(1)
في عام 1964 حل المؤرخ البريطاني الأشهر ارنولد توينبي ضيفا على ليبيا وطاف البلاد شرقا وغربا وكان إن احتفت به الجامعة الليبية التي زارها والتقى اساتذتها وطلابها.. وقد طلبت منه مجلة الآداب ان يمنحها مقالا عن انطباعه عن ليبيا.. فبعث لها هذا المقال الذي نشرته في عددها الثالث باللغة الانجليزية الذي رأس تحريره آنذاك الدكتور مختار بورو، وأداره استاذ الفلسفة الشهير عبد الرحمن بدوي …وقام بترجمته مشكورا الأستاذ/ بدر الدين عبد الحكيم الورفلي.
(2)
تعرفت على ليبيا لأول مرة قبل أكثر من سبعين عاما حين كنت صبيا في لندن قبل نهاية القرن التاسع عشر. أعطاني أحدهم عددا سنويًا من مجلة أمريكية للأطفال، وكان أكثر ما شدني من محتوياتها حكاية مسلسلة – نصف خيالية ونصف حقيقية – عن حرب 1801 – 1804 بين الولايات المتحدة وحاكم طرابلس التركي.
لم تشمل هذه الحرب الإمبراطورية العثمانية ولا سكان طرابلس الغرب. كان حاكم طرابلس حينئذ شبه مستقل، كما كان مستبدا فلم يكن رعاياه يستشارون.
على أية حال، فإن هذه القصة عرفتني على الأقل – وأنا في السابعة أو الثامنة – موضع ليبيا من خريطة العالم.
في خريف عام 1911 أثرت فيّ ليبيا على نحو أشد. كنت في طريقي إلى اليونان – عبر فرنسا وإيطاليا – عندما أعلنت الحكومة الإيطالية الحرب على الإمبراطورية العثمانية وغزت ليبيا. في ذلك التاريخ، كانت الحكومة الإمبراطورية العثمانية تسيطر على ليبيا مرة أخرى، ووحّد الأتراك قواهم مع حركة المقاومة الوطنية الليبية.
في تلك الحرب، كان الليبيون يلعبون الدور الأساسي؛ كانوا يدافعون عن بلادهم ببسالة إزاء عمل عدواني لا مبرر له من قِبل قوة أشد بأسا.
وعلى الجانب الإيطالي، لم تكن تلك حربَ الشعب، أتذكر مشهد المجندين الإيطاليين يصعدون السفن في مرسى المدينة العتيقة متجهين إلى الجبهة الليبية. لقد بدوا غير متحمسين، وكانوا يقينا غير سعداء.
بين عامي 1924 و1956، كانت ليبيا في ذهني باستمرار، فخلال تلك السنوات الثلاث والثلاثين، كنا – أنا وزوجتي – نعد للمعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن استقراءً للشؤون الدولية، ورصدنا في بياننا الدوري لهذا الاستقراء المد والجزر في سعي إيطاليا إلى احتلال ليبيا بأسرها والاحتفاظ بها.
أبغض الإمبريالية، ولاسيما حين تقترن بالوحشية – وعادة ما يصبح الإمبرياليون وحشيين إذا ما قوبلوا بمقاومة عنيدة، وفي الصراع الذي طال أمده بين الجيش الإيطالي والسنوسية، كنت بلا ريب متعاطفا مع الجانب الليبي.
لقد أسعدتني تصفية الحكم الإيطالي في ليبيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وأسبغ عليّ شعورا بالرضا كتابةُ ذلك في سجل الاستقراء.
كانت هذه الخلفيةَ الشخصية لزيارتي إلى ليبيا عام 1964، ضيفا على الحكومة والجامعة الليبية. لقد كانت هذه الزيارة حدثًا لا أنساه طوال حياتي.
لقد سافرت حتى الآن، ولاسيما منذ تقاعدي من المعهد الملكي للشؤون الدولية عام 1965، على نحو واسع؛
وحين أزور بلدا ما، أسعى إلى مشاهدة أشياء ثلاثةٍ على وجه الخصوص ما وسعني ذلك؛ أولا: أهتم برؤية أهل البلد، أي الجيل الحيّ وحالته الراهنة وآفاق مستقبله. وفي المقام الثاني: تاريخ البلد، أي تجربة الأجيال الغابرة ممن سكنوها، والآثار الباقية من هذه التجارب، خاصة الفن القديم والمعمار. أما الأمر الثالث الذي يهمني فهو المشهد الطبيعي؛ على أصله كما صنعته الطبيعة، أو كما طوعه الإنسان لأغراضه. وفي ليبيا عام 1964، تعلمت أشياء كثيرة في جميع مجالات التحقيق الثلاثة هذه.
وقد تزامن موعد زيارتي مع لحظة مهمة من تاريخ ليبيا الطويل، فقبل اكتشاف ثروة ليبيا الجوفية المتمثلة في النفط، كان النشاط الاقتصادي الأساسي في البلاد رعويًا، وفي ملاحم هوميروس الإغريقية التي صيغت نهائيا في وقت مبكر من القرن الثامن قبل الميلاد – على الأقل – كانت ليبيا مشهورة بجودة ماشيتها. إن ناتج الاقتصاد الرعوي له قيمة، ولكن في وقتنا الحاضر، تتفوق الثروة المعدنية على الثروة الرعوية تفوقا كبيرا.
لقد حول ضخ النفط ليبيا فجأة إلى واحدة من دول العالم الغنية. صحيح أن الثروة تتيح فرصًا جديدة عظيمة، ولكن، حين تحُل الثروة في إحدى البلدان فجأة، يمكن أيضا أن يكون وضعها الجديد خطِرا.
لقد لمحت هذا الخطر المحتمل في بلاد أخرى كنت قد زرتها خلال الأعوام القليلة الماضية، وأعني بهذا فنزويلا التي غدت باكتشاف كميات وافرة من الثروة المعدنية غنية فجأة، حالها كحال ليبيا.
واليوم في فنزويلا فإن البلد غني ولكن الشعب مازال فقيرا، فلم تجد ثروة فنزويلا الجديدة سبيلها بعدُ سوى إلى جيوب فئة قليلة من السكان.
حين تكون بلاد ما فقيرة ويكون الناس فيها كذلك فإنه يسلمون بالفقر ويعدون أنفسهم ضحية لسوء الحظ لا لغياب العدالة الإنسانية؛ لقد حدث أن كانوا يعيشون في بلد مفتقر إلى الموارد الطبيعية! لكن سلوك الناس يتبدل حين يثبت أن بلادهم غنية وأن غالب قاطنيها ما يزالون فقراء كما كانوا دائما.
الفقر وسَطَ الثروة مستفز، وليس صدفة أن فنزويلا أغنى دولة في الأمريكيتين – بل ربما كانت الأغنى في العالم كله – هي إحدى أقل دول العالم استقرارا سياسيا.
أعتقد أن على ليبيا أن تتعلم درسا من فنزويلا، وعلىّ أن أسدي إلى الليبيين النصيحة بأن يدرسوا ما وقع في فنزويلا وأن يتأكدوا من أن الأمر نفسه لن يقع في بلادهم.
في وسع الليبيين أن يروا في فنزويلا ما عليهم تجنبه، وفي الكويت يستطيعون أن يروا ماذا يفعلون. فالكويت شأنها شأن ليبيا وفنزويلا، أصبحت بضخ النفط غنية فجأة، وفي الكويت نجحت الحكومة في توزيع عوائد ثروة البلاد المستجدة بين الناس على نحو واسع. وفي رأيي فإن الكويت عرفت كيف تتجنب الخطر المحتمل الذي يصاحب ازدياد الثروة الوطنية. وإذا صنعت ليبيا صنيع الكويت، فإن آفاقها السياسية والاجتماعية ستكون مشرقة كآفاقها الاقتصادية.
وانتقالا إلى ماضي ليبيا؛ فإني سألقى أولا نظرة على الفصل قبلَ الأخير من تاريخها، وهنا سأنوه بالإيطاليين.
لقد ترك الإيطاليون ذكرى كريهة بكونهم غزاة أجانب. إنه لشاذ ومؤلم أن يحكمك غازٍ أجنبي، وما كان لنظام حكم استعماري أجنبي أن يكون ذا شعبية. ولكن برغم ذلك، ترك الإيطاليون في ليبيا _ وفي إثيوبيا كذلك _ شيئا من التركة القيمة لنظام الحكم الوطني الذي حل اليوم محل نظام الحكم الإيطالي.
زود الإيطاليون ليبيا وإثيوبيا بشبكة طرق من الدرجة الأولى، وخطَوا في ليبيا الخطوة الأولى نحو إعادة إحياء الزراعة. لا شك في أن الإيطاليين إنما قاموا بذلك لمصلحتهم الخاصة، فبخلاف المستوطنين البريطانيين والهولنديين في أفريقيا الجنوبية، استأثر الإيطاليون لأنفسهم بأكثر الأراضي الخصبة، ولكنهم كذلك استثمروا في ليبيا قدرا كبيرا من رأس المال الإيطالي؛ فبنوا منازل ريفية، وأوجدوا أنظمة للري، وقد ورثت ليبيا المحررة اليوم هذا الاستثمار الرأسمالي الإيطالي. وفي عام 1964 أذهلني ما رأيت من أدلة على ما صنعه الإيطاليون من أجل الزراعة في برقة – ولاسيما في المرج، وكذلك في الجبل من دواخل طرابلس.
آمل أن ينحوَ الليبيون نحو المحافظة على الإنماء الزراعي الذي بدأه الإيطاليون في بلدهم وأن يوسعوه. وأعتقد أن من الخطأ أن تبيح ليبيا لنفسها اقتصاديا أن تكتفي بمواردها النفطية المكتشفة حديثا، فحتى أغنى الحقول النفطية قابل للنفاد، وعلاوة على ذلك، يمكن أن نتصور أن تحل محل النفط موارد طاقة طبيعية أخرى – كالطاقة الذرية على سبيل المثال – قبل نفاد احتياطي العالم من النفط بوقت طويل.
وفي زماننا هذا يتقدم العلم والتقنية بإيقاع مطرد، وهذا يعني أن السلعة التي لها اليوم قيمة تجارية، قد تفقد غدا كثيرا من قيمتها هذه.
ثمة دول كالكويت – مثلا – والسعودية، لا تمتلك أية موارد اقتصادية باستثناء النفط. ليبيا أوفر حظا، وفي وسعها أن تنوع اقتصادها، وعلى المدى الطويل هذه هي السياسة الاقتصادية الصائبة التي عليها أن تتبعها.
على ليبيا أن تصون اقتصادها الرعوي، كما أن عليها أن توسع زراعتها إلى جانب تطوير إنتاجها من النفط.
إن إمكانات التنمية الزراعية في ليبيا عظيمة، ولدينا على ذلك برهان تاريخي وأثري، ففي القرن التاسع قبل الميلاد كان الساحل الطرابلسي مستعمرا من قِبَل الفينيقيين الذين جاءوا من بلد عربي آسيوي، هو الجمهورية اللبنانية اليوم. وفي القرن السابع قبل الميلاد استُعمرت برقة من قِبل الإغريق. ولقد طور كلا الفريقين من المستعمرين الزراعة في أوطانهم الجديدة.
وفي الوقت الذي دُمج فيها شطرا ليبيا في الإمبراطورية الرومانية كانت ليبيا قد غدت إحدى أعظم الدول الزراعية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وتحت حكم الأمويين والعباسيين ظلت ليبيا سخية زراعيا، وقد دُمرت زراعتها بغزو بني هلال وبني سليم في القرن الحادي عشر من القرن الميلادي.
أحييت اليوم الزراعة في ليبيا بعد انقطاع دام تسعمائة عام، وبالوسائل التي يمكن أن توفرها التقنية الحديثة؛ وعلى الزراعة في ليبيا أن تبلغ المدى الذي وصل ذروته في الحقبة الرومانية وأن تتجاوزه، هذا هو الغاية التي على ليبيا أن تنشدها.
تمتلك ليبيا إنتاجها الحيواني منذ أمد طويل، وتمتلك كذلك ثروتها النفطية الجديدة، وعليها أن تطور إنتاجها الزراعي المكافئ، وإذا صنعت ليبيا ذلك فستكون قد أعدت نفسها باقتصاد متنوع ومتوازن، وسيكون ذلك تأمينا ذكيا في عصر التغيرات التقنية والاقتصادية التي لا يمكن التنبؤ بها.
عند مناقشة إمكانات ليبيا الزراعية، أشرت إلى الأطوار الفينيقية والإغريقية والرومانية من تاريخ ليبيا، ولقد تركت هذه الأطوار من تاريخها شواهد ملموسة رائعة على رخائها الاقتصادي وعلى العبقرية المعمارية والفنية التي منحها هذا الرخاء مجالاً.
في ذهني على وجه الخصوص قورينا وأبولونيا وطلميثة وتوكرة في برقة، ولبدة وصبراتة في طرابلس الغرب. إن هذه الآثار تعد ثروة بمعنيين. فهي مصدر ثروة بمعناها المعروف لأنها تضمن أن ليبيا سوف تطور صناعة سياحية رابحة، كما أنها ثروة روحية، حين ينظر الزائر إليها بعيني مؤرخ فإنها تعيد له إلى الحياة أكثر من ألف سنة من تاريخ عالم البحر الأبيض المتوسط القديم.
سحر ليبيا الخاص عندي هو أن المرء يستطيع فيها أن يدرس الماضي والحاضر معا، وفي ليبيا فإن كليهما ذو أهمية كبرى لدارس الشئون الإنسانية.
العامل الرئيسي الآخر الذي جذبني في ليبيا هو المشهد الطبيعي، لقد ألقيت عليه نظرة لأول مرة عام 1964، وكنت قبل ذلك قد تقت إلى رؤيته أكثر من ستين عامًا.
منذ أن كنت تلميذا كانت ليبيا مألوفة عندي من كتب التاريخ والخرائط والصور، لكن نظرة بعيني إلى مشهد طبيعي تخبرني أكثر مما يسعني أن أتعلمه من أية مطبوعة ورقية.
في الطريق من بنغازي إلى قورينا، كان مثيرا أن نصعد من السهل الساحلي عند توكرة إلى الطرف الجنوبي الغربي من الجبل الأخضر. وكلما تقدمنا كان المناخ والغطاء النباتي يتغيران. لم تظهر لي الخرائط والصور الفوتوغرافية حجم وثراء هذا الجيب العظيم من التربة الخصبة، وصدمني ثانية التناقض بين جودة الأراضي الزراعية جنوبيّ قورينا، وخشونة وقسوة البلاد بين قورينا والساحل.
وإذ كنت عائدا من لبدة إلى طرابلس، لاحظت كيف ولجنا فجأة بلدا زراعيا غنيا، ذلك عندما تسلقنا الجُرف الشمالي من الجبل الطرابلسي.
عندئذ كنت أتوق إلى التوجه جنوبًا لاكتشاف المدى الذي بلغه إحياء الزراعة جنوبا، وكان عليّ مواصلة المسير على طول الطريق إلى فزان. نحن الآن في عام 1968، وقد بلغت الثمانين من العمر، ومع ذلك لم أيأس من رؤية فزان أيضاً يوما من الأيام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
** أرنولد جوزف توينبي مؤرخ بريطاني (1889 – 1975.) من أشهر المؤرخين في القرن العشرين. أهم أعماله موسوعة دراسة للتاريخ لتي تـتألَف من اثـني عشرَ مُجلَّدًا أنفق في تأليفها واحدًا وأربعين عامًا.
-------------------------------------------------
في عام 1964 حل المؤرخ البريطاني الأشهر ارنولد توينبي ضيفا على ليبيا وطاف البلاد شرقا وغربا وكان إن احتفت به الجامعة الليبية التي زارها والتقى اساتذتها وطلابها.. وقد طلبت منه مجلة الآداب ان يمنحها مقالا عن انطباعه عن ليبيا.. فبعث لها هذا المقال الذي نشرته في عددها الثالث باللغة الانجليزية الذي رأس تحريره آنذاك الدكتور مختار بورو، وأداره استاذ الفلسفة الشهير عبد الرحمن بدوي …وقام بترجمته مشكورا الأستاذ/ بدر الدين عبد الحكيم الورفلي.
(2)
تعرفت على ليبيا لأول مرة قبل أكثر من سبعين عاما حين كنت صبيا في لندن قبل نهاية القرن التاسع عشر. أعطاني أحدهم عددا سنويًا من مجلة أمريكية للأطفال، وكان أكثر ما شدني من محتوياتها حكاية مسلسلة – نصف خيالية ونصف حقيقية – عن حرب 1801 – 1804 بين الولايات المتحدة وحاكم طرابلس التركي.
لم تشمل هذه الحرب الإمبراطورية العثمانية ولا سكان طرابلس الغرب. كان حاكم طرابلس حينئذ شبه مستقل، كما كان مستبدا فلم يكن رعاياه يستشارون.
على أية حال، فإن هذه القصة عرفتني على الأقل – وأنا في السابعة أو الثامنة – موضع ليبيا من خريطة العالم.
في خريف عام 1911 أثرت فيّ ليبيا على نحو أشد. كنت في طريقي إلى اليونان – عبر فرنسا وإيطاليا – عندما أعلنت الحكومة الإيطالية الحرب على الإمبراطورية العثمانية وغزت ليبيا. في ذلك التاريخ، كانت الحكومة الإمبراطورية العثمانية تسيطر على ليبيا مرة أخرى، ووحّد الأتراك قواهم مع حركة المقاومة الوطنية الليبية.
في تلك الحرب، كان الليبيون يلعبون الدور الأساسي؛ كانوا يدافعون عن بلادهم ببسالة إزاء عمل عدواني لا مبرر له من قِبل قوة أشد بأسا.
وعلى الجانب الإيطالي، لم تكن تلك حربَ الشعب، أتذكر مشهد المجندين الإيطاليين يصعدون السفن في مرسى المدينة العتيقة متجهين إلى الجبهة الليبية. لقد بدوا غير متحمسين، وكانوا يقينا غير سعداء.
بين عامي 1924 و1956، كانت ليبيا في ذهني باستمرار، فخلال تلك السنوات الثلاث والثلاثين، كنا – أنا وزوجتي – نعد للمعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن استقراءً للشؤون الدولية، ورصدنا في بياننا الدوري لهذا الاستقراء المد والجزر في سعي إيطاليا إلى احتلال ليبيا بأسرها والاحتفاظ بها.
أبغض الإمبريالية، ولاسيما حين تقترن بالوحشية – وعادة ما يصبح الإمبرياليون وحشيين إذا ما قوبلوا بمقاومة عنيدة، وفي الصراع الذي طال أمده بين الجيش الإيطالي والسنوسية، كنت بلا ريب متعاطفا مع الجانب الليبي.
لقد أسعدتني تصفية الحكم الإيطالي في ليبيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وأسبغ عليّ شعورا بالرضا كتابةُ ذلك في سجل الاستقراء.
كانت هذه الخلفيةَ الشخصية لزيارتي إلى ليبيا عام 1964، ضيفا على الحكومة والجامعة الليبية. لقد كانت هذه الزيارة حدثًا لا أنساه طوال حياتي.
لقد سافرت حتى الآن، ولاسيما منذ تقاعدي من المعهد الملكي للشؤون الدولية عام 1965، على نحو واسع؛
وحين أزور بلدا ما، أسعى إلى مشاهدة أشياء ثلاثةٍ على وجه الخصوص ما وسعني ذلك؛ أولا: أهتم برؤية أهل البلد، أي الجيل الحيّ وحالته الراهنة وآفاق مستقبله. وفي المقام الثاني: تاريخ البلد، أي تجربة الأجيال الغابرة ممن سكنوها، والآثار الباقية من هذه التجارب، خاصة الفن القديم والمعمار. أما الأمر الثالث الذي يهمني فهو المشهد الطبيعي؛ على أصله كما صنعته الطبيعة، أو كما طوعه الإنسان لأغراضه. وفي ليبيا عام 1964، تعلمت أشياء كثيرة في جميع مجالات التحقيق الثلاثة هذه.
وقد تزامن موعد زيارتي مع لحظة مهمة من تاريخ ليبيا الطويل، فقبل اكتشاف ثروة ليبيا الجوفية المتمثلة في النفط، كان النشاط الاقتصادي الأساسي في البلاد رعويًا، وفي ملاحم هوميروس الإغريقية التي صيغت نهائيا في وقت مبكر من القرن الثامن قبل الميلاد – على الأقل – كانت ليبيا مشهورة بجودة ماشيتها. إن ناتج الاقتصاد الرعوي له قيمة، ولكن في وقتنا الحاضر، تتفوق الثروة المعدنية على الثروة الرعوية تفوقا كبيرا.
لقد حول ضخ النفط ليبيا فجأة إلى واحدة من دول العالم الغنية. صحيح أن الثروة تتيح فرصًا جديدة عظيمة، ولكن، حين تحُل الثروة في إحدى البلدان فجأة، يمكن أيضا أن يكون وضعها الجديد خطِرا.
لقد لمحت هذا الخطر المحتمل في بلاد أخرى كنت قد زرتها خلال الأعوام القليلة الماضية، وأعني بهذا فنزويلا التي غدت باكتشاف كميات وافرة من الثروة المعدنية غنية فجأة، حالها كحال ليبيا.
واليوم في فنزويلا فإن البلد غني ولكن الشعب مازال فقيرا، فلم تجد ثروة فنزويلا الجديدة سبيلها بعدُ سوى إلى جيوب فئة قليلة من السكان.
حين تكون بلاد ما فقيرة ويكون الناس فيها كذلك فإنه يسلمون بالفقر ويعدون أنفسهم ضحية لسوء الحظ لا لغياب العدالة الإنسانية؛ لقد حدث أن كانوا يعيشون في بلد مفتقر إلى الموارد الطبيعية! لكن سلوك الناس يتبدل حين يثبت أن بلادهم غنية وأن غالب قاطنيها ما يزالون فقراء كما كانوا دائما.
الفقر وسَطَ الثروة مستفز، وليس صدفة أن فنزويلا أغنى دولة في الأمريكيتين – بل ربما كانت الأغنى في العالم كله – هي إحدى أقل دول العالم استقرارا سياسيا.
أعتقد أن على ليبيا أن تتعلم درسا من فنزويلا، وعلىّ أن أسدي إلى الليبيين النصيحة بأن يدرسوا ما وقع في فنزويلا وأن يتأكدوا من أن الأمر نفسه لن يقع في بلادهم.
في وسع الليبيين أن يروا في فنزويلا ما عليهم تجنبه، وفي الكويت يستطيعون أن يروا ماذا يفعلون. فالكويت شأنها شأن ليبيا وفنزويلا، أصبحت بضخ النفط غنية فجأة، وفي الكويت نجحت الحكومة في توزيع عوائد ثروة البلاد المستجدة بين الناس على نحو واسع. وفي رأيي فإن الكويت عرفت كيف تتجنب الخطر المحتمل الذي يصاحب ازدياد الثروة الوطنية. وإذا صنعت ليبيا صنيع الكويت، فإن آفاقها السياسية والاجتماعية ستكون مشرقة كآفاقها الاقتصادية.
وانتقالا إلى ماضي ليبيا؛ فإني سألقى أولا نظرة على الفصل قبلَ الأخير من تاريخها، وهنا سأنوه بالإيطاليين.
لقد ترك الإيطاليون ذكرى كريهة بكونهم غزاة أجانب. إنه لشاذ ومؤلم أن يحكمك غازٍ أجنبي، وما كان لنظام حكم استعماري أجنبي أن يكون ذا شعبية. ولكن برغم ذلك، ترك الإيطاليون في ليبيا _ وفي إثيوبيا كذلك _ شيئا من التركة القيمة لنظام الحكم الوطني الذي حل اليوم محل نظام الحكم الإيطالي.
زود الإيطاليون ليبيا وإثيوبيا بشبكة طرق من الدرجة الأولى، وخطَوا في ليبيا الخطوة الأولى نحو إعادة إحياء الزراعة. لا شك في أن الإيطاليين إنما قاموا بذلك لمصلحتهم الخاصة، فبخلاف المستوطنين البريطانيين والهولنديين في أفريقيا الجنوبية، استأثر الإيطاليون لأنفسهم بأكثر الأراضي الخصبة، ولكنهم كذلك استثمروا في ليبيا قدرا كبيرا من رأس المال الإيطالي؛ فبنوا منازل ريفية، وأوجدوا أنظمة للري، وقد ورثت ليبيا المحررة اليوم هذا الاستثمار الرأسمالي الإيطالي. وفي عام 1964 أذهلني ما رأيت من أدلة على ما صنعه الإيطاليون من أجل الزراعة في برقة – ولاسيما في المرج، وكذلك في الجبل من دواخل طرابلس.
آمل أن ينحوَ الليبيون نحو المحافظة على الإنماء الزراعي الذي بدأه الإيطاليون في بلدهم وأن يوسعوه. وأعتقد أن من الخطأ أن تبيح ليبيا لنفسها اقتصاديا أن تكتفي بمواردها النفطية المكتشفة حديثا، فحتى أغنى الحقول النفطية قابل للنفاد، وعلاوة على ذلك، يمكن أن نتصور أن تحل محل النفط موارد طاقة طبيعية أخرى – كالطاقة الذرية على سبيل المثال – قبل نفاد احتياطي العالم من النفط بوقت طويل.
وفي زماننا هذا يتقدم العلم والتقنية بإيقاع مطرد، وهذا يعني أن السلعة التي لها اليوم قيمة تجارية، قد تفقد غدا كثيرا من قيمتها هذه.
ثمة دول كالكويت – مثلا – والسعودية، لا تمتلك أية موارد اقتصادية باستثناء النفط. ليبيا أوفر حظا، وفي وسعها أن تنوع اقتصادها، وعلى المدى الطويل هذه هي السياسة الاقتصادية الصائبة التي عليها أن تتبعها.
على ليبيا أن تصون اقتصادها الرعوي، كما أن عليها أن توسع زراعتها إلى جانب تطوير إنتاجها من النفط.
إن إمكانات التنمية الزراعية في ليبيا عظيمة، ولدينا على ذلك برهان تاريخي وأثري، ففي القرن التاسع قبل الميلاد كان الساحل الطرابلسي مستعمرا من قِبَل الفينيقيين الذين جاءوا من بلد عربي آسيوي، هو الجمهورية اللبنانية اليوم. وفي القرن السابع قبل الميلاد استُعمرت برقة من قِبل الإغريق. ولقد طور كلا الفريقين من المستعمرين الزراعة في أوطانهم الجديدة.
وفي الوقت الذي دُمج فيها شطرا ليبيا في الإمبراطورية الرومانية كانت ليبيا قد غدت إحدى أعظم الدول الزراعية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وتحت حكم الأمويين والعباسيين ظلت ليبيا سخية زراعيا، وقد دُمرت زراعتها بغزو بني هلال وبني سليم في القرن الحادي عشر من القرن الميلادي.
أحييت اليوم الزراعة في ليبيا بعد انقطاع دام تسعمائة عام، وبالوسائل التي يمكن أن توفرها التقنية الحديثة؛ وعلى الزراعة في ليبيا أن تبلغ المدى الذي وصل ذروته في الحقبة الرومانية وأن تتجاوزه، هذا هو الغاية التي على ليبيا أن تنشدها.
تمتلك ليبيا إنتاجها الحيواني منذ أمد طويل، وتمتلك كذلك ثروتها النفطية الجديدة، وعليها أن تطور إنتاجها الزراعي المكافئ، وإذا صنعت ليبيا ذلك فستكون قد أعدت نفسها باقتصاد متنوع ومتوازن، وسيكون ذلك تأمينا ذكيا في عصر التغيرات التقنية والاقتصادية التي لا يمكن التنبؤ بها.
عند مناقشة إمكانات ليبيا الزراعية، أشرت إلى الأطوار الفينيقية والإغريقية والرومانية من تاريخ ليبيا، ولقد تركت هذه الأطوار من تاريخها شواهد ملموسة رائعة على رخائها الاقتصادي وعلى العبقرية المعمارية والفنية التي منحها هذا الرخاء مجالاً.
في ذهني على وجه الخصوص قورينا وأبولونيا وطلميثة وتوكرة في برقة، ولبدة وصبراتة في طرابلس الغرب. إن هذه الآثار تعد ثروة بمعنيين. فهي مصدر ثروة بمعناها المعروف لأنها تضمن أن ليبيا سوف تطور صناعة سياحية رابحة، كما أنها ثروة روحية، حين ينظر الزائر إليها بعيني مؤرخ فإنها تعيد له إلى الحياة أكثر من ألف سنة من تاريخ عالم البحر الأبيض المتوسط القديم.
سحر ليبيا الخاص عندي هو أن المرء يستطيع فيها أن يدرس الماضي والحاضر معا، وفي ليبيا فإن كليهما ذو أهمية كبرى لدارس الشئون الإنسانية.
العامل الرئيسي الآخر الذي جذبني في ليبيا هو المشهد الطبيعي، لقد ألقيت عليه نظرة لأول مرة عام 1964، وكنت قبل ذلك قد تقت إلى رؤيته أكثر من ستين عامًا.
منذ أن كنت تلميذا كانت ليبيا مألوفة عندي من كتب التاريخ والخرائط والصور، لكن نظرة بعيني إلى مشهد طبيعي تخبرني أكثر مما يسعني أن أتعلمه من أية مطبوعة ورقية.
في الطريق من بنغازي إلى قورينا، كان مثيرا أن نصعد من السهل الساحلي عند توكرة إلى الطرف الجنوبي الغربي من الجبل الأخضر. وكلما تقدمنا كان المناخ والغطاء النباتي يتغيران. لم تظهر لي الخرائط والصور الفوتوغرافية حجم وثراء هذا الجيب العظيم من التربة الخصبة، وصدمني ثانية التناقض بين جودة الأراضي الزراعية جنوبيّ قورينا، وخشونة وقسوة البلاد بين قورينا والساحل.
وإذ كنت عائدا من لبدة إلى طرابلس، لاحظت كيف ولجنا فجأة بلدا زراعيا غنيا، ذلك عندما تسلقنا الجُرف الشمالي من الجبل الطرابلسي.
عندئذ كنت أتوق إلى التوجه جنوبًا لاكتشاف المدى الذي بلغه إحياء الزراعة جنوبا، وكان عليّ مواصلة المسير على طول الطريق إلى فزان. نحن الآن في عام 1968، وقد بلغت الثمانين من العمر، ومع ذلك لم أيأس من رؤية فزان أيضاً يوما من الأيام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
** أرنولد جوزف توينبي مؤرخ بريطاني (1889 – 1975.) من أشهر المؤرخين في القرن العشرين. أهم أعماله موسوعة دراسة للتاريخ لتي تـتألَف من اثـني عشرَ مُجلَّدًا أنفق في تأليفها واحدًا وأربعين عامًا.
-------------------------------------------------