لماذا كنا نمسك بقريبةٍ زائرةٍ لتمضي الليلة عندنا؟ نقول في احترام: تحكي حكايا! وننتظر نهاية أحاديث الكبار التي تتناول موضوعات مملّة، كي تبدأ السهرة الحقيقية بالحكاية. فتتسع غرفة صغيرة مسدلة الستائر، يحيط بها الشتاء، نجلس فيها حول منقل يتوهج فيه الجمر، أو حول مدفأة حطب يرسم لهيبها أشكالاً على الجدران. ونتنقل في عالم ساحر فيه صبايا فاتنات وملوك وتجار وجزر وبحار وجبال شاهقة، وتخطر فيها آلهة قديمة يجسدها البرق والرعد.
نستسلم كباراً وصغاراً لمتعة الحكاية. وهل رواية الحكواتي في المقهى غير حكاية أخرى للرجال، عن بطولات فرسان حملهم الراوي إلينا من التاريخ؟ وهاهو حكواتي آخر للأطفال: يمر في النهار حاملاً على ظهره "صندوق العجائب"، بيده مقعد يجلس عليه الأطفال وسط الحارة، تحيط أكفهم الصغيرة بعدساته، وتتفرج عيونهم الواسعة على فاطمة المغربية المبهرة الجمال، ياسلام!
دلّني المرحوم الدكتور بديع حقي إلى المقهى الذي كان يُعرض فيه خيال الظل، "كركوز وعيواظ". من دكان في محور حي سوقساروجا دخلت إلى باحة صغيرة تظللها شجرة كبيرة. هناك كان يجلس رجال الحي الذين استحموا في حمام الجوزة التاريخي على بعد خطوة، ويتفرجون على المسرحية. كان الزمن وقتذاك أيضاً زمن اضطرابات وحروب. لكنهم خصّوا المساء بالحمام ومسرح الظل كي تستعيد الروح نضارتها وتسلو الحزن، وتقود في هواها أحداث المسرحية. يستوقفنا من ذلك أثر سحر الرواية وحاجة الإنسان إليها. فحتى عربة العيد القديمة المزينة بالسجاد والأغصان كانت تصوغ قصة في نشيد، وتجعل الأطفال جوقة تردده وتضيف إليه كلمات كلما حَمي الرد.
تتقدم ذلك الموكب من السحر الأم. تحكي للطفل الذي استلقى في فراشه ولم يغف بعد، والضوء مطفأ والنجوم تتلامح من النافذة، عن ثلاث بنات غزالات يغزلن كي يعشن. وعن الحاكم الذي منع أن يظهر ضوء بعد منتصف الليل. لم تطعه الغزالات اللواتي لم يكفهن للغزل ضوء النجوم على السطح، فأضأن شمعة. كيف انتهت الحكاية؟ بزواج الحاكم من صغرى البنات؟ لا يمكن أن تنتهي الحكاية بباب موصد. لابد من نبش الخير في قلب الحاكم، أو مولد شجاع يواجه الظالم، أو عدل يلغي ذلك الحكم. ربما كان فن السرد يبدّل نهاية الحكاية. لكن "أم رعيدة" بقيت تحمل فانوسها، وتخطو به من جبل إلى جبل. فيهدر المطر، وتنفجر الصواعق، ويلمع البرق في النافذة الطويلة.
هل كانت حكايا أمهاتنا مسودات أو نسخاً قديمة من ألف ليلة وليلة، لم نسجلها فضاعت بين ما ضاع؟ كما يفطم الطفل عن حليب أمه ويُلزم بأن يتعود طعام الناس الصلب، فُطمنا عن حكايا أمهاتنا وقريباتنا الموهوبات بحلاوة السرد. فمدّت شهرزاد يدها إلينا وقادتنا إلى بحارها العاصفة، وحدائقها الواسعة ذات الطواويس والعصافير المغردة والغزلان والعرائش، وإلى قصورها العربية ذات النوافير، وشخصيات نسائها الحاكمات والعاشقات. وسحرنا ذلك الشرق الحضاري كما سحر الشاعر الألماني غوتيه، والروائي تولستوي، والفرنسي بلزاك.
كنت في الصف الثالث عندما تبادلت الأدوار مع أمي. فقرأت لها وهي مستلقية بعد القيلولة حكايات من ألف ليلة وليلة. هل رعت ذلك التدريب المبكر على القراءة بلغة فصحى؟ طارت تلك الأيام كما يطير العطر. تبددت الأساطير وألوانها المفرحة، وحلاوة الاتكاء على كتف آخر. استطبنا الزهو باستقلالنا، حتى ونحن نأكل من طعام طبخته أمهاتنا. وانفردنا في العطلة الصيفية بالروايات في غرفنا المغلقة. باحثين من خلال السرد المبهج عن صور لا نعرفها، عن بلاد لم نرها، عن أشخاص لم نصادفهم في حياتنا. وتبيّنا بعد زمن، أن بلاد الناس متشابهة، لكن بصيرتنا اغتنت فصرنا أقدر على فهم ما حولنا. بعد آلام فيرتر وعودة الروح ومسرحيات توفيق الحكيم، وعظمة الشعر العربي، حبَونا في مئات الروايات. وصرنا نقرأ مرة لنعرف، ونعيد القراءة لنتأمل حلاوة السرد، ونكرر القراءة مرة ثالثة لنتذوقه. وسرّنا أن نعرف لحظة انسياب الكاتب حراً، ولحظة تردده باحثاً عن حلول لمسائل فنية، أو من الوجع المكتوم على أشخاصه. وخيل إلينا أننا نميّز متى يجري رقيقاً في البوح، ومتى يخاطب العقل، ومتى يكون هادراً غاضباً، أو ناعماً رقراقاً.
ولا يزال سحر السرد يؤثر فينا منذ حكايا النساء الماهرات في الرواية، حتى اليوم.
أشكر الأساتذة الدكتور جودت ابراهيم، والدكتور راتب سكر، والدكتورة رشا العلي الذين بحثوا رسالة الماجستير التي قدمتها الطالبة ريم خير الله العلي بعنوان "البنية السردية في روايات ناديا خوست". وأشكر صاحبة الرسالة، ولابد أن أتأمل ما اكتشفته عينا باحثة نضرة.
يتجاوز الشكر اتصال الدكتور راتب سكر بي مباشرة بعد جلسة المناقشة. في عالم صاخب فظّ هناك من لا يزال يؤمن بالثقافة والعلم، ويتميز بفضيلة التهذيب الودود، ويفكر في سحر السرد الذي يرافق الإنسان من الطفولة حتى آخر العمر.
نستسلم كباراً وصغاراً لمتعة الحكاية. وهل رواية الحكواتي في المقهى غير حكاية أخرى للرجال، عن بطولات فرسان حملهم الراوي إلينا من التاريخ؟ وهاهو حكواتي آخر للأطفال: يمر في النهار حاملاً على ظهره "صندوق العجائب"، بيده مقعد يجلس عليه الأطفال وسط الحارة، تحيط أكفهم الصغيرة بعدساته، وتتفرج عيونهم الواسعة على فاطمة المغربية المبهرة الجمال، ياسلام!
دلّني المرحوم الدكتور بديع حقي إلى المقهى الذي كان يُعرض فيه خيال الظل، "كركوز وعيواظ". من دكان في محور حي سوقساروجا دخلت إلى باحة صغيرة تظللها شجرة كبيرة. هناك كان يجلس رجال الحي الذين استحموا في حمام الجوزة التاريخي على بعد خطوة، ويتفرجون على المسرحية. كان الزمن وقتذاك أيضاً زمن اضطرابات وحروب. لكنهم خصّوا المساء بالحمام ومسرح الظل كي تستعيد الروح نضارتها وتسلو الحزن، وتقود في هواها أحداث المسرحية. يستوقفنا من ذلك أثر سحر الرواية وحاجة الإنسان إليها. فحتى عربة العيد القديمة المزينة بالسجاد والأغصان كانت تصوغ قصة في نشيد، وتجعل الأطفال جوقة تردده وتضيف إليه كلمات كلما حَمي الرد.
تتقدم ذلك الموكب من السحر الأم. تحكي للطفل الذي استلقى في فراشه ولم يغف بعد، والضوء مطفأ والنجوم تتلامح من النافذة، عن ثلاث بنات غزالات يغزلن كي يعشن. وعن الحاكم الذي منع أن يظهر ضوء بعد منتصف الليل. لم تطعه الغزالات اللواتي لم يكفهن للغزل ضوء النجوم على السطح، فأضأن شمعة. كيف انتهت الحكاية؟ بزواج الحاكم من صغرى البنات؟ لا يمكن أن تنتهي الحكاية بباب موصد. لابد من نبش الخير في قلب الحاكم، أو مولد شجاع يواجه الظالم، أو عدل يلغي ذلك الحكم. ربما كان فن السرد يبدّل نهاية الحكاية. لكن "أم رعيدة" بقيت تحمل فانوسها، وتخطو به من جبل إلى جبل. فيهدر المطر، وتنفجر الصواعق، ويلمع البرق في النافذة الطويلة.
هل كانت حكايا أمهاتنا مسودات أو نسخاً قديمة من ألف ليلة وليلة، لم نسجلها فضاعت بين ما ضاع؟ كما يفطم الطفل عن حليب أمه ويُلزم بأن يتعود طعام الناس الصلب، فُطمنا عن حكايا أمهاتنا وقريباتنا الموهوبات بحلاوة السرد. فمدّت شهرزاد يدها إلينا وقادتنا إلى بحارها العاصفة، وحدائقها الواسعة ذات الطواويس والعصافير المغردة والغزلان والعرائش، وإلى قصورها العربية ذات النوافير، وشخصيات نسائها الحاكمات والعاشقات. وسحرنا ذلك الشرق الحضاري كما سحر الشاعر الألماني غوتيه، والروائي تولستوي، والفرنسي بلزاك.
كنت في الصف الثالث عندما تبادلت الأدوار مع أمي. فقرأت لها وهي مستلقية بعد القيلولة حكايات من ألف ليلة وليلة. هل رعت ذلك التدريب المبكر على القراءة بلغة فصحى؟ طارت تلك الأيام كما يطير العطر. تبددت الأساطير وألوانها المفرحة، وحلاوة الاتكاء على كتف آخر. استطبنا الزهو باستقلالنا، حتى ونحن نأكل من طعام طبخته أمهاتنا. وانفردنا في العطلة الصيفية بالروايات في غرفنا المغلقة. باحثين من خلال السرد المبهج عن صور لا نعرفها، عن بلاد لم نرها، عن أشخاص لم نصادفهم في حياتنا. وتبيّنا بعد زمن، أن بلاد الناس متشابهة، لكن بصيرتنا اغتنت فصرنا أقدر على فهم ما حولنا. بعد آلام فيرتر وعودة الروح ومسرحيات توفيق الحكيم، وعظمة الشعر العربي، حبَونا في مئات الروايات. وصرنا نقرأ مرة لنعرف، ونعيد القراءة لنتأمل حلاوة السرد، ونكرر القراءة مرة ثالثة لنتذوقه. وسرّنا أن نعرف لحظة انسياب الكاتب حراً، ولحظة تردده باحثاً عن حلول لمسائل فنية، أو من الوجع المكتوم على أشخاصه. وخيل إلينا أننا نميّز متى يجري رقيقاً في البوح، ومتى يخاطب العقل، ومتى يكون هادراً غاضباً، أو ناعماً رقراقاً.
ولا يزال سحر السرد يؤثر فينا منذ حكايا النساء الماهرات في الرواية، حتى اليوم.
أشكر الأساتذة الدكتور جودت ابراهيم، والدكتور راتب سكر، والدكتورة رشا العلي الذين بحثوا رسالة الماجستير التي قدمتها الطالبة ريم خير الله العلي بعنوان "البنية السردية في روايات ناديا خوست". وأشكر صاحبة الرسالة، ولابد أن أتأمل ما اكتشفته عينا باحثة نضرة.
يتجاوز الشكر اتصال الدكتور راتب سكر بي مباشرة بعد جلسة المناقشة. في عالم صاخب فظّ هناك من لا يزال يؤمن بالثقافة والعلم، ويتميز بفضيلة التهذيب الودود، ويفكر في سحر السرد الذي يرافق الإنسان من الطفولة حتى آخر العمر.
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com