حرصتُ على تدوين ملاحظاتي طيلة الأيّام العشرة بهدف تمكيني فيما بعد من إعادة تشكيل انطباعات عن إسطنبول. فبعد عشرة أيّام سرعان ما نعتاد على الأمر ونتحوّل إلى جهلة. لم تكن تلك عمليّة سهلة كما تصوّرت، فالعنف السياسيّ، بما فيه ‘مجزرة مرعش’، قد أرغم رئيس الوزراء بولنت أجاويد على إعلان حالة الحصار في ثلاث عشرة ولاية.
فيمَ الحاجة إلى وصف البلاط في جامع رستم باشا بلونيه العميقين الأحمر والأخضر اللذين يغيضان في لون أخضر أكثر عمقًا في مدينةٍ أُعلنت فيها الأحكام العرفيّة على التوّ؟
باللغة التركيّة، تعني كلمة البوسفور ‘مضيق الحنجرة’، أي موضع الخانوق أو الخنّاق. منذ آلاف السنين، برز هذا الموقع في جميع الاستراتيجيّات العالميّة. سنة ١٩٤٧، أبدى ترومان اهتمامًا استراتيجيًّا جوهريًّا بتركيا، وهو ما فعلتْه بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى. ولكن بينما خاض الأتراك حرب الاستقلال (١٩١٨ - ١٩٢٨) ضدّ الزعْم الأوّل، فقد تولّاهم العجز في ما يتعلّق بالثاني.
تواصَل التدخّل الأميركيّ في السياسات التركيّة منذ ذلك الحين. لم يكن ثمّة من يشكّ، في تركيّا، في أنّ برنامج القلقلة اليمينيّ يتمتّع بدعم وكالة الاستخبارات الأميركيّة (سي. آي. إي). ربّما تخشى الولايات المتّحدة أمرين: مضاعفات سقوط شاه إيران في تركيّا، إلّا إذا قامت حكومة ‘قويّة’ في أنقرة، وبرنامج أجاويد الإصلاحيّ الذي لم يكن، على ما فيه من اعتدال، يتواءم مع المصالح الغربيّة، ويعزّز الوعود التي طرحتْها حركة أتاتورك الاستقلاليّة. ومن جملة النتائج العديدة التي ستسفر عنها إطاحة أجاويد، أنّ المسؤولين عن التعذيب الذين درّبهم الأميركيّون، سيعودون إلى تولّي مناصبهم في السجون.
عندما تغادر العبّارة مرفأ ‘قاضي كوي’ على الجانب الآسيويّ من البوسفور، فإنّك ستشاهد على الجهة اليمنى صفوف ثكنات «السليميّة» الهائلة، بأبراجها الأربعة التي تتولّى حراسة كلَّ واحدة من الزوايا. وفي عام ١٩٧١ الذي أُعلنتْ فيه الأحكام العرفيّة في إسطنبول للمرّة الأخيرة جرى هناك استجواب العديد من السجناء السياسيّين (وأغلبهم من اليساريّين). وإذا نظرتَ إلى الجانب الآخر، فسترى محطّة حيدر باشا للسكّة الحديد والكوابح الحديديّة القائمة على بُعد عدة ياردات من المياه، توقّف القطارات الآتية من بغداد وكلكتّا وغوا. لقد كتب ناظم حكمت، الذي أمضى ثلاث عشرة سنة في السجون التركيّة، عدّة مقطوعات شعريّة حول محطّة القطار هذه:
«رائحة السمك الآتية من البحر
حشرات البقّ على المقاعد
لقد وفد الربيع إلى المحطة
السلال والأكياس
تنزل على درج المحطة
تصعد درج المحطة
تتوقّف على درج المحطة
وإلى جانب أحد رجال الشرطة
يهبط الدرجَ صبيٌّ — في الخامسة، وربما أقلّ —
لم يكن لديه يومًا أوراقٌ ثبوتيّة
لكنّ اسمه ‘كمال’
كيسٌ
كيسٌ من السجاد يصعد الدرج
وكمال يهبط الدرج
حافيًا، عاريَ الصدر،
وحيدًا تمامًا
في هذا العالم الجميل
ليس لديه ما يتذكّره إلّا الجوع
وعلى نحوٍ غامض
ذكرى امرأة في حجرةٍ مُعتمة»
bid27_image_p.78-79.jpg
على امتداد سطح الماء، وفي بواكير الصباح المشرقة، تبدو المساجد وقد غمرتْها ألوان الشمّام العسليّة الفاضحة النديّة. ها هو المسجد الأزرق بمناراته الستِّ المسلولة. أيا صوفيا الضخمة القابعة على إحدى التلال وتهيمن على مناراتها التي تبدو مجرّد حرّاسٍ لنَهد. وهناك المسجد المسمّى الجديد، الذي اكتمل بناؤه عام ١٦٦٠. في الأيّام الملبّدة بالغيوم، تبدو المباني نفسُها بليدةً ورماديّة على امتداد المضيق، أشبهَ بجلد شبّوطٍ مطبوخ. أستحضرُ الآن مشهد ثكنات السليميّة القائمة.
آلافٌ من قناديل البحر من جميع الأحجام، واسعة كالأطباق وصغيرة كأكواب البَيض، تتقلّص وتتّسع في التيّار. إنّها حليبيّة المظهر وشبه شفّافة. لقد قضى التلوّث المحلّي على أسماك الإسقمري التي كانت تأكل قناديل البحر، ومن هنا انتشارُها بمئات الآلاف. وهي بالمفهوم الشعبيّ، تسمّى «فُروج الماء».
في المركب
مئات من الناس يكتظّ بهم المركب. أكثرهم ينتقّلون جيئةً وذهابًا كلّ يوم. قلّة منهم، ممّن يتميّزون عن غيرهم بملابسهم وأماراتُ الدهشة البادية على وجوههم، يعْبرون المضيق إلى أوروبا للمرّة الأولى وقد جاؤوا من مناطقَ نائية في الأناضول. هناك امرأة في الخامسة والثلاثين من العمر، تضع وشاحًا على شعرها وترتدي سروالًا قطنيًّا فضفاضًا، تجلس على الجزء العلويّ من سطح السفينة تحت أشعّة الشمس المتلألئة على صفحة الماء.
سهل الأناضول الأوسط، الذي تحيط به الجبال، وتغمره الثلوج العميقة شتاءً والغبار الصخري صيفًا، كان الموقعَ الأوّل للزراعة في العصر الحجريّ الحديث، وكانت المجتمعات مُسالمةً ذاتَ بنية أموميّة. أمّا اليوم، فقد تآكلت وأخذ يهدّدها التصحّر. القرى يهيمن عليها الآغاوات، والمسؤولون اللصوص، وهم أيضًا من ملّاك الأرض. ولم يكن ثمّة إصلاحٌ زراعيّ فعّال. ويراوح معدّل الدخل السنويّ بين عشرة وعشرين جنيهًا إنكليزيًّا.
بإصرارٍ، تمْسك المرأة بيد زوجها. إنّه كل ما تبقّى لها ممّا ألِفَتْه في حياتها. ينظران معًا عبر الأفق الساطع الأخّاذ العطر لنصف المدينة. اليد التي تمسك بها تشبه كثيرًا من الأيدي التي ترتاح على الأحضان على سطح السفينة. ويتجلّى الرمز الشعبيّ ليد الرجل التركيّ: يد عريضة، ثقيلة وأسمن ممّا تتصوّر (حتى عندما يصاب الجسم بالهزال) وقاسية وقويّة. إنّها الأيدي التي لا يبدو أنّها قد نبتت في الأرض ككروم العنب كأيدي الفلاحين الإسبان، على سبيل المثال، ولكنّها أشبه بأيدي البدو الرحّل التي تشقّ الأرض طولًا وعرضًا.
في معرض حديثه عن سرديّاته الشعريّة، قال ناظم حكمت ذات يوم إنّه كان يريد أن يكتب شعرًا كأنّه القماش الذي تُصنع منه القمصان، قماش ناعم جدًّا، نصفُه حرير، ونصفه قطن: والحرير ديموقراطي أيضًا لأنّه يمتصّ العَرَق.
امرأة متسوّلة تقف على مقربةٍ من الباب المؤدي إلى الصالة في سطح السفينة السفلي. بالمقارنة مع يدي الرجل الثقيلتين، تبدو يدا المرأة رقيقتين. إنّهما من الأيدي التي تجبل روث البقر وتكوّره ليجفّ ويُحرَق في وسط منطقة الأناضول، إنّهما اليدان اللتان تضفران شعر البنت في جدائل. وعلى ذراعها، تحمل المرأة المتسوّلة سلّةً من القطط المريضة استدرارًا للعطف والمعونة، وذلك هو مصدر الرزق الذي تقيم به أودها. وأكثر من يمرّون بها يضعون قطعةً من العملة المعدنيّة في يدهاالممدودة.
تستجمع أحيانًا الانطباعات الأوليّة بعض رواسب القرون الغابرة. فاليد البدويّة ليست صورةً فحسب، إنّ لها تاريخًا حافلًا. وفي غضون ذلك، فإنّ من يتولّون التعذيب يستطيعون، خلال أيّام قلائل، تحطيم أجهزة عصبيّة برمّتها. إنّ جهنّم السياسة وهو السبب الذي يوجب على السياسات اصطناع الطوباويّات، يكمن في أنّ عليها أن تمتطي الزمنيَن كليهما في آنٍ معًا: آلاف السنين والأيّام القلائل. أستحضرُ صورة صديق قد يُعاد إلى السجن مرّة أخرى، وصورة زوجته وأطفاله. إنّها المرّة التاسعة، منذ قيام الجمهوريّة، التي تُعلن فيها الأحكام العرفيّة للتعامل مع الاضطرابات الداخليّة. ما زلتُ أرى ملابسه معلّقةً بترتيبٍ في خزانة الملابس.
عندما تمرّ العبّارة في الخليج، تتجلّى إحدى عشرة مئذنة، وبوسعك عندها أن ترى بوضوح المداخنَ محدودبة القباب لمطابخ قصر السلطان. ها هو قصر توپكابي الذي كان يضمّ بين جدرانه من النفائس وأمارات البذخ ما جعله يأخذ بألباب الغرب، بيد أنّه، كما تستطيع أن ترى اليوم، ليس أكثر من نصب تذكاريّ ومتاهةٍ من مظاهر جنون العظمة الملكيّة.
الهجرة والبطالة
عندما تنثني السفينة وتسير عكس التيّار، تنفث مدخنتُها دخان الديزل الأسود الذي يحجب توپكابي عن الأنظار. إنّ أربعين بالمئة من سكان إسطنبول يعيشون في بلدات من بيوت الصفيح مخفيّة عن مركز المدينة. وبلدات الصفيح هذه التي يقطن في كلٍّ منها ٢٥ ألف نسمة على الأقلّ مكتظة وغير صحيّة وبائسة. إنّها مواقع يترعرع فيها الاستغلال بأبشع صوَره (إذ يباع بيت الصفيح فيها بما يبلغ خمسة آلاف جنيه استرليني).
غير أنّ قرار الهجرة إلى المدينة ليس قرارًا غبيًّا. إنّ نحو ربع الرجال الذين يقيمون في بلدات الصفيح متعطّلون، أمّا الثلاثة أرباع الآخرون فهم يعملون مقابل مبلغ زهيد، ومع ذلك لا يمكن تصوّره في القرية. ذلك أنّ معدل الأجر في المدينة يراوح بين عشرين وثلاثين جنيهًا في الأسبوع.
لقد خطّطَ الفاشيّون لمجزرة مرعش بدعمٍ من وكالة الاستخبارات المركزيّة (سي. آي إي.). غير أنّ ذلك هو أقلُّ القليل ممّا تجدر معرفته. فقد كتب إريك هوبزباوم مؤخّرًا أنّ مثقّفي اليسار لم يدينوا الإرهاب إلّا بعد زمن طويل. ويعمل الإرهاب اليساريّ في تركيا اليوم لصالح أولئك الذين يريدون استعادة الدولة البوليسيّة اليمينيّة التي قامت بين العامين ١٩٥٠ و١٩٦٠ فيقدّمون بذلك خدمة هائلة لـ‘الآغوات’.
مهما كان حجم التنديد الموجّه للإرهاب، علينا الإقرار بأنّ جاذبيّته الشعبيّة (للأقليّة) إنّما تنبع من تجربةٍ محكومة بأنْ تظلّ بعيدةً كل البعد عن مثل هذه الاعتبارات التكتيكية أو الأخلاقية. إنّ العنف الشعبيّ، شأنه شأن سوق العمل، تَعسُّفيٌّ لا أكثر. إنّ اندلاع العنف، سواء بتشجيعٍ من اليمين أو اليسار، إنّما يتغذّى من العنف المكبوت لعددٍ لا حصر له من المبادرات التي لم تنفَّذ بعد. وهذه الفورات هي من نواتج الكساد، تلهبها الوعود التي لا يتمّ الوفاء بها. فمنذ أكثر من خمسين عامًا، عندما قامت جمهوريّة أتاتورك على أنقاض السلطنة، وُعِد فلّاحو وسط الأناضول، الذين حاربوا لنَيْل استقلالهم، بالأرض وبالوسائل الكفيلة بفلاحتها. غير أنّ التغيّرات التي حدثت منذئذ لم تسفر إلّا عن مزيدٍ من المعاناة.
في قاعة السطح السفلي للسفينة، رشا أحدُ البائعين الحرّاسَ ليسمحوا له بالبيع، ورفع عاليًا أمام الجميع، قرطاسًا ورقيًّا يضمّ حزمةً من الإبر. إنّه يتحدّث بصوت خفيض ناعم. أغلب الجالسين أو الواقفين حوله من الرجال. على القرطاس الذي يحوي خمس عشرة إبرةً مختلفة الأحجام، طُبعت بالإنكليزيّة عبارة «كتاب الإبر للبيت السعيد». وحول هذا العنوان رسوم لثلاث نساء بيضٍ يعتمرن قبّعاتٍ ويزيِّنَّ شعرهنّ بشرائط. الإبر والقرطاس من صنع اليابان.
يطلب البائع عشرين بنسًا لكلٍّ منها. ببطء، يقْدم الرجال على الشراء. إنّها صفقةٌ مربحة، وهديّة مرغوبة. بعنايةٍ يدسّ كلٌّ منهم القرطاس في أحد جيوب معطفه الرقيق. سيقدّمونها الليلة لزوجاتهم، كما لو أنّ الإبر كانت بذورًا تُزرع في حديقة.
إسطنبول بين خارجٍ وداخل
في إسطنبول، في بلدات الصفيح كما في الأماكن الأخرى منها، تكون أقسام المنزل الداخليّة مكانًا للراحة، في تناقض صارخٍ مع ما يدور خارج الباب. لهذه الأقسام الداخليّة معزّةٌ خاصّة، على ما فيها من اكتظاظ، وسقوفٍ متهالكة، واعوجاجٍ. إنّها فضاءات مثل الصلاة لأنّها، من ناحية، نقيضٌ لضوضاء العالم في الخارج، ومن ناحيةٍ أخرى، استعارةٌ مجازيّة لجنّة عدَن أو الفردوس. إنّ هذا الداخل يحمل معنى رمزيًّا كالفردوس: راحة، وأزهار، وفاكهة، وهدوء، وأقمشة ناعمة، وحلوى، ونظافة، وأنوثة. والعرض قد يكون قاهرًا (ومبتذلًا) كأنّه إحدى حجرات السلطان في جناح الحريم، أو قد يكون متواضعًا كالزخرفة المطبوعة على قطعةٍ من القماش القطنيّ الرخيص تغطّي إحدى الوسائد على أرضيّة بيت من الصفيح.
من الواضح أنّ أجاويد يحاول الآن الاستمرار في السيطرة على مبادرات الجنرالات الذين يتولّون مسؤوليّة الإدارة في كل إقليم. ما مالت التقاليد السياسيّة العسكريّة في مجالات السجن والاغتيال والإعلام قويّة في تركيا. وعند النظر إلى مظاهر السطوة والفساد في الإمبراطوريّة العثمانيّة، يجد الغرب ملائمًا أن يتغافل عن أنّ هذه الإمبراطوريّة هي التي حمَت تركيا من أوائل غزوات الرأسماليّة والاستعمار الغربي، ومن هيمنة المال على جميع جوانب السلطة الأخرى. يتضمّن رأس المال، في ثناياه، جميع الأشكال الأوليّة للنزعة الوحشيّة، ويجعل الأشكال القديمة أمرًا عفا الزمن عليه. وهذا التقادم يعطي للغرب أساسًا يقيم عليه ضروب النفاق الدوليّ، وآخرها قضايا «حقوق الإنسان».
يقف أحد الرجال عند حاجز السفينة محدقًا في وميض الماء و«فروج الماء» الشبحيّة. هذه السفينة، وعمرها سبع عشرَةَ سنة، صُنعت في مشاغل شركة «فيرفيلد شيبلدنغ آند إنجنيرنغ» في غوفان، بغلاسكو [اسكوتلندا]. قبل خمس سنوات، كان هذا الرجل إسكافيًّا في قريةٍ لا تبعد كثيرًا عن «بولو» [تركيا]. وكان صُنع حذاءٍ واحدٍ يستغرق منه يومين، ثمّ بدأت أحذية المصانع بالوصول إلى المدينة لتباع بسعرٍ أقلّ من سعره. وكانت أحذية المصانع الرخيصة تعني أن بعض الأطفال في بعض القرى لم يعودوا يسيرون حفاة. عندما عجز الإسكافيّ عن بيع أحذيته، توجّهَ إلى المصنع التابع للحكومة طالبًا العمل. فأبلغوه أنّ بوسعه أن يستأجر مكبساً لقصّ قطَع الجلد.
يتكوّن كلّ زوج من الأحذية من ثمانٍ وعشرين قطعة. إذا أراد الإسكافيّ استئجار الآلة، عليه أن يقصّ قطَع الجلد الضروريّة لخمسين ألف زوج من الأحذية في السنة. وصلت الآلة إلى محلّه، ولم تكن ثمّة مساحة كافية إلّا له وهو يجلس على مقعدٍ إلى جانب الآلة.
أُبلغ الإسكافيّ في السنة التالية أنّه إذا أراد أن يحتفظ بالآلة، فإنّ عليه أن يقصّ من القطع ما يكفي لمئة ألف زوجٍ من الأحذية. قال إنّ ذلك مستحيل. لكنّ ذلك كان ممكنًا على أيّة حال. كان يعمل اثنتي عشرة ساعةً خلال ساعات النهار بينما يعمل شقيق زوجته اثنتي عشرة ساعة أخرى خلال الليل. في الحجرة العليا، التي كانت بمثابة الفردوس، لم يعدْ يتوقّف صوتُ المكبس على الإطلاق طيلة النهار والليل. خلال سنة واحدةٍ، قصّ الرجلان ما يقرب من ثلاثة ملايين قطعة.
ذات ليلة هشَّم الإسكافيُّ يده اليسرى، وصمتَت الآلة. ساد الصمت تحت السجادة في الحجرة العليا. نُقلت الآلة في إحدى الشاحنات وأُعيدت إلى المصنع. بعدها، جاء الإسكافيّ ليعمل في إسطنبول. عندما روى حكايته، تجلّت في عينيه تعبيراتٌ مألوفة تشاهدها في عيون أعداد لا حصر لها من الرجال في إسطنبول. هؤلاء الرجال لم يعودوا شبابًا، إلّا أنّ نظرتهم لا تدلّ على الاستسلام، فهي أكثر حدّةً من ذلك. كلّ واحد منهم ينظر إلى حياته بالدرجة نفسها من الإدراك والحماية والاستغراق التي ينظر فيها إلى ابنه. إنّها مفارقة إسلاميّة هادئة.
إنّ التناقضات الذاتيّة في إسطنبول لا تتجلّى بين التعقّل واللاتعقّل، ولا بين الفضيلة والرذيلة، ولا بين المؤمنين والكفَرة، ولا بين الغنى والفقر على الرغم من ضخامة التعارض الموضوعيّ بين هذا وذاك. إنّها، أو كما تبدو لي، تناقضٌ بين النقاء والبذاءة.
هذا الاستقطاب يشمل الداخل والخارج، ولكنّه يذهب إلى أبعدَ من ذلك، فهو على سبيل المثال، لا يفصل بين السجّادة والأرض فحسب، بل كذلك بين الحليب والبقرة، والعطر والعفَن، واللذّة والألم. إنّ جوانب الترف الشعبيّة ومنها حلاوة العسل بين الأسنان، وملمس الحرير، والبريق للعين، والمنعش للأنفاس قد حقّقتْ بعض التعديل على البذاءة التي تغمر العالم. هناك العديد من التعبيرات والشتائم الشعبيّة التركيّة التي تدور حول هذا الاستقطاب. يقولون عن الشخص المدّعي أنّه «يحسب أنّه ورق البقدونس في خراء كلّ الناس».
عند تطبيق استقطاب النقاء/ البذاءة نفسه على التمييز الطبقيّ، يدخل الاستقطاب في باب الرذائل. إنّ وجوه نساء إسطنبول البورجوازيّات الثريات، التي أعياها الكسل وأسمنَتْها الحلويات، هي من أكثر الوجوه عديمة الرحمة التي شاهدت في حياتي.
عندما كان بعض أصدقائي سجناء في ثكنات السليميّة، كانت زوجاتهم يحملن إليهم باقاتٍ من الورود وزهر الليمون.
كانت العبّارة تنقل الشاحنات كذلك. وعلى اللوحة الخلفيّة لإحدى الشاحنات القادمة من قونيا كُتبت هذه العبارة: «ما أحصّلُه من مال هو ما أكسبه بعرق جبيني. أدعو الله أن يبارك مسعاي». أما السائق الأشيب، فيستند إلى غطاء محرّك الشاحنة وهو يحتسي الشاي من كأس يحيط بها إطار مذهّب. ثمّة باعةٌ على أسطح جميع السفن يبيعون الشاي في هذه الكؤوس مع طاسات من السكّر على صوانٍ نحاسيّة لامعة، والشاربون يحتسون الشاي، ويسترخون، ويحدّقون في مياه البوسفور المتلألئة. وعلى الرغم من أنّ هذه العبّارات تنقل آلافًا مؤلّفةً من الركّاب كلّ يوم، فإنّ مرافقها الخارجيّة نظيفة مثل أجزائها الداخليّة، بل إنّ الشوارع لا تضاهي أسطح هذه السفن من حيث النظافة.
على قلقٍ مثل بساط فوق الماء
على كلّ جنب من جانبَي الشاحنة القادمة من قونيا، رسم السائق مشهدين طبيعيّين صغيرين تظهر في كلّ منهما بحيرة تحيط بها التلال، وفوقها العين اللوزيّة، التي ترى كل شيء، أهدابها الطويلة كأهداب عروس. ومياه البحيرتين المرسومة توحي بالسلام والسكينة. فيما هو يحتسي الشاي، يتحدّث السائق مع ثلاثة رجال قصار سُمر عيونُهم مشبعة بالعاطفة. ربما كانت عاطفة شخصيّة، لكنّها كذلك العاطفةُ التي تراها في جميع أنحاء العالم في عيون الأقلّيّات المقموعة وعزيزة النفس. هؤلاء الرجال الثلاثة هم من الكرد.
في الشارعين الرئيسين في إسطنبول، كما في الشوارع الخلفيّة التي تتجوّل فيها الصيصان والغنم، تشاهد العتّالين يحملون صررًا من القماش والصفائح المعدنيّة والأثاث وعلب التغليف. أكثر هؤلاء العتّالين من الأناضول الشرقيّة، على الحدود العراقيّة والإيرانيّة. هم يحملون كل ما لا تستطيع الشاحنات نقله. ولأنّ الجانب الصناعيّ من المدينة مكتظٌّ بالمشاغل الصغيرة في شوارعَ ضيّقة لا تستطيع عبورَها الشاحنات، فإنّ أمام العتّالين الكثيرَ من الأحمال لنقلها من مشغلٍ إلى آخر.
لقد ثُبِّت في ظهورهم نوع من السرج تتكوَّم فوقه الأحمال التي تُربط بالحبال وترتفع إلى ما فوق رؤوسهم. ترغمهم طريقة الحمل هذه وثقل الحمولة على الاحديداب. إنّهم ينوءون بأحمالهم عندما يسيرون كما لو كان الواحد منهم موسى جيبٍ نصف مغلقة. يصغي الرجال الثلاثة الآن لسائق الشاحنة، جالسين على سروجهم يحتسون الشاي، يحدّقون في المياه ويرمون بأبصارهم إلى مشارف «القرن الذهبي». تتجمّع الحبال التي يحزمون بها الأحمال مرخيّة بين أقدامهم وسطح العبّارة.
تستغرق عمليّة العبور، بمجملها، عشرين دقيقة (أي ما يعادل الوقت الذي تتطلّبه قراءة هذه المقالة). على مقربةٍ من الرصيف، تتأرجح الزوارق بمجاذيفها على المياه المتلاطمة، وتشتعل النيران في بعضها، متراقصةً على إيقاع الأمواج المصطخبة. وعلى هذه النيران، يقوم الرجال بقلي الأسماك التي يبيعونها لمن يتوجّهون إلى أعمالهم.
وراء مقالي السمك هذه، التي هي بوسع الزورق، تتحرّك المدينة بكلّ ضوضائها وطاقاتها: المشاغل، والأسواق، والمافيا، و«جسر غلاطه» الذي يتّسع عموماً لعشرين عابرًا يصطفّون جنبًا إلى جنب. (والجسر من النوع العائم، وهو يترجرج على الدوام، وبصورة خفيّة، كخاصرتَي حصان)، والمدارس، ومكاتب الصحف، ومدن الصفيح، والمقاصب، ومقارّ الأحزاب السياسيّة، وصانعو الأسلحة، والتجّار، والمتسوّلون.
هذه هي لحظات السلام الأخيرة قبل أن يشغّل السائقُ محرّك الشاحنة ويسارع العتّالون إلى مؤخّرة السفينة ليكونوا أوّل من يقفز إلى اليابسة.
يجمع بائعو الشاي الكؤوس الفارغة، ويبدو الأمر كما لو أنّ عبور مضيق البوسفور يثير في النفس ما أثارَته البحيرتان المرسومتان من مشاعر: كأنّ هذه السفينة، التي صُنعت في غلاسكو عام ١٩٦١، قد غدت بساط ريح ضخمًا معلّقًا في الزمان فوق المياه المشرقة، بين البيت والعمل، وبين الجهد والجهد، وبين قارّتين. وهذا التعليق، الذي أتذكّره بكلّ وضوح، يطابق مصير تلك البلاد في هذه الآونة.
فيمَ الحاجة إلى وصف البلاط في جامع رستم باشا بلونيه العميقين الأحمر والأخضر اللذين يغيضان في لون أخضر أكثر عمقًا في مدينةٍ أُعلنت فيها الأحكام العرفيّة على التوّ؟
باللغة التركيّة، تعني كلمة البوسفور ‘مضيق الحنجرة’، أي موضع الخانوق أو الخنّاق. منذ آلاف السنين، برز هذا الموقع في جميع الاستراتيجيّات العالميّة. سنة ١٩٤٧، أبدى ترومان اهتمامًا استراتيجيًّا جوهريًّا بتركيا، وهو ما فعلتْه بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى. ولكن بينما خاض الأتراك حرب الاستقلال (١٩١٨ - ١٩٢٨) ضدّ الزعْم الأوّل، فقد تولّاهم العجز في ما يتعلّق بالثاني.
تواصَل التدخّل الأميركيّ في السياسات التركيّة منذ ذلك الحين. لم يكن ثمّة من يشكّ، في تركيّا، في أنّ برنامج القلقلة اليمينيّ يتمتّع بدعم وكالة الاستخبارات الأميركيّة (سي. آي. إي). ربّما تخشى الولايات المتّحدة أمرين: مضاعفات سقوط شاه إيران في تركيّا، إلّا إذا قامت حكومة ‘قويّة’ في أنقرة، وبرنامج أجاويد الإصلاحيّ الذي لم يكن، على ما فيه من اعتدال، يتواءم مع المصالح الغربيّة، ويعزّز الوعود التي طرحتْها حركة أتاتورك الاستقلاليّة. ومن جملة النتائج العديدة التي ستسفر عنها إطاحة أجاويد، أنّ المسؤولين عن التعذيب الذين درّبهم الأميركيّون، سيعودون إلى تولّي مناصبهم في السجون.
عندما تغادر العبّارة مرفأ ‘قاضي كوي’ على الجانب الآسيويّ من البوسفور، فإنّك ستشاهد على الجهة اليمنى صفوف ثكنات «السليميّة» الهائلة، بأبراجها الأربعة التي تتولّى حراسة كلَّ واحدة من الزوايا. وفي عام ١٩٧١ الذي أُعلنتْ فيه الأحكام العرفيّة في إسطنبول للمرّة الأخيرة جرى هناك استجواب العديد من السجناء السياسيّين (وأغلبهم من اليساريّين). وإذا نظرتَ إلى الجانب الآخر، فسترى محطّة حيدر باشا للسكّة الحديد والكوابح الحديديّة القائمة على بُعد عدة ياردات من المياه، توقّف القطارات الآتية من بغداد وكلكتّا وغوا. لقد كتب ناظم حكمت، الذي أمضى ثلاث عشرة سنة في السجون التركيّة، عدّة مقطوعات شعريّة حول محطّة القطار هذه:
«رائحة السمك الآتية من البحر
حشرات البقّ على المقاعد
لقد وفد الربيع إلى المحطة
السلال والأكياس
تنزل على درج المحطة
تصعد درج المحطة
تتوقّف على درج المحطة
وإلى جانب أحد رجال الشرطة
يهبط الدرجَ صبيٌّ — في الخامسة، وربما أقلّ —
لم يكن لديه يومًا أوراقٌ ثبوتيّة
لكنّ اسمه ‘كمال’
كيسٌ
كيسٌ من السجاد يصعد الدرج
وكمال يهبط الدرج
حافيًا، عاريَ الصدر،
وحيدًا تمامًا
في هذا العالم الجميل
ليس لديه ما يتذكّره إلّا الجوع
وعلى نحوٍ غامض
ذكرى امرأة في حجرةٍ مُعتمة»
bid27_image_p.78-79.jpg
على امتداد سطح الماء، وفي بواكير الصباح المشرقة، تبدو المساجد وقد غمرتْها ألوان الشمّام العسليّة الفاضحة النديّة. ها هو المسجد الأزرق بمناراته الستِّ المسلولة. أيا صوفيا الضخمة القابعة على إحدى التلال وتهيمن على مناراتها التي تبدو مجرّد حرّاسٍ لنَهد. وهناك المسجد المسمّى الجديد، الذي اكتمل بناؤه عام ١٦٦٠. في الأيّام الملبّدة بالغيوم، تبدو المباني نفسُها بليدةً ورماديّة على امتداد المضيق، أشبهَ بجلد شبّوطٍ مطبوخ. أستحضرُ الآن مشهد ثكنات السليميّة القائمة.
آلافٌ من قناديل البحر من جميع الأحجام، واسعة كالأطباق وصغيرة كأكواب البَيض، تتقلّص وتتّسع في التيّار. إنّها حليبيّة المظهر وشبه شفّافة. لقد قضى التلوّث المحلّي على أسماك الإسقمري التي كانت تأكل قناديل البحر، ومن هنا انتشارُها بمئات الآلاف. وهي بالمفهوم الشعبيّ، تسمّى «فُروج الماء».
في المركب
مئات من الناس يكتظّ بهم المركب. أكثرهم ينتقّلون جيئةً وذهابًا كلّ يوم. قلّة منهم، ممّن يتميّزون عن غيرهم بملابسهم وأماراتُ الدهشة البادية على وجوههم، يعْبرون المضيق إلى أوروبا للمرّة الأولى وقد جاؤوا من مناطقَ نائية في الأناضول. هناك امرأة في الخامسة والثلاثين من العمر، تضع وشاحًا على شعرها وترتدي سروالًا قطنيًّا فضفاضًا، تجلس على الجزء العلويّ من سطح السفينة تحت أشعّة الشمس المتلألئة على صفحة الماء.
سهل الأناضول الأوسط، الذي تحيط به الجبال، وتغمره الثلوج العميقة شتاءً والغبار الصخري صيفًا، كان الموقعَ الأوّل للزراعة في العصر الحجريّ الحديث، وكانت المجتمعات مُسالمةً ذاتَ بنية أموميّة. أمّا اليوم، فقد تآكلت وأخذ يهدّدها التصحّر. القرى يهيمن عليها الآغاوات، والمسؤولون اللصوص، وهم أيضًا من ملّاك الأرض. ولم يكن ثمّة إصلاحٌ زراعيّ فعّال. ويراوح معدّل الدخل السنويّ بين عشرة وعشرين جنيهًا إنكليزيًّا.
بإصرارٍ، تمْسك المرأة بيد زوجها. إنّه كل ما تبقّى لها ممّا ألِفَتْه في حياتها. ينظران معًا عبر الأفق الساطع الأخّاذ العطر لنصف المدينة. اليد التي تمسك بها تشبه كثيرًا من الأيدي التي ترتاح على الأحضان على سطح السفينة. ويتجلّى الرمز الشعبيّ ليد الرجل التركيّ: يد عريضة، ثقيلة وأسمن ممّا تتصوّر (حتى عندما يصاب الجسم بالهزال) وقاسية وقويّة. إنّها الأيدي التي لا يبدو أنّها قد نبتت في الأرض ككروم العنب كأيدي الفلاحين الإسبان، على سبيل المثال، ولكنّها أشبه بأيدي البدو الرحّل التي تشقّ الأرض طولًا وعرضًا.
في معرض حديثه عن سرديّاته الشعريّة، قال ناظم حكمت ذات يوم إنّه كان يريد أن يكتب شعرًا كأنّه القماش الذي تُصنع منه القمصان، قماش ناعم جدًّا، نصفُه حرير، ونصفه قطن: والحرير ديموقراطي أيضًا لأنّه يمتصّ العَرَق.
امرأة متسوّلة تقف على مقربةٍ من الباب المؤدي إلى الصالة في سطح السفينة السفلي. بالمقارنة مع يدي الرجل الثقيلتين، تبدو يدا المرأة رقيقتين. إنّهما من الأيدي التي تجبل روث البقر وتكوّره ليجفّ ويُحرَق في وسط منطقة الأناضول، إنّهما اليدان اللتان تضفران شعر البنت في جدائل. وعلى ذراعها، تحمل المرأة المتسوّلة سلّةً من القطط المريضة استدرارًا للعطف والمعونة، وذلك هو مصدر الرزق الذي تقيم به أودها. وأكثر من يمرّون بها يضعون قطعةً من العملة المعدنيّة في يدهاالممدودة.
تستجمع أحيانًا الانطباعات الأوليّة بعض رواسب القرون الغابرة. فاليد البدويّة ليست صورةً فحسب، إنّ لها تاريخًا حافلًا. وفي غضون ذلك، فإنّ من يتولّون التعذيب يستطيعون، خلال أيّام قلائل، تحطيم أجهزة عصبيّة برمّتها. إنّ جهنّم السياسة وهو السبب الذي يوجب على السياسات اصطناع الطوباويّات، يكمن في أنّ عليها أن تمتطي الزمنيَن كليهما في آنٍ معًا: آلاف السنين والأيّام القلائل. أستحضرُ صورة صديق قد يُعاد إلى السجن مرّة أخرى، وصورة زوجته وأطفاله. إنّها المرّة التاسعة، منذ قيام الجمهوريّة، التي تُعلن فيها الأحكام العرفيّة للتعامل مع الاضطرابات الداخليّة. ما زلتُ أرى ملابسه معلّقةً بترتيبٍ في خزانة الملابس.
عندما تمرّ العبّارة في الخليج، تتجلّى إحدى عشرة مئذنة، وبوسعك عندها أن ترى بوضوح المداخنَ محدودبة القباب لمطابخ قصر السلطان. ها هو قصر توپكابي الذي كان يضمّ بين جدرانه من النفائس وأمارات البذخ ما جعله يأخذ بألباب الغرب، بيد أنّه، كما تستطيع أن ترى اليوم، ليس أكثر من نصب تذكاريّ ومتاهةٍ من مظاهر جنون العظمة الملكيّة.
الهجرة والبطالة
عندما تنثني السفينة وتسير عكس التيّار، تنفث مدخنتُها دخان الديزل الأسود الذي يحجب توپكابي عن الأنظار. إنّ أربعين بالمئة من سكان إسطنبول يعيشون في بلدات من بيوت الصفيح مخفيّة عن مركز المدينة. وبلدات الصفيح هذه التي يقطن في كلٍّ منها ٢٥ ألف نسمة على الأقلّ مكتظة وغير صحيّة وبائسة. إنّها مواقع يترعرع فيها الاستغلال بأبشع صوَره (إذ يباع بيت الصفيح فيها بما يبلغ خمسة آلاف جنيه استرليني).
غير أنّ قرار الهجرة إلى المدينة ليس قرارًا غبيًّا. إنّ نحو ربع الرجال الذين يقيمون في بلدات الصفيح متعطّلون، أمّا الثلاثة أرباع الآخرون فهم يعملون مقابل مبلغ زهيد، ومع ذلك لا يمكن تصوّره في القرية. ذلك أنّ معدل الأجر في المدينة يراوح بين عشرين وثلاثين جنيهًا في الأسبوع.
لقد خطّطَ الفاشيّون لمجزرة مرعش بدعمٍ من وكالة الاستخبارات المركزيّة (سي. آي إي.). غير أنّ ذلك هو أقلُّ القليل ممّا تجدر معرفته. فقد كتب إريك هوبزباوم مؤخّرًا أنّ مثقّفي اليسار لم يدينوا الإرهاب إلّا بعد زمن طويل. ويعمل الإرهاب اليساريّ في تركيا اليوم لصالح أولئك الذين يريدون استعادة الدولة البوليسيّة اليمينيّة التي قامت بين العامين ١٩٥٠ و١٩٦٠ فيقدّمون بذلك خدمة هائلة لـ‘الآغوات’.
مهما كان حجم التنديد الموجّه للإرهاب، علينا الإقرار بأنّ جاذبيّته الشعبيّة (للأقليّة) إنّما تنبع من تجربةٍ محكومة بأنْ تظلّ بعيدةً كل البعد عن مثل هذه الاعتبارات التكتيكية أو الأخلاقية. إنّ العنف الشعبيّ، شأنه شأن سوق العمل، تَعسُّفيٌّ لا أكثر. إنّ اندلاع العنف، سواء بتشجيعٍ من اليمين أو اليسار، إنّما يتغذّى من العنف المكبوت لعددٍ لا حصر له من المبادرات التي لم تنفَّذ بعد. وهذه الفورات هي من نواتج الكساد، تلهبها الوعود التي لا يتمّ الوفاء بها. فمنذ أكثر من خمسين عامًا، عندما قامت جمهوريّة أتاتورك على أنقاض السلطنة، وُعِد فلّاحو وسط الأناضول، الذين حاربوا لنَيْل استقلالهم، بالأرض وبالوسائل الكفيلة بفلاحتها. غير أنّ التغيّرات التي حدثت منذئذ لم تسفر إلّا عن مزيدٍ من المعاناة.
في قاعة السطح السفلي للسفينة، رشا أحدُ البائعين الحرّاسَ ليسمحوا له بالبيع، ورفع عاليًا أمام الجميع، قرطاسًا ورقيًّا يضمّ حزمةً من الإبر. إنّه يتحدّث بصوت خفيض ناعم. أغلب الجالسين أو الواقفين حوله من الرجال. على القرطاس الذي يحوي خمس عشرة إبرةً مختلفة الأحجام، طُبعت بالإنكليزيّة عبارة «كتاب الإبر للبيت السعيد». وحول هذا العنوان رسوم لثلاث نساء بيضٍ يعتمرن قبّعاتٍ ويزيِّنَّ شعرهنّ بشرائط. الإبر والقرطاس من صنع اليابان.
يطلب البائع عشرين بنسًا لكلٍّ منها. ببطء، يقْدم الرجال على الشراء. إنّها صفقةٌ مربحة، وهديّة مرغوبة. بعنايةٍ يدسّ كلٌّ منهم القرطاس في أحد جيوب معطفه الرقيق. سيقدّمونها الليلة لزوجاتهم، كما لو أنّ الإبر كانت بذورًا تُزرع في حديقة.
إسطنبول بين خارجٍ وداخل
في إسطنبول، في بلدات الصفيح كما في الأماكن الأخرى منها، تكون أقسام المنزل الداخليّة مكانًا للراحة، في تناقض صارخٍ مع ما يدور خارج الباب. لهذه الأقسام الداخليّة معزّةٌ خاصّة، على ما فيها من اكتظاظ، وسقوفٍ متهالكة، واعوجاجٍ. إنّها فضاءات مثل الصلاة لأنّها، من ناحية، نقيضٌ لضوضاء العالم في الخارج، ومن ناحيةٍ أخرى، استعارةٌ مجازيّة لجنّة عدَن أو الفردوس. إنّ هذا الداخل يحمل معنى رمزيًّا كالفردوس: راحة، وأزهار، وفاكهة، وهدوء، وأقمشة ناعمة، وحلوى، ونظافة، وأنوثة. والعرض قد يكون قاهرًا (ومبتذلًا) كأنّه إحدى حجرات السلطان في جناح الحريم، أو قد يكون متواضعًا كالزخرفة المطبوعة على قطعةٍ من القماش القطنيّ الرخيص تغطّي إحدى الوسائد على أرضيّة بيت من الصفيح.
من الواضح أنّ أجاويد يحاول الآن الاستمرار في السيطرة على مبادرات الجنرالات الذين يتولّون مسؤوليّة الإدارة في كل إقليم. ما مالت التقاليد السياسيّة العسكريّة في مجالات السجن والاغتيال والإعلام قويّة في تركيا. وعند النظر إلى مظاهر السطوة والفساد في الإمبراطوريّة العثمانيّة، يجد الغرب ملائمًا أن يتغافل عن أنّ هذه الإمبراطوريّة هي التي حمَت تركيا من أوائل غزوات الرأسماليّة والاستعمار الغربي، ومن هيمنة المال على جميع جوانب السلطة الأخرى. يتضمّن رأس المال، في ثناياه، جميع الأشكال الأوليّة للنزعة الوحشيّة، ويجعل الأشكال القديمة أمرًا عفا الزمن عليه. وهذا التقادم يعطي للغرب أساسًا يقيم عليه ضروب النفاق الدوليّ، وآخرها قضايا «حقوق الإنسان».
يقف أحد الرجال عند حاجز السفينة محدقًا في وميض الماء و«فروج الماء» الشبحيّة. هذه السفينة، وعمرها سبع عشرَةَ سنة، صُنعت في مشاغل شركة «فيرفيلد شيبلدنغ آند إنجنيرنغ» في غوفان، بغلاسكو [اسكوتلندا]. قبل خمس سنوات، كان هذا الرجل إسكافيًّا في قريةٍ لا تبعد كثيرًا عن «بولو» [تركيا]. وكان صُنع حذاءٍ واحدٍ يستغرق منه يومين، ثمّ بدأت أحذية المصانع بالوصول إلى المدينة لتباع بسعرٍ أقلّ من سعره. وكانت أحذية المصانع الرخيصة تعني أن بعض الأطفال في بعض القرى لم يعودوا يسيرون حفاة. عندما عجز الإسكافيّ عن بيع أحذيته، توجّهَ إلى المصنع التابع للحكومة طالبًا العمل. فأبلغوه أنّ بوسعه أن يستأجر مكبساً لقصّ قطَع الجلد.
يتكوّن كلّ زوج من الأحذية من ثمانٍ وعشرين قطعة. إذا أراد الإسكافيّ استئجار الآلة، عليه أن يقصّ قطَع الجلد الضروريّة لخمسين ألف زوج من الأحذية في السنة. وصلت الآلة إلى محلّه، ولم تكن ثمّة مساحة كافية إلّا له وهو يجلس على مقعدٍ إلى جانب الآلة.
أُبلغ الإسكافيّ في السنة التالية أنّه إذا أراد أن يحتفظ بالآلة، فإنّ عليه أن يقصّ من القطع ما يكفي لمئة ألف زوجٍ من الأحذية. قال إنّ ذلك مستحيل. لكنّ ذلك كان ممكنًا على أيّة حال. كان يعمل اثنتي عشرة ساعةً خلال ساعات النهار بينما يعمل شقيق زوجته اثنتي عشرة ساعة أخرى خلال الليل. في الحجرة العليا، التي كانت بمثابة الفردوس، لم يعدْ يتوقّف صوتُ المكبس على الإطلاق طيلة النهار والليل. خلال سنة واحدةٍ، قصّ الرجلان ما يقرب من ثلاثة ملايين قطعة.
ذات ليلة هشَّم الإسكافيُّ يده اليسرى، وصمتَت الآلة. ساد الصمت تحت السجادة في الحجرة العليا. نُقلت الآلة في إحدى الشاحنات وأُعيدت إلى المصنع. بعدها، جاء الإسكافيّ ليعمل في إسطنبول. عندما روى حكايته، تجلّت في عينيه تعبيراتٌ مألوفة تشاهدها في عيون أعداد لا حصر لها من الرجال في إسطنبول. هؤلاء الرجال لم يعودوا شبابًا، إلّا أنّ نظرتهم لا تدلّ على الاستسلام، فهي أكثر حدّةً من ذلك. كلّ واحد منهم ينظر إلى حياته بالدرجة نفسها من الإدراك والحماية والاستغراق التي ينظر فيها إلى ابنه. إنّها مفارقة إسلاميّة هادئة.
إنّ التناقضات الذاتيّة في إسطنبول لا تتجلّى بين التعقّل واللاتعقّل، ولا بين الفضيلة والرذيلة، ولا بين المؤمنين والكفَرة، ولا بين الغنى والفقر على الرغم من ضخامة التعارض الموضوعيّ بين هذا وذاك. إنّها، أو كما تبدو لي، تناقضٌ بين النقاء والبذاءة.
هذا الاستقطاب يشمل الداخل والخارج، ولكنّه يذهب إلى أبعدَ من ذلك، فهو على سبيل المثال، لا يفصل بين السجّادة والأرض فحسب، بل كذلك بين الحليب والبقرة، والعطر والعفَن، واللذّة والألم. إنّ جوانب الترف الشعبيّة ومنها حلاوة العسل بين الأسنان، وملمس الحرير، والبريق للعين، والمنعش للأنفاس قد حقّقتْ بعض التعديل على البذاءة التي تغمر العالم. هناك العديد من التعبيرات والشتائم الشعبيّة التركيّة التي تدور حول هذا الاستقطاب. يقولون عن الشخص المدّعي أنّه «يحسب أنّه ورق البقدونس في خراء كلّ الناس».
عند تطبيق استقطاب النقاء/ البذاءة نفسه على التمييز الطبقيّ، يدخل الاستقطاب في باب الرذائل. إنّ وجوه نساء إسطنبول البورجوازيّات الثريات، التي أعياها الكسل وأسمنَتْها الحلويات، هي من أكثر الوجوه عديمة الرحمة التي شاهدت في حياتي.
عندما كان بعض أصدقائي سجناء في ثكنات السليميّة، كانت زوجاتهم يحملن إليهم باقاتٍ من الورود وزهر الليمون.
كانت العبّارة تنقل الشاحنات كذلك. وعلى اللوحة الخلفيّة لإحدى الشاحنات القادمة من قونيا كُتبت هذه العبارة: «ما أحصّلُه من مال هو ما أكسبه بعرق جبيني. أدعو الله أن يبارك مسعاي». أما السائق الأشيب، فيستند إلى غطاء محرّك الشاحنة وهو يحتسي الشاي من كأس يحيط بها إطار مذهّب. ثمّة باعةٌ على أسطح جميع السفن يبيعون الشاي في هذه الكؤوس مع طاسات من السكّر على صوانٍ نحاسيّة لامعة، والشاربون يحتسون الشاي، ويسترخون، ويحدّقون في مياه البوسفور المتلألئة. وعلى الرغم من أنّ هذه العبّارات تنقل آلافًا مؤلّفةً من الركّاب كلّ يوم، فإنّ مرافقها الخارجيّة نظيفة مثل أجزائها الداخليّة، بل إنّ الشوارع لا تضاهي أسطح هذه السفن من حيث النظافة.
على قلقٍ مثل بساط فوق الماء
على كلّ جنب من جانبَي الشاحنة القادمة من قونيا، رسم السائق مشهدين طبيعيّين صغيرين تظهر في كلّ منهما بحيرة تحيط بها التلال، وفوقها العين اللوزيّة، التي ترى كل شيء، أهدابها الطويلة كأهداب عروس. ومياه البحيرتين المرسومة توحي بالسلام والسكينة. فيما هو يحتسي الشاي، يتحدّث السائق مع ثلاثة رجال قصار سُمر عيونُهم مشبعة بالعاطفة. ربما كانت عاطفة شخصيّة، لكنّها كذلك العاطفةُ التي تراها في جميع أنحاء العالم في عيون الأقلّيّات المقموعة وعزيزة النفس. هؤلاء الرجال الثلاثة هم من الكرد.
في الشارعين الرئيسين في إسطنبول، كما في الشوارع الخلفيّة التي تتجوّل فيها الصيصان والغنم، تشاهد العتّالين يحملون صررًا من القماش والصفائح المعدنيّة والأثاث وعلب التغليف. أكثر هؤلاء العتّالين من الأناضول الشرقيّة، على الحدود العراقيّة والإيرانيّة. هم يحملون كل ما لا تستطيع الشاحنات نقله. ولأنّ الجانب الصناعيّ من المدينة مكتظٌّ بالمشاغل الصغيرة في شوارعَ ضيّقة لا تستطيع عبورَها الشاحنات، فإنّ أمام العتّالين الكثيرَ من الأحمال لنقلها من مشغلٍ إلى آخر.
لقد ثُبِّت في ظهورهم نوع من السرج تتكوَّم فوقه الأحمال التي تُربط بالحبال وترتفع إلى ما فوق رؤوسهم. ترغمهم طريقة الحمل هذه وثقل الحمولة على الاحديداب. إنّهم ينوءون بأحمالهم عندما يسيرون كما لو كان الواحد منهم موسى جيبٍ نصف مغلقة. يصغي الرجال الثلاثة الآن لسائق الشاحنة، جالسين على سروجهم يحتسون الشاي، يحدّقون في المياه ويرمون بأبصارهم إلى مشارف «القرن الذهبي». تتجمّع الحبال التي يحزمون بها الأحمال مرخيّة بين أقدامهم وسطح العبّارة.
تستغرق عمليّة العبور، بمجملها، عشرين دقيقة (أي ما يعادل الوقت الذي تتطلّبه قراءة هذه المقالة). على مقربةٍ من الرصيف، تتأرجح الزوارق بمجاذيفها على المياه المتلاطمة، وتشتعل النيران في بعضها، متراقصةً على إيقاع الأمواج المصطخبة. وعلى هذه النيران، يقوم الرجال بقلي الأسماك التي يبيعونها لمن يتوجّهون إلى أعمالهم.
وراء مقالي السمك هذه، التي هي بوسع الزورق، تتحرّك المدينة بكلّ ضوضائها وطاقاتها: المشاغل، والأسواق، والمافيا، و«جسر غلاطه» الذي يتّسع عموماً لعشرين عابرًا يصطفّون جنبًا إلى جنب. (والجسر من النوع العائم، وهو يترجرج على الدوام، وبصورة خفيّة، كخاصرتَي حصان)، والمدارس، ومكاتب الصحف، ومدن الصفيح، والمقاصب، ومقارّ الأحزاب السياسيّة، وصانعو الأسلحة، والتجّار، والمتسوّلون.
هذه هي لحظات السلام الأخيرة قبل أن يشغّل السائقُ محرّك الشاحنة ويسارع العتّالون إلى مؤخّرة السفينة ليكونوا أوّل من يقفز إلى اليابسة.
يجمع بائعو الشاي الكؤوس الفارغة، ويبدو الأمر كما لو أنّ عبور مضيق البوسفور يثير في النفس ما أثارَته البحيرتان المرسومتان من مشاعر: كأنّ هذه السفينة، التي صُنعت في غلاسكو عام ١٩٦١، قد غدت بساط ريح ضخمًا معلّقًا في الزمان فوق المياه المشرقة، بين البيت والعمل، وبين الجهد والجهد، وبين قارّتين. وهذا التعليق، الذي أتذكّره بكلّ وضوح، يطابق مصير تلك البلاد في هذه الآونة.