عندما استيقظت من نومى صباحا، شعرت بألم يكاد لا يبين وأن رأسي به ثقل ما، تحركت لأقف بعد أن شعرت بحاجة ملحة للبول، حينها لف رأسي وأصبت بدوار كاد أن يسقطنى لولا أننى تمالكت وأعدت توازنى وقد وضعت يدى على مقدمة رأسي، بعدها تمغطت قليلا رافعا يدى الى اعلى ثم شبكتهما خلف رقبتي، حركت رأسي يمينا ثم شمال وخلفا، حينها تحرك سهم قاس اخترق اسفل رقبتي ليستقر وسط كتفى اليمين، شعرت حينها ان صدري قد ضاق فمنع الهواء من الدخول مما زاد حالة الألم، لم استطع ولثوانى أن أتنفس وقد اعتصرنى الوجع.
أثناء وبعد قضاء حاجتى، ازداد وجع رأسي وكتفى، فنهضت متثاقلا متحاملا على نفسي خارجا من الحمام.
زوجتى خرجت في اللحظة التى ترنحت فيها وقد امتدت يداي قابضتان على رأسي، أسرعت بفزع فأسقطت ما كانت تحمله، أمسكتنى بعد أن ارتطم رأسي بالحائط وانزلقت قدمى اليسري فتراجعت الأخري حتى التوي كاحلى، وهى تحاول جاهدة مساعدتى حتى نجحت.
استويت واقفا، شعرت بزغللة سريعة وعدم وضوح وتشويش في الرؤية، وكأن بطنى أرادت أن تشارك في هوجة الأوجاع فاستنفرت، الا أنه لم يخرج منها شئ، رغم محاولاتى القاسية.
أجلستنى تمسح عرق جبينى وشعر رأسي لا تدري ما تقول غير.. ارتاح.
خرجت بعد أن هدأ حالى قليلا لتعود وفى يدها كوب ما، عرفت بعد أول رشفة فيه أنه ليمون هى عصرته، حاولت أن أتجرعه فلم اقدر على أكثر من جرعات.
هل أعد لك جبنة (قهوة) لعلها تعيد لك توازنك؟
أومأت برأسي وأنا أعدل من وضع المخدة لأضجع عليها بعد أن كرفست قدمى واضعا يدي بين فخذي، اشتد في هذه اللحظة ألم الكتف الا أنه سرعان ما تلاشي.
أقنعتنى بعد لأى منى أن اتحامل وأذهب الى الطبيب.
أنهضتنى، ثم محاولاتها أن تلبسنى جلبابى فتجاوبت معها واقفا فعدلت انسدال الجلباب وهى تحاول أن تقفل أعلاه بالزرارة.
تحركت هى قليلا ليس بعيد فتناولت مسرعة مفاتيح العربية دافعة بها لى، وأنا اتحرك ببطء نحو الخارج، تراقب حركاتى بشفقة، قريبة منى حتى وقفت خلف الباب بعد أن فتحته ثم مالبثت أن واربته ليسترها مادة رأسها.
بضعف أدرت مفتاح العربية التى قفزت فحأة الى الأمام بعنف، شعرت برجة قوية في جسمي ، تمالكت ثم تحكمت فيها بعد أن اوقفتها.
بجوار باب المستشفى أوقفت عربتى ثم نزلت و الألام تكاد تفتك برأسي يشاطرها الكتف والرقبة حتى شعرت أنها قد تيبست ولم يكن بمقدوري أن ألتفت الا بكامل جسمي.
الحارس لم يوقفنى ولم يطلب رسوم الدخول كالعادة، رغم أنه ينظر الى وبيده كوب شاى، وقد سمعت صوته يرد تحيتي.
خطوات قليلة فاذا صوت مضطرب ينادى (يا أخ) تكرر مسرعا نحوي فأدركت أننى المنادى، أدرت جسمي كاملا ملتفتا نحو مصدر الصوت الذي اقترب منى لاهثا مضطربا وكأنه فزعا.
شاب عشرينى ألقى السلام مقتضبا مادا يدا مرتجفة، بالعا ريقه ثم تحشرج صوته..
نعم.. هل تطلب شيئا؟، سألته
صوت آخر جاء من خلف الصبى، شيخ كبير يجر عمامة سقطت من رأسه.
