كنا توقفنا الأسبوع الماضي عند إشارة المقريزي إلى توبة صلاح الدين الأيوبي عن شرب الخمر، بمجرد توليه الوزارة، وتحوله بعد ذلك إلى قائد عسكري محنك، وذكرنا ما كتبه من الظواهر التي حدثت في عهد السلطان الناصر، مثل ظاهرة انتشار "بيوت المزر" ـ الأماكن المخصصة لتعاطي البيرة المصنوعة من الشعير ـ في مدينة الإسكندرية، وتساءلنا كيف تصرف الرجل حيال ذلك؟ وفق ماذكره المقريزي في كتابه هذا، خلال سرده لأحداث عام 577 هجرية، حيث كان صلاح الدين لايزال حياً، يقول المقريزي:
"وكثرت بيوت المِزر بالإسكندرية، فهدم منها مائة وعشرين بيتاً"، ثم يعود بعد سنوات قليلة ليشير إلى ما هو أفدح، فقد حدث انتشار لشرب الخمور والمجاهرة بها من دون أن يوقف الناس أحد، في شهر رمضان، سنة 590 هجرية، أي بعد وفاة صلاح الدين بنحو عام، وخلال حكم ابنه الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان، حيث ارتفع سعر العنب فجأة لكثرة من يعصره، كما تم الحصول على تصاريح لفتح بيوت المزر، وتحصيل الضريبة عنها"..
هكذا ينقل المقريزي الحقائق من مصادره، فهو لا يهدف إلى اتهام صلاح الدين بالباطل حين تحدث عن توبته من شرب الخمر، كما لم يشأ أن ينفي عنه التصدي لانتشار "بيوت المزر" التي تتوافق وفكرة توبته، لكنها لا تتفق مع كثير من الأحداث التي ترد بعد ذلك، فالحق أن سيطرة صلاح الدين على انتشار الخمور في مصر كانت سيطرة ضعيفة جداً أو شبه معدومة، فهو كحاكم كان يستطيع فقط أن يهدم بيوتاً ذاع صيتها ويكسر آنية الخمر بها، لكنه لم يكن يريد القضاء على هذه التجارة قضاء مبرماً، ولا كان يستطيع أصلاً أن يفعل ذلك، لأسباب كثيرة، سنعرفها بعد قليل.
لا يتوقف المؤرخ الكبير عند رواية ما حدث من وقائع، بل يحاول أحياناً أن يقدم تفسيراً سياسياً لبعض الظواهر الاجتماعية، فيورد سبباً علمياً ووجيهاً لانتشار الخمور في ولاية ابن صلاح الدين الأيوبي، الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان، فقد كانت الضرائب التي تطلب من التجار من أجل إطعام السلطان وأهل بيته باهظة جداً، فرأى "أرباب الدكاكين" أن يزيدوا في أسعار السلع عموماً، وأن يرخَّص لهم المتاجرة في الخمور جهاراً، لسداد المطلوب أو بمعنى أصح "المعلوم"، يقول المقريزي:
"فإن المتعيشين من أرباب الدكاكين، يزيدون في الأسعار العامة، بقدر ما يؤخذ منهم للسلطان. فاقتضى ذلك النظر في المكاسب الخبيثة: وضُمن المزر والخمر، وفُسح في إظهاره وبيعه في القاعات والحوانيت، ولم يقدر أحد على انكار ذلك، وصار ما يؤخذ من هذا السحت ينفق في طعام السلطان وما يحتاج إليه، وصار مال الثغور والجوالي إلى من لا يبالي من أين أخذ المال".
يشير المقريزي إلى أكثر من تعبير عن أماكن احتساء الخمور في هذا الزمن المبكر، مشيراً إلى "بيوت المزر" و"القاعات" و"الحوانيت"، ما يجعلنا نظن أنها كانت هي المعادل الموضوعي للخمارات، أو ما أطلق عليه المصريون دائماً تعبير "الخمامير"، الأمر الذي يجعلنا ننتبه إلى أن هذه البيوت كانت دائماً لها "ضامن" يقوم على سداد ضريبتها، وأنها كانت جزءاً لا يتجزأ من ملامح الاقتصاد المصري عبر العصور، مدعومة بعادات وتقاليد وإجراءات مجتمعية مُعقدة، ويحكمها ـ كأي سلعة مهمة ـ صراع بين فئتين الأولى تريد أن تربح بصورة مسعورة من تجارة الخمور كونها سلعة مطلوبة مضمونة الربح، والثانية تريد أن تفرض تصورها الديني أو السياسي أو الأخلاقي على الآخرين، في ظل انتشار كثيف للحشيش، الذي يرضي شربه فئة أخرى من المتدينين، حيث يشير المقريزي إلى طاحونة لطحن الحشيش في "المحمودية"، في زمن كانت تجارته مباحة وقانونية وتحصل عنها الضريبة، وسط مجتمع منفتح على اللهو والغناء والسمر والاستمتاع بمتع الحياة كافة.
يلفتنا المقريزي إلى أن انتشار شرب الخمور استمر في المجتمع المصري، حيث أصبح يترجم في صيغة أرقام كبيرة، مشيراً إلى أن منطقة شبرا كانت توفي ـ مطلع القرن الثامن الهجري ـ خراجها من مبيعات الخمور فقط.
يقول واصفاً احتفالات "عيد الشهيد" التي أبطلها الأمير بيبرس الجاشنكير، توفي (نحو عام 709 هجرية):
"..وذلك أن النصارى كان عندهم تابوت فيه إصبع، يزعمون أنه إصبع بعض شهدائهم، وأن النيل لا يزيد ما لم يُرم فيه هذا التابوت، فتجتمع نصارى أهل مصر من سائر الجهات إلى ناحية شبرا، ويخرج أهل القاهرة ومصر، ويركب النصارى الخيول للعب، ويتلألأ البر بالخيم، والبحر بالمراكب المشحونة بالناس، ولا يبقى صاحب غناء ولا لهو حتى يحضر، وتتبرج زواني سائر البلاد، ويباع في ذلك اليوم من الخمر (الكثير جداً)، فكان أهل شبرا يوفون الخراج من ثمن الخمر".
"الجارية اتفاق"
ليعلم القاريء أولاً أن المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" لم يشأ أن يضع مؤلفاً في العادات والتقاليد والاحتفالات والملاعيب والرقص والغناء والخمر، وغيرها من العادات التي شكلت وجدان الشعب المصري على مر العصور، لكنه قدّم جزءاً لا يُستهان به من هذه العادات وروى جانباً عن هذا التاريخ الوجداني الملهم للشعب المصري، وليعلم القاريء أن من حقنا أن نستعين به على كآبة أيام الوباء، بل ومن الواجب علينا كمثقفين ـ في مثل هذه اللحظات التعسة من عمر البشرية ـ أن نلجأ إلى الأجداد لنتعلم منهم طرقاً لمقاومة الأحزان وكل أنواع الفناء، وهكذا رأيت أن من الواجب عليّ أنا شخصياً أن أستعين بأحد أعظم مؤرخينا، لأعرف كيف مارس الأجداد مرحهم وسعادتهم وبهجة أيامهم للانتصار على ما فيها من كوابيس.
وليعلم القاريء ثانياً أن "المقريزي" إنما أراد بهذا الوجه الذي نرصده فيه أن يترك كتاباً موسوعياً شاملاً، يعكس الجوانب المتعددة في ثقافة الأزمات التي عاشتها الناس. لذا ترك الرجل أثراً علمياً مهماً يضيف إلى تاريخ "الأنثروبولوجيا الثقافية" العربية إضافات جليلة، وإذا كان البعض يستطيع أن يتجاهل مؤرخاً بحجم "المقريزي"، فنحن لا يمكننا أن نفعل، لأننا حين نقرأ كتاباته اليوم نستمتع ونصدِّق كثيراً مما كتبه، ليس فقط لأنه يشبهنا ويشبه ما نعرفه عن أجدادنا، بل لأنه أيضاً يكاد يرسم الصورة التي نطقت بها نصوصٌ كثيرة في "مأثوراتنا الشعبية".
وليعلم القاريء ثالثاً أنه كان من البديهي ـ بالنسبة لي على الأقل ـ أن يسهم كتاب مثل هذا في فتح الباب أمام أسئلة كثيرة حرجة في تاريخنا، وأن يدفع ما قدمه من معلومات إلى فتح كثير من الجروح، الأمر الذي لم يكن البعض ـ على ما يبدو ـ جاهزاً لمواجهته، فأصيبوا بالصدمة بكل أسف، خصوصاً أن الكاتب لم يختر التركيز على بعدٍ واحد، بل كان مشغولاً بالحوادث السياسية عموماً، وبأزمات الناس وأفراحهم على وجه الخصوص، معتمداً على أسلوب الحوليات، التي يورد ذكر العام، ثم يقوم بسرد ما وقع فيه، بادئاً بعبارة "وفي هذا العام حدث كذا.."، ثم يقوم بسرد الوقائع المتعلقة بأزمات الناس ومعضلات حياتهم، من جوع وبؤس وانهيار اقتصادي وارتفاع للأسعار، مثلما كان مشغولاً بالصراعات داخل القصور، وبحريم القصور اللائي روى عنهن كثيراً من القصص التي تكشف دورهنّ في إفساد الحكام والسلاطين، خلال كثير من سنوات العصرين الأيوبي والمملوكي، وقد ذكر أسماء عدد من الجواري اللائي استولين على عقول الملوك والأمراء، مستخدمات مهاراتهن في الفراش، ومنهن "الجارية اتفاق"، زوجة عدد من السلاطين من أحفاد محمد بن قلاوون، ومثل "الجارية كيدا".. وغيرهما.
خزانة البنود
لقد أورد المقريزي كثيراً من الوقائع المتعلقة بحوادث القتل والأوبئة وأزمات الأسعار وخروج الناس على بعض القضاة ورجال الحكم والمال بسبب الغلاء أو المظالم، لكننا أردنا هنا في "الوجه الآخر للمقريزي"، أن نختار من الكتاب ـ فقط ـ ما يمثل محاولة للإجابة على سؤالنا: كيف عبر المصريون عن لحظات سعادتهم وفرحهم على مر العصور. فتوقفنا أمام الحوادث التي يحكي فيها عن وجود مفاجيء لبعض الحانات الكبرى في القاهرة، سنة 744 هجرية، "أي نحو عام 1344 ميلادية" وقبل عشرين عاماً من ولادة "المقريزي"، حيث كانت هذه الحانة على ما يبدو قد أصبحت ظاهرة مجتمعية، خلال حكم السلطان الملك الصالح عماد الدين، وكانت تسمى "خزانة البنود"، مقدماً وصفاً تفصيلياً لأقدم ملهى ليلي في القرن الثامن الهجري، لا تقدم فيه خدمات الرقص والغناء والشراب بأنواعه وأشكاله المختلفة فقط، بل كانت تمارس فيه الرذيلة أيضاً، حيث حول المصريون سجناً للأمراء والمماليك إلى ملجأ لكل هارب أو هاربة من قيود الأسرة والمجتمع، ويبدو أنه كان محصناً بطريقة ما، حيث يشير المقريزي إلى أن أول قرار اتخذه الأمير الحاج آل ملك" نائب السلطنة هو القضاء على "خزانة البنود" التي يبدو أنها مارست نشاطها وقدمت خدماتها لسكان القاهرة خلال سنوات طويلة قبل ذلك، يقول:
"كانت خزانة البنود سجناً يُسجن فيه الأمراء والجند والمماليك، وقد سكنها الأرمن الذين جاءوا أسرى إلى السلطان الناصر محمد ابن قلاوون فعمرها مساكن لهم، وتوالدوا بها وعصروا الخمر بحيث أنهم عصروا في سنة واحدة اثنتين وثلاثين ألف جرة".
وإلى اللقاء في الحلقة المقبلة
"وكثرت بيوت المِزر بالإسكندرية، فهدم منها مائة وعشرين بيتاً"، ثم يعود بعد سنوات قليلة ليشير إلى ما هو أفدح، فقد حدث انتشار لشرب الخمور والمجاهرة بها من دون أن يوقف الناس أحد، في شهر رمضان، سنة 590 هجرية، أي بعد وفاة صلاح الدين بنحو عام، وخلال حكم ابنه الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان، حيث ارتفع سعر العنب فجأة لكثرة من يعصره، كما تم الحصول على تصاريح لفتح بيوت المزر، وتحصيل الضريبة عنها"..
هكذا ينقل المقريزي الحقائق من مصادره، فهو لا يهدف إلى اتهام صلاح الدين بالباطل حين تحدث عن توبته من شرب الخمر، كما لم يشأ أن ينفي عنه التصدي لانتشار "بيوت المزر" التي تتوافق وفكرة توبته، لكنها لا تتفق مع كثير من الأحداث التي ترد بعد ذلك، فالحق أن سيطرة صلاح الدين على انتشار الخمور في مصر كانت سيطرة ضعيفة جداً أو شبه معدومة، فهو كحاكم كان يستطيع فقط أن يهدم بيوتاً ذاع صيتها ويكسر آنية الخمر بها، لكنه لم يكن يريد القضاء على هذه التجارة قضاء مبرماً، ولا كان يستطيع أصلاً أن يفعل ذلك، لأسباب كثيرة، سنعرفها بعد قليل.
لا يتوقف المؤرخ الكبير عند رواية ما حدث من وقائع، بل يحاول أحياناً أن يقدم تفسيراً سياسياً لبعض الظواهر الاجتماعية، فيورد سبباً علمياً ووجيهاً لانتشار الخمور في ولاية ابن صلاح الدين الأيوبي، الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان، فقد كانت الضرائب التي تطلب من التجار من أجل إطعام السلطان وأهل بيته باهظة جداً، فرأى "أرباب الدكاكين" أن يزيدوا في أسعار السلع عموماً، وأن يرخَّص لهم المتاجرة في الخمور جهاراً، لسداد المطلوب أو بمعنى أصح "المعلوم"، يقول المقريزي:
"فإن المتعيشين من أرباب الدكاكين، يزيدون في الأسعار العامة، بقدر ما يؤخذ منهم للسلطان. فاقتضى ذلك النظر في المكاسب الخبيثة: وضُمن المزر والخمر، وفُسح في إظهاره وبيعه في القاعات والحوانيت، ولم يقدر أحد على انكار ذلك، وصار ما يؤخذ من هذا السحت ينفق في طعام السلطان وما يحتاج إليه، وصار مال الثغور والجوالي إلى من لا يبالي من أين أخذ المال".
يشير المقريزي إلى أكثر من تعبير عن أماكن احتساء الخمور في هذا الزمن المبكر، مشيراً إلى "بيوت المزر" و"القاعات" و"الحوانيت"، ما يجعلنا نظن أنها كانت هي المعادل الموضوعي للخمارات، أو ما أطلق عليه المصريون دائماً تعبير "الخمامير"، الأمر الذي يجعلنا ننتبه إلى أن هذه البيوت كانت دائماً لها "ضامن" يقوم على سداد ضريبتها، وأنها كانت جزءاً لا يتجزأ من ملامح الاقتصاد المصري عبر العصور، مدعومة بعادات وتقاليد وإجراءات مجتمعية مُعقدة، ويحكمها ـ كأي سلعة مهمة ـ صراع بين فئتين الأولى تريد أن تربح بصورة مسعورة من تجارة الخمور كونها سلعة مطلوبة مضمونة الربح، والثانية تريد أن تفرض تصورها الديني أو السياسي أو الأخلاقي على الآخرين، في ظل انتشار كثيف للحشيش، الذي يرضي شربه فئة أخرى من المتدينين، حيث يشير المقريزي إلى طاحونة لطحن الحشيش في "المحمودية"، في زمن كانت تجارته مباحة وقانونية وتحصل عنها الضريبة، وسط مجتمع منفتح على اللهو والغناء والسمر والاستمتاع بمتع الحياة كافة.
يلفتنا المقريزي إلى أن انتشار شرب الخمور استمر في المجتمع المصري، حيث أصبح يترجم في صيغة أرقام كبيرة، مشيراً إلى أن منطقة شبرا كانت توفي ـ مطلع القرن الثامن الهجري ـ خراجها من مبيعات الخمور فقط.
يقول واصفاً احتفالات "عيد الشهيد" التي أبطلها الأمير بيبرس الجاشنكير، توفي (نحو عام 709 هجرية):
"..وذلك أن النصارى كان عندهم تابوت فيه إصبع، يزعمون أنه إصبع بعض شهدائهم، وأن النيل لا يزيد ما لم يُرم فيه هذا التابوت، فتجتمع نصارى أهل مصر من سائر الجهات إلى ناحية شبرا، ويخرج أهل القاهرة ومصر، ويركب النصارى الخيول للعب، ويتلألأ البر بالخيم، والبحر بالمراكب المشحونة بالناس، ولا يبقى صاحب غناء ولا لهو حتى يحضر، وتتبرج زواني سائر البلاد، ويباع في ذلك اليوم من الخمر (الكثير جداً)، فكان أهل شبرا يوفون الخراج من ثمن الخمر".
"الجارية اتفاق"
ليعلم القاريء أولاً أن المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" لم يشأ أن يضع مؤلفاً في العادات والتقاليد والاحتفالات والملاعيب والرقص والغناء والخمر، وغيرها من العادات التي شكلت وجدان الشعب المصري على مر العصور، لكنه قدّم جزءاً لا يُستهان به من هذه العادات وروى جانباً عن هذا التاريخ الوجداني الملهم للشعب المصري، وليعلم القاريء أن من حقنا أن نستعين به على كآبة أيام الوباء، بل ومن الواجب علينا كمثقفين ـ في مثل هذه اللحظات التعسة من عمر البشرية ـ أن نلجأ إلى الأجداد لنتعلم منهم طرقاً لمقاومة الأحزان وكل أنواع الفناء، وهكذا رأيت أن من الواجب عليّ أنا شخصياً أن أستعين بأحد أعظم مؤرخينا، لأعرف كيف مارس الأجداد مرحهم وسعادتهم وبهجة أيامهم للانتصار على ما فيها من كوابيس.
وليعلم القاريء ثانياً أن "المقريزي" إنما أراد بهذا الوجه الذي نرصده فيه أن يترك كتاباً موسوعياً شاملاً، يعكس الجوانب المتعددة في ثقافة الأزمات التي عاشتها الناس. لذا ترك الرجل أثراً علمياً مهماً يضيف إلى تاريخ "الأنثروبولوجيا الثقافية" العربية إضافات جليلة، وإذا كان البعض يستطيع أن يتجاهل مؤرخاً بحجم "المقريزي"، فنحن لا يمكننا أن نفعل، لأننا حين نقرأ كتاباته اليوم نستمتع ونصدِّق كثيراً مما كتبه، ليس فقط لأنه يشبهنا ويشبه ما نعرفه عن أجدادنا، بل لأنه أيضاً يكاد يرسم الصورة التي نطقت بها نصوصٌ كثيرة في "مأثوراتنا الشعبية".
وليعلم القاريء ثالثاً أنه كان من البديهي ـ بالنسبة لي على الأقل ـ أن يسهم كتاب مثل هذا في فتح الباب أمام أسئلة كثيرة حرجة في تاريخنا، وأن يدفع ما قدمه من معلومات إلى فتح كثير من الجروح، الأمر الذي لم يكن البعض ـ على ما يبدو ـ جاهزاً لمواجهته، فأصيبوا بالصدمة بكل أسف، خصوصاً أن الكاتب لم يختر التركيز على بعدٍ واحد، بل كان مشغولاً بالحوادث السياسية عموماً، وبأزمات الناس وأفراحهم على وجه الخصوص، معتمداً على أسلوب الحوليات، التي يورد ذكر العام، ثم يقوم بسرد ما وقع فيه، بادئاً بعبارة "وفي هذا العام حدث كذا.."، ثم يقوم بسرد الوقائع المتعلقة بأزمات الناس ومعضلات حياتهم، من جوع وبؤس وانهيار اقتصادي وارتفاع للأسعار، مثلما كان مشغولاً بالصراعات داخل القصور، وبحريم القصور اللائي روى عنهن كثيراً من القصص التي تكشف دورهنّ في إفساد الحكام والسلاطين، خلال كثير من سنوات العصرين الأيوبي والمملوكي، وقد ذكر أسماء عدد من الجواري اللائي استولين على عقول الملوك والأمراء، مستخدمات مهاراتهن في الفراش، ومنهن "الجارية اتفاق"، زوجة عدد من السلاطين من أحفاد محمد بن قلاوون، ومثل "الجارية كيدا".. وغيرهما.
خزانة البنود
لقد أورد المقريزي كثيراً من الوقائع المتعلقة بحوادث القتل والأوبئة وأزمات الأسعار وخروج الناس على بعض القضاة ورجال الحكم والمال بسبب الغلاء أو المظالم، لكننا أردنا هنا في "الوجه الآخر للمقريزي"، أن نختار من الكتاب ـ فقط ـ ما يمثل محاولة للإجابة على سؤالنا: كيف عبر المصريون عن لحظات سعادتهم وفرحهم على مر العصور. فتوقفنا أمام الحوادث التي يحكي فيها عن وجود مفاجيء لبعض الحانات الكبرى في القاهرة، سنة 744 هجرية، "أي نحو عام 1344 ميلادية" وقبل عشرين عاماً من ولادة "المقريزي"، حيث كانت هذه الحانة على ما يبدو قد أصبحت ظاهرة مجتمعية، خلال حكم السلطان الملك الصالح عماد الدين، وكانت تسمى "خزانة البنود"، مقدماً وصفاً تفصيلياً لأقدم ملهى ليلي في القرن الثامن الهجري، لا تقدم فيه خدمات الرقص والغناء والشراب بأنواعه وأشكاله المختلفة فقط، بل كانت تمارس فيه الرذيلة أيضاً، حيث حول المصريون سجناً للأمراء والمماليك إلى ملجأ لكل هارب أو هاربة من قيود الأسرة والمجتمع، ويبدو أنه كان محصناً بطريقة ما، حيث يشير المقريزي إلى أن أول قرار اتخذه الأمير الحاج آل ملك" نائب السلطنة هو القضاء على "خزانة البنود" التي يبدو أنها مارست نشاطها وقدمت خدماتها لسكان القاهرة خلال سنوات طويلة قبل ذلك، يقول:
"كانت خزانة البنود سجناً يُسجن فيه الأمراء والجند والمماليك، وقد سكنها الأرمن الذين جاءوا أسرى إلى السلطان الناصر محمد ابن قلاوون فعمرها مساكن لهم، وتوالدوا بها وعصروا الخمر بحيث أنهم عصروا في سنة واحدة اثنتين وثلاثين ألف جرة".
وإلى اللقاء في الحلقة المقبلة