ـ فرضوا خمسمائة درهم على كل عرس و"رخصة" لمزاولة "نقش الحناء"
ـ "السلطان الطبَّاخ" فقد السيطرة على حكم مصر بعدما "ربط الفوطة على وسطه"
ـ جباة الضرائب كانوا يدورون طوال الليل على بيوت المغنيات لمعرفة من باتت خارج بيتها
بحثاً عن نصيبنا الذي يتناقص كل يوم من الفرح والسعادة في زمن الوباء، قررنا أن نقرأ هذا "الوجه الآخر للمقريزي"، لكي نتذكر ـ في هذا الشهر الفضيل ـ الوجوه المتعددة لتاريخنا المصري الطويل، ولنستخلص الدروس والعبر من هذه الصفحات الثمينة التي يقدمها لنا واحد من أعلام مؤرخينا وأحد القليلين الذين سجلوا بأم أعينهم كثيراً من حوليات مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي، حيث عاش تقي الدين المقريزي (764 ـ 845 هجرية) جزءاً مهماً ومُهمَلاً من تاريخ مصر، وبحث ودقق ما لم يعشه من أحداث في المصادر التي اعتمد عليها، على أمل الإجابة على السؤال الذي نأمل أن ترمم إجابته جزءاً من وجداننا الثقافي المصري المأزوم، وهو: كيف عبَّر المصريون ـ من أهلنا وذوينا ـ عن لحظات سعادتهم وفرحهم على مر العصور؟؟.. وهل سعوا إلى استغلال كل فرصة للفرح والسعادة لأن "ساعة الحظ متتعوضش"، أم كانوا شعباً محافظاً "كئيباً" يُغلق أبوابه أمام متع الحياة بمجرد أن تغيب الشمس، كما يفعل أبناء الصحراء؟..
لقد بحثنا عن الإجابة في كتابات "المقريزي"، خصوصاً في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك"، حيث أورد كثيراً من الوقائع المتعلقة بحوادث القتل وصراعات الحكام والأمراء وذوي الوظائف العسكرية من المُقدمين والخاصكية وكبار المماليك، مثلما تحدث عن كثير من الأوبئة والأمراض والطاعون الذي قتل الكثيرين، وتناول أزمات الأسعار وخروج الناس على بعض القضاة ورجال الحكم والمال، بسبب الضرائب الباهظة أو الغلاء أو المظالم العامة، حيث جمع المقريزي في كتابه حشوداً من الموضوعات، بما يليق بمؤرخ موسوعي، لكننا لم نتوقف عند هذا الوجه المألوف لهذا المؤرخ، مُفضلين التوقف ـ هنا ـ أن أمام الوجه غير المألوف للرجل الذي كان شخصية عامة في زمنه، لكنه ـ رغم ذلك ـ لم يستطع أن يتجاهل أخبار المغاني والراقصات والملاهي والحانات وتجار وصناع الخمور والحشيش، في زمن كانت فيه كل هذه المتع سلعاً تُباع في الأسواق، ويُسدد عنها الضرائب، ويزداد الطلب عليها يوماً بعد يوم، وكلما زادت المِحن وعمَّت المصائب.
لقد أشار "المقريزي" من بين حوادثه اللافتة إلى قرار أصدرته الإدارة الحاكمة "سنة 778 هجرية"، وهو قرار يصلح أن نتعرف من خلاله على التركيبة المزاجية الخاصة لهذا الشعب، وطريقته الصاخبة والمنفلتة ـ أحياناً ـ في طقوس الاحتفال، كما يصلح أن نتعرف منه على حجم الاستفادة الكبيرة التي حققتها الدولة المملوكية من عوائد الضريبة على أفراح هذا الشعب، فقد صدر قرار "سنة 778 هجرية" بإبطال ضمان المغاني والأفراح بجميع أعمال مصر من أسوان إلى العريش، وهو ما يمكن أن نعتبره اليوم الغاء التصريح لعدد من المهن المرتبطة بالأفراح، كالمطربين والراقصات والعازفين وكل أرباب المهن العاملة في هذا السياق، بما فيها البغايا وتجار الخمور، وهذا الالغاء لا يعني أنه توقف تماماً، بل يعني أنه توقف بشكل مؤقت فقط، لأن الأصل كان استمرار هذا الضمان، مثلما رأينا في الحلقتين السابقتين، ومثلما سنرى لاحقاً.
المقريزي يلفتنا إلى ذلك حين يقول إن "وزراء السوء كانوا أعادوا هذا الضمان لكثرة ما يُتحصل منه"، الأمر الذي يسمح لنا أن نستخلص أن الإدارة المملوكية التي كانت تحكم وقتها رأت ـ طوال الوقت ـ أن أفراح المصريين واحدة من أكبر أبواب تحصيل الضريبة، ونحن نصدق كل ما قال المقريزي في هذا السياق، ونصدق أيضاً أن قرار الإلغاء لم يستمر طويلاً وهو ما نعرفه من المقريزي نفسه، بعد سنوات صفحات قليلة من كتابه، فقد عادت التجارة مجدداً، لكن هذا ليس هو المهم، بل الأهم أن نقرأ تفاصيل تلك الضريبة على الأفراح والأعراس وسائر الاحتفالات، لدرجة أن المرأة المصرية مهما علت مكانتها لم تكن تستطيع أن "تنقش" قدميها بالحناء، من دون أن تعرف الضامنة "جباة الضرائب".
نحن أصلاً من المؤمنين بأن رغبة المصريين في الاحتفال والأفراح كانت دائماً من الكثرة والغزارة، بحيث اعتبرتها إدارات حاكمة كثيرة ـ عبر التاريخ ـ باباً من أبواب الاسترزاق على حساب هذا الشعب الفَرح الغلبان، ها هو "المقريزي" يخبرنا التفاصيل الفادحة لهذه الضريبة، التي كانت مقررة في مصر لوقت طويل خلال القرن الثامن الهجري، لدرجة أن جباة الضرائب كانوا يدورون طوال الليل على بيوت المغنيات والبغايا، لمعرفة من باتت خارج بيتها، لتدفع ما عليها من ضريبة مقررة، يقول "المقريزي":
"فإن العرس ما كان يتهيأ حتى يُغرم أهله خمسمائة درهم فما فوقها، بحسب حال أهل العرس، ولا تقدر إمرأة وإن جلت تنتقش إلا بإطلاق من الضامنة، ولا يضرب بدف في عرس أو ختان أو نحو ذلك إلا بإطلاق، وعلى كل إطلاق فريضة مال مقررة في الديوان، وكان على كل مغنية قطيعة تحملها إلى الضامنة، فإن باتت في غير بيتها قامت بمال للضامنة، وتدور في كل ليلة على بيوت المغاني جماعة من جهة الضامنة لمعرفة من باتت منهن خارج بيتها، وكان على البغايا ضرائب مقررة..".
طبيخ السلطان
ومن فرط ما عاشه المصريون من أفراح واحتفالات صاخبة، اضطر مؤرخ مثل "المقريزي" إلى استخدام كثير من التعبيرات التي تدل على اختلاف في بعض طقوس الأفراح والأعراس والاحتفالات في مصر، بما يعني تعدد أشكال هذه الاحتفالات، وتنوع مصادرها من السلطاني الفاخر إلى احتفالات طبقة الأمراء والأغنياء إلى احتفالات عامة الشعب من البسطاء، فقد استعمل تعبير "عمل مهما": أي أقام فرحاً عظيماً، يستخدم فيه الرقص والطعام والشراب والغناء، كما استخدم تعبير "عمل سماط"، أو "مد سماطاً" وكان كثير من سلاطين المماليك يعملون مهماً في "ناحية سرياقوس"، التي كانت تضم قصراً على الأرجح مخصصاً لمثل هذه الاحتفالات الضخمة، كما استخدم تعبير "الموكب السلطاني" وهو نوع آخر من الاحتفالات التي تقام برعاية السلطان، كان يُنفق فيها الكثير من المال، على حد تعبيره.
من بين الحكايات التي أوردها المقريزي عن طرق احتفال المصريين وأفراحهم، ما ذكره عن أحد سلاطين المماليك وهو السلطان الملك الصالح صلاح الدين صالح، وهو الحاكم الذي يمكن أن نسميه اليوم "السلطان الطبَّاخ"، بسبب إصراره على أن يقوم بالطبخ بيديه، وله في ذلك تفانين وعجائب، وقد فقد هذا السلطان حكمه وقبض عليه وتم سجنه، بعدما أقام واحدة من احتفالاته الصاخبة، التي مارس فيها الطبخ بيده، إكراماً للسيدة والدته "خوند قطلوبك" سنة 755 هجرية، الأمر الذي أثار عدداً من المماليك الغاضبين عليه، فما الذي فعله هذا السلطان ليفقد حكمه بعد احتفال عظيم؟
كان هذا السلطان يعشق اللهو ويركب النيل ليلاً ويستدعي أرباب الصنائع والطباخين، وذات مرة أعد احتفالاً لوالدته وطبخ فيه بيديه يقول المقريزي: "ثم شد في وسطه فوطة ووقف فطبخ الطعام في هذا المهم بنفسه، ومد السماط بين يديها بنفسه، فكان مهماً يخرج عن الحد في كثرة المصروف. فأنكر ذلك الأمير شيخو وكتم ما في نفسه". لقد أكمل المقريزي الحكاية بأن الأمراء لما رأوا سفه ما ينفقه السلطان قرروا عزله، وتولى بعده السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون الألفي. لكننا نستطيع أن نقرأ في هذه الواقعة معنى آخر، هو أن بعض سلاطين مصر كانوا قد تأثروا بجو الرفاهية والحياة الرغدة والخير الوفير على ضفاف النيل، وأن بعض هؤلاء السلاطين غاص في هذه الحياة لدرجة أنه نسى نفسه ووقف يطبخ لأمه، بينما كانت أبسط مقتضيات الوظيفة المرموقة يُفترض أن تجنبه هذا الشطط، لكنها طبيعة الشعب المصري النافذة والمؤثرة حتى على طبائع بعض الحكام.
الملك المؤمن بالحريات
"كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك" تضمن كثيراً من الحكايات الكاشفة لرغبة المصريين في الحصول على حقوقهم في الفرح، ويروي قصة أحد أمراء المماليك الذي كان عاشقاً لشرب الخمر لدرجة أن الجمال كانت تحملها إلى بيته، منتصف القرن الثامن الهجري، في عهد الملك الصالح عماد الدين أبو إسماعيل ابن الملك الناصر محمد، وهذا الأمير المملوكي عاشق الخمر يدعى "ملكتمر الحجازي"، والحكاية التي تكشف أمرين مهمين:
الأول أن انتشار الخمور بين جموع المصريين كان بين الأغنياء والفقراء إلى حد سواء، والثاني أن حجم انتشار تجارة الخمور في ذلك الزمان البعيد كان كبيراً، فقد مرت الجمال التي تحمل الخمر إلى الأمير المملوكي الغني ونافذ السلطة على "شباك النيابة"، أثناء جلوس نائب السلطان "الحاج آل ملك"، وقد كان رجلاً متعنتاً، فبعث نقيباً ليتتبعها ليعرف أي بيت تدخل، فلما دخلت الجمال التي تحمل الخمر بيت الأمير المملوكي "الحجازي"، علم الأمير ملكتمر بأمر النقيب واستدعاه وضربه ضرباً مؤلماً، الأمر الذي أثار حفيظة نائب السلطان، الذي استنكر على الحجازي تعاطيه للخمر، يقول المقريزي: "فأتاه الحجازي وفاوضه مفاوضة كثيرة، وقام مغضباً".
ومن أعجب ما يحكيه "المقريزي"، ليؤكد أن المصريين كانوا دائماً شعباً "ابن حظ"، يسارع إلى اقتناص حريته فوراً، أنهم كانوا سرعان ما ينتهزون الفرص المتاحة من أجل ممارسة حرياتهم والانطلاق إلى بيوت الغناء وأماكن السهر، بل إنهم كانوا يصلون ـ في بعض الأحيان ـ إلى درجة من "الفحش"، وهو ما نعرفه في أحداث سنة 747 هجرية، حين أعلن عن تسامح السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون مع الرعية، بما يجعلنا نطلق عليه "ملك الحريات"، وقد كان مؤمناً بالحريات الشخصية فعلاً، ونقل عنه "المقريزي" عبارة تؤكد صحة ذلك، فقد قال هذا السلطان ذات مرة: "خلوا كل أحد يعمل ما يريد"، وينقل لنا "المقريزي" بعض تفاصيل هذا الحدث الجلل، الذي التمس فيه المصريون حريتهم في ذلك الزمان البعيد إلى أقصى حد يمكن توقعه.. ترى ما الذي فعله المصريون بهذه "الحرية الشخصية" المطلقة منتصف القرن الثامن الهجري؟..
وإلى اللقاء في الحلقة المقبلة
ـ "السلطان الطبَّاخ" فقد السيطرة على حكم مصر بعدما "ربط الفوطة على وسطه"
ـ جباة الضرائب كانوا يدورون طوال الليل على بيوت المغنيات لمعرفة من باتت خارج بيتها
بحثاً عن نصيبنا الذي يتناقص كل يوم من الفرح والسعادة في زمن الوباء، قررنا أن نقرأ هذا "الوجه الآخر للمقريزي"، لكي نتذكر ـ في هذا الشهر الفضيل ـ الوجوه المتعددة لتاريخنا المصري الطويل، ولنستخلص الدروس والعبر من هذه الصفحات الثمينة التي يقدمها لنا واحد من أعلام مؤرخينا وأحد القليلين الذين سجلوا بأم أعينهم كثيراً من حوليات مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي، حيث عاش تقي الدين المقريزي (764 ـ 845 هجرية) جزءاً مهماً ومُهمَلاً من تاريخ مصر، وبحث ودقق ما لم يعشه من أحداث في المصادر التي اعتمد عليها، على أمل الإجابة على السؤال الذي نأمل أن ترمم إجابته جزءاً من وجداننا الثقافي المصري المأزوم، وهو: كيف عبَّر المصريون ـ من أهلنا وذوينا ـ عن لحظات سعادتهم وفرحهم على مر العصور؟؟.. وهل سعوا إلى استغلال كل فرصة للفرح والسعادة لأن "ساعة الحظ متتعوضش"، أم كانوا شعباً محافظاً "كئيباً" يُغلق أبوابه أمام متع الحياة بمجرد أن تغيب الشمس، كما يفعل أبناء الصحراء؟..
لقد بحثنا عن الإجابة في كتابات "المقريزي"، خصوصاً في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك"، حيث أورد كثيراً من الوقائع المتعلقة بحوادث القتل وصراعات الحكام والأمراء وذوي الوظائف العسكرية من المُقدمين والخاصكية وكبار المماليك، مثلما تحدث عن كثير من الأوبئة والأمراض والطاعون الذي قتل الكثيرين، وتناول أزمات الأسعار وخروج الناس على بعض القضاة ورجال الحكم والمال، بسبب الضرائب الباهظة أو الغلاء أو المظالم العامة، حيث جمع المقريزي في كتابه حشوداً من الموضوعات، بما يليق بمؤرخ موسوعي، لكننا لم نتوقف عند هذا الوجه المألوف لهذا المؤرخ، مُفضلين التوقف ـ هنا ـ أن أمام الوجه غير المألوف للرجل الذي كان شخصية عامة في زمنه، لكنه ـ رغم ذلك ـ لم يستطع أن يتجاهل أخبار المغاني والراقصات والملاهي والحانات وتجار وصناع الخمور والحشيش، في زمن كانت فيه كل هذه المتع سلعاً تُباع في الأسواق، ويُسدد عنها الضرائب، ويزداد الطلب عليها يوماً بعد يوم، وكلما زادت المِحن وعمَّت المصائب.
لقد أشار "المقريزي" من بين حوادثه اللافتة إلى قرار أصدرته الإدارة الحاكمة "سنة 778 هجرية"، وهو قرار يصلح أن نتعرف من خلاله على التركيبة المزاجية الخاصة لهذا الشعب، وطريقته الصاخبة والمنفلتة ـ أحياناً ـ في طقوس الاحتفال، كما يصلح أن نتعرف منه على حجم الاستفادة الكبيرة التي حققتها الدولة المملوكية من عوائد الضريبة على أفراح هذا الشعب، فقد صدر قرار "سنة 778 هجرية" بإبطال ضمان المغاني والأفراح بجميع أعمال مصر من أسوان إلى العريش، وهو ما يمكن أن نعتبره اليوم الغاء التصريح لعدد من المهن المرتبطة بالأفراح، كالمطربين والراقصات والعازفين وكل أرباب المهن العاملة في هذا السياق، بما فيها البغايا وتجار الخمور، وهذا الالغاء لا يعني أنه توقف تماماً، بل يعني أنه توقف بشكل مؤقت فقط، لأن الأصل كان استمرار هذا الضمان، مثلما رأينا في الحلقتين السابقتين، ومثلما سنرى لاحقاً.
المقريزي يلفتنا إلى ذلك حين يقول إن "وزراء السوء كانوا أعادوا هذا الضمان لكثرة ما يُتحصل منه"، الأمر الذي يسمح لنا أن نستخلص أن الإدارة المملوكية التي كانت تحكم وقتها رأت ـ طوال الوقت ـ أن أفراح المصريين واحدة من أكبر أبواب تحصيل الضريبة، ونحن نصدق كل ما قال المقريزي في هذا السياق، ونصدق أيضاً أن قرار الإلغاء لم يستمر طويلاً وهو ما نعرفه من المقريزي نفسه، بعد سنوات صفحات قليلة من كتابه، فقد عادت التجارة مجدداً، لكن هذا ليس هو المهم، بل الأهم أن نقرأ تفاصيل تلك الضريبة على الأفراح والأعراس وسائر الاحتفالات، لدرجة أن المرأة المصرية مهما علت مكانتها لم تكن تستطيع أن "تنقش" قدميها بالحناء، من دون أن تعرف الضامنة "جباة الضرائب".
نحن أصلاً من المؤمنين بأن رغبة المصريين في الاحتفال والأفراح كانت دائماً من الكثرة والغزارة، بحيث اعتبرتها إدارات حاكمة كثيرة ـ عبر التاريخ ـ باباً من أبواب الاسترزاق على حساب هذا الشعب الفَرح الغلبان، ها هو "المقريزي" يخبرنا التفاصيل الفادحة لهذه الضريبة، التي كانت مقررة في مصر لوقت طويل خلال القرن الثامن الهجري، لدرجة أن جباة الضرائب كانوا يدورون طوال الليل على بيوت المغنيات والبغايا، لمعرفة من باتت خارج بيتها، لتدفع ما عليها من ضريبة مقررة، يقول "المقريزي":
"فإن العرس ما كان يتهيأ حتى يُغرم أهله خمسمائة درهم فما فوقها، بحسب حال أهل العرس، ولا تقدر إمرأة وإن جلت تنتقش إلا بإطلاق من الضامنة، ولا يضرب بدف في عرس أو ختان أو نحو ذلك إلا بإطلاق، وعلى كل إطلاق فريضة مال مقررة في الديوان، وكان على كل مغنية قطيعة تحملها إلى الضامنة، فإن باتت في غير بيتها قامت بمال للضامنة، وتدور في كل ليلة على بيوت المغاني جماعة من جهة الضامنة لمعرفة من باتت منهن خارج بيتها، وكان على البغايا ضرائب مقررة..".
طبيخ السلطان
ومن فرط ما عاشه المصريون من أفراح واحتفالات صاخبة، اضطر مؤرخ مثل "المقريزي" إلى استخدام كثير من التعبيرات التي تدل على اختلاف في بعض طقوس الأفراح والأعراس والاحتفالات في مصر، بما يعني تعدد أشكال هذه الاحتفالات، وتنوع مصادرها من السلطاني الفاخر إلى احتفالات طبقة الأمراء والأغنياء إلى احتفالات عامة الشعب من البسطاء، فقد استعمل تعبير "عمل مهما": أي أقام فرحاً عظيماً، يستخدم فيه الرقص والطعام والشراب والغناء، كما استخدم تعبير "عمل سماط"، أو "مد سماطاً" وكان كثير من سلاطين المماليك يعملون مهماً في "ناحية سرياقوس"، التي كانت تضم قصراً على الأرجح مخصصاً لمثل هذه الاحتفالات الضخمة، كما استخدم تعبير "الموكب السلطاني" وهو نوع آخر من الاحتفالات التي تقام برعاية السلطان، كان يُنفق فيها الكثير من المال، على حد تعبيره.
من بين الحكايات التي أوردها المقريزي عن طرق احتفال المصريين وأفراحهم، ما ذكره عن أحد سلاطين المماليك وهو السلطان الملك الصالح صلاح الدين صالح، وهو الحاكم الذي يمكن أن نسميه اليوم "السلطان الطبَّاخ"، بسبب إصراره على أن يقوم بالطبخ بيديه، وله في ذلك تفانين وعجائب، وقد فقد هذا السلطان حكمه وقبض عليه وتم سجنه، بعدما أقام واحدة من احتفالاته الصاخبة، التي مارس فيها الطبخ بيده، إكراماً للسيدة والدته "خوند قطلوبك" سنة 755 هجرية، الأمر الذي أثار عدداً من المماليك الغاضبين عليه، فما الذي فعله هذا السلطان ليفقد حكمه بعد احتفال عظيم؟
كان هذا السلطان يعشق اللهو ويركب النيل ليلاً ويستدعي أرباب الصنائع والطباخين، وذات مرة أعد احتفالاً لوالدته وطبخ فيه بيديه يقول المقريزي: "ثم شد في وسطه فوطة ووقف فطبخ الطعام في هذا المهم بنفسه، ومد السماط بين يديها بنفسه، فكان مهماً يخرج عن الحد في كثرة المصروف. فأنكر ذلك الأمير شيخو وكتم ما في نفسه". لقد أكمل المقريزي الحكاية بأن الأمراء لما رأوا سفه ما ينفقه السلطان قرروا عزله، وتولى بعده السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون الألفي. لكننا نستطيع أن نقرأ في هذه الواقعة معنى آخر، هو أن بعض سلاطين مصر كانوا قد تأثروا بجو الرفاهية والحياة الرغدة والخير الوفير على ضفاف النيل، وأن بعض هؤلاء السلاطين غاص في هذه الحياة لدرجة أنه نسى نفسه ووقف يطبخ لأمه، بينما كانت أبسط مقتضيات الوظيفة المرموقة يُفترض أن تجنبه هذا الشطط، لكنها طبيعة الشعب المصري النافذة والمؤثرة حتى على طبائع بعض الحكام.
الملك المؤمن بالحريات
"كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك" تضمن كثيراً من الحكايات الكاشفة لرغبة المصريين في الحصول على حقوقهم في الفرح، ويروي قصة أحد أمراء المماليك الذي كان عاشقاً لشرب الخمر لدرجة أن الجمال كانت تحملها إلى بيته، منتصف القرن الثامن الهجري، في عهد الملك الصالح عماد الدين أبو إسماعيل ابن الملك الناصر محمد، وهذا الأمير المملوكي عاشق الخمر يدعى "ملكتمر الحجازي"، والحكاية التي تكشف أمرين مهمين:
الأول أن انتشار الخمور بين جموع المصريين كان بين الأغنياء والفقراء إلى حد سواء، والثاني أن حجم انتشار تجارة الخمور في ذلك الزمان البعيد كان كبيراً، فقد مرت الجمال التي تحمل الخمر إلى الأمير المملوكي الغني ونافذ السلطة على "شباك النيابة"، أثناء جلوس نائب السلطان "الحاج آل ملك"، وقد كان رجلاً متعنتاً، فبعث نقيباً ليتتبعها ليعرف أي بيت تدخل، فلما دخلت الجمال التي تحمل الخمر بيت الأمير المملوكي "الحجازي"، علم الأمير ملكتمر بأمر النقيب واستدعاه وضربه ضرباً مؤلماً، الأمر الذي أثار حفيظة نائب السلطان، الذي استنكر على الحجازي تعاطيه للخمر، يقول المقريزي: "فأتاه الحجازي وفاوضه مفاوضة كثيرة، وقام مغضباً".
ومن أعجب ما يحكيه "المقريزي"، ليؤكد أن المصريين كانوا دائماً شعباً "ابن حظ"، يسارع إلى اقتناص حريته فوراً، أنهم كانوا سرعان ما ينتهزون الفرص المتاحة من أجل ممارسة حرياتهم والانطلاق إلى بيوت الغناء وأماكن السهر، بل إنهم كانوا يصلون ـ في بعض الأحيان ـ إلى درجة من "الفحش"، وهو ما نعرفه في أحداث سنة 747 هجرية، حين أعلن عن تسامح السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون مع الرعية، بما يجعلنا نطلق عليه "ملك الحريات"، وقد كان مؤمناً بالحريات الشخصية فعلاً، ونقل عنه "المقريزي" عبارة تؤكد صحة ذلك، فقد قال هذا السلطان ذات مرة: "خلوا كل أحد يعمل ما يريد"، وينقل لنا "المقريزي" بعض تفاصيل هذا الحدث الجلل، الذي التمس فيه المصريون حريتهم في ذلك الزمان البعيد إلى أقصى حد يمكن توقعه.. ترى ما الذي فعله المصريون بهذه "الحرية الشخصية" المطلقة منتصف القرن الثامن الهجري؟..
وإلى اللقاء في الحلقة المقبلة
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com