معليش يا أبو الشباب، والد هذا الولد توفى منذ ساعات ولم نجد سيارة اسعاف أو أخري لننقل الجثمان، فهل؟
لم أدعه يكمل فهرعت الى عربتى لأجد الحارس وقد نهض ففتح الباب مؤذنا بالدخول، يتمتم بصوت يكاد يبين، الله يرحمه، ثم عقب مثنيا على جزاك الله خيرا.
ريثما ينتهى حفر القبر، رأيت أن أجلس داخل تلك المظلة وقد بدأت الألام تتزايد، رأسي يكاد أن ينفجر، رقبتى زاد تيبسها، ظهري "ينتح" بصورة غريبة و وجعه أصبح متركزا في وسطه، في حين شعرت ببعض ألم في واحد من أصابع يدى، نظرت إليه ثم أشحت ببصري أعاين الواقفين لتلقى العزاء في ميتهم، ثم يذهب بصري الى حيث يحفر القبر، ثم يعود عندما أسمع من قادمين رافعين أصواتهم وأياديهم بالفاتحة:
الفااااتحة ... بعضهم يتمتم وبعضهم يسمع صوت قراءته وآخر يسمع دعاؤه.
بعد نهاية الدفن ومغادرتنا للمقابر، أحسست بأنى لا أستطيع أن أقود عربتى فقلت لنفسي:
أجلس معهم قليلا ريثما أشعر بتحسن.
إتكأت على حائط وقد أسندت رأسي على يدى وقد ازدادت ضربات ألمه، أحدهم من الذين جاؤوا بالعربة معى مصطحبا الجثمان كأنه شعر بحالى فجاءنى متفقدا ليطمئن:
ما بالك يا سيد (....) عفوا لم نعرف اسمك بعد...
(فلان) ...
كأن بك وجعا ما....
نعم رأسي و .. و ....
هل أحضر لك مسكنا ما.... لم ينتظر موافقتى فهب مسرعا
قبل أن يعود .. أحسست كأن أحدهم يراقبنى فحدجته بنظرة "تحتية" وقد صدق حدسي، فإذا به يحادثنى بصوت خافت..
مالك؟.. عفوا لا بأس لقد سمعتك تبث شكواك، لا عليك، انهض وقم واقفا وضع خدك على هذا الحائط
ضرب الجدار بيده واعتدل واقفا قبل أن استوعب كلامه، لم يمهلنى لكى أفكر، لأرد عليه، تناول يدي من ابطى ورفعني فشعرت باوجاع الكتف، أدارنى بسرعة نحو الحائط دون تقدير لحالات الناس وتلقيهم للعزاء والصمت بين الجميع، فالمكان حتما غير مناسب، رغم أننى لم أفهم ماذا يريد أن يفعل إلا أننى مغلوبا على أمرى لتسارع حركاته.
قف هكذا .. عدل لى وضعى مستكينا، بعدها شعرت بعقب عصا وقد ثبت لثوانى على كتفى ثم تحرك بضربات سريعة كأنها وخزات، مالبث أن عاد بضغطات أكثر قوة، ثم فجأة ضغطة قوية في مكان ما وسط كتفي، هذه الحركة بهذه القوة جعلتنى أصرخ متأوها بصوت عال جعل الكل يلتفت نحوى، وبعض من كانوا جلوسا وقف وهو ينظر مندهشا مستغربا ، واذا الرجل يطمئنهم..
لا عليكم سيتحسن باذن الله .. ثم واصل لا يعنيه أمرهم
كرر الضغط ضربا في مكان وجعى، حرصت حينها أن أكتم آهاتى ووجعى وما زلت مستسلما له وغير آبه بما حولى.
ضغطات العصا تتحرك متزايدة بوتيرة منسجمة اعلى واسفل الأكتاف، ثم تحت الرأس مع ضربات بايقاع متوازن فوق الاكتاف وتحت الرقبة، ثم نزل بها الى الظهر فشمله كله يضغط بلطف حينا وبقوة أحيانا، ولم أتكلم ضاغطا على نفسي أن أتحمل فعله بالعصاة، مع تأكدى أنهم جميعا قد انشغلوا بالنظر الى وهذا الشيخ المجنون.
دقائق معدودة فاذا صونه يأتى من خلفى:
ارفع يديك ثم انزلهما ، افعل هذا بسرعة عدة مرات وخذ نفس عميقا بعدها.
شعرت به يتحرك ليجلس مكانه وهو ينظر لى وقد علت محياى ابتسامة رضا بعد ألم.
ساعة بعدها وقد بدأ يعود توازن نفسي وتختفى حالات الوجع الذي لازمنى، الرجل ما زال بجواري وكأنه أدرك أهميته ونجح في علاجه لى مما حفز بعضهم ولعلهم اختشوا من وجودهم في مكان عزاء أن يطلبوا منه ذلك الا أن أكثر من واحد "خلسة" أخذوا منه موعدا ووعدا أن يصلوا اليه في منزله الذى وصفه لهم.
في طرق عودتى أركبت البصير* ليصل منزله، وقد أبى أن يتركنى قبل أن أتناول كباية شاى معه.
جلست على سرير شبه متهالك لا شئ عليه من لحف، يبدوا من حال المنزل تعبير لحال صاحب المنزل.
لحظات وقد رأيته مسرعا نحو الباب، ثم عاد وفى يده لفافة ما يبدوا أنه تعمد أن لا ينظر نحوى محاولا أن يخفى ما يحمل.
دخل على طفلان يبدو البؤس ظاهرا من ثيابهم وعدم الاهتمام بنظافتهم، الا أن براءة الأطفال لا تعرف حواجزا، اقتربا منى بعد أن آنستهما ومازحتهما، فاستأنسا لوجودى.
عاد البصير يحمل كوبا شاى وماء، ثم نهر الطفلين أن يعودا الى أمهم، أبيت عليه ذلك فلاذا بي، ابتسم قائلا:
ربي يحفظهم ، رغم شقاوتهم الا أنهم نوارة البيت وبريق ضوءه.
شعرت بحسرة تعترض حلقه فتلجلج قليلا بعد أن نزلت دمعة على خده، مسحها بيده بسرعة وابتسم.
فهمت منه ان الاطفال للإبنه الأكبر الذي توفى قبل شهور فأصبح هو ولى أمرهم.
قفز طفل منهما ضاربا أخاه على حين غفلة منا فانتهرهما الجد آمرا وطاردا لهما، انتهزت الفرصة وقفزت من مكانى ممسكا بيد الأقرب لى، يدى امتدت بسرعة الى جيبى وأخرجت ما به، لا أدري كم من المال ودسست بسرعة مبلغا في يد أحدهما وقد ابتسم لى، فيما أسرع الآخر خائفا من جده الذى شجعه بابتسامة لها مدلول ومعنى ، فمد يده على استحياء وتناول باقى المبلغ.
شعرت بسعادة وأنا اقوم بهذا الفعل الذى انعكس بوضوح على محيا الجد الذي استبشر وجهه وبرقت عيناه برضا، سمعته يردد بصوت أشبه بالهمس:
الحمد لله ، الحمد لله .. ثم رفع صوته جزاك الله خيرا، والله لم يفطروا ولم يتغدوا الا فتات كسر بائت.
أحرجت لأنه لا يتوفر معى مال كافى اقدمه له، الا أننى استدركت قائلا:
سأوصف لك مكان سكنى و موقع شركتى، لك وللأيتام كفالة شهرية بائن الله، سقطت دمعته غصبا عنه وارتجفت يده وتلعثم لسانه ولم يجد غير ان شاء الله.
ما زلت في طريقى فإذا بأيدي تلوح من بعيد مستنجدة أو هكذا فهمتها، أوقفت العربة بجوارهم واستمعت لطلبهم حيث فهمت أن اطار عربتهم انفجر ولا احتياطي معهم وكذا البنزين نفد أو كاد.
ركب احدهم معى، اشترينا ما يحتاجون ثم قفلنا راجعين الى حيث تقف عربتهم، ولم أشاء أن أفارقهم حتى اطمأننت على سلامة موقفهم وتحرك سيارتهم.
الوقت تأخر جدا والليل أرخى سدوله تماما فأظلم، آلامى لم أشعر بها، غير ارهاق الجسم.
في أول شارع للبيت، لاحظت تجمهرا غير عاديا، أبطأت العربة متلفتا ومتسائلا ماذا حدث؟
أول رجل لمح عربتى تلف، سمعت صوته:
الحمد لله الحمد لله ثم وقف بجانب الباب حتى فتحته وما زلت مندهشا متسائلا.:
مرحبا (...) ماذا حدث؟
لم يتمكن من اجابتى فقد اندفع الناس وتحلقوا حولى كل مادا يده حامدا الله على سلامتى مما زاد ارتباكى ودهشتى.
شرحت ما حدث بعد أن أخبرونى أن زوجتى قد أبلغتهم طالبة نجدتهم ومساعدتهم في البحث عنى.
من شدة الأعياء وإرهاق البدن سلمت نفسي للسرير فتمددت، قبل أن أستغرق في النوم شعرت بغطاء ينزل على جسدي فالتففت فيه.
مفزوعا نهضت وأنزلت نفسي من السرير حتى كدت أسقط وقد لف رأسي ودار بعنف، مرتبكا مشوشا اندفعت نحو مصدر صوت الصراخ والاستغاثة، وجدت زوجتى ممدة على ارض الصالة وقد غمرتها مياه كثيفة أسفل منها، حاولت أن أنهضها، أن اعدل لها نفسها، الا أننى لم استطع، خاصة أن الدماغ مازال مرتبكا وقد وقعت عيناى على دماء ملأت قميصها.
استنجدت مسرعا بالجيران، حملتها النسوة بمساعدتى وقد أصابها إعياء شديد ووهن، وأصابنى الذهول.
استدعى الطبيب فأدخلها فورا الى غرفة العمليات، للمفاجأة، الطبيب نفسه هو صاحب العربة التى انفجر اطارها، سخرنى الله لأساعده ليكون حضوره للمستشفى انتظارا لزوجتى، العجيب أن الله سخرنى قبل الطبيب لأحمل الجثمان ولأبتعد عن المستشفى وأقابل ذاك البصير فكان سببا في علاجى وذهاب آلامى، ثم كنت سببا في ادخال الفرحة الى قلبه وقلب اطفاله الأيتام وكفالتى لهم.
سبحان الله
جلست على كرسي استرجع تتالى الأحداث دون شعور منى، فاذا بى أتذكر كيف أننى وبفعل الشيطان وأساعده في كل ما حصل.
حينها عندما كنت جالسا على حافة سريري أنظر لزوجتى تضع مساحيقا ومكياجا لتتزين، حينها شعرت بانفعال نفسي وقد سألتها:
لمن هذا التزيين..؟
ابتسمت ضاحكة، سنذهب لمناسبة فلانة..
بعدها بدأ التلاسن بالكلام، وأن المرأة زينتها لزوجها، و ... و ... لم نلبث حتى بدأت العراك بالأيدى ثم اللطم والشتم، وقد استفحل الأمر بيننا حتى كان صراعا بدنيا قاسيا، خاصة وانها تمارس أنواع مختلفة من الرياضة مما جعل كفتها ترجح ، أصبت وجهها، واصابتنى بلكماتها، وقد رفستها برجلى في محاولات ابعادها عنى، لم يتوقف صراعنا الا على صوت جرس الباب يدق فابتعد كل منا عن الآخر.
كل هذا يضاف اليه حالتى تلك التى مرت بى وما اصابنى من اوجاع وآلام لم يسلم منها جزء من جسدى.
ساعة أو أكثر وأنا أصول بفكرى وأجول ببصري هنا وهناك مرتبكا، حتى أخرجنى صوت واحدة من الناس تقول حمد لله على السلامة، خرجت من غرفة العمليات.
اندفعت ركضا نحو الغرفة التى ارقدت فيها، الا أن شحوب وجهها ووهن جسمها لم يمكنها من الكلام غير نظرات شاردة.
بعد شروق الشمس دخلت عليها، فوجدتها قد استعادت جزءا من نشاطها وبعضا من عافيتها، ابتسمت لى رغم أنها قد فقدت جنينها ومن بين ابتسامتها قالت:
شيطانك كبير، لولا تطفلك في زينتى لما تعاركنا ولسلم الجنين.
تنهدت بغيظ الا أنها حمدت الله قائلة قائلة كلاما اهتز له بدنى:
الحمد لله خسرنا الجنين ... صمتت .. وواصلت من بين عبراتها:
لم نخسر بعض، الجنين سيعوض باذن الله وبكرة أحلى.
سرعان ما مدت يدها فتناولت رأسي ووضعته على صدرها، وقد غلبها البكاء، فما كان منى وأنا أقاوم بكائي ودموعى أن قلت لها مخففا الأمر عليها:
لا تبكى عزيزتى، هونى على نفسك، فالرجال لا يبكون.
• البصير طبيب شعبى معالج للكسور ومدلك للجسم.
أثناء وبعد قضاء حاجتى، ازداد وجع رأسي وكتفى، فنهضت متثاقلا متحاملا على نفسي خارجا من الحمام.
زوجتى خرجت في اللحظة التى ترنحت فيها وقد امتدت يداي قابضتان على رأسي، أسرعت بفزع فأسقطت ما كانت تحمله، أمسكتنى بعد أن ارتطم رأسي بالحائط وانزلقت قدمى اليسري فتراجعت الأخري حتى التوي كاحلى، وهى تحاول جاهدة مساعدتى حتى نجحت.
استويت واقفا، شعرت بزغللة سريعة وعدم وضوح وتشويش في الرؤية، وكأن بطنى أرادت أن تشارك في هوجة الأوجاع فاستنفرت، الا أنه لم يخرج منها شئ، رغم محاولاتى القاسية.
أجلستنى تمسح عرق جبينى وشعر رأسي لا تدري ما تقول غير.. ارتاح.
خرجت بعد أن هدأ حالى قليلا لتعود وفى يدها كوب ما، عرفت بعد أول رشفة فيه أنه ليمون هى عصرته، حاولت أن أتجرعه فلم اقدر على أكثر من جرعات.
هل أعد لك جبنة (قهوة) لعلها تعيد لك توازنك؟
أومأت برأسي وأنا أعدل من وضع المخدة لأضجع عليها بعد أن كرفست قدمى واضعا يدي بين فخذي، اشتد في هذه اللحظة ألم الكتف الا أنه سرعان ما تلاشي.
أقنعتنى بعد لأى منى أن اتحامل وأذهب الى الطبيب.
أنهضتنى، ثم محاولاتها أن تلبسنى جلبابى فتجاوبت معها واقفا فعدلت انسدال الجلباب وهى تحاول أن تقفل أعلاه بالزرارة.
تحركت هى قليلا ليس بعيد فتناولت مسرعة مفاتيح العربية دافعة بها لى، وأنا اتحرك ببطء نحو الخارج، تراقب حركاتى بشفقة، قريبة منى حتى وقفت خلف الباب بعد أن فتحته ثم مالبثت أن واربته ليسترها مادة رأسها.
بضعف أدرت مفتاح العربية التى قفزت فحأة الى الأمام بعنف، شعرت برجة قوية في جسمي ، تمالكت ثم تحكمت فيها بعد أن اوقفتها.
بجوار باب المستشفى أوقفت عربتى ثم نزلت و الألام تكاد تفتك برأسي يشاطرها الكتف والرقبة حتى شعرت أنها قد تيبست ولم يكن بمقدوري أن ألتفت الا بكامل جسمي.
الحارس لم يوقفنى ولم يطلب رسوم الدخول كالعادة، رغم أنه ينظر الى وبيده كوب شاى، وقد سمعت صوته يرد تحيتي.
خطوات قليلة فاذا صوت مضطرب ينادى (يا أخ) تكرر مسرعا نحوي فأدركت أننى المنادى، أدرت جسمي كاملا ملتفتا نحو مصدر الصوت الذي اقترب منى لاهثا مضطربا وكأنه فزعا.
شاب عشرينى ألقى السلام مقتضبا مادا يدا مرتجفة، بالعا ريقه ثم تحشرج صوته..
نعم.. هل تطلب شيئا؟، سألته
صوت آخر جاء من خلف الصبى، شيخ كبير يجر عمامة سقطت من رأسه.
معليش يا أبو الشباب، والد هذا الولد توفى منذ ساعات ولم نجد سيارة اسعاف أو أخري لننقل الجثمان، فهل؟
لم أدعه يكمل فهرعت الى عربتى لأجد الحارس وقد نهض ففتح الباب مؤذنا بالدخول، يتمتم بصوت يكاد يبين، الله يرحمه، ثم عقب مثنيا على جزاك الله خيرا.
ريثما ينتهى حفر القبر، رأيت أن أجلس داخل تلك المظلة وقد بدأت الألام تتزايد، رأسي يكاد أن ينفجر، رقبتى زاد تيبسها، ظهري "ينتح" بصورة غريبة و وجعه أصبح متركزا في وسطه، في حين شعرت ببعض ألم في واحد من أصابع يدى، نظرت إليه ثم أشحت ببصري أعاين الواقفين لتلقى العزاء في ميتهم، ثم يذهب بصري الى حيث يحفر القبر، ثم يعود عندما أسمع من قادمين رافعين أصواتهم وأياديهم بالفاتحة:
الفااااتحة ... بعضهم يتمتم وبعضهم يسمع صوت قراءته وآخر يسمع دعاؤه.
بعد نهاية الدفن ومغادرتنا للمقابر، أحسست بأنى لا أستطيع أن أقود عربتى فقلت لنفسي:
أجلس معهم قليلا ريثما أشعر بتحسن.
إتكأت على حائط وقد أسندت رأسي على يدى وقد ازدادت ضربات ألمه، أحدهم من الذين جاؤوا بالعربة معى مصطحبا الجثمان كأنه شعر بحالى فجاءنى متفقدا ليطمئن:
ما بالك يا سيد (....) عفوا لم نعرف اسمك بعد...
(فلان) ...
كأن بك وجعا ما....
نعم رأسي و .. و ....
هل أحضر لك مسكنا ما.... لم ينتظر موافقتى فهب مسرعا
قبل أن يعود .. أحسست كأن أحدهم يراقبنى فحدجته بنظرة "تحتية" وقد صدق حدسي، فإذا به يحادثنى بصوت خافت..
مالك؟.. عفوا لا بأس لقد سمعتك تبث شكواك، لا عليك، انهض وقم واقفا وضع خدك على هذا الحائط
ضرب الجدار بيده واعتدل واقفا قبل أن استوعب كلامه، لم يمهلنى لكى أفكر، لأرد عليه، تناول يدي من ابطى ورفعني فشعرت باوجاع الكتف، أدارنى بسرعة نحو الحائط دون تقدير لحالات الناس وتلقيهم للعزاء والصمت بين الجميع، فالمكان حتما غير مناسب، رغم أننى لم أفهم ماذا يريد أن يفعل إلا أننى مغلوبا على أمرى لتسارع حركاته.
قف هكذا .. عدل لى وضعى مستكينا، بعدها شعرت بعقب عصا وقد ثبت لثوانى على كتفى ثم تحرك بضربات سريعة كأنها وخزات، مالبث أن عاد بضغطات أكثر قوة، ثم فجأة ضغطة قوية في مكان ما وسط كتفي، هذه الحركة بهذه القوة جعلتنى أصرخ متأوها بصوت عال جعل الكل يلتفت نحوى، وبعض من كانوا جلوسا وقف وهو ينظر مندهشا مستغربا ، واذا الرجل يطمئنهم..
لا عليكم سيتحسن باذن الله .. ثم واصل لا يعنيه أمرهم
كرر الضغط ضربا في مكان وجعى، حرصت حينها أن أكتم آهاتى ووجعى وما زلت مستسلما له وغير آبه بما حولى.
ضغطات العصا تتحرك متزايدة بوتيرة منسجمة اعلى واسفل الأكتاف، ثم تحت الرأس مع ضربات بايقاع متوازن فوق الاكتاف وتحت الرقبة، ثم نزل بها الى الظهر فشمله كله يضغط بلطف حينا وبقوة أحيانا، ولم أتكلم ضاغطا على نفسي أن أتحمل فعله بالعصاة، مع تأكدى أنهم جميعا قد انشغلوا بالنظر الى وهذا الشيخ المجنون.
دقائق معدودة فاذا صونه يأتى من خلفى:
ارفع يديك ثم انزلهما ، افعل هذا بسرعة عدة مرات وخذ نفس عميقا بعدها.
شعرت به يتحرك ليجلس مكانه وهو ينظر لى وقد علت محياى ابتسامة رضا بعد ألم.
ساعة بعدها وقد بدأ يعود توازن نفسي وتختفى حالات الوجع الذي لازمنى، الرجل ما زال بجواري وكأنه أدرك أهميته ونجح في علاجه لى مما حفز بعضهم ولعلهم اختشوا من وجودهم في مكان عزاء أن يطلبوا منه ذلك الا أن أكثر من واحد "خلسة" أخذوا منه موعدا ووعدا أن يصلوا اليه في منزله الذى وصفه لهم.
في طرق عودتى أركبت البصير* ليصل منزله، وقد أبى أن يتركنى قبل أن أتناول كباية شاى معه.
جلست على سرير شبه متهالك لا شئ عليه من لحف، يبدوا من حال المنزل تعبير لحال صاحب المنزل.
لحظات وقد رأيته مسرعا نحو الباب، ثم عاد وفى يده لفافة ما يبدوا أنه تعمد أن لا ينظر نحوى محاولا أن يخفى ما يحمل.
دخل على طفلان يبدو البؤس ظاهرا من ثيابهم وعدم الاهتمام بنظافتهم، الا أن براءة الأطفال لا تعرف حواجزا، اقتربا منى بعد أن آنستهما ومازحتهما، فاستأنسا لوجودى.
عاد البصير يحمل كوبا شاى وماء، ثم نهر الطفلين أن يعودا الى أمهم، أبيت عليه ذلك فلاذا بي، ابتسم قائلا:
ربي يحفظهم ، رغم شقاوتهم الا أنهم نوارة البيت وبريق ضوءه.
شعرت بحسرة تعترض حلقه فتلجلج قليلا بعد أن نزلت دمعة على خده، مسحها بيده بسرعة وابتسم.
فهمت منه ان الاطفال للإبنه الأكبر الذي توفى قبل شهور فأصبح هو ولى أمرهم.
قفز طفل منهما ضاربا أخاه على حين غفلة منا فانتهرهما الجد آمرا وطاردا لهما، انتهزت الفرصة وقفزت من مكانى ممسكا بيد الأقرب لى، يدى امتدت بسرعة الى جيبى وأخرجت ما به، لا أدري كم من المال ودسست بسرعة مبلغا في يد أحدهما وقد ابتسم لى، فيما أسرع الآخر خائفا من جده الذى شجعه بابتسامة لها مدلول ومعنى ، فمد يده على استحياء وتناول باقى المبلغ.
شعرت بسعادة وأنا اقوم بهذا الفعل الذى انعكس بوضوح على محيا الجد الذي استبشر وجهه وبرقت عيناه برضا، سمعته يردد بصوت أشبه بالهمس:
الحمد لله ، الحمد لله .. ثم رفع صوته جزاك الله خيرا، والله لم يفطروا ولم يتغدوا الا فتات كسر بائت.
أحرجت لأنه لا يتوفر معى مال كافى اقدمه له، الا أننى استدركت قائلا:
سأوصف لك مكان سكنى و موقع شركتى، لك وللأيتام كفالة شهرية بائن الله، سقطت دمعته غصبا عنه وارتجفت يده وتلعثم لسانه ولم يجد غير ان شاء الله.
ما زلت في طريقى فإذا بأيدي تلوح من بعيد مستنجدة أو هكذا فهمتها، أوقفت العربة بجوارهم واستمعت لطلبهم حيث فهمت أن اطار عربتهم انفجر ولا احتياطي معهم وكذا البنزين نفد أو كاد.
ركب احدهم معى، اشترينا ما يحتاجون ثم قفلنا راجعين الى حيث تقف عربتهم، ولم أشاء أن أفارقهم حتى اطمأننت على سلامة موقفهم وتحرك سيارتهم.
الوقت تأخر جدا والليل أرخى سدوله تماما فأظلم، آلامى لم أشعر بها، غير ارهاق الجسم.
في أول شارع للبيت، لاحظت تجمهرا غير عاديا، أبطأت العربة متلفتا ومتسائلا ماذا حدث؟
أول رجل لمح عربتى تلف، سمعت صوته:
الحمد لله الحمد لله ثم وقف بجانب الباب حتى فتحته وما زلت مندهشا متسائلا.:
مرحبا (...) ماذا حدث؟
لم يتمكن من اجابتى فقد اندفع الناس وتحلقوا حولى كل مادا يده حامدا الله على سلامتى مما زاد ارتباكى ودهشتى.
شرحت ما حدث بعد أن أخبرونى أن زوجتى قد أبلغتهم طالبة نجدتهم ومساعدتهم في البحث عنى.
من شدة الأعياء وإرهاق البدن سلمت نفسي للسرير فتمددت، قبل أن أستغرق في النوم شعرت بغطاء ينزل على جسدي فالتففت فيه.
مفزوعا نهضت وأنزلت نفسي من السرير حتى كدت أسقط وقد لف رأسي ودار بعنف، مرتبكا مشوشا اندفعت نحو مصدر صوت الصراخ والاستغاثة، وجدت زوجتى ممدة على ارض الصالة وقد غمرتها مياه كثيفة أسفل منها، حاولت أن أنهضها، أن اعدل لها نفسها، الا أننى لم استطع، خاصة أن الدماغ مازال مرتبكا وقد وقعت عيناى على دماء ملأت قميصها.
استنجدت مسرعا بالجيران، حملتها النسوة بمساعدتى وقد أصابها إعياء شديد ووهن، وأصابنى الذهول.
استدعى الطبيب فأدخلها فورا الى غرفة العمليات، للمفاجأة، الطبيب نفسه هو صاحب العربة التى انفجر اطارها، سخرنى الله لأساعده ليكون حضوره للمستشفى انتظارا لزوجتى، العجيب أن الله سخرنى قبل الطبيب لأحمل الجثمان ولأبتعد عن المستشفى وأقابل ذاك البصير فكان سببا في علاجى وذهاب آلامى، ثم كنت سببا في ادخال الفرحة الى قلبه وقلب اطفاله الأيتام وكفالتى لهم.
سبحان الله
جلست على كرسي استرجع تتالى الأحداث دون شعور منى، فاذا بى أتذكر كيف أننى وبفعل الشيطان وأساعده في كل ما حصل.
حينها عندما كنت جالسا على حافة سريري أنظر لزوجتى تضع مساحيقا ومكياجا لتتزين، حينها شعرت بانفعال نفسي وقد سألتها:
لمن هذا التزيين..؟
ابتسمت ضاحكة، سنذهب لمناسبة فلانة..
بعدها بدأ التلاسن بالكلام، وأن المرأة زينتها لزوجها، و ... و ... لم نلبث حتى بدأت العراك بالأيدى ثم اللطم والشتم، وقد استفحل الأمر بيننا حتى كان صراعا بدنيا قاسيا، خاصة وانها تمارس أنواع مختلفة من الرياضة مما جعل كفتها ترجح ، أصبت وجهها، واصابتنى بلكماتها، وقد رفستها برجلى في محاولات ابعادها عنى، لم يتوقف صراعنا الا على صوت جرس الباب يدق فابتعد كل منا عن الآخر.
كل هذا يضاف اليه حالتى تلك التى مرت بى وما اصابنى من اوجاع وآلام لم يسلم منها جزء من جسدى.
ساعة أو أكثر وأنا أصول بفكرى وأجول ببصري هنا وهناك مرتبكا، حتى أخرجنى صوت واحدة من الناس تقول حمد لله على السلامة، خرجت من غرفة العمليات.
اندفعت ركضا نحو الغرفة التى ارقدت فيها، الا أن شحوب وجهها ووهن جسمها لم يمكنها من الكلام غير نظرات شاردة.
بعد شروق الشمس دخلت عليها، فوجدتها قد استعادت جزءا من نشاطها وبعضا من عافيتها، ابتسمت لى رغم أنها قد فقدت جنينها ومن بين ابتسامتها قالت:
شيطانك كبير، لولا تطفلك في زينتى لما تعاركنا ولسلم الجنين.
تنهدت بغيظ الا أنها حمدت الله قائلة قائلة كلاما اهتز له بدنى:
الحمد لله خسرنا الجنين ... صمتت .. وواصلت من بين عبراتها:
لم نخسر بعض، الجنين سيعوض باذن الله وبكرة أحلى.
سرعان ما مدت يدها فتناولت رأسي ووضعته على صدرها، وقد غلبها البكاء، فما كان منى وأنا أقاوم بكائي ودموعى أن قلت لها مخففا الأمر عليها:
لا تبكى عزيزتى، هونى على نفسك، فالرجال لا يبكون.
• البصير طبيب شعبى معالج للكسور ومدلك للجسم.
Zum Anzeigen anmelden oder registrieren
Sieh dir auf Facebook Beiträge, Fotos und vieles mehr an.
www.facebook.com