في الأردن، ثارت ضجة كبيرة وجدل واسع حول مسلسل تلفزيوني أنتجته شبكة نتفليكس اسمه مدرسة روابي، وما شدني لمشاهدته تلك الحملة الشرسة وكم التعليقات الهائل ومدى الحديّة في انتقاد المسلسل، وتصويره وكأنه إعلان عن انهيار المجتمع! وأنه يخدش الحياء، ويدعو للرذيلة، ولا يعبّر عن المجتمع الأردني (المحافظ).
بعد مشاهدته، لم أرَ مشاهد تعرٍ، ولم أسمع كلمات نابية، ولم أشاهد مقطعاً يمكن اعتباره خارج المألوف عن المجتمعات العربية، باستثناء أن طريقة العرض جاءت مشابهة لما هو دارج في المسلسلات الأميركية.
يتناول المسلسل بعض مشاكل الفتيات في مدرسة ثانوية.. مثل التنمّر، والعلاقات الخاصة، والتسرّب من المدارس، وعدم اهتمام الأهالي بشؤون أبنائهم النفسية وعدم الاستماع لهمومهم، كما أنه بشكل ما مثّلَ حملة توعية لاستخدامات الإنترنت وجرائم الابتزاز والتحرش الإلكتروني، وأظهر مدى بشاعة فكرة الانتقام، وسلّط الضوء على ظاهرة استقواء أصحاب النفوذ على المدارس الخاصة، سيما إذا كانت الإدارة فاسدة.
من ناحية فنية تناول المسلسل تلك المشكلات بطريقة سطحية ومباشرة، وكان يمكن أن يكون أفضل، لكنه كشف عن مواهب تمثيلية ممتازة، خاصة لدى العنصر النسائي، اللواتي قدمن أدواراً مقنعة بأداء جيد، والأهم أنه شكّل نقلة نوعية في الدراما الأردنية، بما يعد بمستقبل أفضل لها.
في مصر، تعرضت طالبة جامعية للتنمر على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب ارتدائها فستاناً، وبدأت القصة حين رفضت لجنة الامتحانات السماح لها بدخول الجامعة بسبب فستانها، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، إذ هاجمتها زميلاتها، ثم انضم رئيس الجامعة لحملة التنمّر، حتى وصل الأمر للإعلام، والذي انقسم بدوره بين مدافع عن حقها في ارتداء ما يناسبها، وبين من يراها سافرة، منحلة، تساهم في نشر الرذيلة. وقد نُشرت حول الموضوع مقاطع عديدة على «اليوتيوب»، وكتبت مقالات، وأديرت جلسات حوار، وصار حديث الشارع!! حتى بدا وكأن ارتداء فستان صار أمراً غريباً في مصر، شأنه شأن الاختراعات الجديدة، أو الهبوط على المريخ!
الغريب أن الفستان عادي جداً؛ محتشم، واسع، بأكمام كاملة، وتحت الركبة.. فلماذا كل هذا الهيجان؟
في فلسطين، تداول روّاد «الفيسبوك» مقطعاً مصوراً لسيدة تمارس السباحة في مسبح خاص، وقد ظهرت أجزاء من جسدها.. جاءت أغلبية التعليقات ساخطة وناقمة ومليئة بالشتائم.. وتصف الحدث بأنه فضيحة، وخارج عن تقاليد وأخلاق شعبنا «المحافظ».. قلة قليلة انتقدت من يروّج للفيديو، وينتهك خصوصية عائلة أرادت الخروج من جحيم غزة لسويعات.
ما المشترك بين مسلسل روابي، وفتاة الفستان، وفيديو منتجع غزة؟ لو تأملنا المشاهد الثلاثة السابقة، ويمكن إضافة مئات أخرى في أماكن وأزمنة مختلفة في عالمنا العربي، سنجد أن عنصر النساء هو الرابط المشترك بينها، وبالغوص أعمق سنجد أن الكبت الجنسي هو الدافع والمحرك والمحرض سواء في نشر الفيديوهات وتداولها أو في التعليقات عليها. وبالطبع ما ينجم عن هذا الكبت، وهو التفسير المشوّه لمفهوم الشرف.. ثم سنجد الديباجة المملة (مجتمعاتنا المحافظة، أخلاقنا، وقيمنا، وتقاليدنا..)، مع ادعاء كاذب ومزيف بالتطهر، وتقمّص دور الحامي للفضيلة، والقيّم على الأخلاق.
ما سبق يتضمن مشاهد عادية (بمعنى أنها ليست جرائم)، مثل العلاقات السرية للطالبات والتسرب من المدارس والتنمّر، أو ارتداء فستان، أو السباحة بمايوه أو من دون (طالما أن المسبح خاص ومغلق). ومع ذلك وجد المعلقون الغاضبون أنها خارجة عن أخلاق وقيم المجتمع! وغريبة عن عاداتنا وتقاليدنا!
أعطوني مدرسة واحدة تخلو من التنمر، وجميع طلبتها نموذجيون في سلوكهم ومثاليون في أفكارهم.. ومنذ متى كانت الفساتين أو السباحة أموراً غريبة عن قيمنا وتقاليدنا؟
من جانب آخر، سنجد فيديوهات وأخباراً عن جرائم قتل أطفال وفتيات، وتعذيب سادي، واختطاف، وسرقات واعتداءات. وبالطبع سنقرأ نفس التعليقات الغاضبة (مجتمعاتنا المحافظة، الطاهرة، العفيفة، الأخلاقية..)، وكأنّ مجتمعاتنا بالفعل خالية من الجريمة، وليس فيها فساد، ولا انحلال، ولا سلوكيات غريبة.. أين، ومتى وُجدت هذا المجتمعات؟
في الواقع، تلك المجتمعات الفاضلة لم تُوجد يوماً خارج نطاق مخيلتنا وأوهامنا، التي رسمت لنا صورة افتراضية نتمنى أن تصبح حقيقة، ومن شدة رغبتنا وتوقنا للوصول إلى تلك الصورة صدّقنا أوهامنا، وتعاملنا معها كأنها الحقيقة. وصرنا نتفاجأ كل يوم عند سماع خبر جديد عن جريمة مروّعة! أو أيّ سلوك نعتبره انتهاكاً لتلك الصورة المثالية.
الرابط الآخر بين جميع تلك المشاهد يتمثل بتلك الضجة الهائلة والتداول الواسع والغضب الهستيري، والاهتمام الكبير بتلك المشاهد، فتصبح حديث الشارع، وشغله الشاغل، في مقابل مشاهد لجرائم أشد، ومظاهر لفساد أخطر، وممارسات وظواهر أهم بكثير، لكنها بالكاد تحظى بعدد قليل جداً من المشاركات والتعليقات، فيمر الناس عنها دون اكتراث.. فمثلاً رؤية ذراع أو ركبة فتاة تشغل الرأي العام، أما مشهد سيدة فقيرة مسنة، أو فتاة متسولة تأكل من بقايا النفايات، فلا تهم أحداً، وبالكاد تحظى ببضعة تعليقات تعبّر عن شفقة مزيفة.
لا أحد يهتم (بنفس درجة اهتمامه بمواضيع لها علاقة بالنساء والشرف) بالمتشردين، وبمستويات الفقر، والأميّة، وفساد الطبقة الحاكمة، أو بالقمع البوليسي وتراجع الحريات، أو تخلّف التعليم وعدم جهوزية المدارس، وتخلّف القطاع الصحي، أو عدم وجود ضمان اجتماعي، أو عدم وجود انتخابات، أو بقذارة الشوارع والأرصفة، وأكوام النفايات التي تشوّه الحدائق العامة، أو عدم وجود شبكة مجارٍ، وبتدني خدمات البلدية، أو ضعف البنية التحتية، أو تعثر خطط التنمية، أو تلوث البيئة، أو الحروب والعمليات الإرهابية وملايين اللاجئين.
مشكلتنا الأزلية أننا نهتم بسفاسف الأمور، ونتجاهل القضايا الكبرى، وننقسم بالرأي حول كل القضايا دون محاولة حلها، أو تطويرها.. فمثلاً عندما سقط ابن فرناس من علو شاهق أثناء محاولته الطيران، انقسمنا بين من يراه شهيداً مثواه الجنة، ومن يراه منتحراً مصيره النار! ولم يفكر أحد بمواصلة تجاربه.. إلى أن جاء الغرب والتقط الفكرة، وطورها وصولاً لاختراع الطائرات. وعندما تريد أيّ حكومة مستبدة تمرير سياساتها تلهي الشعب بفستان فتاة، وهكذا تظل ممسكة بالسلطة، ومتحكمة بالعباد.. وعندما غزت عصابات الصهاينة فلسطين كانت تعليماتهم تقضي باستباحة كل شيء، وفعل أيّ جريمة، ما عدا الاقتراب من شرف النساء، وهكذا ضاعت البلاد.
عبد الغني سلامة
2021-08-25
بعد مشاهدته، لم أرَ مشاهد تعرٍ، ولم أسمع كلمات نابية، ولم أشاهد مقطعاً يمكن اعتباره خارج المألوف عن المجتمعات العربية، باستثناء أن طريقة العرض جاءت مشابهة لما هو دارج في المسلسلات الأميركية.
يتناول المسلسل بعض مشاكل الفتيات في مدرسة ثانوية.. مثل التنمّر، والعلاقات الخاصة، والتسرّب من المدارس، وعدم اهتمام الأهالي بشؤون أبنائهم النفسية وعدم الاستماع لهمومهم، كما أنه بشكل ما مثّلَ حملة توعية لاستخدامات الإنترنت وجرائم الابتزاز والتحرش الإلكتروني، وأظهر مدى بشاعة فكرة الانتقام، وسلّط الضوء على ظاهرة استقواء أصحاب النفوذ على المدارس الخاصة، سيما إذا كانت الإدارة فاسدة.
من ناحية فنية تناول المسلسل تلك المشكلات بطريقة سطحية ومباشرة، وكان يمكن أن يكون أفضل، لكنه كشف عن مواهب تمثيلية ممتازة، خاصة لدى العنصر النسائي، اللواتي قدمن أدواراً مقنعة بأداء جيد، والأهم أنه شكّل نقلة نوعية في الدراما الأردنية، بما يعد بمستقبل أفضل لها.
في مصر، تعرضت طالبة جامعية للتنمر على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب ارتدائها فستاناً، وبدأت القصة حين رفضت لجنة الامتحانات السماح لها بدخول الجامعة بسبب فستانها، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، إذ هاجمتها زميلاتها، ثم انضم رئيس الجامعة لحملة التنمّر، حتى وصل الأمر للإعلام، والذي انقسم بدوره بين مدافع عن حقها في ارتداء ما يناسبها، وبين من يراها سافرة، منحلة، تساهم في نشر الرذيلة. وقد نُشرت حول الموضوع مقاطع عديدة على «اليوتيوب»، وكتبت مقالات، وأديرت جلسات حوار، وصار حديث الشارع!! حتى بدا وكأن ارتداء فستان صار أمراً غريباً في مصر، شأنه شأن الاختراعات الجديدة، أو الهبوط على المريخ!
الغريب أن الفستان عادي جداً؛ محتشم، واسع، بأكمام كاملة، وتحت الركبة.. فلماذا كل هذا الهيجان؟
في فلسطين، تداول روّاد «الفيسبوك» مقطعاً مصوراً لسيدة تمارس السباحة في مسبح خاص، وقد ظهرت أجزاء من جسدها.. جاءت أغلبية التعليقات ساخطة وناقمة ومليئة بالشتائم.. وتصف الحدث بأنه فضيحة، وخارج عن تقاليد وأخلاق شعبنا «المحافظ».. قلة قليلة انتقدت من يروّج للفيديو، وينتهك خصوصية عائلة أرادت الخروج من جحيم غزة لسويعات.
ما المشترك بين مسلسل روابي، وفتاة الفستان، وفيديو منتجع غزة؟ لو تأملنا المشاهد الثلاثة السابقة، ويمكن إضافة مئات أخرى في أماكن وأزمنة مختلفة في عالمنا العربي، سنجد أن عنصر النساء هو الرابط المشترك بينها، وبالغوص أعمق سنجد أن الكبت الجنسي هو الدافع والمحرك والمحرض سواء في نشر الفيديوهات وتداولها أو في التعليقات عليها. وبالطبع ما ينجم عن هذا الكبت، وهو التفسير المشوّه لمفهوم الشرف.. ثم سنجد الديباجة المملة (مجتمعاتنا المحافظة، أخلاقنا، وقيمنا، وتقاليدنا..)، مع ادعاء كاذب ومزيف بالتطهر، وتقمّص دور الحامي للفضيلة، والقيّم على الأخلاق.
ما سبق يتضمن مشاهد عادية (بمعنى أنها ليست جرائم)، مثل العلاقات السرية للطالبات والتسرب من المدارس والتنمّر، أو ارتداء فستان، أو السباحة بمايوه أو من دون (طالما أن المسبح خاص ومغلق). ومع ذلك وجد المعلقون الغاضبون أنها خارجة عن أخلاق وقيم المجتمع! وغريبة عن عاداتنا وتقاليدنا!
أعطوني مدرسة واحدة تخلو من التنمر، وجميع طلبتها نموذجيون في سلوكهم ومثاليون في أفكارهم.. ومنذ متى كانت الفساتين أو السباحة أموراً غريبة عن قيمنا وتقاليدنا؟
من جانب آخر، سنجد فيديوهات وأخباراً عن جرائم قتل أطفال وفتيات، وتعذيب سادي، واختطاف، وسرقات واعتداءات. وبالطبع سنقرأ نفس التعليقات الغاضبة (مجتمعاتنا المحافظة، الطاهرة، العفيفة، الأخلاقية..)، وكأنّ مجتمعاتنا بالفعل خالية من الجريمة، وليس فيها فساد، ولا انحلال، ولا سلوكيات غريبة.. أين، ومتى وُجدت هذا المجتمعات؟
في الواقع، تلك المجتمعات الفاضلة لم تُوجد يوماً خارج نطاق مخيلتنا وأوهامنا، التي رسمت لنا صورة افتراضية نتمنى أن تصبح حقيقة، ومن شدة رغبتنا وتوقنا للوصول إلى تلك الصورة صدّقنا أوهامنا، وتعاملنا معها كأنها الحقيقة. وصرنا نتفاجأ كل يوم عند سماع خبر جديد عن جريمة مروّعة! أو أيّ سلوك نعتبره انتهاكاً لتلك الصورة المثالية.
الرابط الآخر بين جميع تلك المشاهد يتمثل بتلك الضجة الهائلة والتداول الواسع والغضب الهستيري، والاهتمام الكبير بتلك المشاهد، فتصبح حديث الشارع، وشغله الشاغل، في مقابل مشاهد لجرائم أشد، ومظاهر لفساد أخطر، وممارسات وظواهر أهم بكثير، لكنها بالكاد تحظى بعدد قليل جداً من المشاركات والتعليقات، فيمر الناس عنها دون اكتراث.. فمثلاً رؤية ذراع أو ركبة فتاة تشغل الرأي العام، أما مشهد سيدة فقيرة مسنة، أو فتاة متسولة تأكل من بقايا النفايات، فلا تهم أحداً، وبالكاد تحظى ببضعة تعليقات تعبّر عن شفقة مزيفة.
لا أحد يهتم (بنفس درجة اهتمامه بمواضيع لها علاقة بالنساء والشرف) بالمتشردين، وبمستويات الفقر، والأميّة، وفساد الطبقة الحاكمة، أو بالقمع البوليسي وتراجع الحريات، أو تخلّف التعليم وعدم جهوزية المدارس، وتخلّف القطاع الصحي، أو عدم وجود ضمان اجتماعي، أو عدم وجود انتخابات، أو بقذارة الشوارع والأرصفة، وأكوام النفايات التي تشوّه الحدائق العامة، أو عدم وجود شبكة مجارٍ، وبتدني خدمات البلدية، أو ضعف البنية التحتية، أو تعثر خطط التنمية، أو تلوث البيئة، أو الحروب والعمليات الإرهابية وملايين اللاجئين.
مشكلتنا الأزلية أننا نهتم بسفاسف الأمور، ونتجاهل القضايا الكبرى، وننقسم بالرأي حول كل القضايا دون محاولة حلها، أو تطويرها.. فمثلاً عندما سقط ابن فرناس من علو شاهق أثناء محاولته الطيران، انقسمنا بين من يراه شهيداً مثواه الجنة، ومن يراه منتحراً مصيره النار! ولم يفكر أحد بمواصلة تجاربه.. إلى أن جاء الغرب والتقط الفكرة، وطورها وصولاً لاختراع الطائرات. وعندما تريد أيّ حكومة مستبدة تمرير سياساتها تلهي الشعب بفستان فتاة، وهكذا تظل ممسكة بالسلطة، ومتحكمة بالعباد.. وعندما غزت عصابات الصهاينة فلسطين كانت تعليماتهم تقضي باستباحة كل شيء، وفعل أيّ جريمة، ما عدا الاقتراب من شرف النساء، وهكذا ضاعت البلاد.
عبد الغني سلامة
2021-08-25