منيب مختار إسحاق - نبوءة سائق الباص.. قصة قصيرة

يبدو المساء حافلًا وجميلًا، حفيف الشجر وموسيقى التساقط الذي يبتدر لغةً جديدة للتسكع في شواطيء《جانو سان ووكا》، وتلك البيوت المصنوعة من خشب الصنوبر تُحرض البحر على التملُص من هيجانه الشره ويرتدي سطوة السكون، كما العشب والطين المتماسك.
اراقب شبح النملة، النملة التي تحاول التأقلم مع شتاء الأشياء، مع لزوجة الطين وفداحة البرد، تتحرك ببطء على يباس الغصن الذي يقربُ بيتها في تؤودة وتنقل في عملية معقدة وشاقة كل ما يمكن حمله، لا أدري لماذا خيل لي بأنها تبحث عن هوية القمح في تربة 《جانو سان ووكا》وتقترح بيتها معملًا تفسر فيه ماهية 《الدُخن》. ما يهمني الآن أنني في اجازة مرضية لعينة لا علاقة لها بالنمل وعليّ أن أبذل قصارى جهدي في أن أطيب، كما سيتحتم على مديري أن يوصل طلبيات المياه الغازية والمعدنية إلى الزبائن على سيارة المطعم الخردة ليعرف كم تعاني مؤخرات العمال.
يُحيل النمل حذائي معبرًا مختصر حين أقف، النمل في كل مكان، البحر والبر، الخنادق ومحطات القطار ومخازن العجوة، كنت حينها أتعجب فكيف له أن يلتهم مخزن مملوء بالسكر في سنار!، كيف يستطيع ابتلاع هذه الكمية المهولة من السكر دون أن يصبح ضخمًا أو يتغير مذاقه، وكيف مذاقه. النمل نبي اللحظات الحرجة والتواقيت السيئة، إذ يعدُّ احتمالاته جيدًا ويضع خطته المُحكمة لمجابهة الأقدار.
عدتُ ليلاً إلى شقتي في حي 《جويلو》تراقبني الانوار الضبابية من أعلى البنايات، مواء القطط السوداء التي تعلن ملكيتها للزمان والمكان، فالليل هنا للقطط والكلاب ورجال الشرطة، الليل للزُناة واللصوص، والنهار ليّ، للناس والنمل، نمل الحلوى كلها ما عدا《حلوى الجيلاتو》، نمل المحاصيل كلها ما عدا 《الفاصوليا》، كنت أرتب ما تبعثر داخلي وأبحث وحدتي، أبحث عن توليفة ما للتخلص من الألم، أعرف أن الألم خدعة بشعة لكن الاعتراف بالشعور حياله أبشع.
وفجأة تخرج ليلى من حيث لا أعلم وتملأ الغرفة، تجلس بجوار النافذة وكأنها تُجيز احتمال تبددها منذ البداية، تتمدد كالمطاط، يسيل الدم من فمها ومن تحتها يحلق النمل في حلقة دائرية، تحمّلني وزر موتها ثم تضيف:
_ أنا لا أفتقدك، فالموت لم يكن كما تصورته، بل حدثًا علينا معايشته، فلا تحاول تجاوز الموت أبدًا يا 《روبرت》
لقد أصبحتُ نملة كبيرة ورائعة، مُت فقط واترك ليّ أمر احالتك إلى نملة. لقد كبُرت فتاتنا الصغيرة واصبحت امرأة فاتنة، ولو لم تهجد لأحضرتها، لكنها لا تمتلك اسم الآن، ففي القيامة لا نملك اسماء واضحة ولا حتى ألقاب، سمها ما شئت لأنها على وشك أن تغدو نملة جميلة وستعود إليك في الوجود لا محالة.
_ كيف، أما كانت تُدعى 《كريستينا》؟
_ كانت، أما الآن فهي مجرة نملة فارعة الطول ممشوقة القوام، تحفل بالحياة الأبدية وتعبر عن هويتها كنملة.
لم أهضم فكرتها المرعبة ولا أنوي الموت بهذه السرعة، بل فكرة أن يعود احدهم من العدم على هيئة نملة أمراً غير عادل البتة، لكن تلك اللحظة لم تكن تستوعب الرفض، لحظة تحولي إلى شخص غير مرغوب فيه، لحظة موتهما المفاجيء ورحيلهما المُر، وها هي لعنة لصوص السكر والذرة تطارد فرص تخلُقي بعد الموت، وبالمقابل يا ليلى أخاف أن تهبط إبنتي في مكان مجهول، أن تعود نملة لا تثق بأبيها العملاق.
إنبلج الصبح وبدأت خيوط الضوء تسطو على الظُلمة، لم أستطع النوم يومها ولم أرح مضجعي لأبدّد متعلقات الحمى الرخيصة وألم الرأس، والآن لدي الرغبة في أن لا أعود إلى العمل، لن أرتاد البقالات واسواق التجزئة والمحال التجارية وأملأ ثلاجاتهم المتسخة بقنان المياه بشقيها، أو أن أعود إلى تلك السيارة الخردة، ما يهمني هو أن أعود إلى ليلى وطفلتي الجميلة، في هيئة رجل أو اخطبوط أو نملة، ربما هي الحيلة الوحيدة للتواجد معهما، لن انتظرها لتهبط من العدم كنملة بائسة لتطئها ارجل المارة النتنة، قد يسخر القدر ايضًا ويرميها تحت قدمي وتنزل عليّ اللعنة بقتلها،
لأ أدري لماذا اشعر برغبة عارمة في أن أصبح نملة، وأن الآلهة حين تعيد انتاج هذا الكون مرة أخرى سنتحول جميعًا على هيئة نمل، بهذه البساطة والدقة، سنكون أكثر تعاون وقبول، وسيكون العالم مكان أرحب وأوسع، سنقطن جميعًا في 《جزر المالديف》 أو 《نيو سودان》ويكون الأرض حقل ممتد مليء بالحلوى والذره وبعض السكر السِناري.
.
منيب مختار





  • Like
التفاعلات: خالد الشاذلي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى