د. عباس بن عبد الله الجراري - حول الزجل و قصائد الشعر العامي بالمغرب

تقديم الدراسة
قدم الأستاذ عباس بن عبد الله الجراري هذه الدراسة المعنونة ب"القصيدة" ملحقا بها "دليل قصائد الزجل في المغرب "إلى كلية الآداب بجامعة القاهرة حيث ناقشه مساء الخميس 29 مايو 1969 لجنة مكونة من الدكاترة:
عبد العزيز الأهواني -وشوقي ضيف -وعبد الحميد يونس.
فنال بمرتبة الشرف درجة دكتوراه في الآداب.
هذه الدراسة التي سنحاول استعراض مباحثها مكونة من 715 صفحة نشرت سنة 1970، وقد قسم الدكتور عباس الجراري هذه الدراسة إلى مدخل وثلاثة أبواب وملحق.
الباب الأول: الشكل:
ويتكون من ثلاثة فصول:
يناول في الفصل الأول مفهوم الزجل وأنواعه، وفي الفصل الثاني موضوع اللغة والفينة أما لفصل الثالث. فقد فصل فيه القول لمبحث العروض.
الباب الثاني: الموضوعات:
جمع في هذا الباب أربعة فصول عرض فيها لموضوع المرأة في الفصل الأول، والحياة في الفصل الثاني، وعنون الفصل الثالث ب"مع الناس" وعنون الفصل الرابع ب"في حمى الله والرسول".
الباب الثالث: الأعلام:
وجعله ثلاثة فصول تمثل ثلاث مراحل، الأولى مرحلة النشأة، الثانية مرحلة التطور، والثالث مرحلة الازدهار.
وبهذه الدراسة الفريدة من نوعها، يفتح الدكتور عباس الجراري بابا جديدا للبحث الأدبي في المغرب.
وكانت غايته تأصيل البحث في هذا الميدان من أجل إحياء التراث بجميع أنواعه، وقد كان يرمي من خلال هذا العمل تحسيس المسؤولين عن جامعة محمد الخامس بالرباط بضرورة إدراج أدب المغرب الشعبي في مقررات كلية الآداب إلى جانب أدبه المغرب.

نبذة تاريخية:
تصدير (د. عبد العزيز الأهواني)
تاريخيا: أفرد ابن سناء الملك في القرن 6 هو كتابا خاصا لفن التوشيح، وهو كتابه (دار الطراز).
استقبل فيه هذا الفن الأندلسي استقبالا رائعا، جعله يقول (إن الموشحات مما ترك الأول للآخر، وسبق بها المتأخر المتقدم، وأجلب بها أهل المغرب على أهل المشرق، وغادر بها الشعراء من من متردم) ويضيف (صار المغرب بها مشرقا لشروقها بأفقه، وإشراقها في جوه، وصار أهله بها أثمن الناس لظرفهم بالكنز الذي ذخرته لهم الأيام، وبالمعدن الذي نام عنه الأنام).
وإذا كان موقف ابن بسام هو هذا من التوشيح الذي يستخدم اللغة العربية أداة للتعبير، فماذا يكون موقفه من فن الزجل الذي يستخدم اللغة العامية، والذي ينفر أصحابه من الأعراب نفورا جعل ابن قزمان يرى أن الأعراب "أقبح ما يكون في الزجل، وأثقل من إقبال الأجل".
ومع ذلك فإن أبا محمد الحجاري الأندلسي-وهو من عصر ابن بسام أيضا-قد أودع كتابه "المسهب في غرائب المغرب" عددا ضخما من الأزجال، فضلا عن الموشحات، نقل منها وأضاف إليها ما أضاف علي بن سعيد في كتاب "المغرب في حلى المغرب"، وكذلك ألف ابن الدباغ المالقي "ملح الزجالين" ثم ألف لسان الدين بن الخطيب "جيش التوشيح"، وذكر ذلك ابن خلدون في مقدمته، ونقل نصوصا منها.
فقال:"...واستحدثوا فنا سموه الزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة، وأول من أبدع في هذه الطريقة أبو بكر بن قزمان من قرطبة، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها ولا انسكبت معانيها واشتهرت ..إلا في زمانه"."...ثم استحدثت أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة كالموشح، ونظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضا، وسموه (عروض البلد)، وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير، نظم قطعة على طريقة الموشح، ولم يخرج عن مذاهب الأعراب..." (مقدمة ابن خلدون-دار الكتاب اللبناني-بيروت 1967)

مدخــل:
القصيدة الزجلية والغناء الشعبي:
يمكن تقسيم الغناء في المغرب إلى أنواع تختلف لغة ونغما باختلاف مناطق هذا الغناء، ومن الألوان التي تتخذ العربية أداتها في التعبير نستطيع أن نذكر:
1-القصيدة الزجلية
2-المواويل والعروبيات والعيطة والطقطوقة
3-الموسيقى الأندلسية وتسمى (الآلة)
4-الغناء العصري
5-أغاني العمل وأرقاص الأطفال
6-الأغاني والإنشادات الدينية (الأمداح/فقراء الزوايا)
وتعتبر القصيدة الزجلية من أهم ألوان هذا الغناء التي يطرب لها العامة والخاصة من الناس، يقوم إنشادها على نوبات الموسيقى الأندلسية وميازينها، وقد حصر الأستاذ عباس الجراري هذه النوبات في إحدى عشرة، وهي : رمل الماية-الأصبهان-الماية-رصد الذيل-الاستهلال-الرصد-غريبة الحسين-الحجاز الكبير-الحجاز الشرقي-عراف العجم-العشاق. وأما الميازين التي تؤدى عليها كل نوبة فخمسة وهي: البسيط-القائم ونصف-البطايحي-القدام-الدرج، وتكاد أغلب القصائد تؤدى في الدرج، وهو ميزان يوجد في الموسيقى المغربية.
وقصاص إنشاء قصائد الزجل آلات يطلق عليها (لماعن) أو (لمواعن) وهي:
-آلات نفخ (الناي، المزمار، السبس، النفير...)
-الآلات الوترية (الرباب الفاسي والسوسي، الكمان، العود، القانون...)
-الآلات الإيقاعية (البندير، الدف، الطرن الطبل، الطبيلة، التعريجة...)
أما بخصوص المقدمات التي يبدأ بها المنشد فهي:
1-السرابة: وهي قطعة قصيرة تؤدى على غير ما تؤدى به القصيدة (ومن أنوعها: المزلوك، الكباحي، الحضاري، السماوي).
2-الموال: والغالب أن يكون في لغة معربة.
3-التمويلة: ويقولون أن لكل قصيدة تمويلة تكون على قالبها وميزانها.
ويعتبر الأستاذ الجراري أن القصيدة الزجلية غدت غناء شعبيا يطرب له الجميع والشر في ذلك أنها جمعت أمرين:
-كلمات يفهمها العوام والخواص من الناس.
-ألحان قائمة على ميازين الموسيقى الأندلسية، وهي أغنى وأعذب ألوان الموسيقى في المغرب.
مفهوم الزجل:
يستعرض عباس الجراري في مؤلفه (القصيدة) أصل الكلمة من خلال رجوعه إلى النصوص القديمة، حيث لا نعثر لها (الزجل) على ذكر في الرقآن الكريم، ولكن نصادفها واردة في الحديث النبوي الشريف. يقول ابن كثير في تفسيره لدى أول حديثه عن الأنعام :"...قال شريك عن ليث عن شهر عن أسماء قالت :نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد طبقوا ما بين السماء والأرض".ويقول ابن الأثير:"زجل أنه أخذ الحربة لأبي بن خلف فزجله بها أي رماه بها فقتله، ومنه حديث عبد الله ابن سلام: فأخذ بيدي فزجل بي:أي رماني ودفع بي، وفي (حديث الملائكة) لهم زجل بالتسبيح أي صوت رفيع عال".
كذلك نجد الكلمة واردة في الشعر الجاهلي، يقول الأعشى:
تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت = كما استعان برمح عشرق زجل
أي ريح مصوتة.
ويستعرض الزبيدي في (تاج العروس) معاني كلمة الزجل فيقول:"...والزجل محركة اللعب والحلبة" وخص به (التطريب) وأنشد سيبويه:
له زجل كأنه صوت حاد إذا = طلب الوسيقة او زمير
والزجل أيضا (رفع الصوت) وللملائكة زجل بالتسبيح والتهليل أي صوت رفيع عال وقد (زجل كفرح) زجلا (فهو زجل وزاجل) وربما أوقع الزاجل على الغناء. قال: وهو يغنيها غناء زاجلا (ونبت زجل صوت) كذا في النسخ والصواب صوتت (فيه الريح)...والزجل محركة نوع من الشعر معروف محدث...".
ومثل هذا نجده في كتب الأدب على حد ما نقرأ في (العاطل الحالي والمرخص الغالي) حيث يقول صفي الدين الحلي:"والزجل في اللغة الصوت، يقال سحاب زجل إذا كان فيه الرعد، ويقال لصوت الأحجار والحديد أيضا والجماد زجل.
ويحاول الحلي أن يجد تعليلا للربط بين الاستعمال اللغوي والاستعمال الاصطلاحي فيضيف:"وإنما سمي هذا الفن زجلا لأنه لا يتلذ به ويفهم مقاطع أوزانه ولزوم قوافيه حتى يغني به ويصوت فيزول اللبس بذلك" .
ظهور الزجل وتقسيماته:
يؤكد عباس الجراري أن بداية كلمة الزجل في معناها الاصطلاحي مرتبطة بظهور هذا الفن، وإذا رجعنا إلى مختلف المصادر التي عنيت بالإشارة إلى نشأته فإننا نجدها تكاد تجمع على أن الذي اخترعه هو ابن قزمان. وهنا يعرض أحمد الرباط في كتاب "العقيدة الأدبية في السبعة فنون المعنوية" حكاية تقول :"أن أول من تناشد به الشيخ أبو بكر بن قزمان المغربي، وقيل لما أنه كان في الكتاب وكان مراهق السن، فدخل على شيخه الفقيه غلام جميل الصورة حسن الوجه حلو الجانب فنده عليه ابن قزمان وأجلسه بجواره ثم صار يحييه بالسلام ويوادده بالحديث فبص الفقيه ففهم وعرف ما في ضمير أبي بكر من الحب للغلام فعبس الفقيه في وجه أبي بكر وأمر إلى العريف بضربه. فضرب العريف ابن قزمان فلما فرغ العريف من ضربه أخذ أبو بكر لوحا ومسك القلم وقد كتب هذا الوزن، وهو أول أوزان الزجل:
المـلاح أولاد أماره = والوحاش اولاد نصاره
وابن قزمان جا يغفر = ما قيل له الشيخ غفاره
فقال الفقيه:
"هجيتنا يا ابن قزمان بكلام مزجول= يعني مقطع، فسموه زجلا"
أما عبد العزيز الأهواني يرى أنه استعمل قبل ابن قزمان وفي نوع من الشعر الشعبي غير الزجل، يقول:"ولعل لفظ الزجل كان في الأصل يطلق على النوع الشعبي ثم أطلق على النوع التشبيه بالتوشيح لفظ (هزل) ثم اختلط اللفظان فيما بعد"
أما الأسماء التي يعرف بها هذا الشعر في المغرب:
1-الملحون
2-العلم الموهوب
3-السجية
4-لكلام
5-النظم أو النظام
6-الشعر
7-القريض
8-لوزان: (أي الأوزان)
9-اللغا (وهي في الأصل اللغة)
10-العلم الرقيق
11-لكريحة

الملحون:
يذهب الدكتور عباس الجراري إلى أن أصل التسمية تجعلنا أمام افتراضين مصدرهما معنيان من معاني اللحن، وهما الغناء والخطأ النحوي. وقد استبعد الأستاذ محمد الفاسي أن تكون التسمية مشتقة من اللحن بالمعنى الثاني حين قال:"والحقيقة أن لفظة الملحون هنا مشتقة من اللحن بالمعنى الثاني حين قال:"والحقيقة أن لفظة الملحون هنا مشتقة من اللحن بمعنى الغناء لأن الفرق الأساسي بينه وبين الشعر العربي الفصيح أن الملحون ينظم قبل كل شيء لكي يغنى به"، وقال كذلك :"أول ما يتبادر للذهن أنه شعر بلغة لا إعراب فيها فكأنه كلام فيه لحن، وهذا الاشتقاق باطل من وجوه لأننا لا نقابل الكلام الفصيح بالكلام الملحون ولم يرد هذا التعبير عند أحد من الكتاب القدماء لا بالمشرق ولا بالمغرب. ويضيف أنهم اشتقوا هذا اللفظ من التلحين بمعنى التنغيم لأن الأصل في هذا الشعر الملحون أن ينظم ليتغنى به قبل كل شيء. ونجد ما يؤيد هذا النظر من قول ابن خلدون في المقدمة في الفصل الخمسين في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد بعد أن تكلم على الشعر باللغة العامية فقال: وربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية".
ويذهب د.عباس الجراري إلى أن التسمية اشتقت من اللحن بمعنى الخطأ النحجوي ونعلل ذلك مناقشين رأي الأستاذ الفاسي من وجهات ثلاث:
الأولى: أن هذا الشعر لم يكن ينظم أول الأمر ليغني به وأن اتخاذه للغناء تم في مرحلة تالية.
الثانية: أننا حقا لا نقابل الكلام الفصيح بالكلام الملحون لأن الفصاحة قد تكون في الملحون وغير الملحون. وقد جانب الأستاذ الفاسي الصواب حين استعمل كلمة (فصيح) ليقابل بها كلمة (ملحون) وما نظنه يجهل أن الذي يقابل الشعر الملحون هو الشعر المعرب وليس الفصيح.
الثالثة: أن استعمال هاتين التسميتين: المعرب والملحون متعارف عليه عند كل الذين تعرضوا للوزرين من الشعر. فابن سعيد يقول متحدثا عن بعض الشعراء: :"وله شعر ملحون على طريقة العامة"، والحلي يتحدث عن الفنون المستحدثة فيقول:"وهي الفنون التي إعرابها لحن وفصاحتها لكن وقوة لفظها وهن، حلال الإعراب بها حرام وصحة اللفظ بها استقام"

أنواع الزجل:
يقدم لنا عبد الرحمان الفاسي في "الأقنوم في مبادئ العلوم" تحت عنوان "علم ميزان الملحون" أنواعا من هذا الفن يوصلها إلى خمسة عشر ينظمها في قوله:
علم بأنواع من الملحون وردها لضابط الموزون
له من الأوزان خمسة عشر على الذي كثر فيه واشتهر
أولها الشرقي الكبير والثاني شرقي صغير باختلاف الأوزان
والثالث الشرقي الذي قد طرزا من وزن ذلك العروبي برزا
والرابع الشرقي الصغير صاحب التاء فيه زائد يناسب
والخامس العود والمرشوق ثم المزوج الذي يليق
وبعد البهلون والمسناوي وبعد القفر كذا العذراوي
وبعده اللحورشة العشاري ثم العروبي والقصيد الجاري
ولكننا باستثناء العروبي والقصيدة، لا نعرف من هذه الأنواع إلا العذراوي وهو من القطع التي تنشد في الموسيقى الأندلسية، وقد يكون موشحا أو زجلا.
والحقيقة أنه يصعب استقصاء كل ألوان الشعر الشعبي في المغرب والسبب أن له مواطن مختلفة وأدوات متباينة، فهناك المدن والقرى والبوادي والجبال، وهناك السهول والريف والأطلس وسوس، وهنالك لهجات متباعدة، الريفية والشلحية والسوسية والعربية، ولكل لهجة من هذه اللهجات شعر شعبي خاص، ونستطيع أن نقسم أنواع الزجل المغربي إلى شقين: أحدهما يعرف منشئه وهو القصيدة والثاني لا يعرف منشئه وقد وقفنا منه على هذه الألوان:
1-البرولة
2-العروبي
3-المزوكي
4-الموال
5-السلامات
6-العيطة
7-الطقطوقة
8-أعيوع
9-الدقة
10-غيوان بن يازغة

الموضوعات:
1-المرأة:
يعتبر الأستاذ الجراري إلى أن الغزل بالمرأة يعد أكثر الفنون إيحاء لشعراء القصيدة الزجلية بالتعبير، فقد نظروا إلى المرأة بحسهم مفتونين بجمالها ورسموا لها لوحة واضحة الملامح زاهية الألوان، ووضعوا المرأة في مقام رفيع، باعتبارها مخلوقا متفوقا ممتازا ه جوهر الحياة ومحور الكون وهي نظرة مقدسة. وقد وصفوا حالهم وهم يعانون من عشق جمالها ويسعون إلى الوصال بالرجاء والاستعطاف.
وغالبا ما تكون الأوصاف العامة تمهيدا لرسم صورة المحبوبة مفصلة الأجزاء مكتملة الأبعاد، لم يترك الشاعر جزءا واحدا من جسدها لم يطل النظر إليه مبتدئا بشعرها الفاحم وعينيها الفاترتين، ومنتهيا إلى ساقها الذهبي الممتلئ وخلخاله .
يقول الجيلالي امتيرد في (خدوج)
خدوج ابديعت لجمال خدوج ارقيقت لحروف
خدوج امنارت لفضال خدوج انهايت لعطوف
خدوج مالها مثيل فبنات اليوم ابلجميع
اخليلا وايما اخليل طاعا وخليلها امطيع

2-في الحياة:
فالحياة ظواهر وأوضاع وتيارات، تكيف المجتمعات وتطبعها بسمات مميزة خاصة، وتلزم الناس بالسير في ركابها راضين عنها أو كارهين، والشاعر الشعبي كإنسان يعيش في مجتمع، مجبر على التزام نمط الحياة الذي تفرض معطياتها عليه، ونستطيع أن نلمس نظرة الزجال المغربي إلى الحياة، مع ما قد يكون فيها من وجوه التمرد واضحة في جانبيها التجردي والحسي، فيبدو في هذا راغبا في الاستمتاع بالحياة وملذاتها، مقبلا على الشرب في ولع وإسراف دون اعتبار للتحريم الديني وتقاليد المجتمع، ويبدو في ذلك ساخطا على الدنيا رافضا لمتاعها .
فتطرق هؤلاء الشعراء والزجالين الخمرة ووصفها وذكر الساقي وكذا نظام الشرب وأدبه والحديث عن أواني الشرب والوقت المفضل للشرب كما أن بعض الشعراء لا يقصدون من الخمر حين يتحدثون عليها غير الخمر الصوفية وأبرزهم ابن الرومية والحراق وشقور.
كما شغل بال هؤلاء الشعراء مظاهر الكون والطبقية حيث أجادوا في وصف الشمس الغاربة وظلمة الليل وطلوع الفجر، أما فيما يتعلق بـ:
الزهد والحكمة:
فيتمثل جانب التجرد عند الزجال المغربي في شعري الزهد والحكمة، يقصد منها إلى الكشف عما ينفعل في نفسه من ضيق بحال الدنيا وسلوك الناس، وإلى وعظهم وإرشادهم عساهم يحسنون هذا السلوك، وقصائده في ذلك تعرف ب"الوصاية" و"التوبة"و"القلب" و"الطبايع" و"الموعظة" و"النفسية" وما إليها مما يوحي بروح التأمل والتنبيه .
ومن خلال هذه النظرة للحياة والناس يحاول الشاعر الشعبي أن يكون إيجابيا فيقدم بعض النصائح التي يمكن أن تجنب الوقوع في مخالب الدنيا وسهاوى الزلات ومن هذه النصائح عدم مطاوعة النفس والهوى والشيطان فهم أعداء.
يقول ابن علي في الوصاية:
والنفس لهوا والشيطان اعدا لا تطاوعهم
واش من عاقل يا من يا فهيم فعده
3-مع الناس:
في هذا الفصل يتحدث الكاتب عن تلك العلاقات في المجتمع التي تربط كل إنسان بالأناس الذين يشاركونه الحياة فيه أفرادا وجماعات. ويمكن اعتبار هذه العلاقات عند الشاعر الشعبي من خلال مستويين، أحدهما عام والآخر خاص. أما العام فيتمثل في نظرته إلى الناس كجماعات واهتمامه بمشاكلهم وقضاياهم، وأما الخاص فينحصر في العلاقات التي تربطه بأفراد معينين، قد تكون لهم في نفسه أو في المجتمع مكانة وتقدير، فيثني عليهم أحياء وأمواتا، وقد لا يكون لهم في نفسه غير الشعور بالمنافسة والخلاف والخصام، فيصب عليهم جام هذا الشعور ذما وتعبيرا. وقد توقف الزجالون والشعراء في هذا الصدد عند ثلاثة فتون وهي المدح، الرثاء والهجاء.
4-في حمى الله والرسول:
لم يكتنف الشاعر الشعبي بارتضاء القول في المديح النبوي، وإنما جعل منه فنا قائم الكيان ناضج الصور مكتمل الخصائص، تناول فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بما فيها من صفات وشمائل ومعجزات، عرض قصصها في قصائد أطلق عليها (المعراج) و(الخلوق) أي ميلاد الرسول، و(الوفاة) يعني وفاته عليه السلام، وقد يتناولها عرضا في قصائد التوسل والقصائد التي سماها (هول القيامة) حيث يتحدث عن شفاعة الرسول في أمته. فكان مدح النبي ومدح ابنته فاطمة وحفيديه الحسن والحسين كذلك، ومدح الأولياء والصالحين تبركا بمقاماتهم وكراماتهم وتوسلا بها إلى الله . وتجسد ذلك في المواسم الدينية وخاصة ذكرى عيد المولد النبوي إضافة إلى التطرق لأوصاف الرسول وشمائله وذكر معجزاته.

الباب الثالث: الأعلام:
1-مرحلة النشأة:
يبرز الأستاذ الجراري صعوبة تحديد نشأة شعر أداته لهجة عامية دارجة، وأشار في هذا الصدد لمحاولة الأستاذ محمد الفاسي في تحديد البواكير الأولى لهذا الشعر، فوقف عند قصيدة نظمها ابن عبود في منتصف القرن العاشر واعتبرها أقدم نص.
واستعرض الأستاذ مجموعة من الأعلام في هذه المرحلة كابن غزالة (في عهد الموحدين) وعبد المومن الموحدي ورميلة أخته، كذا ابن خبازة، وابن حسون وابن سبعين والكفيف الزرهوني الذي ذكره ابن خلدون في مقدمته ومولاي الشاد الذي عاش في القرن التاسع للهجرة بتافيلالت.
ويمكن اعتبار خصوص هذه المرحلة تثبت وجود الزجل في المغرب منذ عهد الموحدين كما يمكن اعتبارها امتدادا للزجل الأندلسي.
2-مرحلة التطور:
وتمتد هذه المرحلة زهاء ثلاثة قرون وتبتدئ بعبد الله ابن حساين وتختتم بالمصمودي، حيث يعتبر بعض الأشياخ ابن حساين صاحب مدرسة وضع لمن جاء بعده من الزجالين غير قليل من التقاليد ابتدعها في زجله ومن بين ذلك: البحر المثني والبحر الثلاثي والبدء بالبسملة وتوجيه الخطاب إلى الرأس والإشارة إلى تاريخ نظم القصيدة وذكر الاسم وكذا إهداء السلام والصلاة والدعاء وهجاء الخصوم ثم تذييل قصيدجة التلميذ.
ومن بين أعلام هذه المرحلة كذلك حماد الحمري الذي طور المضمون والشكل ويتمثل ذلك في تقسيم القصيدة ووضع لازمة لها واستعمال الحوار. ويذكر أيضا من بين الأعلام الحاج اعمارة وإدريس المريني الذي ثار على قيود الوزن والقافية، وأيضا عبد العزيز المغراوي وانتهاء بالمصمودي وهو من كبار شيوخ القرن الحادي عشر وقد ساهم في تطوير القصيدة من خلال محاولته لوضع تفعيلات جديدة لعروضه من جهة ومن جهة ثانية السبق إلى أسلوب المراسلة في الغزل .
3-مرحلة الازدهار:
وتعتبر أخصب فترات الزجل في المغرب لكثرة ما نبغ فيها من الشعراء ابتداء من الجيلالي امتيرد من مدينة مراكش، وقد أبدع في قصائد شكلا ومضمونا وابتداعه في موضوعات جديدة كالخمريات والشمعة والحراز والضيف والقاضي والخلخال...الخ. أما من جهة الشكل فقد برع في الجوانب التالية: كالسرابة ووزن للبحر المثنى وبحر السوسي والحوار. ومن أعلام هذه المرحلة أيضا الحاج محمد النجار وعبد القادر بن عبد الرحمان بوخريص ومحمد بن علي العمراني وعبد القادر العلمي وهو من كبار الزجالين بمدينة مكناس اتسم شعره بالحكمة واحترام السلاطين إضافة إلى إجادته في نظم الغزل.



عباس الجراري

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
ديوان الملحون والزجل والشعر العامي - ملف
المشاهدات
1,522
آخر تحديث
أعلى