ولأول مرة في تاريخ الشعر العربي تظهر مادة الحشيشة المُخَدِّرة، وأصبحت هذه المادة فنًّا من فنون الشعر، ومَوْضعًا من موضوعاته، فكما كانت الخمر منذ العصر الجاهلي غرضًا من أغراض الشعر، أصبحت الحشيشة منذ العصر الأيوبي غرضًا كذلك من أغراض الشعر، وكان السبب في دخول هذه المادة إلى مصر وبلاد الشام هم رجال الصوفية؛ ولذلك سُمِّيَت حشيشةَ الفقراء؛ لأن الصوفية كانوا يُسَمُّون أنفسهم بالفقراء.
ويختلف المؤرخون في اكتشاف هذا المُخَدِّر، فبعضهم ينسب اكتشافها إلى فقير صوفي من خراسان يُدعى الشيخ حيدرة المتوفى سنة ٦١٨ هجرية، وأن هذه المادة المُخَدِّرة كانت وقفًا على رفاقه من الصوفية، ولم يشأ أن يَذِيع سِرُّها في حياته، وأوصى أن تُزْرَع على قبره بعد وفاته، ثم انتقلت هذه المادة بعد ذلك من خراسان إلى العراق بعد سنة ٦٢٨ هجرية، واشتهر أَمْرُها بين صوفية العراق، ثم نقلها الصوفية إلى الشام ومصر.١
وفي نسبة الحشيشة إلى حيدرة هذا يقول الشاعر الدمشقي محمد بن عليِّ بن الأعمى — يفضل الحشيشة على الخمر:
دَع الخمر واشرب من مُدامة حَيْدَر
مُعَنْبَرَة خضراء مثل الزبرجدِ
يعاطيكها ظبي من التُّرك أغيد
يميس على غصن من الْبَان أمْلَدِ
فتَحْسَبُها في كَفِّه إذ يُدِيرها
كرقم عذارِ فوق خدٍّ موَرَّدِ
يُرَنِّحها أدنى نسيم تنسَمتْ
فتهفو إلى برد النسيم المرددِ
وتشدو على أغصانها الورق في الضحى
فيطربها سجع الحمام المغرِّدِ
وفيها معانٍ ليس في الخمر مِثْلُها
فلا تستمع فيها مَقَالَ مُفَنِّدِ
هي البِكر لم تُنكح بماء سحابةٍ
ولا عُصِرَتْ يومًا برجْلٍ ولا يدِ
ولا عَبَثَ القِسيس يومًا بكأسها
ولا قَرَّبوا من دَنِّها كُلَّ مَقْعَدِ
ولا نَصَّ في تحريمها عند مالكٍ
ولا حَدَّ عند الشافعيِّ وأحمدِ
ولا أَثْبَتَ النعمانُ تنجيسَ عينها
فخُذْهَا بحَدِّ المشرفي المهندِ
وكُفَّ أكُفَّ الهمِّ بالكفِّ واسترح
ولا تَطَّرِحْ يوم السرور إلى غدِ٢
فالشاعر هنا ينسب الحشيشة إلى حيدرة، ويطلق عليها المُدامة كأنها الخمر، ثم يتحدث عن رائحتها وعن لونها، فهي مثل العنبر وخضراء مثل الزبرجد، ويتحدث عن مجلس الحشيشة إذ يدور بها ظبي من التُّرك، والحشيشة في كفه كأنها العذار فوق الخد المورد، وأن شجرتها تهتز وتتمايل لأخف هَبَّات النسيم، وأن الحمائم تَشْدُو على أغصانها فتطرب الغصون لتغريدها، وأن لها معانيَ ليست في الخمر، إذ لم تُخْلَط بماء كما تُخْلَط الخمر، ولم تُعْصَر بالأرجل كما تُعصر الخمر، ولم يتخذ القسيس من الحشيشة مادة لعبثه كما يتخذ من الخمر، ولم يقرب من دَنِّها كل مقعد كما يحدث في الخمر، كما أن المذاهب السُّنية المعروفة لم تَنُصَّ على تحريم الحشيشة كما نَصَّتْ على تحريم الخمر، وأن حَدَّ الحشيشة ليس هو السيف كحد الخمر، ويختم هذه المقطوعة بالدعوة لتناول هذه المادة لطرح الهموم وجلب السرور، ونلاحظ في هذا البيت الأخير أنه عَبَّرَ عن تناولها بالكف، فالخمر تؤخذ بالكأس بينما الحشيشة تؤخذ بالكف.
ويقول الشاعر أحمد بن محمد بن رسام — في نسبة الحشيشة أيضًا إلى ابن حيدرة:
ومهفهفٍ بادي النفار عَهِدْتُهُ
لا ألتقيه قَطُّ غَيْرَ مُعَبِّسِ
فرأيته بعضَ الليالي ضاحكًا
سَهْل العريكة رَيِّضًا في المجلسِ
فقضيت منه مآربي وشكرْتُه
إذ صار من بعد التنافر مؤنِسِي
فأجابني لا تَشْكُرَنَّ خلائقي
واشكر شفيعك فَهْو خمر المُفلسِ
فحشيشة الأفراح تَشْفَعُ عندنا
للعاشقين ببَسْطها للأنفُسِ
وإذا هممت بصيد ظبي نافِرٍ
فاجهد بأن يرعى حشيش القنبُسِ
واشكر عصابة حيدر إذ أظهروا
لذوي الخلاعة مذهبَ المتخمِّسِ
ودَع المعطِّل للسرور وخَلِّنِي
من حُسن ظَنِّ الناس بالمتنمِّسِ٣
فالشاعر هنا يتحدث عما يصيب من يتناول الحشيشة من ضَعْف في إرادته، فهو يصبح ريضًا سهل العريكة، وأن الحشيشة رخيصة الثمن بحيث سَمَّاها الشاعر هنا خمر المُفلس، وأن جماعة حيدر هم الذين أظهروا هذه المادة، ونلاحظ أن قوله: إن عصابة حيدر أظهروا مذهب المتخمس، يُذَكِّرنا بما يجري الآن بين العامة واصطلاحهم «خمس»؛ أي مشاركة أكثر من واحد في تدخين السيجارة الواحدة.
ولكن في كتاب رسالة زهر العريش في الكلام عن الحشيش٤ لبدر محمد بن بهادر الزركشي، أن هذه المادة ظَهَرَت على يد أحمد القلندري، ولذلك سُمِّيَت «القلندرية». ويقول ابن تيمية: إن هذه المادة ظَهَرَتْ في أواخر المائة السادسة وأوائل المائة السابعة حين ظهرت دولة التتار، ومنها انتقلت إلى بغداد. وهناك رواية أخرى، وهي أن هذه المادة إنما عُرِفت — أَوَّلَ ما عُرِفت — بالهند، وأن أول من تناولها رجل صوفي كان يُسَمَّى «البير رتن»، فهو أول من أظهر لأهل الهند أَكْلها ولم يكونوا يعرفونها قبل ذلك، ثم شاع أَمْرها في بلاد الهند ومنها انْتَقَلَتْ إلى اليمن، ثم فشا أَمْرُها إلى أهل فارس ومنها إلى العراق ومصر سنة ٦٢٨ﻫ.٥ ولكن أمر الصوفي الهندي هذا مُخْتَلَف فيه اختلافًا كبيرًا جدًّا، فقد قيل: إن هذا الرجل شاهد الرسول عليه السلام وعاش حتى القرن السابع الهجري، مما أدى بالذهبي إلى أن يُكَذِّبَ أمره ويقول عنه: «إني أَوَّل من كَذَّب بهذا الرجل، وإنه شيخ مفترٍ دجال كذاب قاتله الله تعالى.»٦
ومهما يكن من شيء، فإن قصة الحسن بن الصباح زعيم الإسماعيلية النزارية واستخدامه هذه المادة المُخدِّرة بين أتباعه، وانتقال هذه المادة في القرن السادس إلى إسماعيلية الشام، وورود ذِكْر هذه المادة في رسالة القاضي الفاضل بتاريخ سنة ٥٦٩ﻫ — إذ نَعَتَ راشد الدين سنان بأنه زعيم الحشيشة — مما يدل على أن بعض الأفراد، أو بعض الطوائف في فارس وفي الشام قد عرفوا هذا المُخدِّر قبل أن ينتقل إلى مصر، ولعل الصوفية الذين كَثُرَ قدومُهم إلى مصر في عهد صلاح الدين، والذين هَيَّأَت لهم الدولة سُبُلَ الحياة اللينة، وسُبُلَ العيش الرغد في كنفها هم الذين أَدخَلوا هذه المادة إلى مصر. وقد اشتهر بستان الكافوري بزراعة هذه المادة حتى عُرِفَ البستان بحشيشة الفقراء، وعُرِفت الحشيشة بالكافورية نسبةً إلى هذا البستان، وفي ذلك يقول الشاعر زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الحنفي:
وخضراء كافورية بات فِعْلُها
بألبابنا فِعْلَ الرحيق المعتقِ
إذا نَفَحَتْنَا من شذاها بنفحةٍ
تدب لنا في كل عضو ومنطِقِ
غنيت بها عن شرب خَمْر معتَّقٍ
وبالدلق عن لبس الجديد المزوَّقِ٧
فهو يصفها بأنها خضراء، وأنها كافورية؛ أي منسوبة إلى بستان الكافوري، وأنها تفعل في الألباب ما يَفْعَله الخمر المعتق، وأن رائحتها تَدُبُّ في الأعضاء والمفاصل، وأنه غني بها عن شرب الخمر، وأنه ليس في حاجة إلى أن يرتدي أجمل ملابسه لمجلها بل يستعيض عنها بالدلق.
ولابن الصائغ عدة مقطوعات في الحشيشة، من ذلك قوله:
أعطني خضراء كافورية
يكتب الخمر لها من جُندها٨
أَسْكَرَتْنَا فوق ما تُسْكِرُنا
وربحنا أنفُسًا مِنْ حَدِّهَا
ويقول أيضًا:
قم عاطني خضراء كافورية
قامت مقام سلافة الصهباءِ
يغدو الفقير إذا تناول درهمًا
منها له تيه على الأمراءِ
وتراه من أقوى الورى فإذا خلا
منها عددناه من الضعفاءِ
ويقول أيضًا:
عاطيت من أهوى وقد زارني
كالبدر وافى ليلة البدرِ
والبحر قد مد على متنه
شعاعه جسرًا من التبرِ
خضراء كافورية رنحت
أعطافه من شدة السُّكرِ
يفعل منها درهم فوق ما
تَفْعَل أرطال من الخمرِ
فراح نشوانًا بها غافلًا
لا يعرف الحُلْو من المُرِّ
قال وقد نال بها أمْرَهُ
وبات مردودًا إلى أمرِ
قتلتني! قُلْتُ: نعم سيدي
قَتْلَيْن بالسُّكر وبالبحرِ
فالشاعر هنا جعل مجلس الحشيشة مثل مجلس الخمر، فهو يعاطيها مَنْ أحب، ووصفها بأنها خضراء وأنها كافورية، وأن الدرهم من الحشيش يفعل أَكْثَرَ مما يفعله أرطال من الخمر، وأن الذي يتعاطى الحشيش يصبح في نشوة غافلًا عن كل شيء، فلا يميز بين الحلو والمرِّ.
ويقول الشاعر نور الدين أبو الحسن الينبعي — أحد شعراء الصوفية:
رُبَّ ليلٍ قطعته ونديمي
شاهدي وهْو مسمعي وسميري
مجلسي مسجد وشربي من
خضراء تزهو بحُسن لون نضيرِ
قال لي صاحبي وقد فاح منها
نشرها مزريًا بنشر العبيرِ
أَمِنَ المسك؟ قُلْتُ: ليست من المسـ
ـك ولكنها من الكافوري٩
فالشاعر قطع ليلة مع نديمه في مجلس هو المسجد عنده، وكان شرابه الخضراء، وقد فاح منها نشرها، ثم نسب الحشيشة إلى بستان الكافوري. هكذا أصبحت مادة الحشيشة من موضوعات الشعر، وأخذ الناس يتحدثون عن مدى تحريم هذه المادة، ووُضِعت بعض الفصول والرسائل في تحريم الحشيشة، وكما فَضَّلَ بعضٌ الحشيشة على الخمر، نرى شعراء آخرين يهجون الحشيشة، فمن ذلك قول الشاعر إبراهيم بن سليمان بن حمزة المعروف بجمال الدين بن النجار نقيب أشراف الإسكندرية المتوفى سنة ٦٥١ هجرية:
لحا الله الحشيش وآكليها
لقد خَبُثَتْ كما طاب السلافُ
كما تسبي كذا تُضْنِي وتُشْقِي
كما يشقى وغايتها الخرافُ
وأصغر دائها والداء جم
بغاء أو جنون أو نشافُ١٠
فالشاعر هنا يُعدِّد ما يصيب مدمن الحشيشة، فهو إما ينتهي به الأمر إلى البغاء، أو الجنون، أو إلى مرض عقلي هو جفاف يصيب المخ، وكلها أمراض لا شك من الأمراض المستعصية.
ويقول الشاعر الإسعردي — يُفَضِّل الخمر على الحشيش:
فديتك نور الحق قد لاح فاهتدِ
نديمي وكُنْ في اللهو غيرَ مقلدِ
أترضى بأن تمسي شبيه بهيمةٍ
بأكل حشيش يابس غير أرغدِ
فدع رأيَ قوم كالدواب ولا تَذَرْ
سوى درة كالكوكب المتوقدِ
مُدام إذا ما لاح للركب نورُها
وقد ضلَّ ليلًا عاد بالنور يهتدي
حشيشتهم تكسي المهيب مهانة
فتلقاه مثل القاتل المتعمدِ
وتبدو على خديه مثل اخضرارها
فيُضْحِي بوجه مُظلمِ اللون أربدِ
وتفسد من ذهن النديم خياله
فينظر مُبْيَضَّ الصباح كأسودِ
وخمرتنا تكسو الذليل مهابةً
وعزًا فتلقى دونه كل سيِّدِ
وتجلى فتجلي همَّ كل مُنَادِمٍ
ويَرْوَى بها مَنْ شربها قلبه الصدي
وتبدو فيبدو سِره وتسره
فيشبهها لونًا بخدٍ مورَّدِ
وفيها على رغم الحشيش منافع
فقل في معانيها وصِفْهَا وعَدِّدِ
وفي خيرها للناس كل مضرة
فحدث بكل السوء عن وصفها الردي
وحقك ما ذاق الحشيشَ خليفة
ولا مَلِك فاق الأنام بسؤددِ
ولا جدَّ في وصفٍ لها قَطُّ شاعرٌ
بتنميقِ ألفاظ كألحان معبدِ
ولم تُضرب الأوتار في مجلسٍ لها
وما ذاك إلا للشراب الموردِ
أتخضب من غير المُدامة راحةً
إذا ما بدت في الكأس تجلى على اليدِ
بها ينثني المعشوق نشوانَ مائلًا
بقدٍ كغصن البانة المتأودِ
يعاطيك راحًا مثلها في رِضَابِه
ومبسمة مثل الحباب المنضَّدِ
ويُنْعِم بالوصل الذي كان باخلًا
به ثم ينسى كل ما كان في الغدِ
أعن مثلها يا صاحِ يَصْبِر عاقلٌ
لقد كُنْتُ في تركي لها غيرَ مهتدِ
ولولا فضول الناس ما بِتُّ صاحيًا
ولم أستمع فيها مقالَ المفندِ
فخذها ولا تسمع مقالة لائمٍ
وإن حُرِّمَتْ يومًا على دين أحمدِ١١
فالشاعر الإسعردي يرى أن آكل الحشيشة هو أقرب إلى البهيمة منه إلى أي شيء آخر، وأن الذين يدافعون عنها هم كالدواب، وأن آكلها يُكسى مهانة بعد هيبة، ويصبح منظره منظر القتلة السفاكين، فعلى خديه اخضرار، ووجهه مُظلم اللون كئيب، وتفسد الذهن والخيال فيرى الأبيض أسود، وأن الحشيش لم يتناولها ملك من الملوك العظام، ولم يَصِفْها شاعر بما وُصِفَ به الخمر، ولم يصحب شربها نغمات الموسيقى، وذلك كله بخلاف الخمر ومجالسها، فالخمر عنده أفضل من هذه الحشيشة. ومن الطريف أن هذا الشاعر نفسه ناقض قصيدته السابقة بقصيدة أخرى فَضَّل فيها الحشيش على الخمر، فهو يقول:
لك الخير لا تسمع كلام المفندِ
ودونك في فتياك غير مقلدِ
سألْتَ عن الخضراء والخمْرِ فاستمِعْ
مقالةَ ذي رأيٍ مصيبٍ مسدَّدِ
وحقِّكَ ما بالخمر بَعْضُ صفاتها
أتشرب جهرًا في رباطٍ ومسجدِ؟
عليك بها خضراء غير مباتع
بأبيض ورقٍ أو بأحمر عسجدِ
ولكن على رغم المُدام هدية
تنزه عن بيع بغير التزهدِ
رياضية يحكي الجنان اخضرارها
وخمرهُمُ كالمارج المتوقدِ
مُدامهم يُنسي المعاني وهذه
تُذَكِّر أسرار الجمال الموحدِ
هي السِّر ترقى الروح فيها إلى ذرى الـ
ـمعالم في معراجِ فَهْمٍ مجردِ
بل الروح حقًّا لا يحل بربعها
هموم ولا يحظى بها غير مهتدي
ولا داسها العصَّار عمدًا ودنَّس الد
نان بمختومٍ من القار أسودِ
ولا تتعب الأبدان عند نزالها
وفي القيء إذ تبدو كزق ممددِ
ولا تستخف الناس عقلك بينهم
لعمري ولا تُدْعَى لديهم بمفسدِ
وفي طرف المنديل يومًا وعاؤها
ويُعتاض عن حمل الزجاجة باليدِ
وتخلص من إثمٍ وحَدٍّ ولا تُرى
ذليلًا وتنجو من نديمٍ معربدِ
وتشربها في العُسْر واليسر دائمًا
ولا تتقي فيها ليالي التعبدِ
وتأمن كبسات الحماة وكَيْدَهم
وتسلم من جور الولاة ولا تدي
وتغدو ذكيًّا فاضلًا ذا نباهةٍ
ظريفًا ولا يغشاك فرْطُ تَبَلُّدِ
وتُصْبِح عند الناس غيرَ مُبَغَّضٍ
وتُمنح مِنْ كُلٍّ بحسن التوددِ
وإن ذاقها المعشوق وافاك خلسةً
من الحاسد الواشي على غير موعدِ
ومن فضلها في الطب جودة هضمها
وهيهات يُحصى فضلها لمُعدِّدِ
ولا سيما إن كان فيها مُنادمي
غزال كغصن البانة المتأودِ
ينادم بالشعر اللطيف وتارةً
يغني فيزري بالحمام المغردِ
يغازلني سِرًّا بعينَيْ غزالة
ويبسم عن ثغرٍ كدُرٍّ منضدِ
فلا تستمع فيها مقالة عازلٍ
يَصُدُّكَ عنها واعْصِ كُلَّ مفندِ١٢
ومن كثرة إقبال المصريين على تناوُل هذه المادة المخدرة بعد أن انتقلت إليهم عن طريق الصوفية، أَمَرَ السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب أن يُمنع الحشيشة في البستان الكافوري، وذات يوم دخل البستان فرأى فيه منها شيئًا كثيرًا، فأمر بأن يُجمع وأن يُحرق، فقال أحد الشعراء في هذه الواقعة وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وستمائة:
صرف الزمانِ وحادِثُ المقدورِ
تَرَكَا نكيرَ الخطب غير نكيرِ
ما سالمًا حيًّا ولا مَيْتًا ولا
طودًا سمَا بل دكدكًا بالطورِ
لَهْفِي، وهل يجدي التلهف في رَدًى
طَرَبَ الغَنِيِّ وأُنْسَ كل فقيرِ
أخت المذلة لارتكاب محرمٍ
قطب السرور بأيسر الميسورِ
جَمَعَتْ محاسنَ ما اجتمعن لغيرها
من كل شيء كان في المعمورِ
منها طعام والشراب كلاهما
والبقلُ والريحانُ وَقْتَ حضورِ
هِيَ روضة إن شِئْتَها ورياضةٌ
يُغْنَى بها عن روضةٍ وخمورِ
ما في المُدامة كُلِّها منها سوى
إثْمُ المُدام وصحبةُ المخمورِ
كلا ونكهة خمرةٍ هي شاهد
عَدْلٌ على حَدٍّ وجَلْدِ ظهورِ
أسفًا لدهر غالها ولربما
ظل الكريم بذلة المأسورِ
جمعت له الأشهاد كرمًا أخضرًا
كعروسة تجلى بخضر حريرِ
زفوا لها نارًا فخِلْنَا جنة
برزت لنا قد زُوِّجَت بالنورِ
ثم اكتست منها غلالة صفرةٍ
في خضرة مقرونة بزفير
فكأنها لَهَبُ اللظى في خضرةٍ
منها وطرف رمادها المنثورِ
جارى النضار على مذاب زمردٍ
تَرَكَا فتيتَ المسك في الكافوري
للَّه دَرُّكِ حية أو ميتة
من منظر بَهِجٍ بغير نظيرِ
أُودِيتِ — غيرَ ذميمة — فسقى الحيا
تربًا تَضَمَّنَ منكِ ذوب عبيرِ
عندي لذكرك ما بقيت مُخلدًا
سح الدموع ونفثة المصدورِ١٣
إذن أصبحت مادة الحشيشة المخدرة من موضوعات الشعر المصري منذ العصر الأيوبي، وأصبح شأنها في الأدب شأن الخمر التي عُرِفت في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي، وكما أن الصوفية جاءوا بآراء جديدة وتعاليم جديدة كانت من مواد الشعر، كذلك جاءوا بالحشيشة وقالوا فيها شعرًا، ولكن الأوصاف التي وُصِفت بها الحشيشة كانت محدودة ضيقة، ولم يستطع الشعراء أن يصفوا مجالس الحشيشة ويطنبوا في وصفها كما فعلوا مع مجالس الخمر، بل أخذ شعراء الحشيشة مجالس الخمر وأطْلَقوها على مجالس الحشيشة، بحيث لا نستطيع أن نفَرِّق بين مجالس الخمر ومجالس الحشيشة في هذه الأشعار التي وصَلَتْنا، ولعل السبب في ذلك أن الموضوع كان جديدًا، وأن المادة نفسها لم تكن منتشرة إلا بين الصوفية أو بين عدد قليل من الناس، لهذا لم يُفْسَح للشعراء المجالُ في أن يتحدثوا عنها كما تحدث الشعراء عن الخمر. ومهما يكن من شيء، فإن هذا العصر الأيوبي جاء بفن جديد من فنون الشعر وهو «فن الحشيشيات» — إن صحَّ هذا التعبير — وسنرى في عصر المماليك تَطَوُّر هذا الفن وذيوعه، وكثرة الشعراء الذين تحدثوا عنه، كما تعدَّدَتْ صفات الحشيشة وأثرها في النفس.
١ المقريزي: خطط، ج٣، ص٢٠٥ وما بعدها.
٢ المقريزي: خطط، ج٣، ص٢٠٥ وما بعدها.
٣ المقريزي: خطط، ج١، ص٢٠٦.
٤ نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقم ٤٤٤ مجاميع.
٥ المقريزي: الخطط، ج٣، ص٢٠٧.
٦ ابن شاكر: فوات الوفيات، ج١، ص١٦١.
٧ المقريزي: خطط، ج٣، ص٤٠.
٨ ابن شاكر: فوات الوفيات، ج١، ص١٦٣.
٩ المقريزي: خطط، ج٣، ص٤٢.
١٠ ابن شاكر: فوات الوفيات، ج١، ص٥.
١١ ابن شاكر: فوات الوفيات، ج٢، ص١٦٢.
١٢ ابن شاكر: فوات الوفيات، ج٢.
١٣ المقريزي: خطط، ج٣، ص٤٠.
ويختلف المؤرخون في اكتشاف هذا المُخَدِّر، فبعضهم ينسب اكتشافها إلى فقير صوفي من خراسان يُدعى الشيخ حيدرة المتوفى سنة ٦١٨ هجرية، وأن هذه المادة المُخَدِّرة كانت وقفًا على رفاقه من الصوفية، ولم يشأ أن يَذِيع سِرُّها في حياته، وأوصى أن تُزْرَع على قبره بعد وفاته، ثم انتقلت هذه المادة بعد ذلك من خراسان إلى العراق بعد سنة ٦٢٨ هجرية، واشتهر أَمْرُها بين صوفية العراق، ثم نقلها الصوفية إلى الشام ومصر.١
وفي نسبة الحشيشة إلى حيدرة هذا يقول الشاعر الدمشقي محمد بن عليِّ بن الأعمى — يفضل الحشيشة على الخمر:
دَع الخمر واشرب من مُدامة حَيْدَر
مُعَنْبَرَة خضراء مثل الزبرجدِ
يعاطيكها ظبي من التُّرك أغيد
يميس على غصن من الْبَان أمْلَدِ
فتَحْسَبُها في كَفِّه إذ يُدِيرها
كرقم عذارِ فوق خدٍّ موَرَّدِ
يُرَنِّحها أدنى نسيم تنسَمتْ
فتهفو إلى برد النسيم المرددِ
وتشدو على أغصانها الورق في الضحى
فيطربها سجع الحمام المغرِّدِ
وفيها معانٍ ليس في الخمر مِثْلُها
فلا تستمع فيها مَقَالَ مُفَنِّدِ
هي البِكر لم تُنكح بماء سحابةٍ
ولا عُصِرَتْ يومًا برجْلٍ ولا يدِ
ولا عَبَثَ القِسيس يومًا بكأسها
ولا قَرَّبوا من دَنِّها كُلَّ مَقْعَدِ
ولا نَصَّ في تحريمها عند مالكٍ
ولا حَدَّ عند الشافعيِّ وأحمدِ
ولا أَثْبَتَ النعمانُ تنجيسَ عينها
فخُذْهَا بحَدِّ المشرفي المهندِ
وكُفَّ أكُفَّ الهمِّ بالكفِّ واسترح
ولا تَطَّرِحْ يوم السرور إلى غدِ٢
فالشاعر هنا ينسب الحشيشة إلى حيدرة، ويطلق عليها المُدامة كأنها الخمر، ثم يتحدث عن رائحتها وعن لونها، فهي مثل العنبر وخضراء مثل الزبرجد، ويتحدث عن مجلس الحشيشة إذ يدور بها ظبي من التُّرك، والحشيشة في كفه كأنها العذار فوق الخد المورد، وأن شجرتها تهتز وتتمايل لأخف هَبَّات النسيم، وأن الحمائم تَشْدُو على أغصانها فتطرب الغصون لتغريدها، وأن لها معانيَ ليست في الخمر، إذ لم تُخْلَط بماء كما تُخْلَط الخمر، ولم تُعْصَر بالأرجل كما تُعصر الخمر، ولم يتخذ القسيس من الحشيشة مادة لعبثه كما يتخذ من الخمر، ولم يقرب من دَنِّها كل مقعد كما يحدث في الخمر، كما أن المذاهب السُّنية المعروفة لم تَنُصَّ على تحريم الحشيشة كما نَصَّتْ على تحريم الخمر، وأن حَدَّ الحشيشة ليس هو السيف كحد الخمر، ويختم هذه المقطوعة بالدعوة لتناول هذه المادة لطرح الهموم وجلب السرور، ونلاحظ في هذا البيت الأخير أنه عَبَّرَ عن تناولها بالكف، فالخمر تؤخذ بالكأس بينما الحشيشة تؤخذ بالكف.
ويقول الشاعر أحمد بن محمد بن رسام — في نسبة الحشيشة أيضًا إلى ابن حيدرة:
ومهفهفٍ بادي النفار عَهِدْتُهُ
لا ألتقيه قَطُّ غَيْرَ مُعَبِّسِ
فرأيته بعضَ الليالي ضاحكًا
سَهْل العريكة رَيِّضًا في المجلسِ
فقضيت منه مآربي وشكرْتُه
إذ صار من بعد التنافر مؤنِسِي
فأجابني لا تَشْكُرَنَّ خلائقي
واشكر شفيعك فَهْو خمر المُفلسِ
فحشيشة الأفراح تَشْفَعُ عندنا
للعاشقين ببَسْطها للأنفُسِ
وإذا هممت بصيد ظبي نافِرٍ
فاجهد بأن يرعى حشيش القنبُسِ
واشكر عصابة حيدر إذ أظهروا
لذوي الخلاعة مذهبَ المتخمِّسِ
ودَع المعطِّل للسرور وخَلِّنِي
من حُسن ظَنِّ الناس بالمتنمِّسِ٣
فالشاعر هنا يتحدث عما يصيب من يتناول الحشيشة من ضَعْف في إرادته، فهو يصبح ريضًا سهل العريكة، وأن الحشيشة رخيصة الثمن بحيث سَمَّاها الشاعر هنا خمر المُفلس، وأن جماعة حيدر هم الذين أظهروا هذه المادة، ونلاحظ أن قوله: إن عصابة حيدر أظهروا مذهب المتخمس، يُذَكِّرنا بما يجري الآن بين العامة واصطلاحهم «خمس»؛ أي مشاركة أكثر من واحد في تدخين السيجارة الواحدة.
ولكن في كتاب رسالة زهر العريش في الكلام عن الحشيش٤ لبدر محمد بن بهادر الزركشي، أن هذه المادة ظَهَرَت على يد أحمد القلندري، ولذلك سُمِّيَت «القلندرية». ويقول ابن تيمية: إن هذه المادة ظَهَرَتْ في أواخر المائة السادسة وأوائل المائة السابعة حين ظهرت دولة التتار، ومنها انتقلت إلى بغداد. وهناك رواية أخرى، وهي أن هذه المادة إنما عُرِفت — أَوَّلَ ما عُرِفت — بالهند، وأن أول من تناولها رجل صوفي كان يُسَمَّى «البير رتن»، فهو أول من أظهر لأهل الهند أَكْلها ولم يكونوا يعرفونها قبل ذلك، ثم شاع أَمْرها في بلاد الهند ومنها انْتَقَلَتْ إلى اليمن، ثم فشا أَمْرُها إلى أهل فارس ومنها إلى العراق ومصر سنة ٦٢٨ﻫ.٥ ولكن أمر الصوفي الهندي هذا مُخْتَلَف فيه اختلافًا كبيرًا جدًّا، فقد قيل: إن هذا الرجل شاهد الرسول عليه السلام وعاش حتى القرن السابع الهجري، مما أدى بالذهبي إلى أن يُكَذِّبَ أمره ويقول عنه: «إني أَوَّل من كَذَّب بهذا الرجل، وإنه شيخ مفترٍ دجال كذاب قاتله الله تعالى.»٦
ومهما يكن من شيء، فإن قصة الحسن بن الصباح زعيم الإسماعيلية النزارية واستخدامه هذه المادة المُخدِّرة بين أتباعه، وانتقال هذه المادة في القرن السادس إلى إسماعيلية الشام، وورود ذِكْر هذه المادة في رسالة القاضي الفاضل بتاريخ سنة ٥٦٩ﻫ — إذ نَعَتَ راشد الدين سنان بأنه زعيم الحشيشة — مما يدل على أن بعض الأفراد، أو بعض الطوائف في فارس وفي الشام قد عرفوا هذا المُخدِّر قبل أن ينتقل إلى مصر، ولعل الصوفية الذين كَثُرَ قدومُهم إلى مصر في عهد صلاح الدين، والذين هَيَّأَت لهم الدولة سُبُلَ الحياة اللينة، وسُبُلَ العيش الرغد في كنفها هم الذين أَدخَلوا هذه المادة إلى مصر. وقد اشتهر بستان الكافوري بزراعة هذه المادة حتى عُرِفَ البستان بحشيشة الفقراء، وعُرِفت الحشيشة بالكافورية نسبةً إلى هذا البستان، وفي ذلك يقول الشاعر زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الحنفي:
وخضراء كافورية بات فِعْلُها
بألبابنا فِعْلَ الرحيق المعتقِ
إذا نَفَحَتْنَا من شذاها بنفحةٍ
تدب لنا في كل عضو ومنطِقِ
غنيت بها عن شرب خَمْر معتَّقٍ
وبالدلق عن لبس الجديد المزوَّقِ٧
فهو يصفها بأنها خضراء، وأنها كافورية؛ أي منسوبة إلى بستان الكافوري، وأنها تفعل في الألباب ما يَفْعَله الخمر المعتق، وأن رائحتها تَدُبُّ في الأعضاء والمفاصل، وأنه غني بها عن شرب الخمر، وأنه ليس في حاجة إلى أن يرتدي أجمل ملابسه لمجلها بل يستعيض عنها بالدلق.
ولابن الصائغ عدة مقطوعات في الحشيشة، من ذلك قوله:
أعطني خضراء كافورية
يكتب الخمر لها من جُندها٨
أَسْكَرَتْنَا فوق ما تُسْكِرُنا
وربحنا أنفُسًا مِنْ حَدِّهَا
ويقول أيضًا:
قم عاطني خضراء كافورية
قامت مقام سلافة الصهباءِ
يغدو الفقير إذا تناول درهمًا
منها له تيه على الأمراءِ
وتراه من أقوى الورى فإذا خلا
منها عددناه من الضعفاءِ
ويقول أيضًا:
عاطيت من أهوى وقد زارني
كالبدر وافى ليلة البدرِ
والبحر قد مد على متنه
شعاعه جسرًا من التبرِ
خضراء كافورية رنحت
أعطافه من شدة السُّكرِ
يفعل منها درهم فوق ما
تَفْعَل أرطال من الخمرِ
فراح نشوانًا بها غافلًا
لا يعرف الحُلْو من المُرِّ
قال وقد نال بها أمْرَهُ
وبات مردودًا إلى أمرِ
قتلتني! قُلْتُ: نعم سيدي
قَتْلَيْن بالسُّكر وبالبحرِ
فالشاعر هنا جعل مجلس الحشيشة مثل مجلس الخمر، فهو يعاطيها مَنْ أحب، ووصفها بأنها خضراء وأنها كافورية، وأن الدرهم من الحشيش يفعل أَكْثَرَ مما يفعله أرطال من الخمر، وأن الذي يتعاطى الحشيش يصبح في نشوة غافلًا عن كل شيء، فلا يميز بين الحلو والمرِّ.
ويقول الشاعر نور الدين أبو الحسن الينبعي — أحد شعراء الصوفية:
رُبَّ ليلٍ قطعته ونديمي
شاهدي وهْو مسمعي وسميري
مجلسي مسجد وشربي من
خضراء تزهو بحُسن لون نضيرِ
قال لي صاحبي وقد فاح منها
نشرها مزريًا بنشر العبيرِ
أَمِنَ المسك؟ قُلْتُ: ليست من المسـ
ـك ولكنها من الكافوري٩
فالشاعر قطع ليلة مع نديمه في مجلس هو المسجد عنده، وكان شرابه الخضراء، وقد فاح منها نشرها، ثم نسب الحشيشة إلى بستان الكافوري. هكذا أصبحت مادة الحشيشة من موضوعات الشعر، وأخذ الناس يتحدثون عن مدى تحريم هذه المادة، ووُضِعت بعض الفصول والرسائل في تحريم الحشيشة، وكما فَضَّلَ بعضٌ الحشيشة على الخمر، نرى شعراء آخرين يهجون الحشيشة، فمن ذلك قول الشاعر إبراهيم بن سليمان بن حمزة المعروف بجمال الدين بن النجار نقيب أشراف الإسكندرية المتوفى سنة ٦٥١ هجرية:
لحا الله الحشيش وآكليها
لقد خَبُثَتْ كما طاب السلافُ
كما تسبي كذا تُضْنِي وتُشْقِي
كما يشقى وغايتها الخرافُ
وأصغر دائها والداء جم
بغاء أو جنون أو نشافُ١٠
فالشاعر هنا يُعدِّد ما يصيب مدمن الحشيشة، فهو إما ينتهي به الأمر إلى البغاء، أو الجنون، أو إلى مرض عقلي هو جفاف يصيب المخ، وكلها أمراض لا شك من الأمراض المستعصية.
ويقول الشاعر الإسعردي — يُفَضِّل الخمر على الحشيش:
فديتك نور الحق قد لاح فاهتدِ
نديمي وكُنْ في اللهو غيرَ مقلدِ
أترضى بأن تمسي شبيه بهيمةٍ
بأكل حشيش يابس غير أرغدِ
فدع رأيَ قوم كالدواب ولا تَذَرْ
سوى درة كالكوكب المتوقدِ
مُدام إذا ما لاح للركب نورُها
وقد ضلَّ ليلًا عاد بالنور يهتدي
حشيشتهم تكسي المهيب مهانة
فتلقاه مثل القاتل المتعمدِ
وتبدو على خديه مثل اخضرارها
فيُضْحِي بوجه مُظلمِ اللون أربدِ
وتفسد من ذهن النديم خياله
فينظر مُبْيَضَّ الصباح كأسودِ
وخمرتنا تكسو الذليل مهابةً
وعزًا فتلقى دونه كل سيِّدِ
وتجلى فتجلي همَّ كل مُنَادِمٍ
ويَرْوَى بها مَنْ شربها قلبه الصدي
وتبدو فيبدو سِره وتسره
فيشبهها لونًا بخدٍ مورَّدِ
وفيها على رغم الحشيش منافع
فقل في معانيها وصِفْهَا وعَدِّدِ
وفي خيرها للناس كل مضرة
فحدث بكل السوء عن وصفها الردي
وحقك ما ذاق الحشيشَ خليفة
ولا مَلِك فاق الأنام بسؤددِ
ولا جدَّ في وصفٍ لها قَطُّ شاعرٌ
بتنميقِ ألفاظ كألحان معبدِ
ولم تُضرب الأوتار في مجلسٍ لها
وما ذاك إلا للشراب الموردِ
أتخضب من غير المُدامة راحةً
إذا ما بدت في الكأس تجلى على اليدِ
بها ينثني المعشوق نشوانَ مائلًا
بقدٍ كغصن البانة المتأودِ
يعاطيك راحًا مثلها في رِضَابِه
ومبسمة مثل الحباب المنضَّدِ
ويُنْعِم بالوصل الذي كان باخلًا
به ثم ينسى كل ما كان في الغدِ
أعن مثلها يا صاحِ يَصْبِر عاقلٌ
لقد كُنْتُ في تركي لها غيرَ مهتدِ
ولولا فضول الناس ما بِتُّ صاحيًا
ولم أستمع فيها مقالَ المفندِ
فخذها ولا تسمع مقالة لائمٍ
وإن حُرِّمَتْ يومًا على دين أحمدِ١١
فالشاعر الإسعردي يرى أن آكل الحشيشة هو أقرب إلى البهيمة منه إلى أي شيء آخر، وأن الذين يدافعون عنها هم كالدواب، وأن آكلها يُكسى مهانة بعد هيبة، ويصبح منظره منظر القتلة السفاكين، فعلى خديه اخضرار، ووجهه مُظلم اللون كئيب، وتفسد الذهن والخيال فيرى الأبيض أسود، وأن الحشيش لم يتناولها ملك من الملوك العظام، ولم يَصِفْها شاعر بما وُصِفَ به الخمر، ولم يصحب شربها نغمات الموسيقى، وذلك كله بخلاف الخمر ومجالسها، فالخمر عنده أفضل من هذه الحشيشة. ومن الطريف أن هذا الشاعر نفسه ناقض قصيدته السابقة بقصيدة أخرى فَضَّل فيها الحشيش على الخمر، فهو يقول:
لك الخير لا تسمع كلام المفندِ
ودونك في فتياك غير مقلدِ
سألْتَ عن الخضراء والخمْرِ فاستمِعْ
مقالةَ ذي رأيٍ مصيبٍ مسدَّدِ
وحقِّكَ ما بالخمر بَعْضُ صفاتها
أتشرب جهرًا في رباطٍ ومسجدِ؟
عليك بها خضراء غير مباتع
بأبيض ورقٍ أو بأحمر عسجدِ
ولكن على رغم المُدام هدية
تنزه عن بيع بغير التزهدِ
رياضية يحكي الجنان اخضرارها
وخمرهُمُ كالمارج المتوقدِ
مُدامهم يُنسي المعاني وهذه
تُذَكِّر أسرار الجمال الموحدِ
هي السِّر ترقى الروح فيها إلى ذرى الـ
ـمعالم في معراجِ فَهْمٍ مجردِ
بل الروح حقًّا لا يحل بربعها
هموم ولا يحظى بها غير مهتدي
ولا داسها العصَّار عمدًا ودنَّس الد
نان بمختومٍ من القار أسودِ
ولا تتعب الأبدان عند نزالها
وفي القيء إذ تبدو كزق ممددِ
ولا تستخف الناس عقلك بينهم
لعمري ولا تُدْعَى لديهم بمفسدِ
وفي طرف المنديل يومًا وعاؤها
ويُعتاض عن حمل الزجاجة باليدِ
وتخلص من إثمٍ وحَدٍّ ولا تُرى
ذليلًا وتنجو من نديمٍ معربدِ
وتشربها في العُسْر واليسر دائمًا
ولا تتقي فيها ليالي التعبدِ
وتأمن كبسات الحماة وكَيْدَهم
وتسلم من جور الولاة ولا تدي
وتغدو ذكيًّا فاضلًا ذا نباهةٍ
ظريفًا ولا يغشاك فرْطُ تَبَلُّدِ
وتُصْبِح عند الناس غيرَ مُبَغَّضٍ
وتُمنح مِنْ كُلٍّ بحسن التوددِ
وإن ذاقها المعشوق وافاك خلسةً
من الحاسد الواشي على غير موعدِ
ومن فضلها في الطب جودة هضمها
وهيهات يُحصى فضلها لمُعدِّدِ
ولا سيما إن كان فيها مُنادمي
غزال كغصن البانة المتأودِ
ينادم بالشعر اللطيف وتارةً
يغني فيزري بالحمام المغردِ
يغازلني سِرًّا بعينَيْ غزالة
ويبسم عن ثغرٍ كدُرٍّ منضدِ
فلا تستمع فيها مقالة عازلٍ
يَصُدُّكَ عنها واعْصِ كُلَّ مفندِ١٢
ومن كثرة إقبال المصريين على تناوُل هذه المادة المخدرة بعد أن انتقلت إليهم عن طريق الصوفية، أَمَرَ السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب أن يُمنع الحشيشة في البستان الكافوري، وذات يوم دخل البستان فرأى فيه منها شيئًا كثيرًا، فأمر بأن يُجمع وأن يُحرق، فقال أحد الشعراء في هذه الواقعة وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وستمائة:
صرف الزمانِ وحادِثُ المقدورِ
تَرَكَا نكيرَ الخطب غير نكيرِ
ما سالمًا حيًّا ولا مَيْتًا ولا
طودًا سمَا بل دكدكًا بالطورِ
لَهْفِي، وهل يجدي التلهف في رَدًى
طَرَبَ الغَنِيِّ وأُنْسَ كل فقيرِ
أخت المذلة لارتكاب محرمٍ
قطب السرور بأيسر الميسورِ
جَمَعَتْ محاسنَ ما اجتمعن لغيرها
من كل شيء كان في المعمورِ
منها طعام والشراب كلاهما
والبقلُ والريحانُ وَقْتَ حضورِ
هِيَ روضة إن شِئْتَها ورياضةٌ
يُغْنَى بها عن روضةٍ وخمورِ
ما في المُدامة كُلِّها منها سوى
إثْمُ المُدام وصحبةُ المخمورِ
كلا ونكهة خمرةٍ هي شاهد
عَدْلٌ على حَدٍّ وجَلْدِ ظهورِ
أسفًا لدهر غالها ولربما
ظل الكريم بذلة المأسورِ
جمعت له الأشهاد كرمًا أخضرًا
كعروسة تجلى بخضر حريرِ
زفوا لها نارًا فخِلْنَا جنة
برزت لنا قد زُوِّجَت بالنورِ
ثم اكتست منها غلالة صفرةٍ
في خضرة مقرونة بزفير
فكأنها لَهَبُ اللظى في خضرةٍ
منها وطرف رمادها المنثورِ
جارى النضار على مذاب زمردٍ
تَرَكَا فتيتَ المسك في الكافوري
للَّه دَرُّكِ حية أو ميتة
من منظر بَهِجٍ بغير نظيرِ
أُودِيتِ — غيرَ ذميمة — فسقى الحيا
تربًا تَضَمَّنَ منكِ ذوب عبيرِ
عندي لذكرك ما بقيت مُخلدًا
سح الدموع ونفثة المصدورِ١٣
إذن أصبحت مادة الحشيشة المخدرة من موضوعات الشعر المصري منذ العصر الأيوبي، وأصبح شأنها في الأدب شأن الخمر التي عُرِفت في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي، وكما أن الصوفية جاءوا بآراء جديدة وتعاليم جديدة كانت من مواد الشعر، كذلك جاءوا بالحشيشة وقالوا فيها شعرًا، ولكن الأوصاف التي وُصِفت بها الحشيشة كانت محدودة ضيقة، ولم يستطع الشعراء أن يصفوا مجالس الحشيشة ويطنبوا في وصفها كما فعلوا مع مجالس الخمر، بل أخذ شعراء الحشيشة مجالس الخمر وأطْلَقوها على مجالس الحشيشة، بحيث لا نستطيع أن نفَرِّق بين مجالس الخمر ومجالس الحشيشة في هذه الأشعار التي وصَلَتْنا، ولعل السبب في ذلك أن الموضوع كان جديدًا، وأن المادة نفسها لم تكن منتشرة إلا بين الصوفية أو بين عدد قليل من الناس، لهذا لم يُفْسَح للشعراء المجالُ في أن يتحدثوا عنها كما تحدث الشعراء عن الخمر. ومهما يكن من شيء، فإن هذا العصر الأيوبي جاء بفن جديد من فنون الشعر وهو «فن الحشيشيات» — إن صحَّ هذا التعبير — وسنرى في عصر المماليك تَطَوُّر هذا الفن وذيوعه، وكثرة الشعراء الذين تحدثوا عنه، كما تعدَّدَتْ صفات الحشيشة وأثرها في النفس.
١ المقريزي: خطط، ج٣، ص٢٠٥ وما بعدها.
٢ المقريزي: خطط، ج٣، ص٢٠٥ وما بعدها.
٣ المقريزي: خطط، ج١، ص٢٠٦.
٤ نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقم ٤٤٤ مجاميع.
٥ المقريزي: الخطط، ج٣، ص٢٠٧.
٦ ابن شاكر: فوات الوفيات، ج١، ص١٦١.
٧ المقريزي: خطط، ج٣، ص٤٠.
٨ ابن شاكر: فوات الوفيات، ج١، ص١٦٣.
٩ المقريزي: خطط، ج٣، ص٤٢.
١٠ ابن شاكر: فوات الوفيات، ج١، ص٥.
١١ ابن شاكر: فوات الوفيات، ج٢، ص١٦٢.
١٢ ابن شاكر: فوات الوفيات، ج٢.
١٣ المقريزي: خطط، ج٣، ص٤٠.