوا كلامهم بسخرية واستهزاء فقالوا: (إنّك لأنت الحليم الرشيد) [هود، 87].
هم يعلمون أنه نبي الله، أوتيَ حقّا العلم والرشد ، ولكنه اتهموه بعدم العلم في التجارة، وقالوا أن التاجر الناجح هو الذي يغش في تجارته.
وجه شعيب لهم خطابا آخر فيه لين ورفق، فقال لهم:
يا قوم إني على بينة من ربي، فإنه تعالى أرسلني إليكم لأدعوكم إلى الخير وأنهاكم عن الشر، وإنكم لتعلمون یا قوم أن الله قد رزقني منه رزقا حسنا، أي النبوة، وأنتم تعلمون أني ما أريد لكم إلا الإصلاح ما استطعت.
ولو أنهم فعلوا ما أمرهم به لقلّ الفساد ولكثر الصلاح، ولكنهم أصبحوا يكرهونه لنهيه إياهم، فخافوا على تجارتهم من كلامه.
ولما علم أنهم أبغضوه، قال لهم:
(لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح) [هود، 89]،
أي لا يجعلكم بغضكم وكراهیتكم لي تستمرون في عمل القبائح والمنكرات التي تفعلونها، فالحق ينبغي أن تتبعوه من أي رجل جاءكم به لأنه حق، وإلا فإنه سيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح عليه السلام من الطوفان، وقوم هود وقوم صالح عليهما السلام، ثم ذكرّهم بآخر قوم عذبهم الله، وهم قوم لوط قائلا لهم:
(وما قوم لوط منكم ببعيد) [هود، 89] ثم قال لهم في لين ولطف:
(واستغفروا ربّكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيمٌ ودود) [هود، 90]،
طلب منهم أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه، لأنهم إن فعلوا ذلك فإنه تعالى يعفو عنهم ويغفر لهم، فهو رحيم ودود؛ أي يحب لعباده الخير، إذ هو أرحم من الأم بولدها الصغير.
لكنهم أجابوا بقولهم:
(يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول) (هود، 91)
ثم خاطبوه بلغة التهديد، قائلين: (وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك) [هود، 91]،
فلولا أن قومك يا شعيب فينا لرجمناك بالحجارة، لأنك ضعيف مهين، وما أنت علينا بعزيز.
فقال لهم:
يا قوم أرهَطي وعشيرتي أعزّ وأقوى عليكم من الله العزيز الحميد القوي الحكيم، وأمره هو النافذ، وما جئتكم به هو من عنده تعالى، فكيف بكم تجعلون قومي أعزّ من الله وأوامره؟
كان كلام شعيب عليه السلام يدخل إلى العقول وإلى القلوب، فآمن به بعض الناس واتبعوه فيما يقول، أما قومه الكفار فإنهم لما قابلوا أمر رسول الله بالاستهزاء توعدهم بالعذاب الأليم، إذ قال لهم:
(سوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه ومن هو كذابٌ) [هود، 93]،
فارتقبوا، فإن الأمر لن يطول عليكم، وإني معكم، وسنرى لمن تكون العاقبة الحسنة في الأخير، إن الله هو الذي سيحكم بيننا في الدنيا والآخرة.
هنالك غضب الملأ من قوم شعيب عليه السلام، وهم الأغنياء وذو الوجاهة الذين كانت لهم الكلمة، وهم من أكثر الناس استكبارا و عتّوا وفسادا في الأرض، فقالوا له:
إما أن تتوقف عن دعوتك أو نخرجك ومن آمن معك من قريتنا، فتذهبون بعيدا عنا، ونبقى نحن على ديننا، وأنتم اعبدوا ما شئتم، ثم اقترحوا عليه اقتراحا آخر، وقالوا له:
أو لتعودّن في ملتنا وديننا فتعبدون شجرة الأيكة معنا.
وقال لهم شعيب عليه السلام:
اعلموا أيها الملأ أنني ومن آمن معي لن نعود إلى دينكم، فنحن نعلم أنّ ما أنتم فيه من عبادة تلك الشجرة ومن الأعمال القبيحة لهو الضلال المبين، ولن نرجع عن ديننا حتى وإن عذبتمونا، وضربتمونا، ونحن نتوكل على الله الذي يكفينا شركم وينصرنا.
ولما يأس منهم دعا الله تعالى أن ينصره عليهم فقال
(ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) [الأعراف، 89]
ومع هذا أصر الملأ من قومه على الاستكبار والغرور، فقالوا لقومهم (لئّن اتبعتم شعيبًا انكم إذا لخاسرون) [الأعراف، 90]
ثم تمادوا في غيهم، حتى قالوا عن شعيب عليه السلام:
(إنّما أنت من المسحّرين) [الشعراء، 185]، اتهموه بأنه ساحر.
وبدأت سلسلة العذاب، حيث أوقف عنهم الهواء، إلا بقدر ما يتنفسون، فكانوا في ضيق شديد ، وقد ظلوا على هذا الحال الصعب فترة من الزمن ،كان يتصاعد فيها العذاب، ولما اشتد عليهم الأمر أرسل الله سبحانه عليهم سحابة كبيرة ، فاستظّلوا بها من الحرّ الذي كانوا يعانونه، وانتعشوا بذلك الهواء البارد الذي كانت تحمله معها، فنادى بعضهم بعضا ،وما أن اجتمعوا كلهم تحت هذه السحابة ، حتى أخذهم العذاب الأليم، وقد سمى الله ذلك اليوم بيوم الظُّلة... (فأخذهم عذابُ يوم الظُّلة إنه كان عذاب يوم عظيم) [الشعراء، 189].
وأوّل ما أصابهم وهم تحت هذه السحابة أن أخذتهم رجفة مزلزلة رهيبة (فأخذتهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) [الأعراف، 91]،
ولمّا أخذتهم الرجفة جثموا كلهم أي بركوا على ركبهم ، وهم في دهشة وهول مما يرونه.
كانوا فزعين أشد الفزع، لا يستطيع أحد منهم أن ينبس بحرف!!
أصيبوا جميعا بالخرس، وكأن الرعب قد عقد ألسنتهم ، ثم ختم الله سبحانه هذا العقاب الذي حلّ بهم بصيحة قوية وقعت عليهم من السماء، أزهقت أرواحهم. (وأخذت الذين ظلموا الصيحةُ فأصبحوا في ديارهم جاثمين) (هود، 94).
ورغم أن قوم شعيب لم يكذبوا إلا شعيبا عليه السلام، وهو رسول واحد، لكن الله بيّن لنا أنهم لمّا كذبوا برسول واحد فكأنهم كذبوا بكل الرسل الآخرين، لأن الذي بعث هؤلاء الأنبياء هو الله جلّ وعلا، ومن كذبهم فقد كذب الله، فلم ينفع قوم شعيب عليه السلام شجره الأيكة التي عبدوها، ولم تنفعهم أموالهم التي حصّلوها من الحرام والغش....
وإذا تأملنا في فترة العذاب التي تعرض لها قوم شعيب، سنلاحظ أن الله قد أمهلهم ولم يأخذهم بغتة...
فهل هم مع ازدياد هول العذاب عليهم، وما يتعرضون له من قلة الهواء وضيق رهيب في التنفس، هل هم تذكروا تحذير نبيهم؟!
أهم قوم لا يعقلون؟!
لماذا لم ينتبهوا ويراجعون أنفسهم ويعودون إلى الحق؟!
ولكن للأسف العذاب جعل يزداد عليهم وهم على عنادهم وضلالهم حتى أخذتهم الرجفة!!
أما المؤمنون من قوم شعيب فإن الله نجاهم من هذا العذاب فقال الله سبحانه: (ولّما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منّا) [هود، 94]،
ولما أهلك الله هؤلاء الكافرين مرّ عليهم شعيب عليه السلام وهم موتى قائلا:
(يا قوم لقد ابلغتكم رسالات ربي ونصحتُ لكم) [الأعراف، 93]
فقد بيّن لقومه ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، فنصحهم نصحا كاملا، وأبلغهم إبلاغا تّاما، وحرص على هدايتهم بكل ما قدر عليه، لكن قومه لا يحبون الناصحين ولذلك قال لهم : (كيف آسا على قوم كافرين) [الأعراف، 93]
بعث الله النبي شعيب عليه السلام إلى أهل مدين، وهم قوم يعبدون الأيكة وهي شجرة كثيفة الأغصان، وقد كانوا عصاة،أصحاب خلق سيء، وذمة فاسدة.
كانوا تجارا يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيها، ويفعلون كل شيء للحصول على المال والربح السريع المضاعف حتى وإن ظلموا وسرقوا، وغشوا، وخالفوا كل المبادئ السوية...
إن حال وصفات أصحاب الأيكة، يشبه كثيرا حال تجار وأصحاب رؤوس المال في بلادنا الآن!!
فهم يتشابهون معهم إلى درجة مذهلة، فتجد التاجر منهم يتحصل على أرباح خرافية حتى تتضخم أرصدته في البنوك والمصارف، وتتعدد عقاراته ما بين عمارات وشاليهات وقصور وفيلات، وهكذا تظل تتضاعف، وتتراكم ممتلكاته، حتى يصل إلى مرحلة من الثراء الفاحش وهو مستمر في غيه لا يتوقف عن جمع المال وجعله هدفه الأول والأخير.
وليست ثمة مشكلة في السعي لجمع المال
فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا، ولكن المشكلة الكبرى في تلك الممارسات التي تتم في إطار من الجشع والفساد!!
على سبيل المثال :
تجار اللحوم يسيطرون على حصص معينة في شبه منظومة احتكارية- كشأن معظم السلع - تمنع اختراقها، وتمنع تحقيق حالة المنافسة الشريفة التي تضبط السوق، فهم يتسببون في اشتعال سعر اللحوم ، وقد كانوا يستطيعون عرض لحومهم بأسعار تقل كثيرا عن ما يفرضون ، ولكنهم للأسف لا يهدفون إلى الربح المعقول، ولكنهم ينشدون ربحا خرافيا حراما، ولو على حساب جوع الناس، ومعانتهم الشديدة ....
أما تجار السيارات فحدث ولا حرج، فهم يوفرون للمجتمع سيارات بأقل مستوى من الجودة، وأقل قدر من معدلات الأمان ، وبأعلي سعر مقارنة بمثله في الدول الأخرى، التي نصفها بالكفر ...
ولو التفتنا إلى باقي القطاعات فسنجد مهازل عديدة مثل المقاولين وما يطرحونه من شقق ضعيفة الأساسات بأسعار خيالية لتزداد أزمة الإسكان..... ومافيا أصحاب المدارس الخاصة، و كوارث أصحاب المستشفيات الذين يتاجرون في دماء البشر.....
لا رحمة ولا شفقة ولا دين ولا خلق، ولا شبع تقريبا في شتى القطاعات الاقتصادية!!
هل هؤلاء القوم لا يدركون أنهم بعد مرحلة معينة من تحقيق احتياجتهم و رفاهيتهم، فإن الأموال التي تدخل مصارفهم، داخل الدولة، أوخارجها تصبح مجرد أرقام لا تسمن ولا تغني من جوع؟!
إن التاجر في الدول الأجنبية ، حتى وإن كان فاسدا، عندما تصل أمواله إلى حد معين فإنه عادة ما يراجع نفسه، ويقوم بالتبرع بالملايين للدولة وللمؤسسات الخيرية،والمجتمعية، وكأن لسان حاله يقول لا تسألوني كيف جمعت المليون الأول ولكن اسألوني عن ما جمعته بعده!!
أما تجارنا نحن فلا يصلون أبدا إلى هذه النقطة...
نقطة حساب النفس.....
نقطة مراجعة الضمير...
نقطة الشبع...
نقطة الرحمة؟!
مثلهم مثل تجار أصحاب الأيكة ، فهل يعرف هؤلاء التجار نهاية أصحاب الأيكة ؟!
***.
في أرض “معان” من أطراف بلاد الشام، ثمة مدينة كبيرة تسمى “مدين”، تقع بالقرب من بحيرة قوم لوط عليه السلام التي دمّرها الله سبحانه.
وسميت “مدين” نسبة إلى جدهم مدين بن مديان، وهو من أحفاد إبراهيم عليه السلام.
كانت مدينة جميلة واسعة الأرجاء، وسكانها كانوا قليلي العدد، ثم بارك الله في نسلهم وتكاثروا، وهم ذوو تجارة رابحة جدا.
لكنهم بدلا من أن يشكروا نعم الله عليهم، اتخذوا لأنفسهم شجرة يعبدونها من دونه، ويقرّبون لها القرابين،و هي شجرة الأيكة (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين) (الحجر، 78)
كانوا يتوافدون عليها جماعات و فرادی ، يفعلون الكثير من المنكرات والقبائح، وكانوا يغّشون في تجارتهم، رغم ربحهم الوفير.
كان التاجر منهم، إذا باع للناس يعطي المشتري أقل مما ينبغي ،بينما هو يأخذ المال كله مستوفى غير منقوص.
، أما إذا أراد هذا البائع أن يشتري بضاعة لا توجد عنده من بائع آخر فإنه يريد أن يعطيه القليل ويأخذ سلعا كثيرة.
كان هذا حالهم، فهم من أسوأ الناس معاملة فيما بينهم، و كل واحد منهم يتفنن في أن يغش الآخر في التجارة.
كانت بلادهم منطقة تجارية واسعة، ولذلك كان سكان البلدان المجاورة يأتون إليها ليتاجروا فيها، فكانوا يقطعون عليهم طريقهم، ويأخذون منهم ما شاءوا من الأموال، ثم إذا وصل التجار الوافدون إلى المدينة فإن أهلها لا يتركونهم يدخلون إلى السوق حتى يعطوهم قسطا من المال، فجمع بذلك أهل مدين أنواعا من الشرور والظلم.
وهم بذلك يعيشون في ظلام دامس من الشرك بالله، و ظلم العباد.
ولما كانوا على هذه الحالة من الفساد، أراد الله بهم خيرا ، فبعث إليهم شعيبا عليه السلام نبيّا ورسولا، يتكلم بعربية فصيحة، وكان أول أمر بدأهم به هو عبادة الله وحده لا شريك له:
(وإلى مدين أخاهم شُعيبًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيرهُ) [الأعراف، 85]،
ولكنهم لم يهتموا بخطبه التي يلقيها عليهم فاستنكروا هذا الأمر وقالوا له: كيف لصلواتك أن تأمرنا أن نترك ما كان يعبد أباؤنا؟!
هم ظنوا أن شعيبًا عليه السلام يكتفي بالصلاة، ثم يتركهم في ضلالهم وكفرهم، وجهلوا أن الصلاة تجعل الإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وظنوا أيضا، أن آبائهم كانوا مهتدين لمّا عبدوا تلك الشجرة، فأراد شعيب عليه السلام أن يبين لهم أن آبائهم كانوا في ضلال مبين، وأن الحق أحق أن يتبع، ولكنهم أعرضوا إعراضا شديدا، وعظُم في أنفسهم أن يكون آباؤهم في ضلال مبين.
ثم إنّ شعيبا أراد أن يذكرهم بالنعم والخيرات التي أعطاها الله سبحانه لهم، فقال: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) [الأعراف، 86]،
فلقد كنتم من أقل الناس عددا ثم زاد عددكم كثيرا في مدة قصيرة حتى إن الناس تعجبوا لهذه الكثرة، فمن الذي كثّركم، أهذه الشجرة التي تعبدون أم أنه الله سبحانه وحده؟
لكن عقولهم جامدة لا تعقل، وقلوبهم قاسية لا تلين، وقد أوتي شعيب إرادة لا تكلّ، وقوة لا تنثني، وذلك مما جعله لم يعجز عن دعوة قومه مع أنهم غلاظ قساة، ما زال يذكرهم ويعظهم لعلهم يهتدون.
أراد شعيب عليه السلام أن يبين لهم أن ما هم فيه من الغش وقطع الطريق حرامٌ وظلم لا يحبه الله ولا يرضاه، فخاطب التجار
(فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم) (الأعراف، 85)،
يأيها التجار إذا وزنتم للبائع فزنوا له بالحق ولا تعطوه منقوصا لأن هذا من الظلم، وإذا كثر فيكم ذلك كنتم من المفسدين في الأرض، لذلك قال لهم: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) (الأعراف، 85)،
فما يربحونه في تجارتهم كثير، وهم ليسوا بحاجة إلى هذا الغش والظلم:
(إني أراكم بخير) (هود، 84)،
فلماذا تفعلون هذه القبائح، رغم أن تجارتكم مربحة؟!
كره قومه ما جاءهم به، وأخذوا في البداية يستهزئون به حتى يفشل في دعوته لهم، فقالوا له:
كيف تمنع عنا أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟
فبظنهم السيء اعتقدوا أن الدين شيء، والمال شيء آخر، وأن الغش ليس له علاقة بالصلاة.
ثم أكملوا كلامهم بسخرية واستهزاء فقالوا: (إنّك لأنت الحليم الرشيد) [هود، 87].
هم يعلمون أنه نبي الله، أوتيَ حقّا العلم والرشد ، ولكنه اتهموه بعدم العلم في التجارة، وقالوا أن التاجر الناجح هو الذي يغش في تجارته.
وجه شعيب لهم خطابا آخر فيه لين ورفق، فقال لهم:
يا قوم إني على بينة من ربي، فإنه تعالى أرسلني إليكم لأدعوكم إلى الخير وأنهاكم عن الشر، وإنكم لتعلمون یا قوم أن الله قد رزقني منه رزقا حسنا، أي النبوة، وأنتم تعلمون أني ما أريد لكم إلا الإصلاح ما استطعت.
ولو أنهم فعلوا ما أمرهم به لقلّ الفساد ولكثر الصلاح، ولكنهم أصبحوا يكرهونه لنهيه إياهم، فخافوا على تجارتهم من كلامه.
ولما علم أنهم أبغضوه، قال لهم:
(لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح) [هود، 89]،
أي لا يجعلكم بغضكم وكراهیتكم لي تستمرون في عمل القبائح والمنكرات التي تفعلونها، فالحق ينبغي أن تتبعوه من أي رجل جاءكم به لأنه حق، وإلا فإنه سيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح عليه السلام من الطوفان، وقوم هود وقوم صالح عليهما السلام، ثم ذكرّهم بآخر قوم عذبهم الله، وهم قوم لوط قائلا لهم:
(وما قوم لوط منكم ببعيد) [هود، 89] ثم قال لهم في لين ولطف:
(واستغفروا ربّكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيمٌ ودود) [هود، 90]،
طلب منهم أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه، لأنهم إن فعلوا ذلك فإنه تعالى يعفو عنهم ويغفر لهم، فهو رحيم ودود؛ أي يحب لعباده الخير، إذ هو أرحم من الأم بولدها الصغير.
لكنهم أجابوا بقولهم:
(يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول) (هود، 91)
ثم خاطبوه بلغة التهديد، قائلين: (وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك) [هود، 91]،
فلولا أن قومك يا شعيب فينا لرجمناك بالحجارة، لأنك ضعيف مهين، وما أنت علينا بعزيز.
فقال لهم:
يا قوم أرهَطي وعشيرتي أعزّ وأقوى عليكم من الله العزيز الحميد القوي الحكيم، وأمره هو النافذ، وما جئتكم به هو من عنده تعالى، فكيف بكم تجعلون قومي أعزّ من الله وأوامره؟
كان كلام شعيب عليه السلام يدخل إلى العقول وإلى القلوب، فآمن به بعض الناس واتبعوه فيما يقول، أما قومه الكفار فإنهم لما قابلوا أمر رسول الله بالاستهزاء توعدهم بالعذاب الأليم، إذ قال لهم:
(سوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه ومن هو كذابٌ) [هود، 93]،
فارتقبوا، فإن الأمر لن يطول عليكم، وإني معكم، وسنرى لمن تكون العاقبة الحسنة في الأخير، إن الله هو الذي سيحكم بيننا في الدنيا والآخرة.
هنالك غضب الملأ من قوم شعيب عليه السلام، وهم الأغنياء وذو الوجاهة الذين كانت لهم الكلمة، وهم من أكثر الناس استكبارا و عتّوا وفسادا في الأرض، فقالوا له:
إما أن تتوقف عن دعوتك أو نخرجك ومن آمن معك من قريتنا، فتذهبون بعيدا عنا، ونبقى نحن على ديننا، وأنتم اعبدوا ما شئتم، ثم اقترحوا عليه اقتراحا آخر، وقالوا له:
أو لتعودّن في ملتنا وديننا فتعبدون شجرة الأيكة معنا.
وقال لهم شعيب عليه السلام:
اعلموا أيها الملأ أنني ومن آمن معي لن نعود إلى دينكم، فنحن نعلم أنّ ما أنتم فيه من عبادة تلك الشجرة ومن الأعمال القبيحة لهو الضلال المبين، ولن نرجع عن ديننا حتى وإن عذبتمونا، وضربتمونا، ونحن نتوكل على الله الذي يكفينا شركم وينصرنا.
ولما يأس منهم دعا الله تعالى أن ينصره عليهم فقال
(ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) [الأعراف، 89]
ومع هذا أصر الملأ من قومه على الاستكبار والغرور، فقالوا لقومهم (لئّن اتبعتم شعيبًا انكم إذا لخاسرون) [الأعراف، 90]
ثم تمادوا في غيهم، حتى قالوا عن شعيب عليه السلام:
(إنّما أنت من المسحّرين) [الشعراء، 185]، اتهموه بأنه ساحر.
وبدأت سلسلة العذاب، حيث أوقف عنهم الهواء، إلا بقدر ما يتنفسون، فكانوا في ضيق شديد ، وقد ظلوا على هذا الحال الصعب فترة من الزمن ،كان يتصاعد فيها العذاب، ولما اشتد عليهم الأمر أرسل الله سبحانه عليهم سحابة كبيرة ، فاستظّلوا بها من الحرّ الذي كانوا يعانونه، وانتعشوا بذلك الهواء البارد الذي كانت تحمله معها، فنادى بعضهم بعضا ،وما أن اجتمعوا كلهم تحت هذه السحابة ، حتى أخذهم العذاب الأليم، وقد سمى الله ذلك اليوم بيوم الظُّلة... (فأخذهم عذابُ يوم الظُّلة إنه كان عذاب يوم عظيم) [الشعراء، 189].
وأوّل ما أصابهم وهم تحت هذه السحابة أن أخذتهم رجفة مزلزلة رهيبة (فأخذتهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) [الأعراف، 91]،
ولمّا أخذتهم الرجفة جثموا كلهم أي بركوا على ركبهم ، وهم في دهشة وهول مما يرونه.
كانوا فزعين أشد الفزع، لا يستطيع أحد منهم أن ينبس بحرف!!
أصيبوا جميعا بالخرس، وكأن الرعب قد عقد ألسنتهم ، ثم ختم الله سبحانه هذا العقاب الذي حلّ بهم بصيحة قوية وقعت عليهم من السماء، أزهقت أرواحهم. (وأخذت الذين ظلموا الصيحةُ فأصبحوا في ديارهم جاثمين) (هود، 94).
ورغم أن قوم شعيب لم يكذبوا إلا شعيبا عليه السلام، وهو رسول واحد، لكن الله بيّن لنا أنهم لمّا كذبوا برسول واحد فكأنهم كذبوا بكل الرسل الآخرين، لأن الذي بعث هؤلاء الأنبياء هو الله جلّ وعلا، ومن كذبهم فقد كذب الله، فلم ينفع قوم شعيب عليه السلام شجره الأيكة التي عبدوها، ولم تنفعهم أموالهم التي حصّلوها من الحرام والغش....
وإذا تأملنا في فترة العذاب التي تعرض لها قوم شعيب، سنلاحظ أن الله قد أمهلهم ولم يأخذهم بغتة...
فهل هم مع ازدياد هول العذاب عليهم، وما يتعرضون له من قلة الهواء وضيق رهيب في التنفس، هل هم تذكروا تحذير نبيهم؟!
أهم قوم لا يعقلون؟!
لماذا لم ينتبهوا ويراجعون أنفسهم ويعودون إلى الحق؟!
ولكن للأسف العذاب جعل يزداد عليهم وهم على عنادهم وضلالهم حتى أخذتهم الرجفة!!
أما المؤمنون من قوم شعيب فإن الله نجاهم من هذا العذاب فقال الله سبحانه: (ولّما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منّا) [هود، 94]،
ولما أهلك الله هؤلاء الكافرين مرّ عليهم شعيب عليه السلام وهم موتى قائلا:
(يا قوم لقد ابلغتكم رسالات ربي ونصحتُ لكم) [الأعراف، 93]
فقد بيّن لقومه ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، فنصحهم نصحا كاملا، وأبلغهم إبلاغا تّاما، وحرص على هدايتهم بكل ما قدر عليه، لكن قومه لا يحبون الناصحين ولذلك قال لهم : (كيف آسا على قوم كافرين) [الأعراف، 93]