سفيان صلاح هلال - حين تقول الأنوثة بلا كلمات وتتمرد بلا صوت.. قراءة في مجموعة "الأحمر" للكاتبة ميرفت ياسين

واحدة من المشكلات التي تقابل الأنثى في بعض الأطر الاجتماعية ذات الطابع الذكوري هي حصار حاجتها إلى التعبير، وفرض صيغة العيب أومفهوم العورة على ما يتعدى مفاتن جسدها إلى صوتها وكلامها، وقد وردت الكثير من القصص في تراثنا تحكي أن التعبير بالإشارة أو بالكلام ذو الدلالات التي تشير ولا تفصح من بلاغة النساء. وهذه الأطر بوجه عام فرضت هذا الحصار على الأنثى، ليس من باب كراهيتها أو التقليل من شأنها أو التحقير منها كما يدعي البعض، وإلا ما كتب ذكورها ذلك الكم من الغزليات: صريحها وعفيفها، وما ملأت كتبنا قصص الحب واللوعة وآلام انقطاع الوصال! في رأيي الشخصي أن هذه المجتمعات تقدس المفاهيم الأسرية والقبلية التي تقوم عليها، وتحاقظ على أمنها وسلامها الاجتماعي من خلالها، أكثر من تقديسها للفردية؛ لهذا وضعت على عاتق المرأة أمانة حفظ الأنساب ونقاء السلالات باعتبارها الضامن الوحيد للانتماء حتي وقت قريب حين اكتشفت التحاليل الخاصة بالنسب، وقد كان الحصار أشد في أوربا نفسها بأزمنة العصور الطبقية والعرقية، حتى تحولت للفردية ومفهوم الدولة فأعطت للنساء مثلما أعطت الرجال من حقوق، وفرضت على الجميع نفس الواجبات.
رغم هذا فمعظم الكتابات الأنثوية تشعر بشيء من الضيق تجاه الرجال رغم أنهن في الممارسات الواقعية قد يفرضن على أنفسهن أكثر مما يفرضه عليهن الرجال! كنوع من حرصهن على استقرار المجتمع، وفي مجموعة "الأحمر" القصصية للكاتبة "مرفت يس" والتي صدرت عن دار كيمت 2020- يبين التعبير الدال منذ العنوان، فالأحمر لون له دلالة تحمل الأضداد، فكما يعبر الورد الأحمر عن الحب، فالإشارة الحمراء تعبر عن المنع، ويعبر اللون الأحمر عن الخوف في الدلالات النفسية، وهو أيضا إشارة لليالي المبهجة ذات الطابع الأيروسي، وقد يعبر عن الدموية والقتل... ولا أستبعد أن تكون كل هذه الدلالات أرادتها الكاتبة بوعي أو لا وعي للتعبير عن متناقضات حياة الأنثى الرومانسية الحالمة سيدة الليالي الحمراء، الخائفة دائما من الرقيب ومن العمر الذي يمضي ليتغذى على أنوثتها، الأنثى المقهورة التي تحيط بها إشارات المنع، وهي التي من المفروض عليها أن تمنح البهجة، الأنثى التي قد تسقط ضحية لتدفع ثمنا لا يدفعه الرجال للحفاظ على تعاليم المجتمع اللا فردي ..... نعم كل هذه الأحاسيس تملأ المجموعة سواء من العناوين العامة مثل: عزل، بقع سوداء، مرايا، حالات خاصة، أوالعناوين الفرعية الخاصة بالقصص مثل: قبلات محتالة، لذة الألم، شمعة، أطياف نورا، وغيرها.... وكلها عناوين تدل على الحلم في "غزل" أو التضحية في شمعة، أوالحصار في قبلات محتالة ... ... وربما هذا ما جعل لغة الكاتبة في البداية تميل للكثافة التي تجعل مجموعة من الأقاصيص تبدو كقصائد بمراوغتها وخيانتها للغة :
"لحظات الغروب وهدوء الكون /كانت تجلس على فرع الشجرة الكبيرة مثلها . . بيدها بعض الأحجار تـقذفها في الماء . . ابتهجت أساريرها . . شعرت بذراعيها . . عانقته تحسست شعره الأبيض الذى في نعومة الحرير حل الظلام . . دخلت منزلها
بنباحه يتبعها . . . .!!!" فالغروب هنا معنى رمزي، وقذف الأحجار معنى دلالي على محاولة تحريك الساكن ... أما السؤال: من هو الذي عانقته تحسست شعره الأبيض الذى في نعومة الحرير؟ الكلام الذي بعده يفهم منه أنه كلب، حيث ذكرت صفة من صفاته وهي النباح ولكن هذا هو المعنى الظاهر والذي لايستقيم مع السياق الكلى للقصة خاصة أن النباح يمكن أن نخلعه صفة ونشبه به معاني كثيرة كما خلعت الكاتبة وصف العواء على تصرفات أحد رجال مجموعتها وهو يشتعل رغبة والبطلة تشتعل حرية وتمردا .....
لكن الكاتبة تقف كثيرا على أسباب استسلام الأنثى للقهر... إنها لا تُعامل كإنسان حتى من أقرب الناس إليها " تجلس أمامه علي سجادة عتيقة تعد فنجاناً من القهوة على (سبرتاية) من النحاس، في حجرة الجلوس التي اشتراها والدها دون أخذ رأيها كباقي الجهاز الذي تم شحنه معها إلي شقة الزوجية" ففضلا عن تصويرها لنفسها في جلستها كخادمة للزوج، فهذا أبوها لايفرق بينها وبين قطع الأساس، وكما أن زوجها يتعامل معها حسب إرادته كان أبوها يتعامل معها كأنها اللاشيء المُرّ الذي ابتلي به! إن إحساس الأنثى بالغربة إحساس أصيل " في الغرفة .. غلبها النعاس .. أحست كم أنها وحيدة .. فراش كبير تتقلب فيه يميناً ويساراً" وهي تتحمل أو بدقة ترمى عليها كل تبعات النكوص حتى لو لم يكن لها ذنب فيها " تتذكر علب المساحيق التي جفت ، هربت رقتها ونعومتها عندما استعمرها كسيكوباتي وأخذ يغرس فيها فأسه فلم تنبت ولم تثمر . . . . وهو مازال يوهم نفسه أن الأرض أرضه . . !!!" إن إهانة المرأة واحتقارها لا تبدأ من المجتمع ولا تبدأ عند الزواج بل تبدأ من الطفولة وفي الأسرة " جدتي امرأة تتعامل بعدائية معي ، جلبت حلاق الصحة ليقتص جزءا منى بمشرط غير عابئة لصراخي ورعبي ، وهى تمسك بي هي واخواتها الثلاثة ، وترمقني بنظرة احتقار وكراهية شديدة
وعندما نزلت أولى القطرات منى وأنا واقفة قبالتها كشرت عن أنيابها وانهالت عليا بالنصائح الأشبه بالتهديدات والترهيب من الذكور ، وأحكمت لف رأسي بغطاء وبدلت ثيابي الطفولية بملابس عجيبة لا تناسبني . إن كل هذه المشاعر تجعل الأنثى في خوف دائم من المجتمع، وتنعكس على تصرفاتها.وهي–إشارة لعملية ختان الإناث- .
غير أن الكاتبة ترى أن النصير الأول للمرأة هو نفسها، فقط عليها أن تنظر في المرايا لتعرف قيمتها وتكتشف خدع الآخرين؛ ساعتها ستتمرد بكل الطرق العملية ليري الآخرون قيمتها.
وقد رصدت الكاتبة أشكالا من التمرد تبدأ بالثقة في عقلها وما تملك من إمكانيات إبداعية عليها أن تستثمرها، ثم ترجمت هذا التمرد لمواقف عملية تمنح نفسها من خلالها الحرية دون الرجوع لمحظورات أحد؛ حتى لو جعلها هذا تتخذا قرارا بالطلاق، أوعصيان الفتاوى الغاشمة باسم الدين " وهى بالباب سمعت حديث الشيخ ..
- لا يجوز يا بنى أن تقود زوجك السيارة .. لأنها قد تذهب لعشيقها والعياذ بالله في أي وقت. ابتسمت وهى تغلق الباب خلفها " إن بعض القرارات قد تكون مؤلمة لكنه ألم يمنحها اللذة –على حد تعبير الكاتبة- لا يمنحها الوجع كما يتصور من لم يخض في التجربة، فالوجع حقا في قهرها واستسلامها.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى