عاد أدراجه من حيث أتى ، بقلب عليل أعطبته كلمات المواددة و الخنوع ، و بجسد انغرست فيه مخالبها و أوجعته.
مدد ساقيه المدماتين من أشواك و أحراش المسافات على دَكَّة الحانة لكي يريح جسده و يجر نفساً .
قالت له صاحبة الحانة و هي تناوله إناء جعةٍ و رغيف خبز :
ـ إنك تبدو محطم الفؤاد . مكلوم الجراح ، كأنك ضحية معركة قاسية .
قال و هو يستل كلماته لاهثاً :
ـ أجل يا أماه . . و هكذا ترينني ممزق الثياب . . أحتاج إلى زمن أرتقها ، وأنشد المساعدة لأستريح حتى تندمل جراحي .. فأنا منهك ، ضحية لمعركة خاسرة . أبحث عن متسع وقتٍ لكي أغمض عينيّ و أنام ملئ جفوني .
أتت له بزيتٍ الخروع . خلطته مع الصبر ، و عرته من ثيابه ، و طَلَت جراحاته كلها . من رأسه حتى أخمص قدميه . فَرَشَتْ له فَرْوَ خروف على الدكة ، و لفته بآخر و غفا نهاره و ليله كله .
في الصباح .. استيقظ دون آلم ، عدا ألم الخيبة ، و بدت ملامحه حزينة .
تأملت فيه صاحبة الحانة ملياً و قالت :
ـ إنك طريٌ كزنبقة الماء . إن رقتك لا تصلح لهذا الطريق الشائك الذي سلكته .
قال :
ـ أجل ايتها الأم الحكيمة . أنا قليل خبرة ، لا أصلح لعمق المسافات . فجودي علي ببلسم حكمتك .
قالت صاحبة الحانة :
ـ إنك تحتاج إلى رعايتي لكي تندمل جروحك كلها حتى تقوى إذا راودتك رغبة الرحيل . كذلك أرتق لك ثيابك . هل مررت بالحِدَأَة ؟
قال :
ـ أجل ...
قالت :
ـ وااااااه يا للمصيبة .. أية لعنة أصابتك بها ؟
قال :
ـ عندما أَغْرَتْني ، ومثلت امامي بفتنة حُرمتِها كما خلقها رب العباد . أمسكتني بمخالبها مثلما تمسك صيداً مسالماً ، وحَلّقَتْ بي إلى وكرها.. و أشارت باصبعها قائلة :
ـ اتشاهد ... ؟
شاهدت ارضا وعرة . . .
قالت :
ـ ايها الثور : إخلع كل شيء وتهيّأ . اريدك ان تحرث هذه الأرض الشائكة ، و تبذرها قمحاً . و ترويها بماء الحياة .
أودعتني بين احراش ارضها احرث دون هوادة . ثم استسلم أناء الليل في محراب وكرها قائما و ساجداً، عابقاً بعطرها المسحور حتى ذَوَيْت .
و عندما كلّت قواي وعيل صبري .. قلت لها :
ـ سيدتي أيتها الحدأة المقدسة .. انا لست بثور حراثة . أنا ، كما تريني ، منديل حرير، حيكت خيوطه الرقيقة بيد مسحورة . إذا أَلقيتِهِ على الأرض .. افترشتِ بساطاً بأوراد الزنبق .
و إذا وضعْتِهِ على صدرك سيغمرك بالدفء ، و يسمعك اقدس الألحان ، و أعذب الكلمات .
و إذا أردتِ ان تتنسمي عبيراً فردوسياً : حواه لك بمهفته . و سقاك ماءاً نميراً، يتسلل إلى قلبك من جنات الخلد ، ليسكن فيه قبساً نورانياً يفوح منه طيب الهناء و السكينة ، و يطربك بأعذب الألحان .
لم أُخلق سيدتي الحدأة المقدسة بقدرة الثور. انما .. لأقدم لك فؤاداً مؤنساً و فادياً . و لكي أكون ملاكاً في جنائنك . أتجول بين أحراشك و أزهارك شادياً. و أمسك أرانب حديقتك ، و أعبث معها بقلب ملائكي .
كل ما خُلقتُ من أجله ، هو هذا سيدتي .
قالت لي غاضبة :
ـ اخرج .. ترافقك لعنة الترحال .
***
قالت له صاحبة الحانة كأنها على دراية بما جرى :
ـ و هكذا ... لقد أجزلت لها بالثناء ؟
قال :
ـ نعم .
قالت :
ـ ألم تتعلم من قبل ؟
كان عليك أن تتسلح بالخبرة ، كي لا توجعك الخيبة، لا أن تسرف بعرض ما ملكت شمائلك جزافاً .
موسى غافل
28/8/2017
ـــــــــــــــــــــــــــ
مدد ساقيه المدماتين من أشواك و أحراش المسافات على دَكَّة الحانة لكي يريح جسده و يجر نفساً .
قالت له صاحبة الحانة و هي تناوله إناء جعةٍ و رغيف خبز :
ـ إنك تبدو محطم الفؤاد . مكلوم الجراح ، كأنك ضحية معركة قاسية .
قال و هو يستل كلماته لاهثاً :
ـ أجل يا أماه . . و هكذا ترينني ممزق الثياب . . أحتاج إلى زمن أرتقها ، وأنشد المساعدة لأستريح حتى تندمل جراحي .. فأنا منهك ، ضحية لمعركة خاسرة . أبحث عن متسع وقتٍ لكي أغمض عينيّ و أنام ملئ جفوني .
أتت له بزيتٍ الخروع . خلطته مع الصبر ، و عرته من ثيابه ، و طَلَت جراحاته كلها . من رأسه حتى أخمص قدميه . فَرَشَتْ له فَرْوَ خروف على الدكة ، و لفته بآخر و غفا نهاره و ليله كله .
في الصباح .. استيقظ دون آلم ، عدا ألم الخيبة ، و بدت ملامحه حزينة .
تأملت فيه صاحبة الحانة ملياً و قالت :
ـ إنك طريٌ كزنبقة الماء . إن رقتك لا تصلح لهذا الطريق الشائك الذي سلكته .
قال :
ـ أجل ايتها الأم الحكيمة . أنا قليل خبرة ، لا أصلح لعمق المسافات . فجودي علي ببلسم حكمتك .
قالت صاحبة الحانة :
ـ إنك تحتاج إلى رعايتي لكي تندمل جروحك كلها حتى تقوى إذا راودتك رغبة الرحيل . كذلك أرتق لك ثيابك . هل مررت بالحِدَأَة ؟
قال :
ـ أجل ...
قالت :
ـ وااااااه يا للمصيبة .. أية لعنة أصابتك بها ؟
قال :
ـ عندما أَغْرَتْني ، ومثلت امامي بفتنة حُرمتِها كما خلقها رب العباد . أمسكتني بمخالبها مثلما تمسك صيداً مسالماً ، وحَلّقَتْ بي إلى وكرها.. و أشارت باصبعها قائلة :
ـ اتشاهد ... ؟
شاهدت ارضا وعرة . . .
قالت :
ـ ايها الثور : إخلع كل شيء وتهيّأ . اريدك ان تحرث هذه الأرض الشائكة ، و تبذرها قمحاً . و ترويها بماء الحياة .
أودعتني بين احراش ارضها احرث دون هوادة . ثم استسلم أناء الليل في محراب وكرها قائما و ساجداً، عابقاً بعطرها المسحور حتى ذَوَيْت .
و عندما كلّت قواي وعيل صبري .. قلت لها :
ـ سيدتي أيتها الحدأة المقدسة .. انا لست بثور حراثة . أنا ، كما تريني ، منديل حرير، حيكت خيوطه الرقيقة بيد مسحورة . إذا أَلقيتِهِ على الأرض .. افترشتِ بساطاً بأوراد الزنبق .
و إذا وضعْتِهِ على صدرك سيغمرك بالدفء ، و يسمعك اقدس الألحان ، و أعذب الكلمات .
و إذا أردتِ ان تتنسمي عبيراً فردوسياً : حواه لك بمهفته . و سقاك ماءاً نميراً، يتسلل إلى قلبك من جنات الخلد ، ليسكن فيه قبساً نورانياً يفوح منه طيب الهناء و السكينة ، و يطربك بأعذب الألحان .
لم أُخلق سيدتي الحدأة المقدسة بقدرة الثور. انما .. لأقدم لك فؤاداً مؤنساً و فادياً . و لكي أكون ملاكاً في جنائنك . أتجول بين أحراشك و أزهارك شادياً. و أمسك أرانب حديقتك ، و أعبث معها بقلب ملائكي .
كل ما خُلقتُ من أجله ، هو هذا سيدتي .
قالت لي غاضبة :
ـ اخرج .. ترافقك لعنة الترحال .
***
قالت له صاحبة الحانة كأنها على دراية بما جرى :
ـ و هكذا ... لقد أجزلت لها بالثناء ؟
قال :
ـ نعم .
قالت :
ـ ألم تتعلم من قبل ؟
كان عليك أن تتسلح بالخبرة ، كي لا توجعك الخيبة، لا أن تسرف بعرض ما ملكت شمائلك جزافاً .
موسى غافل
28/8/2017
ـــــــــــــــــــــــــــ