عبدالواحد لؤلؤة - عودة إلى فصاحة العامّية

«فصاحة العامّية» عنوان كتاب كتبه باللاتينية شاعر إيطاليا والعصور الوسطى الأوروبية الأكبر دانتِه آليكييري، وهو اللفظ الصحيح لإسمه، وليس كما شاع دانتي بإشباع الكسرة على حرف التاء. كان الشاعر (1265- 1321) يخطط لكتابة أربعة فصول ولكنه توقّف قبل انتهاء الفصل الثاني من الكتاب وذلك بين عامي 1302- 1305 وقيل بعد ذلك بسنتين أو ثلاث. والمهم أن العنوان قد شاع في العربية بشكل «بلاغة العامّية» ولكن هذا غير دقيق لأن العنوان باللاتينية هو»إلوكوِينتيا ” Eloquentia وليس Rhetorica. الكلمة الأولى تفيد الفصاحة أي الوضوح، مثل قول الصحابي نضلة السَلَمي: وتحت الرغوة اللبنُ الفصيحُ، أي الحليب الذي يخلو من الرغوة، التي هي المحسِّنات اللفظية والبديعية في الكتابة اللغوية.
كان الشاعر الخبير باللغة اللاتينية وآدابها يرى أن اللهجة العامّية من اللاتينية بوسعِها أن تعبِّر عن الأفكار والعواطف بشكل لا يقل عن قدرة اللاتينية الفصيحة. وبالعامّية اللاتينية هذه قدّم أكبر مثال، ليزيدَ على ما قدّم من أمثلة في كتابه الذي لم يكتمل، فكتب أهم وأشهر قصيدة في العصور الوسطى الأوروبية بعنوان «الكوميديا الإلهية». وكانت كلمة «كوميديا» تعني بلغة ذلك الزمان «قصّة أو قصيدة عن موضوع خطير كبير بلغة العوام». وموضوع قصيدة الشاعر هذه ليست أقل من حديث الحياة والموت، والجنة والنار، والأفكار الأساس في الدين المسيحي. وقد تطوّر معنى «كوميديا» لاحقا ًليفيد الحكاية أو المسرحية الهزلية. وقد يخفّ استغراب بعضنا من هذا التحوّل في معنى الكلمات إذا عرفنا مثلاً أن كلمة «جُرح في الجبهة» باللغة الانكليزية في القرن السادس عشر، وفي عصر شكسبير بالذات، كانت تستعمل الكلمة التي تستعمل اليوم لتفيد كلمة «فضيحة» scandal وغيرها كثير، مثل صفة brave التي كانت تعني جميل أو بهيّ وليس شجاع كما تعنيه اليوم.
وفي لغتنا العربية نجد في ظهور العامّية أو العامّيات المختلفة بعض الشبه بما حدث باللغة اللاتينية في العصور الوسطى، ولكن لأسباب مختلفة. فقد سارت العربية لقرون طوال على قاعدة واحدة هي: «هكذا قالت العرب». فليس في كتب الأدب والتاريخ ما يشير إلى أن أحداً قد علّم امرؤ القيس ومن سبقه أو جاء بعده وجوب رفع الفاعل ونصب المفعول به، وصيَغ التثنية والجمع وغير ذلك من «قواعد النحو» التي وضعها غير العرب عند دخولهم الإسلام لحاجتهم لفَهم وتَفهيم لغة القرآن الكريم وقواعد الدين الإسلامي. ولكن ثمةَ أمثلةٌ قليلةٌ تذكرها بعض كتب الأدب والتاريخ في ظهور أمثلةٍ في اللغة ليست من ما قاله العرب، مثل قول أحد الشعراء «ليتَ وهل ينفعُ شيئاً لَيتُ/ ليتَ شباباً بوعَ فاشتريتُ». فالكلمتان: لَيتُ بالضم، وبوعَ بدل بيعَ ليستا مما قالتهُ العرب، وقد تُحسبان من الصيغ العامّية، وقد ورد القليل مثل ذلك في لغات بعض القبائل في العربية، تشير إليها كتب الأدب بأنها: لغةٌ في قُضاعة أو لغةٌ في تميم، وما إلى ذلك. ولكن بتوسّع الفتوحات وانتشار الدين الإسلامي خارج حدود الجزيرة العربية دخل الكثير من لغات الأعاجم من فرس وهنود وغيرهم إلى لغة الناطقين بالعربية، وقد تحولت الكلمات الأعجمية على لسان الناطقين العرب وشاعت في الاستعمال، كما دخلت مفردات من السريانية والآرامية عن طريق المسيحيين الذين استوطنوا شمال الجزيرة العربية، وتعرّبت تلك الكلمات الدخيلة وجرت على ألسنة الناس في الكلام اليومي ولكنها لم تدخل في نطاق الكتابة إلا ّفي وقت متاخر جداً.
ومن الطبيعي أن تكون اللهجات العامّية في بلاد المشرق العربي مفهومةً أكثر مما في البلاد الناطقة بالعربية في أفريقيا والمغرب العربي. فقد عرفت مصر وبلاد الشمال الأفريقي أنواعاً مختلفةً من الاستعمار الأوروبي إضافةً إلى امتداد الإمبراطورية العثمانية إلى مصر وبعض البلاد المجاورة، فنشأت عامّيةٌ في مصر متأثرةً باللغة التركية. وفي تونس والجزائر والمغرب نشأت عامّيات متأثرة باللغة الفرنسية، بسبب الاستعمار الفرنسي لبعض تلك البلاد. وصارت العامّية المشرقية غير مفهومةٍ بسهولةٍ في مصر والشمال الأفريقي، لكن العامّية المصرية غدت مفهومةً أكثر في بلاد المشرق العربي بسبب السينما المصرية والأغاني التي شاعت في المشرق العربي منذ عشرينات القرن الماضي.
وثمّة أمثلةٌ طريفةٌ من سوء الفهم أو عدمه عند تبادل الحديث بين الناطقين بالعامّيات المختلفة. أذكر أن رئيس تحرير مجلة «روز اليوسف» المصرية طلب من يوسف العاني، زعيم المسرح العراقي، أن يطّلع على بعض النصوص المسرحية العراقية. فلما تسلّم إحسان عبد القدّوس ما طلب سارع بكتابة مقالة عن ذلك النص المسرحي العراقي واقتطف منه الأسطر الأولى ثم علّق قائلاً يخاطب القارئ المصري: «أنتو فهمتو حاجة؟ ولا أنا!». وفي مقابلة على التلفزيون في بغداد دار الحديث بين وفد مصري مع جماعة من المسرحيين العراقيين كانوا يتحدثون عن الممثلين المسرحيين في مصر، معبِّرين عن حزنهم لوفاة أحد المسرحيين المصريين الشباب. فقالت إحداهن بلهجةٍ بغداديةٍ: «خَطيّة، حَرامات، هذا مات جاهل». فقفزت واحدةٌ من أعضاء الفريق المصري قائلةً: «أبداً. ده ماكانش جاهل أبداً. ده كان معاه ليسانس حقوق!».
وثمة مثالٌ طريف آخر على الإخفاق غير المؤذي في الفهم بين عامّيتين. كان لنا زميل مصري حضر إلى العراق مؤخّراً، وكان ثمّة حديثٌ عن شخصٍ وصَفه أحد الحاضرين بغضب أنه «ناموس سز». فسأل الزميل المصري عن معنى هذه الشتيمة، فضحك ملء شِدقيه لمّا فسّروا له فقال: «ناموس يعني بعوض. ده ما عندوش بعوض! ودي وحشة دي؟».
لكن بعض الناس يتحمّس للهجته العامّية دون سواها. أذكر مرّة كان جمعٌ من الأصحاب يسألوني عن صعوبة ترجمة قصيدة «الأرض اليباب» وكيف عالجتُ حديث النساء مع بعضهن بلهجة لندن العامّية (كوكني) في «البار». قلتُ إني اصطنعتُ لغةً عربيةً مُبسَّطة، لحيرتي أيّة عربية عامّية استعمل. فتدخّل شخص من حلقةٍ مُجاورةٍ صائحاً: «باللهجة المصرية طبعاً». استغربنا تدخّله وسألناه: طبعا؟ لماذا طبعاً؟ فأجاب بحماس: «الله! ده إحنا 70 مليون بكرة حيصيرُ 100 مليون. ده إحنا أمّ الدنيا».
وعلى الجانب الآخر نجد أفضل أمثلة اللهجات العامية في الشعر الشعبي الذي يحفظ تلك اللهجات ويمكن الرجوع إليها عند الحاجة للمراجعة والمقارنة، مثل ما نرجع إلى الكتب لمراجعة موضوع ما. والأمثلة الشعبية وعبارات الترحيب والتعليق على مناسبات معينة هي الأخرى مَرجع مهم يحافظ على العاميّات. والشعر الشعبي باللهجات العامية يشكّل صورةً لطبيعة الناس وأهل البلاد، ففي الزجل اللبناني المُغنّى نجد «كرما لعينِك تكرَم عيون البَشَر» بينما نجد عند شَعبٍ آخر: «موت الكِرَف كلّ الخَلق بس أنتَ يا عيوني». وللعامّية ميدانها في السخرية، كما نجد في ترحيب الكوميدي المصري إسماعيل ياسين بوصول وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس بزيارة إلى مصر أيام إطلاق الصاروخ الروسي إلى القمر يحمل الكلبة «لوسي» ويوم انتشار أغنية «يمّة القمر عالباب». قال اسماعيل ياسين من على المسرح:
لِسْم الحَئيئي دَلَس واسم الدَلَع لوسي …
خبّط وناح ولطَم يَمّة القمر روسي
كما نجد أمثلة كثيرة من اللهجات وبخاصة في شعر الهجاء. وربما كانت أفضل أمثلته قصائد الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم. وعبارات الترحيب والوداع باللهجات العامية تُشكِّل مصدراً ظريفاً لدراسة طبيعة المجتمعات. ففي اللهجة الكويتية توجد عبارة «توّ الناس» لاستبقاء الضيف الذي يهمّ بالانصراف، وهي تعبير عن المودّة والكرم من جانب المُضيف. ومثل ذلك العبارة الفلسطينية «بعد ما وعينا على وعينا» لغرض إطالة الزيارة. والأغنية الكويتية التي كانت تتردد أيام الحرب العالمية الثانية: «دار الدور شلِّع يا البريطاني / تريد الناس تنظر دور الألماني» تمثّل شعوراً وطنياً وموقفاً سياسيّاً من دون محسّنات بلاغية.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى