محمد علي عزب - الشعر العامى خطاب أدبى مُوَجّه لجميع فئات المجتمع*

اٍن الآراء ووجهات النظر التى تتبنَّى مقولة أن الشعر العامى فن شعرى موجه للبسطاء لم تكن فى يوم ما حاكمة لحركة الشعر العامى الحديث والمعاصر أو موجهة لمسار تطوره, لأنها وجهات نظر ترى الشعر العامى من منظور لا يخص الشعر باعتباره رؤيا وتشكيل جمالى عبر اللغة أيّا كان نوعها .
ولم ترد مقولة أن الشعر العامى يُكتب للبسطاء فقط دون المثقفين فى كتابات كبار نقّاد, ومنظرى فنون الشعر العامى فى العصر المملوكى مثل صفى الدين الحلى فى كتابه "العاطل الحالى والمرخص الغالى", وعبد الوهاب بن يوسف البنوانى فى كتابه "رفع الشك والمين فى تحرير الفنين", وابن حجة الحموى فى كتابه "بلوغ الأمل فى فن الزجل", وكذلك فى العصر العثمانى لم يَقُل أحمد عقيدة الدرويش البرلسى فى كتابه "العقيدة الدوريشية فى تحرير السبع فنون الأدبية", أو محمد بن مرزوق الدجوى فى كتابه "بلوغ الأمل فى بعض أحمال الزجل " أن الشعر العامى موجه للبسطاء دون المثقفين, وكان النقاد المتخصصون فى دراسة فنون الشعر العامى فى العصر المملوكى والعصر العثمانى يقومون بالتأصيل لأشكال النظم الشعرى بالعامية , ويتتبعون جذور كل شكل منها والبلد التى نشأ فيها واختلاف كل شكل من أشكال النظم بالعامية عن الشكل الآخر من حيث البناء الفنى, ومنهم من كان يقوم بتناول نصوص شعراء عصره بالتحليل والنقد مثل صفى الدين الحلى, ونسج على منواله فى ذلك ابن حجة الحموى ونقل الكثير من آرائه .
ولو أن الشعر العامى كان مُوَجَّها للبسطاء دون المثقفين ما كان كبار مؤرخى العصور الوسطى أمثال ابن اٍياس فى موسوعة "بدائع الزهور فى وقائع الدهور", وابن تغرى بردى فى موسوعة "النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة" أوردوا فى مؤلفاتهم نصوصا من الشعر العامى مثلما أوردوا نصوصا من الشعر الفصيح كشواهد على الوقائع التاريخية, ومن الأمثة الدالة على ذلك استشهاد أمثلة ابن اٍياس فى موسوعته "بدائع الزهور فى وقائع الدهور" بنص زجلى للشاعر والزجال خلف الغبارى, وكان بخصوص واقعة عودة الظاهر برقوق لحكم مصر وتنكيله, وقد قال خلف الغبارى فى بداية هذا النص الزجلى :
أشرقتْ شمس دولة المسلمين وِزها نجمها الزاهر
وصبح نور العدل نورو ظهر واختفى ليل الظلم بالظاهر
مصر صارت روضه بهذا الملك زاهِيَه طِيبْ عبيرها منشوق
وبالأحمر تفاحِها فى البياض قد تخضّب لسلطنة برقوق
ويقول خلف الغبارى فى أحد مقاطع نصه الزجلى محددا تاريخ الواقعة فى شهر مضان سنة 874 هجرية :
أرخوا ما جرى سنة أربعة وثمانين وسبعماية عام
أنعم الله بعد الغلا بالرخا اٍن لله على العباد اٍنعام
وفى تاسع عشر الصيام انتصب ملك العصر الظاهر الأحكام
وفى عُشْرو الأخير سمعنا الخبر بِيهْ يا قلبى فى العاشر
فما أبركْ صباحْ هذا التاسعْ اتْباشِرْ وما أسعدْ مسا هذا العاشر )5
كما كان مؤلفو السير والتراجم يشيدون بشعراء العامية الكبار وبمنجزهم الشعرى ومن أمثلة ذلك قول ابن شاكر الكنبى فى "فوات الوفيات" عن الشاعر اٍبراهيم المعمار : ( أنه عامى مطبوع وتقع له التوريات المليحة المتمكنة ولا سيما فى الأزجال والبلاليق )6, هكذا لم ترد مقولة "أن الشعر العامى موجه للبسطاء بشكل أساسى دون المثقفين" فى كتابات نقاد الأدب العامى والمؤرخين, ومؤلفو السير والتراجم فى العصور الوسطى .
اٍن مقولة ارتباط شعر العامية بالبسطاء واعتباره بالأساس فنا مُوَجهّا لهم ومعبرا عنهم وأن شعر الفصحى للمثقفين مقولة تم تداولها, وانتشارها بشكل كبير منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلادى, وما زال صداها يتردد عند بعض الأدباء والمثقفين, اٍذ أنه مع الاحتلال الأوروبى للدول العربية ظهرت حركة تنوير ذات توجه ثقافى يدعوا اٍلى التمسك باللغة العربية الفصحى واٍحياء تراثها الشعرى والأدبى فى مواجهة ثقافة المحتل الأوروبى, قادها مثقفون ومفكرون من مصر والشام وكانت مدرسة الاٍحياء والبعث التى كان على رأسها محمود سامى البارودى وأحمد شوقى ومعروف الرصافى هى الجناح الشعرى لتلك الحركة الثقافية, التى رأت فى أدب وشعر العصر العصرين الأموى والعباسى فردوسا فقده الشعر العربى, وأن شعراء الاٍحياء والبعث أعادوا الشعر اٍلى ذلك الفردوس المفقود
ولأن حركة التنوير المشار اٍليها آنذاك كانت ترى أن اللغة العربية العربية هى الوعاء الحامل للثقافة والهوية العربية ـ وهذه حقيقة طبعا ـ اهتمت بشعر الفصحى وبتراثه وأهملت الشعر العامى وتراثه وفضلت عليه الشعر الفصيح, وبالطبع ليس هناك مقارنة أو تفضيل بين فن شعرى يكتب بالفصحى وفن شعرى آخر يُكتب بالعامية ولكن رواد حركة التنوير آنذاك كانت هذه هى وجهة نظرهم, وبذلك تكون مسألة تفضيل الشعر الفصيح على الشعر العامى مسألة تتعلق باللغة وليس بالشعر وفنياته ورؤاه, فكان الشعر الفصيح موجها للصفوة والمثقفين بالأساس والشعر العامى موجها للطبقات الأقل علما وثقافة, ومنذ خمسينات وستينات القرن العشرين اتخذت مقولة أن الشعر العامى يُكتب أساسا للبسطاء وجهة نظر أخرى لا تتعلق بمسألة اللغة العربية الفصحى وتفضيلها على العامية, وكانت وجهة النظر تلك ذات صبغة أيدلوجية فكرية, وأن العامية هى لغة الشعب, وهذا الرأى يخلط بين نوعية اللغة اٍن كانت فصحى أو عامية وبين لغة الشعر , حبث أن لغة الشعر التى تختلف كليا عن اللغة العادية سواءا كانت فصحى أو عامية, اٍن مسألة اللغة التى يكتب بها الشاعر هى خيار جمالى وأن عامية الشعر تختلف عن العامية المتداولة, فلغة الشعر بالأساس تكتسب مشروعيتها من الانحراف عن معيار اللغة العادية المباشرة, وعندما ينجح الشاعر فى اٍحداث ذلك الانحراف وبناء نص شعرى قائم على التخييل والصورة الشعرية والاٍيماء والاٍيحاء تتحول العامية من لغة توصيلية اٍلى لغة شعرية, تتوجه لقارئ أو متلقى يتفاعل معها ويفك شفراتها الجمالية والدلالية
* مقتطف من الفصل الثالث من كتابى "الشعر العامى العربى .. وقضايا الشكل والتاريخ والتدوين" ـ تحت الطبع



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى