د. أبوزيد بيومي - الجامعات الخاصة وسباق الحمير

خلقنا الله تعالى على التفاوت، تفاوت من شأنه أن يجعل الحياة تسير نحو مقصودها الأصلي، وهو عمارة الأرض وفق منهج الله، وكل واحد منا يقوم بدوره في عمارتها، تبعا لقدراته ومهاراته. وقد سار النبي، صلى الله عليه وسلم، وفق هذه الحكمة الإلهية التي اقتضت أن يكون كل واحد من الصحابة مميزا في أمر ما، وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الأمر في اعتباره، فوزع الأدوار على الصحابة بما يخدم الدين، ويحفظ النفس والعقل والمال، ويعمر الأرض، والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى.
فقط نضرب ثلاثة أمثلة، كان الاختيار فيها بناء على الكفاءة، بغض النظر عن الجنس أو اللون أو السن. ففي غزوة الأحزاب كان سلمان الفارسي هو مهندس هذه الغزوة، حين أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، لخبرته التي اكتسبها من خلال حياته الأولى التي عاشها في بلاد فارس. أما المثال الثاني فهو اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لبلال الحبشي، ليقوم بمهمة هي من أسمى المهام، وهي رفع الأذان آخذا في الاعتبار نداوة صوته، فاختاره لأنه كفؤ لهذا المكان. ويأتي المثال الثالث ليكون نموذجا فريدا بين الأمثلة، حين ولّى النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد قيادة جيش المسلمين، وفي هذا الجيش مَن فيه من كبار الصحابة، فكان هذا الاختيار مبنيا على كفاءة أسامة أولا، قبل أن يكون هدفها بث الثقة في شاب صغير لم يتعدَّ عمره حينها العشرين عاما. وغيرها من المواقف، خاصة تلك التي أوفد النبي صلى الله عليه وسلم فيها الصحابة للدعوة إلى دين الله، حيث كان يختار لكل وجهة من يليق بها من الصحابة، ويكون قادرا على الدعوة فيها، فكان يختار منهم أحسنهم منطقا، وأعلمهم بكتاب الله ، وأفقههم في الدين فضلا عن سلامة البنية الجسدية، ليبدو الدين في أبهى صورة من خلال هؤلاء. ولم يقم أحد من الصحابة بعرض المال، أو الاعتماد على النسب والحسب، من أجل القيام بمهمة ما يرفع بها من شأنه الخاص، أو من شأن قومه الذين ينتمي إليهم، ولهذا نجحت دولة الإسلام في توطيد دعائمها من خلال قاعدة هي قوله تعالى: "وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ"، فالرجل المناسب في المكان المناسب .. ليؤدي كل واحد منهم مهمته على النحو المطلوب.
وهذا هو الأصل الذي يقوم عليه العدل في أبهى صوره، ولذا فإن مخالفة هذه القاعدة تكون سببا في انهيار المجتمعات، وضياع الكفاءات؛ فنجد من لا يعلم في مكان من يعلم ، ونجد الخامل في موضع العامل.
وما تقوم به الجامعات الخاصة من تخريج أناس لجأوا إلى المال لتعويض النقص في المجاميع التي حصلوا عليها في الشهادة الثانوية، لهو أمر يهدد مستقبل الأمة ويضعف من شأنها. لأنها تقدم جيلا مزيفا من الخريجين الذين رأبوا صدع مجموعهم في المرحلة الثانوية بالمال. وإذا كان الطالب في الجامعات الخاصة يقوم بدفع مبالغ كبيرة سنويا في سبيل الحصول على الشهادة، ومبالغ أخرى مقابل مسميات أخرى أثناء العام الدراسي، من بينها تدريبات على الامتحان، قد تكون هي الامتحان نفسه، وهو ما يعني الغش المقنن. فإذا كان بعض الطلاب لديهم أو لدى ذويهم كل هذا المال، فلماذا لا يختارون طرقا ينمونه بها، بعيدا عن تنميته في شراء الشهادات، مع الأخذ في الاعتبار أ ن لا مانع من أن يحصلوا على شهادة من الجامعات العامة، تتوافق مع المجموع الفعلي، ومع قدراته الحقيقية، بل ولماذا لا يتعفف هؤلاء عن وظائف الحكومة، ليتركوا الفرصة لغيرهم من أبناء الطبقة المتوسطة أو الفقيرة، الذين يرون في التعليم فرصتهم الوحيدة للخروج من دائرتهم الضيقة، ولماذا يصر هؤلاء على تضييق الخناق على المجتمع في كل شيء، وليته تضييق يأتي من طرق مشروعة، بل غالبا ما تكون طرقا ملتوية إلا أنها سُميت بغير أسمائها.
لقد صار كل شيء في هذا المجتمع قابلا للبيع والشراء. وهي سنة سنتها طبقة لا هَمَّ لها سوى تحصيل كل شيء بأية طريقة، ثم سار خلفها كل من تتاح له فرصة لأن يتخطى الرقاب، مزينا ذلك لنفسه بمبررات، لو ردها إلى الدين لم يجد لها أصلا. فصار كل شيء في غير موضعه، وكل فرد في غير مكانه. وهو أمر أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث؛ "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
وإن من صفات الحق أنه لا يتوصّل إليه المرء بالوسائل الباطلة، أو المشتبهة، لأن الحق له وسيلته التي تدعمه، فإذا ما استخدمنا وسائل الباطل، فإن في ذلك نصرة لهذا الباطل .. لأنها تدعم منهجه وترفع رايته، وتقر بوسائله.
إن البعض يخوض كما خاض غيرهم، جاعلين من خوض غيرهم مبررا، لأن يلتمسوا أية طريقة، حتى وإن كانت حراما. أو ظاهرها القريب الحلال والإصلاح، وباطنها البعيد الحرام والإفساد.
وعليه، فلا يكون خوض الآخرين في أمر ما، مبررا يجعل من خبيثه طيبا. أرأيت لو أن سباقا أقيم بين جماعة من الحمير، وأراد واحدٌ من بني البشر أن ينافس تلك الحمير في سباقها، فإن خسر فهو حمار خاسر، وإن فاز فهو حمار فائز، لأن السباق من البداية للحمير فقط.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
أبوزيد بيومي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى