محمود خيرالله - الوجه الآخر للمقريزي (1 ـ 4) كتاب يكشف: كيف تاب الناصر صلاح الدين عن شرب الخمر؟

وسط أجواء العزلة التي فرضتها "كورونا"، على الكثير من شعوب العالم، خلال الشهور العسيرة السابقة، وبينما كنتُ أسعى من أجل فهم كيف واجه أجدادنا الأوبئة والعزلة والموت عبر التاريخ الطويل لهذا الوطن، لفتني أن الأحزان والأفراح كانت متعادلة تماماً في تاريخنا الوجداني، بمعنى أننا كنا نصرخ من الألم في الجنازات بنفس المعدلات التي كنا نبكي بها من شدة الفرح، وشدَّ انتباهي تعدد أشكال الاستمتاع بمتع الحياة في ثقافتنا على مدار هذا التاريخ، من سهرٍ وسمرٍ ورقصٍ وغناء ونكتة وحكايات شعبية وسير وملاحم وغيرها.
وفي غمار هذا البحث تصادف أن اهتمت الهيئة المصرية العامة للكتاب مشكورةً بإصدار سلسلة كتب متميزة، بعنوان: "المختصرات التراثية"، أصدرت فيها مُختصراً من مؤلف في غاية الأهمية في هذا السياق، وضعه أحد شيوخ المؤرخين المصريين العظام، هو تقي الدين المقريزي (764 ـ 845 هجرية)، والكتاب هو "السلوك لمعرفة دول الملوك"، وقد صدر مختصراً في جزءين، ثانيهما طُبع عام 2020، وقام بالاختصار والتقديم له أحد الباحثين المتخصصين في هذا المجال هو عمر مصطفى لطف، فرأيتُ أن أشارك معكم، قراءة هذا الكنز الثمين خلال أسابيع هذا الشهر الكريم، لعلها تكون فرصةً للتعرف إلى شيء من ذلك الجزء الحميم ـ الذي فقدناه ـ في ثقافتنا.
هذا الكتاب إذن، يُقدم وجهاً آخر لهذا المؤرخ الجليل، فقد زادت فيه جرعة الاهتمام بالعادات والتقاليد المصرية، وزاد فيه الاهتمام بطوائف الشعب إلى جوار الاهتمام بطبقة الولاة من الأمراء والحكام والقضاة ورجال الشرطة، وتوقف فيه المقريزي طويلاً أمام تواريخ سمعها وقرأ عنها في مصادر مختلفة، كما توقف أمام ظواهر عاينها بنفسه، تكشف كلها كيف كانت الثقافة المصرية خلال العصرين الأيوبي والمملوكي تعرف جيداً ـ إلى جوار قيم العمل والإنجاز ـ قيمة الاستمتاع بمتع الحياة رقصاً وغناء وسهراً وتحرراً من بعض القيود المجتمعية في أوقات الفراغ، وكيف تعددت أشكال الاستمتاع بمتع الحياة في ثقافتنا، لدرجة أنه كانت هناك "جهة سلطانية" ـ إدارة في قصر الحكم ـ تحصل على مالٍ كثير، ولها ضامن يدفع عنها الضرائب المقررة، اسمها إدارة "الملعوب"، وهم أهل الترفيه في ذلك الزمان، وتشمل: المناطحين بالكباش والمناقرين بالديوك والمعالجين والمصارعين والمثاقفين والملاكمين والمشابكين والمقامرين ـ على اختلاف أنواع القمار ـ وعلى القرادة والدبابة، أي الذين يلعبون بالقرود والدب.
لقد اهتم المقريزي ـ إلى جوار الحوادث السياسية ـ بذكر الخمور وأنواعها، و"بيوت المزر" ـ وهو التعبير الذي صكه للدلالة على نوع من الخمارات كان منتشراً في ذلك العصر والمزر هي البيرة المستخلصة من الشعير ـ والتعرف إلى الأماكن المخصصة للسهر في القاهرة وفي الإسكندرية كذلك، وسوف تجده في هذا الكتاب مهتماً بأنواع السكارى وحيلهم، وظروف إنتاج الخمور، وبالقرارات التي يتخذها بعض الأمراء ضد السكر والسكارى، في شهر رمضان ـ على سبيل المثال ـ كما تجد في كتاباته عموماً اهتماماً بأنواع وصنوف شتى من المخدرات، وأهمها "الحشيش"، الذي لم يكن وقتها مجرماً قانوناً.
يُقدم الكتاب ـ إذن ـ صورةً شاملةً للحياة السياسية لمصر، وبانوراما شاملة للجوانب الحضارية المختلفة في التاريخ السياسي والحضاري ـ وحتى الأسطوري ـ للمجتمع المصري عبر عصور مختلفة، مؤكداً على حقيقة وجود تلك العادات والتقاليد المصرية الراسخة في ثقافة الاستمتاع بمتع الحياة، وكيف تجاوبت مصر مع الأحداث في السراء والضراء، مركزاً على العصرين الأيوبي والمملوكي، بادئا جزءه الأول بالتأريخ لأول سلاطين الدولة الأيوبية، الناصر صلاح الدين المتوفي 589 هجرية، متوقفاً في نهاية الجزء الثاني عند سنة وفاته هو شخصياً ـ أقصد المقريزي ـ عام (845 هجرية).
يُشير الباحث عمر مصطفى لطف، خلال المقدمة، إلى أن المقريزي اعتمد بحياديته التاريخية وأسلوبه العملي المتزن على مصادر للحوادث التي سبقت زمانه، متبعاً نظام الحوليات، فدون أحداث كل سنة في فصلٍ مستقل، مفتتحاً أحداثها بذكر السلاطين ورجال الدولة المعاصرين لهذه السنة، والتغييرات السياسية التي حدثت على كرسي العرش أو في منصب "النيابة" أقصد نائب السلطان أو في غيرها من المناصب العليا في الدولة، ويملأ الأحداث بقصص أفراد من الطبقات الاجتماعية المختلفة، والحوادث التي شهدتها أهم المناطق، في الوجه البحري على وجه الخصوص، مع إشارات لحوادث مهمة في الصعيد، كما يختتم أحداث كل سنة بذكر أهم الوفيات والمتوفين فيها.
توبة صلاح الدين
ولكي لا يتهمنا البعض بالإساءة إلى المقريزي، وهو ما لا يمكن أن نقصده، نحب أن نشير أولاً إلى أنه كان من أصحاب العلم الموسوعي، الذي كان سمةً ملموسة في عدد كبير من علماء هذه الفترة، أي أنه كان يستطيع أن يكتب في أكثر من مجال، إلا أن اهتمام المقريزي بالخمور ـ إلى جوار اهتماماته السياسية ـ امتد إلى بعض كتبه الآخرى، أي أنه ليس وليد طاريء عليه، ومنها كتابه الأشهر "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، والذي قال فيه عن خمر المصريين قولة رجل حكيم ومجرب:
(..وأجود الأشربة عندهم الشمسيّ، لأن العسل الذي فيه يحفظ قوته ولا يدعه يتغير بسرعة، والزمان الذي يعمل فيه خالص الحرّ فهو ينضجه، والزبيب الذي يعمل منه مجلوبٌ من بلاد أجود هواء، و"أما الخمر" فقل من يعتصرها إلا ويلقي معها عسلاً وهي معتصرة من كرومهم، فتكون مشاكلة لهم، ولهذا صاروا يختارون الشمسي عليها، وما عدا الشمسيّ والخمر من الشراب بأرض مصر فرديء لا خير فيه لسرعة استحالته من فساد مادته النبيذ التمريّ والمطبوخ والمزر المعمول من الحنطة).
من بين كل ما ورد من معلومات في كتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك"، تعتبر معلومة توبة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي (يوسف بن أيوب) عن شرب الخمر، هي الأكثر إثارة للجدل، كونها ترد بين سطور مؤرخ محترف ومتمكن، بما يعني أنه ربما وجدها في المصادر الموثوقة التي اعتمدها لكتابه، مثل مؤلفات ابن الفرات وابن أيبك الدوادار وابن واصل ومحيي الدين بن عبدالظاهر، وغيرهم، من دون أن ننسى أن سمعة صلاح الدين ربما تأثرت كثيراً بسبب دوره في القضاء على الدولة الفاطمية، التي كانت راسخة بعاداتها ومعتقداتها في مصر.
يقول المقريزي إن الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي (532 - 589 هـ / 1138 - 1193 م) "تاب عن الخمر وأعرض عن اللهو"، بمجرد أن تم تفويضه بالوزارة ونعته بالملك الناصر، سنة 564 هجرية، مشيراً إلى مزايا صلاح الدين وتعداد حسناته وحكمته، حيث استطاع أن ينظم الصفوف ويدبر الأمور في مواجهة الغزاة وهم "الفرنج" يقول المقريزي:
"ففوض العاضد وزارته إلى صلاح الدين، ونعته بالملك الناصر، فمشَّى الأحوال، وبذل الأموال، واستعبد الرجال، وتاب عن الخمر، وأعرض عن اللهو، ودبَّر الأمر في نوبة نزول الفرنج على دمياط أحسن تدبير، حتى رحلوا عنها خائبين".
ولا يظنن أحد أن المقريزي كان يورد أخبار السكر والسكارى على سبيل المدح لا سمح الله، لا بل جاءت في غالبيتها العظمى على سبيل القدح والذم في حقيقة الأمر، حيث يكثر في كتابه أن تجد هذه السطور: "وكتب السلطان بإزالة الخمور وإبطال الفساد والخواطئ من القاهرة"، وهو يجمع غالباً بين الخمور والفواحش، وكثيراً ما يصف احتفالات الناس بأوصاف "الفحش والتظاهر بالمنكرات"، و كتب في أول عهد السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون، يقول: "..وكان يوماً مشهوداً. رُسم فيه بتضمين الخمر، فظهر شرب الخمر، وكثرت السكارى وزال الاعتراض عليهم. فلم يقم ذلك غيرأيام قلائل، حتى رسم بإراقة الخمور وإبطال ضمانها، ومُنع من التظاهر بشيء من المنكرات".
هكذا ظل موقف السلطة المصرية متراوحاً في التعاطي مع مظاهر الاحتفال على الطريقة الشعبية المصرية، بين الإباحة وتحصيل الضريبة عن كل الأنشطة المتعلقة بالأمزجة في بعض الأوقات، وتحريمها وهدم دورها وتبديد مصائر القائمين على تجاراتها، في أحيانٍ أخرى.
بيوت المزر
من بين أهم السمات التي تمتعت بها كتابة تقي الدين المقريزي، يبدو أن العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر قد شغلته على ما فيها من تناقضات لا تنتهي، خصوصاً أن مصر عرفت شعوباً وقوميات وأجناساً شتّى، تداخلت مع أبناء البلد الأصليين، على مدار قرون عديدة، الأمر الذي أسهم في خلق هذه السبيكة المجتمعية الراقية، التي تعلمت من ظروف الزمان ودروسه أن تنحي الدين جانباً وتعطي الأولوية لفكرة المواطنة، على حد تعبيرنا المعاصر، نعم، لقد كشفت بعض حوادث المجتمع المصري عند المقريزي أن المصريين تعلموا مبكراً أن يكونوا أخوة في الوطن، وأن ما يجمع المسلم المصري بشقيقه القبطي أكثر بكثير مما يجمع المسلم المصري بالمسلم الهندي مثلاً.
هذا المشهد الذي يكتبه المقريزي بوعيه ووعي رجال زمنه، يمكننا أن نرى فيه مصر الأخرى، القادرة على ارتكاب الأفراح في أصعب المحن، فها هو يصف حدثاً جللاً وقع في شهر رمضان، على عهد أحد سلاطين الأيوبيين حين كُسر بحر أبي المُنَجَا بعد "عيد الصليب" بسبعة أيام، يقول:
"وتجاهر الناس فيه بالمنكرات من غير نكر عليهم. وكثرت المنكرات، وغلا سعر العنب لكثرة من يعصره، وأقيمت طاحونة لطحن الحشيش بالمحمودية. وحميت بيوت المزر، وجُعل عليها ضرائب، فمنها ما كان عليه في اليوم ستة عشر ديناراً، ومنع من عمل المزر البيوتي، وتجاهر الكافة بكل قبيح".
إن كان هناك من يُشكِّك في تناول صلاح الدين للخمر، قبل توليه السلطنة، لأن ما أشاعه الشيعة عنه من أوصاف قبيحة جاء رداً منهم على زوال دولتهم "الفاطمية" على يديه، فلا أظن أن هناك مَن يستطيع أن يُقلل من قيمة ما ورد في كتاب "المقريزي"، من تفاصيل لا يمكن اختراعها ترتبط بحوادث وقرارات ملوك وأمراء معروفين تاريخاً ونسباً، خصوصاً وهو يشير إلى انتشار "بيوت المزر"، في الإسكندرية ـ خلال حكم صلاح الدين الأيوبي وسلالته ـ انتشاراً واسعاً.
هكذا فتح المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" الباب أمام أسئلة كثيرة حرجة في تاريخنا، الذي لم نتعلم أن نقرأه جيداً، فقد ظل الحديث حول شخص صلاح الدين الأيوبي يدور في نمط تميزه كحاكم عسكري واجهت من خلاله البلاد تحديات كثيرة، بينما لا نسمع شيئا عن التحديات الداخلية التي واجهها، والمعضلات الثقافية التي جعلته يحاول تغيير نظرة المجتمع المصري لبعض السلوكيات، ودفعته دفعاً إلى اتخاذ قرارات قد لا ترضي جمهور المصريين في ذلك الزمان، وهذا ما سوف نتناوله في قابل الأيام.
وإلى اللقاء في الحلقة المقبلة



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى