ثمة تصوّر فلسفي كان يردده كارل ماركس:أن مفهوم البنية الفوقية لمجتمع ما يستدعي بالضرورة استحالة تغيير الأشخاص وأفكارهم الداخلية دون تغيير في القاعدة الاجتماعية التي تحدَد سلفاً فكر ذلك المجتمع. الأمر الذي يحتّم تغيير نوع التنظيم الاجتماعي الذي يعيش فيه الأفراد؛ لأنهم مجرد جزء من المواد الواجب تنظيمها، فلا يمكن أن يظهر فكر جديد إلّا من خلال نظام جديد للحياة، لكن عملية خلق عالم جديد في حد ذاتها عملية غير عقلانية وفنية خالصة. على ما يبدو يمكننا بناءً على تلك الرؤية للمجتمع البدء في سرد قصتنا عن قبائل السودان التي أثارت الجدل وألهمت البعض وكرهها آخرون. كما ظرهت شخصيات العيارين والشطار وقبلهم الصعاليك، ظهرت "الهمباتة" في السودان عقب قيام الدولة السنارية في السودان الذي بنى أرضاً خصبة لخلق تلك الظاهرة.
من هم الهمباتة؟
مع قيام الدولة السنارية في السودان عام 1504 إلى 1821 وتغيّر أوضاع المجتمع السوداني لا سيما تغيير مكانة الأشخاص داخل المجتمع وطريقة تفاعلهم مع الآخر. يقول عضو الاتحاد العام للكتّاب السودانيين ومدير أمانة الأدب الشعبي السوداني عبد الرحمن مساعد لرصيف22 أن الفقر والاحتياج الشديد الذي أصاب المجتمع، ودوره في تكوين الدولة السنارية، قد ساهم في خلق بعض الظواهر الجديدة نوعاً ما على المجتمع السوداني. كان أهم هذه الظواهر المستجدة وأشهرها، انتشار ما سمّى بـ"الإنداية". الإندية، وهي وفق كتاب يحمل اسم الظاهرة للباحث السوداني الطيب محمد الطيب، هو لفظ جاء من النادي والمنتدى، والأنادي هي الحانات الشعبية وأماكن لطلّاب اللذة والطرب وأصبحت أكثر عدداً وتأثيراً عن ذي قبل، يطلق عليها العامة "اللنداية". أيضاً تطورت ظاهرة "القوم" و"الإغارة" و"القيمان" التي كانت تحارب فيها القبائل بعضها البعض. وتطورت تلك الممارسات من إغارة قبيلة على قبيلة أخرى، إلى دخول الأشخاص بشكل فردي في صراع مع الأغنياء في المجتمع في ظاهرة "الهمبتة" والسطو على "الإبل" دون غيرها نظراً لأن السودان كان يقوم اقتصادها آنذاك على الإبل بشكل أساسي. غالباً ما تشبه ظاهرة "الهمبتة" بظواهر أخرى؛ مثل الصعاليك والعيارين والشطار؛ فجميعهم كانوا يعتبرون أن مهمتهم أن يقيموا العدالة "المفقودة".
ماذا تعني كلمة "همباتة"؟
يقول السوداني آدم عزام المهتم بجمع الشعر الهمباتي ونشره أن لفظ "الهمباتي" خرج في البداية من غرب السودان أمّا في الشرق والوسط والعرب البدو يطلقون عليه "المهاجر" أو "النهّاد". ويطلق لفط "المهاجر" أو "الهمباتي" على الشخص الذي يحصل على إبل "الأغنياء" بقوة السلاح ويعطيه للفقير المحتاج. هذا ويعيش أغلب حياته في الجبال. تقوم حياة الهمباتي على المغامرة، بالتالي فهي حياة مهددة باستمرار ربما لتعرضها للخطر والموت. حياتهم "خارج" مجتمعاتهم، وغياب الانتماء إلى نظام وضاح، ولّد حالة من عدم الاستقرار، ومعها نزعة لتبرير هذا النوع من الحياة وأسبابه وتوصيف هذه التجربة والتفاعل معها وفهمها. ومن هنا جاء "الشعر الهمباتي" ليحمل الإجابة على التساؤل الذي واجهه الهمباتة أنفسهم، وما قد يخطر بذهن من يبحث في حياتهم عن تفسير لنمط حياة يقوم على السرقة والنهب. ويقول الدكتور شرف الدين أحمد المتخصص في الفن الشعبي السوداني بكتابه "الهمباتة" أنهم يختلفون عن اللصوص الآخرين في أن معظمهم ينتسب أغلبهم إلى أسر كريمة (بحسب الشاعر عبد الله الدكيم)، بينما كان أغلب الصعاليك الذين يُشبّهوا بهم؛ جماعة فقراء من قبائل شتى جمعت بينهم الحاجة إلى مال الغير، فخرجوا على قبائلهم وتحللوا من نظمها فأنكرهم قومهم.
كما يشير إلى أنّ الصعاليك عانوا نبذ مجتمعاتهم لهم، بينما كان للهمباتة شعبية وتأييد في بداية تواجدها. "نحن الهمباتة لنا في مرابِعكم كمين. ولنا في مراتِعكم معين. للسائل والمسكين. نحن الهمباتة. ولَنا فيها ناقة وجمل". هذا مثالٌ لشعر الهمباتة الذي يعبر عن هوية الهمباتة، ويأطر ممارسات السطو في هالة من الفخر، كما يضفي عليها سبغة أخلاقية، حيث يقول بأنها مساندة للفقراء.
الهمباتي التائب عبد المنان ود الشيخ
يحكي الهمباتي التائب عبد المنان ود الشيخ الناجماني لرصيف22 أنه كان لديه 80 من الإبل وبينما كان يمارس عمله بتحفيظ القرآن للأطفال جاءه همباتي، سرق إبلُّه وهرب. قرر الناجماني استرجاع حقّه؛ فمشى في الصحراء ليسرق غيرهم واستمر في ذلك العمل مردداً أشعاره أو "دستوره" الجديد في الحياه: "هلمبوجّا بيسألوا عنا وبيتحـــــــــــــاكوا. والواحد منّا فروسيته فيها قاطعيــن شكّـه. همّا حالفين يشــــــوفوا وجوهنا ما ينفكّوا. وإن احنا مسلّطين من الله للي ما بيزكّــوا". أي بعد سرقة الإبل -الهلمبوجا- يستمر الأغنياء في السؤال عن الهمباتة في كل مكان، رغم معرفتهم بقوتهم وفروسيتهم، وبالرغم من أنهم يخافوهم عندما يقتربون منهم، إلى أن الهمباتي يعتقد أنّ له واجب يلزمه بأخذ أموال بعض الأغنياء الذين لا يعطون الفقراء الزكاة. لسنوات تصوّر الرجل إنه على الفرد حمْل سلاحه، ليأخذ حقه بيده من العالم غير معترفًا بقوانين ولا حكومات، وأنه طالما هناك أغنياء فهم سارقين، بالتالي ينبغي سرقتهم، ظل في رأس الرجل طويلًا إلى أن قرر "التوبة". ويسجّل المؤرخ أحمد عبد الرحيم الشريف في كتابه "رد الافتراء" عن الشجاعة والقوة التي كان يتمتع بها الهمباتي في تلك الفترة، بالإضافة إلى الرضى الشعبي الذي كان يناله، بالإشارة إلى سيرة حياة الهمباتي الشهير صباحي الكاهل الذي طارده الخديوي شخصياً حتى نفي في مصر وتوفي بها، وغيره أيضاً مثل الطيب ود ضحاوية وطه الضرير وأحمد تيراب ويوسف ود عاب شبيش. يقول مساعد أنه مع نهاية فترة الدولة السينارية ودخول محمد علي باشا للسودان قلّت نسبياً ظاهرة الهمبتة في المدن بينما بقيت في البوادي. مع دخول الحكومة الوطنية عام 1956 رفض المجتمع السوداني بقوة ظاهرة الهمبتة، حيث يفسر البعض ذلك بانتهاء المبررات التاريخية والسياسية التي دفعت إلى ظهوره ثمّ شعبيته في المقام الأول. وكان من يثبُت عليه "تهمة الهمبتة" ينبذه المجتمع وتُرفض زيجته وأحياناً يُهدر دمْه أو يعدم على يد الحكومة بأوامر من الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري. وفي عام 1989، ومع مجيء حكومة الرئيس عمر البشير بدأت تختفي ظاهرة الهمبتة تماماً، وُضعت قوانين تجرّم السرقة والنهب بعقوبات تصل للإعدام. وكان من إرهاصات هذا التعامل الحاسم مع تلك الظاهرة أن جعلت البعض يتركها خائفاً مثل الهمباتي عبد العزيز أبو عسيلة الذي يقول لرصيف 22 أنه سُجن فترة تقترب من ستة أشهر لمجرد الاشتباه في كونه همباتياً
اختفت الهمبتة لكن هل اختفى شِعرها؟
وسط كل الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمنع الهمبتة، يقول عز الدين إسماعيل في كتابه الشعر القومي السوداني أن الشعر الهمباتي لا يزال إلى الآن منتشراً في المجتمع السوداني، كما تنتشر أشعار "الدوبيد" أو "المرابيع" باعتبارهم من أنضج الفنون الشعبية السودانية. تتواجد منافسات تحت مسمى "المجادعة" أو المخاصمة أو المنافسة بحيث يلقي كل شاعر قصيدة هجوم على الآخر بينما المجاراة أو المعارضة، التي يطلق عليها أحياناً "المباراة" المجادعة يختلفان في المعنى فالمجاراة كما في كتاب "الإبداع في الشعر الشعبي" تستدعى الإتيان بجديد من الشعر. أما المجادعة فهي تستدعى حفظ الشعر للمشاركة، فالمجادعة في لسان العرب "المخاصمة" وجادَعَه مُجادَعة وجِداعاً أي شاتَمَه وشارَّه كأَنَّ كل واحد منهما جَدَع أَنف صاحبه. مثال عن مجادعات شعرية:
"عكسنا طرينا يا الممنوع ليالي لعبنا. وسينا سروجنا فوق النيب بعد ما شيبنا. قلت نومي فوسيبة القرير اللينة. كم لي رضاها بي درب الدراهم غبنا". أي أننا في أوقات اللهو والمرح قد وضعنا "سروجنا"، والنيب هي المسنة من الإبل. والقرير هي منطقة في شمال السودان.
هل وصلت ظاهرة "الهمبتة" أو شِعرهم في مصر؟
في الحديث عن تاريخ الهمباتة يمكن طرح تساؤل آخر: هل وجدت ظاهرة الهمباتة لنفسها طريقاً في مصر التي تقع على الحدود مع السوان؟ في كتابها "إمبراطوريات متخيلَة.. تاريخ الثورة في صعيد مصر" تقول زينب أبو المجد ظهرت شخصيات مثل شيخ العرب همّام وغيره "أحكموا سيطرتهم على المنطقة حتى وصفت بجمهورية الصعيد، فهمّام؛ هذا القائد الأسطوري الحاكم الآمر في هذه الولاية باسم قبيلة الهَوَّارة، والذي كن تحت إمرته بشكل ثابت أربعة آلاف مقاتل يسيطر بهم على معظم قرى الصعيد ويلتزم بها بشكل وراثي أبا عن جد.. وهم لا يحضرون إلى القاهرة بتاتًا، ولا يغادرون إقليم الصعيد. ويؤدون ما هو مطلوب منهم من الأموال والغلال المقررة على القرى الواقعة تحت نفوذهم، ولا يعترضون على جمع الضرايب، فهم يقومون بأنفسهم سنويا بتعيين وإرسال عشرين كاشفًا إلى المدن والقرى الواقعة تحت نفوذهم ليجمعوا حوالي ما يزيد عن الألف كيسة كإيرادات سنوية". فمع عجز الدولة العثمانية والنزاعات الداخلية التي كان يعيشها الصعيد ظهرت أساطير شيخ العرب همام وغيره كثيرين الذين ظلّوا يحكموا الصعيد ويفرضوا سيطرته عليه سواء بالتوافق مع الدولة أو لا. عقب تلك الفترة أو أثناءها، وجدت ظاهرة الهمبتة لنفسها طريقاً لمصر. كما عرفت أيضاً شعر "النمّة" أو "النئيم"؛ ذلك الوصف الذي يمكن أن يقال على نظم وكتابة "الشعر الهمباتي"، حيث قال أهل السودان في وصف هذه الكلمة إنها تعود إلى صوت القوس بعد إطلاق السهم أو يعتبروها آخر صدى لزئير الأسد التي تعبّر عن صداه ووجعه وجدواه بالنسبة لمحبّي الشعر الهمباتي. شاعر النئيم المصري حسن عبد الرحمن المقيم في أسوان يقول لرصيف22 أن ظاهرة الهمبتة كانت توجد في مصر بأسوان في عقد الـ1860، كما أن أغلب الإبل التي كانت تسرقها الهمباتة كانت تُباع في أسواق مصرية عموماً. في السياق ذاته ذكرت مصر كثيراً في أشعار الهمباتة؛ يقول الطيب ود الضحاوية على سبيل المثال في أحد مرابيعه "كم جرنتهن من كاجا لأسوان". أي كم جعلتهم يتتبعوك ويجروا ورائك من مدينة كاجا التي توجد في أقصى غرب السودان إلى أسوان. يكمل عبد الرحمن حديثه بأن ظاهرة الهمبتة نفسها انتهت تماماً حوالي 1930 لرفض المجتمع في الصعيد للأمر، إلى جانب سيطرة الدولة المصرية على هذه الظاهرة. لكن يظل السؤال مع وجود واستمرار فعاليات الشعر الهمباتي في السودان ومصر أيضاً في دوائر محدودة من المثقفين بعيداً عن الدولة التي لا ترعى فعاليات تخص ذلك النوع من الشعر؛ هل تعود ظاهرة الهمباتة، ثقافياً، مرة أخرى في إطار إحياء التراث غير المادي، والحفاظ عليه؟
من هم الهمباتة؟
مع قيام الدولة السنارية في السودان عام 1504 إلى 1821 وتغيّر أوضاع المجتمع السوداني لا سيما تغيير مكانة الأشخاص داخل المجتمع وطريقة تفاعلهم مع الآخر. يقول عضو الاتحاد العام للكتّاب السودانيين ومدير أمانة الأدب الشعبي السوداني عبد الرحمن مساعد لرصيف22 أن الفقر والاحتياج الشديد الذي أصاب المجتمع، ودوره في تكوين الدولة السنارية، قد ساهم في خلق بعض الظواهر الجديدة نوعاً ما على المجتمع السوداني. كان أهم هذه الظواهر المستجدة وأشهرها، انتشار ما سمّى بـ"الإنداية". الإندية، وهي وفق كتاب يحمل اسم الظاهرة للباحث السوداني الطيب محمد الطيب، هو لفظ جاء من النادي والمنتدى، والأنادي هي الحانات الشعبية وأماكن لطلّاب اللذة والطرب وأصبحت أكثر عدداً وتأثيراً عن ذي قبل، يطلق عليها العامة "اللنداية". أيضاً تطورت ظاهرة "القوم" و"الإغارة" و"القيمان" التي كانت تحارب فيها القبائل بعضها البعض. وتطورت تلك الممارسات من إغارة قبيلة على قبيلة أخرى، إلى دخول الأشخاص بشكل فردي في صراع مع الأغنياء في المجتمع في ظاهرة "الهمبتة" والسطو على "الإبل" دون غيرها نظراً لأن السودان كان يقوم اقتصادها آنذاك على الإبل بشكل أساسي. غالباً ما تشبه ظاهرة "الهمبتة" بظواهر أخرى؛ مثل الصعاليك والعيارين والشطار؛ فجميعهم كانوا يعتبرون أن مهمتهم أن يقيموا العدالة "المفقودة".
ماذا تعني كلمة "همباتة"؟
يقول السوداني آدم عزام المهتم بجمع الشعر الهمباتي ونشره أن لفظ "الهمباتي" خرج في البداية من غرب السودان أمّا في الشرق والوسط والعرب البدو يطلقون عليه "المهاجر" أو "النهّاد". ويطلق لفط "المهاجر" أو "الهمباتي" على الشخص الذي يحصل على إبل "الأغنياء" بقوة السلاح ويعطيه للفقير المحتاج. هذا ويعيش أغلب حياته في الجبال. تقوم حياة الهمباتي على المغامرة، بالتالي فهي حياة مهددة باستمرار ربما لتعرضها للخطر والموت. حياتهم "خارج" مجتمعاتهم، وغياب الانتماء إلى نظام وضاح، ولّد حالة من عدم الاستقرار، ومعها نزعة لتبرير هذا النوع من الحياة وأسبابه وتوصيف هذه التجربة والتفاعل معها وفهمها. ومن هنا جاء "الشعر الهمباتي" ليحمل الإجابة على التساؤل الذي واجهه الهمباتة أنفسهم، وما قد يخطر بذهن من يبحث في حياتهم عن تفسير لنمط حياة يقوم على السرقة والنهب. ويقول الدكتور شرف الدين أحمد المتخصص في الفن الشعبي السوداني بكتابه "الهمباتة" أنهم يختلفون عن اللصوص الآخرين في أن معظمهم ينتسب أغلبهم إلى أسر كريمة (بحسب الشاعر عبد الله الدكيم)، بينما كان أغلب الصعاليك الذين يُشبّهوا بهم؛ جماعة فقراء من قبائل شتى جمعت بينهم الحاجة إلى مال الغير، فخرجوا على قبائلهم وتحللوا من نظمها فأنكرهم قومهم.
كما يشير إلى أنّ الصعاليك عانوا نبذ مجتمعاتهم لهم، بينما كان للهمباتة شعبية وتأييد في بداية تواجدها. "نحن الهمباتة لنا في مرابِعكم كمين. ولنا في مراتِعكم معين. للسائل والمسكين. نحن الهمباتة. ولَنا فيها ناقة وجمل". هذا مثالٌ لشعر الهمباتة الذي يعبر عن هوية الهمباتة، ويأطر ممارسات السطو في هالة من الفخر، كما يضفي عليها سبغة أخلاقية، حيث يقول بأنها مساندة للفقراء.
الهمباتي التائب عبد المنان ود الشيخ
يحكي الهمباتي التائب عبد المنان ود الشيخ الناجماني لرصيف22 أنه كان لديه 80 من الإبل وبينما كان يمارس عمله بتحفيظ القرآن للأطفال جاءه همباتي، سرق إبلُّه وهرب. قرر الناجماني استرجاع حقّه؛ فمشى في الصحراء ليسرق غيرهم واستمر في ذلك العمل مردداً أشعاره أو "دستوره" الجديد في الحياه: "هلمبوجّا بيسألوا عنا وبيتحـــــــــــــاكوا. والواحد منّا فروسيته فيها قاطعيــن شكّـه. همّا حالفين يشــــــوفوا وجوهنا ما ينفكّوا. وإن احنا مسلّطين من الله للي ما بيزكّــوا". أي بعد سرقة الإبل -الهلمبوجا- يستمر الأغنياء في السؤال عن الهمباتة في كل مكان، رغم معرفتهم بقوتهم وفروسيتهم، وبالرغم من أنهم يخافوهم عندما يقتربون منهم، إلى أن الهمباتي يعتقد أنّ له واجب يلزمه بأخذ أموال بعض الأغنياء الذين لا يعطون الفقراء الزكاة. لسنوات تصوّر الرجل إنه على الفرد حمْل سلاحه، ليأخذ حقه بيده من العالم غير معترفًا بقوانين ولا حكومات، وأنه طالما هناك أغنياء فهم سارقين، بالتالي ينبغي سرقتهم، ظل في رأس الرجل طويلًا إلى أن قرر "التوبة". ويسجّل المؤرخ أحمد عبد الرحيم الشريف في كتابه "رد الافتراء" عن الشجاعة والقوة التي كان يتمتع بها الهمباتي في تلك الفترة، بالإضافة إلى الرضى الشعبي الذي كان يناله، بالإشارة إلى سيرة حياة الهمباتي الشهير صباحي الكاهل الذي طارده الخديوي شخصياً حتى نفي في مصر وتوفي بها، وغيره أيضاً مثل الطيب ود ضحاوية وطه الضرير وأحمد تيراب ويوسف ود عاب شبيش. يقول مساعد أنه مع نهاية فترة الدولة السينارية ودخول محمد علي باشا للسودان قلّت نسبياً ظاهرة الهمبتة في المدن بينما بقيت في البوادي. مع دخول الحكومة الوطنية عام 1956 رفض المجتمع السوداني بقوة ظاهرة الهمبتة، حيث يفسر البعض ذلك بانتهاء المبررات التاريخية والسياسية التي دفعت إلى ظهوره ثمّ شعبيته في المقام الأول. وكان من يثبُت عليه "تهمة الهمبتة" ينبذه المجتمع وتُرفض زيجته وأحياناً يُهدر دمْه أو يعدم على يد الحكومة بأوامر من الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري. وفي عام 1989، ومع مجيء حكومة الرئيس عمر البشير بدأت تختفي ظاهرة الهمبتة تماماً، وُضعت قوانين تجرّم السرقة والنهب بعقوبات تصل للإعدام. وكان من إرهاصات هذا التعامل الحاسم مع تلك الظاهرة أن جعلت البعض يتركها خائفاً مثل الهمباتي عبد العزيز أبو عسيلة الذي يقول لرصيف 22 أنه سُجن فترة تقترب من ستة أشهر لمجرد الاشتباه في كونه همباتياً
اختفت الهمبتة لكن هل اختفى شِعرها؟
وسط كل الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمنع الهمبتة، يقول عز الدين إسماعيل في كتابه الشعر القومي السوداني أن الشعر الهمباتي لا يزال إلى الآن منتشراً في المجتمع السوداني، كما تنتشر أشعار "الدوبيد" أو "المرابيع" باعتبارهم من أنضج الفنون الشعبية السودانية. تتواجد منافسات تحت مسمى "المجادعة" أو المخاصمة أو المنافسة بحيث يلقي كل شاعر قصيدة هجوم على الآخر بينما المجاراة أو المعارضة، التي يطلق عليها أحياناً "المباراة" المجادعة يختلفان في المعنى فالمجاراة كما في كتاب "الإبداع في الشعر الشعبي" تستدعى الإتيان بجديد من الشعر. أما المجادعة فهي تستدعى حفظ الشعر للمشاركة، فالمجادعة في لسان العرب "المخاصمة" وجادَعَه مُجادَعة وجِداعاً أي شاتَمَه وشارَّه كأَنَّ كل واحد منهما جَدَع أَنف صاحبه. مثال عن مجادعات شعرية:
هل وصلت ظاهرة "الهمبتة" أو شِعرهم في مصر؟
في الحديث عن تاريخ الهمباتة يمكن طرح تساؤل آخر: هل وجدت ظاهرة الهمباتة لنفسها طريقاً في مصر التي تقع على الحدود مع السوان؟ في كتابها "إمبراطوريات متخيلَة.. تاريخ الثورة في صعيد مصر" تقول زينب أبو المجد ظهرت شخصيات مثل شيخ العرب همّام وغيره "أحكموا سيطرتهم على المنطقة حتى وصفت بجمهورية الصعيد، فهمّام؛ هذا القائد الأسطوري الحاكم الآمر في هذه الولاية باسم قبيلة الهَوَّارة، والذي كن تحت إمرته بشكل ثابت أربعة آلاف مقاتل يسيطر بهم على معظم قرى الصعيد ويلتزم بها بشكل وراثي أبا عن جد.. وهم لا يحضرون إلى القاهرة بتاتًا، ولا يغادرون إقليم الصعيد. ويؤدون ما هو مطلوب منهم من الأموال والغلال المقررة على القرى الواقعة تحت نفوذهم، ولا يعترضون على جمع الضرايب، فهم يقومون بأنفسهم سنويا بتعيين وإرسال عشرين كاشفًا إلى المدن والقرى الواقعة تحت نفوذهم ليجمعوا حوالي ما يزيد عن الألف كيسة كإيرادات سنوية". فمع عجز الدولة العثمانية والنزاعات الداخلية التي كان يعيشها الصعيد ظهرت أساطير شيخ العرب همام وغيره كثيرين الذين ظلّوا يحكموا الصعيد ويفرضوا سيطرته عليه سواء بالتوافق مع الدولة أو لا. عقب تلك الفترة أو أثناءها، وجدت ظاهرة الهمبتة لنفسها طريقاً لمصر. كما عرفت أيضاً شعر "النمّة" أو "النئيم"؛ ذلك الوصف الذي يمكن أن يقال على نظم وكتابة "الشعر الهمباتي"، حيث قال أهل السودان في وصف هذه الكلمة إنها تعود إلى صوت القوس بعد إطلاق السهم أو يعتبروها آخر صدى لزئير الأسد التي تعبّر عن صداه ووجعه وجدواه بالنسبة لمحبّي الشعر الهمباتي. شاعر النئيم المصري حسن عبد الرحمن المقيم في أسوان يقول لرصيف22 أن ظاهرة الهمبتة كانت توجد في مصر بأسوان في عقد الـ1860، كما أن أغلب الإبل التي كانت تسرقها الهمباتة كانت تُباع في أسواق مصرية عموماً. في السياق ذاته ذكرت مصر كثيراً في أشعار الهمباتة؛ يقول الطيب ود الضحاوية على سبيل المثال في أحد مرابيعه "كم جرنتهن من كاجا لأسوان". أي كم جعلتهم يتتبعوك ويجروا ورائك من مدينة كاجا التي توجد في أقصى غرب السودان إلى أسوان. يكمل عبد الرحمن حديثه بأن ظاهرة الهمبتة نفسها انتهت تماماً حوالي 1930 لرفض المجتمع في الصعيد للأمر، إلى جانب سيطرة الدولة المصرية على هذه الظاهرة. لكن يظل السؤال مع وجود واستمرار فعاليات الشعر الهمباتي في السودان ومصر أيضاً في دوائر محدودة من المثقفين بعيداً عن الدولة التي لا ترعى فعاليات تخص ذلك النوع من الشعر؛ هل تعود ظاهرة الهمباتة، ثقافياً، مرة أخرى في إطار إحياء التراث غير المادي، والحفاظ عليه؟