لا ريب في أنّ أعمال الروائيّ العالميّ نجيب محفوظ تفتح أمام الباحث والناقد آفاقاً واسعة للتأمّل والدراسة والتحليل، مَثَلُها في ذلك مَثَلُ كلّ الأعمال الإبداعية الكبرى.
إذ يمكن التركيز مثلاً على مضمون العمل، أو البناء الفنّي للقصّة، أو شخصيّاتها، أو الخطاب القصصيّ من سرد وحوار وتحليل ووصف ، أو الزمان بكافّة تجلّياته وإشكالاته المختلفة، أو خصائص المكان ودلالاته في العمل الروائي، أو غير ذلك من القضايا والمسائل المتّصلة بالجوانب الموضوعية والفنية لهذا الفنّ الأدبي الغنيّ.
إنّ ذلك كلَّه ينطبق بالتأكيد على رواية " ميرامار " ؛ يستوي في ذلك موضوعها المهمّ والغنيّ، وبناؤها الفنّيّ الشائق والثريّ.
على أنّ المكان الذي اختاره الكاتب مسرحاً لأحداث الرواية وتفاعلات شخوصها له من الخصائص والدلالات ما يجعله جديراً بالبحث والدراسة والتحليل...
إنّ أوّل ما يسترعي الانتباه هنا إنّما هو الدافع الذي حدا بالكاتب القاهري ( نجيب محفوظ ) وهو المسكون إنسانياً وفنياً بالقاهرة وأحيائها التاريخية العتيقة، كما يتجلّى في معظم أعماله الروائية الأخرى، إلى اختيار مدينة الإسكندرية مسرحاً لأحداث الرواية التي نحن بصدد دراستها؟
هذا ما تحاول هذه الدراسة البحث عن أسبابه.
-الرواية في سطور* :
يمثِّل نُزُل " ميرامار " الواقع في مدينة الإسكندرية الفضاءَ الاجتماعيّ والفكري الذي تتفاعل فيها الشخصيات مع ماضيها، بالاستذكار والاستبطان، ومع حاضرها، بالأفعال وردود الأفعال، ومع مستقبلها، بالتّطلعات والأحلام، ومع بعضها، بالحوار والسلوك والأعمال والأفكار.
حيث تقوم صاحبته ( ماريانا ) بإدارته بما تتمتّع به من حِنكة وخبرة وعلاقات وثيقة مع أفراد الجالية اليونانية التي تنتمي إليها، والأعيان القدامى والطامحين الجُدُد من أبناء مصر.
وتمثّل ثورة عام (١٩٥٢م) وسياساتها، وقراراتها الاشتراكية بخاصّة، بؤرة الأحداث والمحور الذي تدور حوله كلّ الصراعات الظاهرة منها والخفية، بين طبقات وشرائح المجتمع المصري، كما تتمثّل في عيّنة مختارة احتواها نُزُلُ "ميرامار" حيث يتوافد شخوص الرواية إلى النُّزُل المذكور ، كلّ لأسبابه الخاصة:
فيكون الصحفيّ الثمانينيّ المتقاعد ( عامر وجدي ) أوّل الوافدين الذي ينظر إلى أحداث الرواية بمنظوره الشخصيّ فيقدّم لنا سرده الخاص لوقائعها ؛ إذ يطمع في قضاء تقاعد هادئ مطمئِن في جوّ عائلي مناسب، وهو الذي ليس له من الذريّة والأهل والأقارب أحدٌ يركن إليه أو يعوّل عليه.
ويليه الإقطاعيّ ( طلبة مرزوق ) صاحب الأراضي الذي صادرت الثورة أملاكه وتركتْ له القليل ممّا يستعين به على معاشه، فيجد في النّزل الملاذ المناسب لترتيب أوضاعه استعداداً للسفر إلى إحدى دول الخليج حيث تقيم ابنته مع زوجها.
ثمّ تأتي الفتاة الريفية الجميلة والطموحة ( زهرة ) لتعمل خادمة في النزل، بعد أن هجرتْ بلدتها رافضةً الزواج من رجل مسنّ فُرض عليها فرضاً، فتصبح محوراً لنزوات وأطماع بعض النزلاء ، لكنّها تقاوم كلّ ذلك بإرادة وعزيمة لا تلين.
ويأتي بعد ذلك ( سرحان البحيري ) الذي يعمل محاسباً في إحدى شركات الغزل والنسيج، وهو مثال حيّ للانتهازي المتسلّق الذي يطمح، مثل الكثيرين من نظرائه، إلى ركوب موجة الثورة والارتقاء الاجتماعي والاقتصادي على حسابها، فيتقرّب من ( زهرة ) ويحاول بناء علاقة عابرة أو دائمة معها، لكن دون الالتزام بما يفرضه الزواج من حقوق وواجبات. ثمّ يقوده طموحه الأرعن اللامشروع إلى الاشتراك في عملية سطو على بعض منتجات الشركة التي يعمل بها، حيث انكشف أمره، فلم يجد سوى الانتحار وسيلة للنجاة من الحساب والعار.
أمّا (حسني علّام ) وهو شاب ساخرٌ عابث من أعيان مدينة طنطا ، فقد وفَد إلى الإسكندرية بحثاً عن استثمار مناسب لمئة فدّان من الأراضي الزراعية التي لم تطالها يدُ الثورة. وقد اتّخذَ من نُزل " ميرامار " مقرَّاً لإقامته هناك، ومنطَلَقاً لمغامراته النسائية، ولسهراته الماجِنة.
أمّا آخر الوافدين إلى " ميرامار "
والمقيمين فيه، فهو الإذاعي الشاب ( منصور باهي ) صاحب الفكر الماركسيّ الذي يعمل في إذاعة الإسكندرية، والذي لم يتورّع عن ملاحقة " درّية " زوجة رفيقه وأستاذه السجين السياسي" فوزي " ثمّ تخليه عنها، ونكوصه عن الزواج منها بعد أنْ أصبحت حرّة بطلاقها من زوجها الذي أفسح له المجال لذلك. فتكشّف على حقيقته إنساناً ضعيفاً ومخادعاً عاجزاً عن تحمّل المسؤولية والوفاء بالوعود.
وتنتهي الرواية بآيات من " سورة الرحمن " اعتاد ( عامر وجدي ) تلاوتها كلّما دهمته الأحداث وجاش صدره؛ إذ يقول مواسياً " زهرة " :
" ثمّ همستُ في أذنها:
- ثقي من أنّ وقتكِ لم يضع سُدى، فإنّ مَن يعرف من لا يصلحون له فقد عرف بطريقة سحرية الصالح المنشود...
وكعادتي لدى جيشان الصدر هرعتُ إلى سورة الرحمن فرحتُ أتلو: الرحمن (١)علّم القرآن(٢) خلقَ الإنسان(٣) علّمه البيان(٤) الشمسُ والقمرُ بحسبان(٥) والنجم والشجرُ يسجدان(٦) والسماءَ رفعها ووضعَ الميزان(٧) ألّا تطغَوا في الميزان(٨)
وأقيموا الوزن بالقِسط ولا تُخسِروا الميزان(٩)..." (الرواية، ص. ٢٧٩)
تهيّئ مدينة الإسكندرية، ببعدها التاريخي العالميّ، وبالحضارات التي تعاقبت عليها، وبالأعراق والشعوب التي استوطنت فيها وتفاعلت على أرضها، وببعض الجاليات الأجنبية التي لا تزال تقيم فيها إلى جانب المصريين من أبنائها وأبناء المدن الأخرى، الفضاءَ الجغرافي والسكّاني والحضاري المناسب والقادر على احتواء معظم الآراء ووجهات النّظر المتفاوتة حول المسار السياسي والاقتصادي لثورة تمّوز/ يوليو، بعيداً عن مدينةِ القاهرة، العاصمةِ ذات التراث العربيّ الإسلاميّ المهيمِن، ومركز الإدارة والسيطرة وصنع القرار.
ويمثّلُ نُزُل "بنسيون" ميرامار تكثيفاً مكانياً لفضاء الإسكندرية الحضاريّ بكلّ أبعاده التي أشرنا إليها.
انقسمت الرواية إلى خمسة فصول تتولّى أهم الشخصيات الرئيسة فيها مهمةَ سرد الأحداث ووصف الأجواء وتقديم الشخصيات وفق منظورها الخاص؛ ما وفّرَ للرواية مساحة واسعة من الحَيدة والموضوعية الضرورية لمعالجة موضوعها الشائك...
في الفصل الأول من الرواية، ومنذ صفحتها الأولى، يضعنا الصحفي المتقاعد ( عامر وجدي ) وجهاً لوجه أمام مدينة الإسكندرية...
نقرأ في الرواية:
" الإسكندرية أخيراً.
الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبلّلة بالشَّهد والدموع."
( الرواية، ص. ٧ )
يلي ذلك مباشرة هذا الوصف الدّال للمظهر الخارجي لنُزُل ميرامار ولموقعه من مدينة الإسكندرية:
" العمارة الضخمة الشاهقة تطالعكَ كوجه قديم، يستقرُّ في ذاكرتك، فأنت تعرفه ولكنّه ينظر إلى لا شيء في لا مبالاة فلا يعرفك. كلَحتْ الجدران المقشَّرة من طول ما استكنَّت بها الرطوبة. وأطلّتْ بجماع بنيانها على اللسان المغروس في البحر الأبيض، يجلّل جنَباته النخيل وأشجار البلح........والهواء المنعش القوي يكاد يقوّض قامتي النحيلة المقوّسة، ولا مقاومة جدّيّة كالأيام الخالية.........
ها أنا أرجع إليك يا إسكندرية."
( الرواية، ص.ص ٧-٨ )
أمّا الوصف الداخلي للنّزل ولصاحبته
" ماريانا " وللآثار التي خلّفها الزمن على جسدها الجميل فيتجلّى بوضوح في السطور التالية:
" ضغطتُ على جرس الشقّة بالدور الرابع........... فُتِحتْ شرّاعة الباب عن وحه ماريانا..........
الباب فُتِح. استقبلني تمثال العذراء البرنزيّ........وقفنا نتبادل النّظر. طويلة رشيقة، الشعر ذهبي والصحّة لا بأس بها، ولكن بأعلى الظهر احديداب، والشعر مصبوغ حتماً، واليد المعروقة وتجاعيد زاويتَي الفم تشي بالعحز والكِبَر. إنّكِ يا عزيزتي في الخامسة والستين، رغم أنّ الروعة لم تسحب منك جميع أذيالها..." ( الرواية، ص.ص ٨-٩ )
كما أنّ وصف المكان وتحديد التغيّرات التي طرأتْ على بعض عناصره وتفصيلاته قد يُسهم في صياغة معادل موضوعي رمزيّ لبعض التحّولات الاجتماعية التي طالت المشهد، كصعود بعض الطبقات الاجتماعية وأفول نجم بعضها الآخر؛ يتأمّل ( عامر وجدي ) النّزل فيخاطب نفسه:
" .....ورغم اختفاء المرايا القديمة والسجاجيد الفاخرة والقناديل المفضّضَة والفنانير البلّوريّة، فما زالت مسحة أرستقراطية باهتة تعلَق بالجدران المورّقة العالية الموشّاة بصورة الملائكة." ( الرواية، ص.١٢ )
ثمّ يَخرُج خطابُه إلى العلَن فيتوضّح المشهد أكثرَ فأكثر:
" قالت وهي تتنهّد وقد لمحتُ لأول مرّة طاقم أسنانها:
- كان بنسيون السادة!
فقلتُ مواسياً:
- سبحان من له الدوام. "
( الرواية، ص. ١٢ )
في الفصل الثاني من الرواية يقوم حسني علّام بسرد رؤيته الخاصة للأحداث، فيتّخذ من مناخ الإسكندرية وبحرها المضطرب الهائج لوحة خلفية ترتسم فوقها آراؤه وأفكاره وانطباعاته...
نقرأ في الرواية:
" وجه البحر أسود محتقن بزرقة. يتميّزُ غيظاً. يكظم غيظه. تتلاطم أمواجه في اختناق. يغلي بغضب أبدي لا متنفّسَ له.( الرواية، ص.٨٧)
بعد هذا المشهد التمهيدي المعبِّر يأتي هذا الخطاب الداخلي الغاضبُ غضبَ الإسكندرية والبحر:
" ثورة. لمَ لا. كي تؤدّبكم وتُفقركم وتمرّغ أنوفكم في التراب. يا سلالة الجواري. إنّي منكم، وهو قضاء لا حيلة لي فيه. وقد عرّفتني ذات العين الزرقاء بقولها " غير مثقّف، والمئة فدّان على كفّ عفريت".
( الرواية، ص. ٨٧ )
هكذا.. تمثّل الإسكندرية بوجهها المكفهرّ وببحرها الغاضب في فصل الشتاء الفضاءَ الأنسب للحديث عن الثورة وقوانينها وقراراتها الاشتراكية، مع إشارة عابرة إلى الغزاة الذين استوطنوا الإسكندرية وصاهروا أهلها، وكأنّ الثورة- وَفْقَ منظور حسني علّام- قد أتت لتأديب الجميع ووضع الأمور في نصابها الصحيح!
أمّا في الفصل الثالث فإنّ ( منصور باهي ) الذي ينظر إلى الأشخاص والوقائع والأحداث وَفقَ منظوره الخاصّ، لم يجد في الإسكندرية سوى سجن مريح أبعده إليه أخوه الضابط الكبير خوفاً عليه ممّا قد يبدر منه في القاهرة من تهوّر سياسيّ قد لا تُحمَد عُقباه.
نقرأ في الرواية:
" قُضي عليّ بالسجن في الإسكندرية، وبأن أمضي العمر في انتحال الأعذار.
قلتُ ذلك لأخي وأنا أودّعه، ثمّ ذهبتُ رأساً إلى بنسيون ميرامار."
( الرواية، ص. ١٣٩ )
وفي مطلع الفصل الرابع يكشف لنا (سرحان البحيري) عن بعض الملامح اليونانية لمدينة الإسكندرية كما تتمثّل في هذا الوصف البديع والدقيق لإحدى محلات البقالة اليونانية.
جاء في الرواية:
" هاي لايف.
معرض أشكال وألوان مثير للشغب، شغب البطون والقلوب. موجة هائلة من الأنوار الباهرة تسبح فيها قدور فواتح الشهية، العلب الحريفة والمسكِرة، اللحوم المقدّدة والمدخّنة والطازجة، الألبان ومستخرجاتها، القوارير المضلّعة والمنبسطة والمبطّطة والمربّعة والمنبعجة المترعة بشتّى الخمور من مختلف الجنسيات.
لذلك تتوقّف قدماي بطريقة أوتوماتيكية أمام كلّ بقالة يونانية."
( الرواية، ص.٢٠٣ )
وفي مشهد آخر من الفصل الرابع ذاته تقع عينا سرحان البحيري على (زهرة) صحبة ربّة عملها (ماريانا) في أحد شوارع الإسكندرية، فنقرأ هذه السطور الأخّاذة حيث يمتزج السرد بالوصف والتحليل وتتفاعل المشاعر والمشاهد والأشخاص مع الأماكن والأجواء فتنصهر في بوتقة فنية جميلة بقدر ما هي محكَمة:
" كنت خارجاً من سينما ستراند عندما رأيت الفلاحة الحلوة. كانت قادمة من شارع صفيّة زغلول بصحبة عجوز يونانية. رائقة السُّمرة ساحرة النظرة ريّانة الشباب. كان الطّوار مكتظّاً بالخَلق، والهواء يهبُّ منعشاً حاملاً رائحة البحر، وهالة ضخمة من القطن المندوف تغشى القبّة فتُضفي على الجوّ لوناً أبيضَ ناعساً ناعماً كبهجة الرضى...............
وشاع في نفسي سرور كالسائل العذب الذي يخالط الرّيق بعد مضغ الفول الأخضر البكر الطازج المقطوف لتوّه من الأرض الخضراء."
( الرواية، ص. ٢١٢ )
في الفصل الخامس الأخير يعود ( عامر وجدي ) من جديد ليرثي لحاله معبّراً عن خيبة أمله في المكان الذي اتّخذه ملاذاً هادئاً يأوي إليه في خريف العمر، وذلك على أثر الأطماع والمنافسات التي دارت حول الخادمة الجميلة ( زهرة ) ، وكذلك الظنون التي رافقت مقتل ( سرحان البحيري ) قبل أنْ تتأكّد واقعةُ انتحاره:
" تنغّصَ عليَّ صفْوي بالأحداث التي ألمّت بالبنسيون. لقد ركنتُ إليه لأنعمَ بشيء من الهدوء الضروري لشيخوختي، وبشيء من عزاء الذكريات عن الخيبة المريرة التي مُنيتُ بها في ختام حياتي العملية.
لم يجرِ لي في ظنّ أنّه سينقلب ميداناً لمعارك وحشية قُدِّرَ لها أن تنتهي بجريمة قتل دامية."
( الرواية، ص. ٢٦٤ )
نخلُصُ من ذلك كلّه إلى نتيجة مؤدَّاها أنّ اختيار أديبنا الكبير نجيب محفوظ لمدينة الإسكندرية ولأحد نُزُلها مسرحاً لأحداث روايته المهمّة " ميرامار " لم يكن عبثيّاً، بل كانت تحرّكه دوافع وعوامل موضوعية وفنّيّة أسهمت بشكل كبير في نجاح الرواية وتألّقها، لتنضمّ بكلّ جدارة إلى روائع عميد الرواية العرببة الأخرى.
*- نجب محفوظ، ميرامار، دار مصر للطباعة، القاهرة، د.ت . ط١ ، ١٩٦٧م.
د. زياد العوف
إذ يمكن التركيز مثلاً على مضمون العمل، أو البناء الفنّي للقصّة، أو شخصيّاتها، أو الخطاب القصصيّ من سرد وحوار وتحليل ووصف ، أو الزمان بكافّة تجلّياته وإشكالاته المختلفة، أو خصائص المكان ودلالاته في العمل الروائي، أو غير ذلك من القضايا والمسائل المتّصلة بالجوانب الموضوعية والفنية لهذا الفنّ الأدبي الغنيّ.
إنّ ذلك كلَّه ينطبق بالتأكيد على رواية " ميرامار " ؛ يستوي في ذلك موضوعها المهمّ والغنيّ، وبناؤها الفنّيّ الشائق والثريّ.
على أنّ المكان الذي اختاره الكاتب مسرحاً لأحداث الرواية وتفاعلات شخوصها له من الخصائص والدلالات ما يجعله جديراً بالبحث والدراسة والتحليل...
إنّ أوّل ما يسترعي الانتباه هنا إنّما هو الدافع الذي حدا بالكاتب القاهري ( نجيب محفوظ ) وهو المسكون إنسانياً وفنياً بالقاهرة وأحيائها التاريخية العتيقة، كما يتجلّى في معظم أعماله الروائية الأخرى، إلى اختيار مدينة الإسكندرية مسرحاً لأحداث الرواية التي نحن بصدد دراستها؟
هذا ما تحاول هذه الدراسة البحث عن أسبابه.
-الرواية في سطور* :
يمثِّل نُزُل " ميرامار " الواقع في مدينة الإسكندرية الفضاءَ الاجتماعيّ والفكري الذي تتفاعل فيها الشخصيات مع ماضيها، بالاستذكار والاستبطان، ومع حاضرها، بالأفعال وردود الأفعال، ومع مستقبلها، بالتّطلعات والأحلام، ومع بعضها، بالحوار والسلوك والأعمال والأفكار.
حيث تقوم صاحبته ( ماريانا ) بإدارته بما تتمتّع به من حِنكة وخبرة وعلاقات وثيقة مع أفراد الجالية اليونانية التي تنتمي إليها، والأعيان القدامى والطامحين الجُدُد من أبناء مصر.
وتمثّل ثورة عام (١٩٥٢م) وسياساتها، وقراراتها الاشتراكية بخاصّة، بؤرة الأحداث والمحور الذي تدور حوله كلّ الصراعات الظاهرة منها والخفية، بين طبقات وشرائح المجتمع المصري، كما تتمثّل في عيّنة مختارة احتواها نُزُلُ "ميرامار" حيث يتوافد شخوص الرواية إلى النُّزُل المذكور ، كلّ لأسبابه الخاصة:
فيكون الصحفيّ الثمانينيّ المتقاعد ( عامر وجدي ) أوّل الوافدين الذي ينظر إلى أحداث الرواية بمنظوره الشخصيّ فيقدّم لنا سرده الخاص لوقائعها ؛ إذ يطمع في قضاء تقاعد هادئ مطمئِن في جوّ عائلي مناسب، وهو الذي ليس له من الذريّة والأهل والأقارب أحدٌ يركن إليه أو يعوّل عليه.
ويليه الإقطاعيّ ( طلبة مرزوق ) صاحب الأراضي الذي صادرت الثورة أملاكه وتركتْ له القليل ممّا يستعين به على معاشه، فيجد في النّزل الملاذ المناسب لترتيب أوضاعه استعداداً للسفر إلى إحدى دول الخليج حيث تقيم ابنته مع زوجها.
ثمّ تأتي الفتاة الريفية الجميلة والطموحة ( زهرة ) لتعمل خادمة في النزل، بعد أن هجرتْ بلدتها رافضةً الزواج من رجل مسنّ فُرض عليها فرضاً، فتصبح محوراً لنزوات وأطماع بعض النزلاء ، لكنّها تقاوم كلّ ذلك بإرادة وعزيمة لا تلين.
ويأتي بعد ذلك ( سرحان البحيري ) الذي يعمل محاسباً في إحدى شركات الغزل والنسيج، وهو مثال حيّ للانتهازي المتسلّق الذي يطمح، مثل الكثيرين من نظرائه، إلى ركوب موجة الثورة والارتقاء الاجتماعي والاقتصادي على حسابها، فيتقرّب من ( زهرة ) ويحاول بناء علاقة عابرة أو دائمة معها، لكن دون الالتزام بما يفرضه الزواج من حقوق وواجبات. ثمّ يقوده طموحه الأرعن اللامشروع إلى الاشتراك في عملية سطو على بعض منتجات الشركة التي يعمل بها، حيث انكشف أمره، فلم يجد سوى الانتحار وسيلة للنجاة من الحساب والعار.
أمّا (حسني علّام ) وهو شاب ساخرٌ عابث من أعيان مدينة طنطا ، فقد وفَد إلى الإسكندرية بحثاً عن استثمار مناسب لمئة فدّان من الأراضي الزراعية التي لم تطالها يدُ الثورة. وقد اتّخذَ من نُزل " ميرامار " مقرَّاً لإقامته هناك، ومنطَلَقاً لمغامراته النسائية، ولسهراته الماجِنة.
أمّا آخر الوافدين إلى " ميرامار "
والمقيمين فيه، فهو الإذاعي الشاب ( منصور باهي ) صاحب الفكر الماركسيّ الذي يعمل في إذاعة الإسكندرية، والذي لم يتورّع عن ملاحقة " درّية " زوجة رفيقه وأستاذه السجين السياسي" فوزي " ثمّ تخليه عنها، ونكوصه عن الزواج منها بعد أنْ أصبحت حرّة بطلاقها من زوجها الذي أفسح له المجال لذلك. فتكشّف على حقيقته إنساناً ضعيفاً ومخادعاً عاجزاً عن تحمّل المسؤولية والوفاء بالوعود.
وتنتهي الرواية بآيات من " سورة الرحمن " اعتاد ( عامر وجدي ) تلاوتها كلّما دهمته الأحداث وجاش صدره؛ إذ يقول مواسياً " زهرة " :
" ثمّ همستُ في أذنها:
- ثقي من أنّ وقتكِ لم يضع سُدى، فإنّ مَن يعرف من لا يصلحون له فقد عرف بطريقة سحرية الصالح المنشود...
وكعادتي لدى جيشان الصدر هرعتُ إلى سورة الرحمن فرحتُ أتلو: الرحمن (١)علّم القرآن(٢) خلقَ الإنسان(٣) علّمه البيان(٤) الشمسُ والقمرُ بحسبان(٥) والنجم والشجرُ يسجدان(٦) والسماءَ رفعها ووضعَ الميزان(٧) ألّا تطغَوا في الميزان(٨)
وأقيموا الوزن بالقِسط ولا تُخسِروا الميزان(٩)..." (الرواية، ص. ٢٧٩)
تهيّئ مدينة الإسكندرية، ببعدها التاريخي العالميّ، وبالحضارات التي تعاقبت عليها، وبالأعراق والشعوب التي استوطنت فيها وتفاعلت على أرضها، وببعض الجاليات الأجنبية التي لا تزال تقيم فيها إلى جانب المصريين من أبنائها وأبناء المدن الأخرى، الفضاءَ الجغرافي والسكّاني والحضاري المناسب والقادر على احتواء معظم الآراء ووجهات النّظر المتفاوتة حول المسار السياسي والاقتصادي لثورة تمّوز/ يوليو، بعيداً عن مدينةِ القاهرة، العاصمةِ ذات التراث العربيّ الإسلاميّ المهيمِن، ومركز الإدارة والسيطرة وصنع القرار.
ويمثّلُ نُزُل "بنسيون" ميرامار تكثيفاً مكانياً لفضاء الإسكندرية الحضاريّ بكلّ أبعاده التي أشرنا إليها.
انقسمت الرواية إلى خمسة فصول تتولّى أهم الشخصيات الرئيسة فيها مهمةَ سرد الأحداث ووصف الأجواء وتقديم الشخصيات وفق منظورها الخاص؛ ما وفّرَ للرواية مساحة واسعة من الحَيدة والموضوعية الضرورية لمعالجة موضوعها الشائك...
في الفصل الأول من الرواية، ومنذ صفحتها الأولى، يضعنا الصحفي المتقاعد ( عامر وجدي ) وجهاً لوجه أمام مدينة الإسكندرية...
نقرأ في الرواية:
" الإسكندرية أخيراً.
الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبلّلة بالشَّهد والدموع."
( الرواية، ص. ٧ )
يلي ذلك مباشرة هذا الوصف الدّال للمظهر الخارجي لنُزُل ميرامار ولموقعه من مدينة الإسكندرية:
" العمارة الضخمة الشاهقة تطالعكَ كوجه قديم، يستقرُّ في ذاكرتك، فأنت تعرفه ولكنّه ينظر إلى لا شيء في لا مبالاة فلا يعرفك. كلَحتْ الجدران المقشَّرة من طول ما استكنَّت بها الرطوبة. وأطلّتْ بجماع بنيانها على اللسان المغروس في البحر الأبيض، يجلّل جنَباته النخيل وأشجار البلح........والهواء المنعش القوي يكاد يقوّض قامتي النحيلة المقوّسة، ولا مقاومة جدّيّة كالأيام الخالية.........
ها أنا أرجع إليك يا إسكندرية."
( الرواية، ص.ص ٧-٨ )
أمّا الوصف الداخلي للنّزل ولصاحبته
" ماريانا " وللآثار التي خلّفها الزمن على جسدها الجميل فيتجلّى بوضوح في السطور التالية:
" ضغطتُ على جرس الشقّة بالدور الرابع........... فُتِحتْ شرّاعة الباب عن وحه ماريانا..........
الباب فُتِح. استقبلني تمثال العذراء البرنزيّ........وقفنا نتبادل النّظر. طويلة رشيقة، الشعر ذهبي والصحّة لا بأس بها، ولكن بأعلى الظهر احديداب، والشعر مصبوغ حتماً، واليد المعروقة وتجاعيد زاويتَي الفم تشي بالعحز والكِبَر. إنّكِ يا عزيزتي في الخامسة والستين، رغم أنّ الروعة لم تسحب منك جميع أذيالها..." ( الرواية، ص.ص ٨-٩ )
كما أنّ وصف المكان وتحديد التغيّرات التي طرأتْ على بعض عناصره وتفصيلاته قد يُسهم في صياغة معادل موضوعي رمزيّ لبعض التحّولات الاجتماعية التي طالت المشهد، كصعود بعض الطبقات الاجتماعية وأفول نجم بعضها الآخر؛ يتأمّل ( عامر وجدي ) النّزل فيخاطب نفسه:
" .....ورغم اختفاء المرايا القديمة والسجاجيد الفاخرة والقناديل المفضّضَة والفنانير البلّوريّة، فما زالت مسحة أرستقراطية باهتة تعلَق بالجدران المورّقة العالية الموشّاة بصورة الملائكة." ( الرواية، ص.١٢ )
ثمّ يَخرُج خطابُه إلى العلَن فيتوضّح المشهد أكثرَ فأكثر:
" قالت وهي تتنهّد وقد لمحتُ لأول مرّة طاقم أسنانها:
- كان بنسيون السادة!
فقلتُ مواسياً:
- سبحان من له الدوام. "
( الرواية، ص. ١٢ )
في الفصل الثاني من الرواية يقوم حسني علّام بسرد رؤيته الخاصة للأحداث، فيتّخذ من مناخ الإسكندرية وبحرها المضطرب الهائج لوحة خلفية ترتسم فوقها آراؤه وأفكاره وانطباعاته...
نقرأ في الرواية:
" وجه البحر أسود محتقن بزرقة. يتميّزُ غيظاً. يكظم غيظه. تتلاطم أمواجه في اختناق. يغلي بغضب أبدي لا متنفّسَ له.( الرواية، ص.٨٧)
بعد هذا المشهد التمهيدي المعبِّر يأتي هذا الخطاب الداخلي الغاضبُ غضبَ الإسكندرية والبحر:
" ثورة. لمَ لا. كي تؤدّبكم وتُفقركم وتمرّغ أنوفكم في التراب. يا سلالة الجواري. إنّي منكم، وهو قضاء لا حيلة لي فيه. وقد عرّفتني ذات العين الزرقاء بقولها " غير مثقّف، والمئة فدّان على كفّ عفريت".
( الرواية، ص. ٨٧ )
هكذا.. تمثّل الإسكندرية بوجهها المكفهرّ وببحرها الغاضب في فصل الشتاء الفضاءَ الأنسب للحديث عن الثورة وقوانينها وقراراتها الاشتراكية، مع إشارة عابرة إلى الغزاة الذين استوطنوا الإسكندرية وصاهروا أهلها، وكأنّ الثورة- وَفْقَ منظور حسني علّام- قد أتت لتأديب الجميع ووضع الأمور في نصابها الصحيح!
أمّا في الفصل الثالث فإنّ ( منصور باهي ) الذي ينظر إلى الأشخاص والوقائع والأحداث وَفقَ منظوره الخاصّ، لم يجد في الإسكندرية سوى سجن مريح أبعده إليه أخوه الضابط الكبير خوفاً عليه ممّا قد يبدر منه في القاهرة من تهوّر سياسيّ قد لا تُحمَد عُقباه.
نقرأ في الرواية:
" قُضي عليّ بالسجن في الإسكندرية، وبأن أمضي العمر في انتحال الأعذار.
قلتُ ذلك لأخي وأنا أودّعه، ثمّ ذهبتُ رأساً إلى بنسيون ميرامار."
( الرواية، ص. ١٣٩ )
وفي مطلع الفصل الرابع يكشف لنا (سرحان البحيري) عن بعض الملامح اليونانية لمدينة الإسكندرية كما تتمثّل في هذا الوصف البديع والدقيق لإحدى محلات البقالة اليونانية.
جاء في الرواية:
" هاي لايف.
معرض أشكال وألوان مثير للشغب، شغب البطون والقلوب. موجة هائلة من الأنوار الباهرة تسبح فيها قدور فواتح الشهية، العلب الحريفة والمسكِرة، اللحوم المقدّدة والمدخّنة والطازجة، الألبان ومستخرجاتها، القوارير المضلّعة والمنبسطة والمبطّطة والمربّعة والمنبعجة المترعة بشتّى الخمور من مختلف الجنسيات.
لذلك تتوقّف قدماي بطريقة أوتوماتيكية أمام كلّ بقالة يونانية."
( الرواية، ص.٢٠٣ )
وفي مشهد آخر من الفصل الرابع ذاته تقع عينا سرحان البحيري على (زهرة) صحبة ربّة عملها (ماريانا) في أحد شوارع الإسكندرية، فنقرأ هذه السطور الأخّاذة حيث يمتزج السرد بالوصف والتحليل وتتفاعل المشاعر والمشاهد والأشخاص مع الأماكن والأجواء فتنصهر في بوتقة فنية جميلة بقدر ما هي محكَمة:
" كنت خارجاً من سينما ستراند عندما رأيت الفلاحة الحلوة. كانت قادمة من شارع صفيّة زغلول بصحبة عجوز يونانية. رائقة السُّمرة ساحرة النظرة ريّانة الشباب. كان الطّوار مكتظّاً بالخَلق، والهواء يهبُّ منعشاً حاملاً رائحة البحر، وهالة ضخمة من القطن المندوف تغشى القبّة فتُضفي على الجوّ لوناً أبيضَ ناعساً ناعماً كبهجة الرضى...............
وشاع في نفسي سرور كالسائل العذب الذي يخالط الرّيق بعد مضغ الفول الأخضر البكر الطازج المقطوف لتوّه من الأرض الخضراء."
( الرواية، ص. ٢١٢ )
في الفصل الخامس الأخير يعود ( عامر وجدي ) من جديد ليرثي لحاله معبّراً عن خيبة أمله في المكان الذي اتّخذه ملاذاً هادئاً يأوي إليه في خريف العمر، وذلك على أثر الأطماع والمنافسات التي دارت حول الخادمة الجميلة ( زهرة ) ، وكذلك الظنون التي رافقت مقتل ( سرحان البحيري ) قبل أنْ تتأكّد واقعةُ انتحاره:
" تنغّصَ عليَّ صفْوي بالأحداث التي ألمّت بالبنسيون. لقد ركنتُ إليه لأنعمَ بشيء من الهدوء الضروري لشيخوختي، وبشيء من عزاء الذكريات عن الخيبة المريرة التي مُنيتُ بها في ختام حياتي العملية.
لم يجرِ لي في ظنّ أنّه سينقلب ميداناً لمعارك وحشية قُدِّرَ لها أن تنتهي بجريمة قتل دامية."
( الرواية، ص. ٢٦٤ )
نخلُصُ من ذلك كلّه إلى نتيجة مؤدَّاها أنّ اختيار أديبنا الكبير نجيب محفوظ لمدينة الإسكندرية ولأحد نُزُلها مسرحاً لأحداث روايته المهمّة " ميرامار " لم يكن عبثيّاً، بل كانت تحرّكه دوافع وعوامل موضوعية وفنّيّة أسهمت بشكل كبير في نجاح الرواية وتألّقها، لتنضمّ بكلّ جدارة إلى روائع عميد الرواية العرببة الأخرى.
*- نجب محفوظ، ميرامار، دار مصر للطباعة، القاهرة، د.ت . ط١ ، ١٩٦٧م.
د. زياد العوف
د.زياد العوف
د.زياد العوف is on Facebook. Join Facebook to connect with د.زياد العوف and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com