كنا حفنة من حثالة الواقع، يجمعنا الليل ورغبتنا في الهروب من أنفسنا، حميد لم يكن مطمئنا، مع أنه يعرف جل الأشخاص المتواجدين هنا، على عكسي أنا الذي أبدو غريبا. بعد ربع ساعة من وصولنا، انتصب أمامنا شاب أشقر، خلع قميصه لكي يظهر الندوب والوشوم الموزعة على ذراعيه وصدره وظهره، فعل ذلك وهو يردد مقطعا من أغنية "الصنارة" لعبد الهادي بلخياط..
شافوني الناس بالصنارة..
دازو قالو ليا مبروك..
ظنوني صياد مهارة..
وأنا القصيبة فيديا شوك..
إنه أحد الفاشلين، كان ليبدو مخيفا لولا لكنته الفاسية، التي تبدل حرف الراء بحرف الغين، فإذا به أشبه بصرصار أبيض اللون، حميد الذي يعتبر هذا النوع من استعراض العضلات تهديدا، قال ساخرا من الشاب: هل تحسب نفسك خالد بن الوليد؟ كأنك حصلت على هذه الندوب في سبيل الله.
تجاهل الأشقر كلام حميد، وتابع الغناء، فإذا بفتاة نحيفة بيضاء عارية البطن، تضع حلقة في أنفها، ترفع صوتها بغناء كالبكاء:
أيامي يانا مشات خسارة..
الحب للي كان ولا مشروك..
بجانبي يجلس شاب أسمر طويل القامة، ودود، أنيق الملبس، ودون سابق تعارف، ناولني سيجارة حشيش، ثم ما لبث أن همس لي أن حميد مشكلة حقيقية، لم أنزعج، فأنا على كل حال بمثابة الأخ لحميد، ولسوف أكون ذراعه الأيمن إن ساء الوضع.
مع علمي أن جل مرتادي هذا المكان من أبناء الميسورين، الذين تخطفهم الانحراف من ذويهم، استغربت حين عرفت أن والد تلك الفتاة الخرقاء المحطمة، أحد مشاهير رجال الأعمال، فأنى لرجل يقضي أوقاته في الأماكن الفخمة، أن يخطر له أن ابنته تتسكع في هذا المرآب المهجور القابع تحت عمارة وسخة في قلب المدينة؟
بعد لحظات ساد الهدوء، غشيت السكينة جاري الأسمر، وتوسدت الفتاة المسكينة ِحجر أحد السكارى مستسلمة لنوم عميق.
منتشيا بنكهة الحشيش، شردت عن نفسي، وماعدت أعرف في أي مكان من العالم أتواجد، أسندت ظهري للجدار البارد، فشعرت بعذوبة البقاء على قيد الحياة دون تفكير، لكنني مهما حاولت النأي بمشاعري عني، لا أعرف كيف أتخلص من إحساسي الدائم بالحزن، وهو شعور يقوى ويخف حسب الظروف، أحيانا أحزن حتى وإن كنت في حفلة راقصة.
بعد مرور قرابة نصف ساعة من الصمت المطبق، وكأننا مومياءات نائمة في قلب هرم لم يكتشفه المصريون بعد، أيقظني صوت حميد، وهو يهدد عبد العزيز، المالك اللاشرعي لهذا المكان. بينما يحاول عبد العزيز، تهدئة حميد للتفاوض معه بصوت منخفض. استرسل حميد قائلا:
- زوجتي انجبت ولدا أسميته محمد - لا أريده أن يكرر مأساتي.. ولولا أنني أرفض أن أطعمه الحرام، لم أكن لأطلب منك نقودا، كما أنها ليست هبة، إنه دين في عنقك وعليك أن تؤديه راضيا، أم أنك نسيت كيف كنت أدافع عنك في السجن؟ وأفرض على الجميع أن يعاملوك باحترام.
متوسلا قال عبد العزيز:
- هذا كل مايمكنني أن أساعدك به أخي الحبيب، والله إنني أحبك وأعتبرك بمثابة شقيقي الذي لم تلده أمي، كما أنني لست ابن حرام، حتى أنكر فضلك ومواقفك الشجاعة، فقط هناك ركود هذه الأيام، أقسمت عليك برب السماء والأرض، أن تأخذ الآن، هذه الألف درهم وتنصرف أنت وصديقك.
- لا دخل لك بصديقي..
- عفوا.. إنك حتى لم تخبرنا بمهنته..
- اطمئن إنه ليس شرطيا، ولا علاقة له بالشرطة..
- وجه صاحبك نظيف، وأنت تعرف، أصحاب الوجوه النظيفة، غير مرحب بهم هنا..
تريد أن تعرف مهنة صديقي..؟ حسنا.. إنه شاعر..!!
استغربتُ لهذا الجواب، كيف فكر حميد أن يكون الشعر مهنة؟ إنه معذور، إذ لم يسبق له أن رآني أعمل، منذ تعارفنا، وأنا أقضي وقتي في المقهى، أكتب وأدخن وأقرأ الروايات..
- مامعنى هذا لم أفهم؟ قال عبد العزيز..
- أيها الجاهل، شاعر، تعني مثقف، دماغ كبير، ليس كدماغك أيها المعتوه..
قالت فتاة شقراء تجلس غير بعيد عني:
- الشعراء يتبعهم الغاوون..
ضحك حميد لقولها وقال:
- وماذا تعرفين أنت عن الشعراء، أيتها المتسولة..؟ أخبريني ما اسمك؟
- اسمي غزلان، كما أنني لست متسولة، أما عن الشعر، فأنا أعرف الكثير، هل تعرف أنت الشاعر المتنبي؟
- من هذا المتنبي..؟!
- آه.. أنت الجاهل إذن..
من أجل تلافي الحرج، خاطبني حميد مستفسرا:
- محمد، هل هذا المتبني شاعر؟
- نعم خويا حميد، إنه شاعر كبير..
بنفس أسلوبه في الكلام والذي يشبه الهمس نظر إلي الشاب الأسمر وقال:
- شاعر قتله شعره..
قلت: نعم..
أضاف: طرفة بن العبد أيضا..
قلت مؤكدا: نعم صدقت..
أخذ نفسا عميقا من سيجارته حدق في الفراغ أمامه ثم التفت إلي وقال:
- أحيانا ياصديقي، أفكر أن قولة شاعر قتله شعره، فيها الكثير من المغالطة..
- حقا كيف ذلك؟
- من الأفضل أن نقول، قتله تهوره، أما الشعر فقد حقق له الخلود..
آآآه نعم.. صدقت.. هل أنت مهتم بالشعر؟
- درست الأدب العربي في الجامعة.. غزلان أيضا، كانت متفوقة في دراستها.
فجأة علا صوت حميد وهو يتوعد عبد العزيز، وقد أمسكه من ياقة قميصه، فإذا بالشاب الأشقر، يهب من مكانه، متحفزا لمؤازرة عبد العزيز.. شعرت بالقلق خوفا على صديقي، التقطت زجاجة فودكا
فارغة تحسبا، لولا أن حميدا انتبه لاقتراب الشاب منه، فبادره بلكمات سريعة على بطنه فأسقطه أرضا، ثم استل سكينا ووضعه على خد الأشقر المستلقي تحت ثقل ركبته.. ثم خاطبه بصوت بالغ الخشونة:
- من البداية عرفت أنك تبحث عن المزيد من الندوب.. يا بن العاهرة .. من أي حي أنت؟
متوسلا، صاح الشاب:
- من المدينة القديمة..
- لكنني لا أعرفك..
- الجميع يعرفونني هناك..
- ألم يخبروك عني؟
- أعرف عنك كل شيء..
- ما الذي تعرفه..؟
- كل شيء..
- والآن هل تحاول الدخول في القائمة؟
بصعوبة تمكن عبد العزيز وشاب آخر من إقناع حميد بعدم تشويه وجه الشاب، أما أنا فلن أتدخل، تنفيذا لوصية حميد، الذي حذرني من التورط، قبل مجيئنا إلى هذا الوكر، لكنني لن أبق مكتوف اليدين، إن كان سيصيبه مكروه.
عفا حميد عن الفاسي الأخرق، المشوه الجسد، والذي لم تشفع له هذه الصفات، أمام جبروت صديقي الأسطورة. وأخيرا اتفق حميد وعبد العزيز، على مبلغ ألف وخمس مائة درهم، على أن يدفع عبد العزيز الخمس مائة الباقية في وقت قريب..
دس حميد النقود في جيب سرواله الجينز وأومأ إلي، استعدادا للمغادرة..
صافحت الشاب الأسمر المؤدب، وهممت بالانصراف.. فاعترض عبد العزيز سبيلي وسألني:
- كم تكسب من هذا الشعر؟
قلت مبتسما:
- لاشيء..
- ولا درهم؟!
- ولادرهم..
شافوني الناس بالصنارة..
دازو قالو ليا مبروك..
ظنوني صياد مهارة..
وأنا القصيبة فيديا شوك..
إنه أحد الفاشلين، كان ليبدو مخيفا لولا لكنته الفاسية، التي تبدل حرف الراء بحرف الغين، فإذا به أشبه بصرصار أبيض اللون، حميد الذي يعتبر هذا النوع من استعراض العضلات تهديدا، قال ساخرا من الشاب: هل تحسب نفسك خالد بن الوليد؟ كأنك حصلت على هذه الندوب في سبيل الله.
تجاهل الأشقر كلام حميد، وتابع الغناء، فإذا بفتاة نحيفة بيضاء عارية البطن، تضع حلقة في أنفها، ترفع صوتها بغناء كالبكاء:
أيامي يانا مشات خسارة..
الحب للي كان ولا مشروك..
بجانبي يجلس شاب أسمر طويل القامة، ودود، أنيق الملبس، ودون سابق تعارف، ناولني سيجارة حشيش، ثم ما لبث أن همس لي أن حميد مشكلة حقيقية، لم أنزعج، فأنا على كل حال بمثابة الأخ لحميد، ولسوف أكون ذراعه الأيمن إن ساء الوضع.
مع علمي أن جل مرتادي هذا المكان من أبناء الميسورين، الذين تخطفهم الانحراف من ذويهم، استغربت حين عرفت أن والد تلك الفتاة الخرقاء المحطمة، أحد مشاهير رجال الأعمال، فأنى لرجل يقضي أوقاته في الأماكن الفخمة، أن يخطر له أن ابنته تتسكع في هذا المرآب المهجور القابع تحت عمارة وسخة في قلب المدينة؟
بعد لحظات ساد الهدوء، غشيت السكينة جاري الأسمر، وتوسدت الفتاة المسكينة ِحجر أحد السكارى مستسلمة لنوم عميق.
منتشيا بنكهة الحشيش، شردت عن نفسي، وماعدت أعرف في أي مكان من العالم أتواجد، أسندت ظهري للجدار البارد، فشعرت بعذوبة البقاء على قيد الحياة دون تفكير، لكنني مهما حاولت النأي بمشاعري عني، لا أعرف كيف أتخلص من إحساسي الدائم بالحزن، وهو شعور يقوى ويخف حسب الظروف، أحيانا أحزن حتى وإن كنت في حفلة راقصة.
بعد مرور قرابة نصف ساعة من الصمت المطبق، وكأننا مومياءات نائمة في قلب هرم لم يكتشفه المصريون بعد، أيقظني صوت حميد، وهو يهدد عبد العزيز، المالك اللاشرعي لهذا المكان. بينما يحاول عبد العزيز، تهدئة حميد للتفاوض معه بصوت منخفض. استرسل حميد قائلا:
- زوجتي انجبت ولدا أسميته محمد - لا أريده أن يكرر مأساتي.. ولولا أنني أرفض أن أطعمه الحرام، لم أكن لأطلب منك نقودا، كما أنها ليست هبة، إنه دين في عنقك وعليك أن تؤديه راضيا، أم أنك نسيت كيف كنت أدافع عنك في السجن؟ وأفرض على الجميع أن يعاملوك باحترام.
متوسلا قال عبد العزيز:
- هذا كل مايمكنني أن أساعدك به أخي الحبيب، والله إنني أحبك وأعتبرك بمثابة شقيقي الذي لم تلده أمي، كما أنني لست ابن حرام، حتى أنكر فضلك ومواقفك الشجاعة، فقط هناك ركود هذه الأيام، أقسمت عليك برب السماء والأرض، أن تأخذ الآن، هذه الألف درهم وتنصرف أنت وصديقك.
- لا دخل لك بصديقي..
- عفوا.. إنك حتى لم تخبرنا بمهنته..
- اطمئن إنه ليس شرطيا، ولا علاقة له بالشرطة..
- وجه صاحبك نظيف، وأنت تعرف، أصحاب الوجوه النظيفة، غير مرحب بهم هنا..
تريد أن تعرف مهنة صديقي..؟ حسنا.. إنه شاعر..!!
استغربتُ لهذا الجواب، كيف فكر حميد أن يكون الشعر مهنة؟ إنه معذور، إذ لم يسبق له أن رآني أعمل، منذ تعارفنا، وأنا أقضي وقتي في المقهى، أكتب وأدخن وأقرأ الروايات..
- مامعنى هذا لم أفهم؟ قال عبد العزيز..
- أيها الجاهل، شاعر، تعني مثقف، دماغ كبير، ليس كدماغك أيها المعتوه..
قالت فتاة شقراء تجلس غير بعيد عني:
- الشعراء يتبعهم الغاوون..
ضحك حميد لقولها وقال:
- وماذا تعرفين أنت عن الشعراء، أيتها المتسولة..؟ أخبريني ما اسمك؟
- اسمي غزلان، كما أنني لست متسولة، أما عن الشعر، فأنا أعرف الكثير، هل تعرف أنت الشاعر المتنبي؟
- من هذا المتنبي..؟!
- آه.. أنت الجاهل إذن..
من أجل تلافي الحرج، خاطبني حميد مستفسرا:
- محمد، هل هذا المتبني شاعر؟
- نعم خويا حميد، إنه شاعر كبير..
بنفس أسلوبه في الكلام والذي يشبه الهمس نظر إلي الشاب الأسمر وقال:
- شاعر قتله شعره..
قلت: نعم..
أضاف: طرفة بن العبد أيضا..
قلت مؤكدا: نعم صدقت..
أخذ نفسا عميقا من سيجارته حدق في الفراغ أمامه ثم التفت إلي وقال:
- أحيانا ياصديقي، أفكر أن قولة شاعر قتله شعره، فيها الكثير من المغالطة..
- حقا كيف ذلك؟
- من الأفضل أن نقول، قتله تهوره، أما الشعر فقد حقق له الخلود..
آآآه نعم.. صدقت.. هل أنت مهتم بالشعر؟
- درست الأدب العربي في الجامعة.. غزلان أيضا، كانت متفوقة في دراستها.
فجأة علا صوت حميد وهو يتوعد عبد العزيز، وقد أمسكه من ياقة قميصه، فإذا بالشاب الأشقر، يهب من مكانه، متحفزا لمؤازرة عبد العزيز.. شعرت بالقلق خوفا على صديقي، التقطت زجاجة فودكا
فارغة تحسبا، لولا أن حميدا انتبه لاقتراب الشاب منه، فبادره بلكمات سريعة على بطنه فأسقطه أرضا، ثم استل سكينا ووضعه على خد الأشقر المستلقي تحت ثقل ركبته.. ثم خاطبه بصوت بالغ الخشونة:
- من البداية عرفت أنك تبحث عن المزيد من الندوب.. يا بن العاهرة .. من أي حي أنت؟
متوسلا، صاح الشاب:
- من المدينة القديمة..
- لكنني لا أعرفك..
- الجميع يعرفونني هناك..
- ألم يخبروك عني؟
- أعرف عنك كل شيء..
- ما الذي تعرفه..؟
- كل شيء..
- والآن هل تحاول الدخول في القائمة؟
بصعوبة تمكن عبد العزيز وشاب آخر من إقناع حميد بعدم تشويه وجه الشاب، أما أنا فلن أتدخل، تنفيذا لوصية حميد، الذي حذرني من التورط، قبل مجيئنا إلى هذا الوكر، لكنني لن أبق مكتوف اليدين، إن كان سيصيبه مكروه.
عفا حميد عن الفاسي الأخرق، المشوه الجسد، والذي لم تشفع له هذه الصفات، أمام جبروت صديقي الأسطورة. وأخيرا اتفق حميد وعبد العزيز، على مبلغ ألف وخمس مائة درهم، على أن يدفع عبد العزيز الخمس مائة الباقية في وقت قريب..
دس حميد النقود في جيب سرواله الجينز وأومأ إلي، استعدادا للمغادرة..
صافحت الشاب الأسمر المؤدب، وهممت بالانصراف.. فاعترض عبد العزيز سبيلي وسألني:
- كم تكسب من هذا الشعر؟
قلت مبتسما:
- لاشيء..
- ولا درهم؟!
- ولادرهم..