د. زياد العوف - الإمام محمّد عبده والدولة المدنيّة

الإمام محمّد عبده(١٨٤٩-١٩٠٥م) واحد من أهمّ أقطاب النهضة والتنوير والإصلاح في القرن التاسعَ عشرَ.
تلقّى تعليمه الأوليّ بمحلّة نصر من إقليم البحيرة فحفظ القرآن في كتّاب القرية ، واستكمل أساسيات العلوم في الجامع الأحمديّ، ثمّ التحق بالجامع الأزهر في القاهرة عام(١٨٦٦م)مواظباّ على ما يقدّمه لطلابه من علم ومعرفة طيلة أحد عشر عاماً حصل بعدها على درجة( العالِميّة) عام(١٨٧٧م).
ولم يكن الأزهر في أحسن حالاته آنذاك ؛ لا من حيث مناهج التعليم وطرق التدريس، ولا من حيث كفاءة
أعضاء هيئة التدريس،فعكف الأستاذ الإمام على الاستزادة الذاتيّة من العلم والتعمق فيه والتنويع في مصادره، وذلك بما أوتي من ملكات عقلية ونفسية ، تمثّلت في الذكاء والتبصّر وسعة الأفق وحبّ العلم والصبر عليه ، ناهيك عن علو الهمّة والطموح إلى الفضائل والمعالي.
وقد كان من حسن الطالع أن توافق كلّ ذلك مع قدوم رائد الإصلاح العلّامة ( جمال الدين الأفغاني) إلى مصر فلازمه محمد عبده ملازمة المريد لشيخه فأخذ عنه الكثير من العلم والمعرفة والحكمة والفلسفة حيث قال الأفغاني فيه وهو يغادر مصر:
" إنّي خلّفت في مصر خيراً كثيراً في علم الشيخ محمّد عبده".
وهكذا غدا محمد عبده إماماً في العلوم النقلية والعقلية واللغوية ، فوقع عليه الاختيار لتدريس التاريخ والأدب في( دار العلوم) و( مدرسة الألسن)، ثم أسندتْ إليه مهام رئاسة تحرير( الوقائع الرسمية).
ولم يكن الأستاذ بعيداً عن الشأن العام ، بل لقد بلغ به الأمر أن اشترك في ( الثورة العرابية - ١٨٨٢م) ، الأمر الذي أودى به إلى السجن ، ثم النفي إلى بيروت بعد إخفاقها، حيث واصل جهده العلمي والتعليمي إلى أن تلقّى دعوة للقدوم إلى باريس من أستاذه الأفغاني ، سرعان ما لبّاها وأنشأ هناك بالاشتراك معه جريدة( العروة الوثقى) لبثّ الأفكار التجديدية والإصلاحية في الدين والسياسة والمجتمع؛ وذلك بإعلاء شأن البحث العقلي ونبذ الجمود والتقليد.ثمّ عاد إلى بيروت عام(١٨٨٥م) حيث أسّس هناك جمعية سرّية سمّاها( العروة الوثقى)
تعمل على نشر الفكر التنويري والإصلاحي.ثمّ مالبث أن عاد إلى مصر بعد أن عفا عنه الخديوي توفيق بوساطة من الزعيم سعد زغلول الذي كان أحد تلامذة ومشايعي الإمام محمّد عبده، حيث عيّن قاضياً ، فمستشاراً في محكمة الاستئناف، ثمّ مفتياً للديار المصرية وعضواً في مجلس الأوقاف الأعلى بموجب المرسوم الصادر عن الخديوي عباس حلمي الثاني عام( ١٨٩٩م) .
كان الإمام يؤمن بالإصلاح عن طريق التعليم ، أمّا في السياسة وشؤون الحكم فكان يميل إلى التدرّج في الحكم النيابي، كما اهتم بقضية المرأة، بل يذهب بعضهم إلى أنّ كتاب( تحرير المرأة) الذي يُنسب إلى تلميذه قاسم أمين كان من ثمرات فكر محمد عبده، بل إنّ بعض فصوله يظهر فيه جليّاً أسلوب الإمام ذاته. أمّا في التفسير ، فقد قدّم أثناء وجوده في بيروت دروساً قيّمة في التفسير العصري للقرآن باعتماد المنهج العقلي الميسّر ، مع عدم إغفال المأثور النقلي المتوافق مع العقل.
وممّا يُحسَب للأستاذ الإمام تصدّيه العلمي الحازم للشُبُهات التي كان المستعمر يبثّها آنذاك بواسطة علمائه ووزرائه حول الإسلام والمسلمين.
وممّا اشتُهر من ذلك ردّه المفحِم على دعاوى وزير خارجية فرنسا آنذاك ( هانوتو) حول السلطة السياسية في الإسلام ، حيث يقترب الأستاذ الإمام في معالجته للموضوع ممّا يُطرح اليوم من سجالات ونقاشات تتناول " الدولة المدنية" و" العَلمانيّة".
رحل محمد عبده - رحمه الله -عن عالمنا هذا عام ( ١٩٠٥م) تاركاً وراءه إرثاً علمياً واجتماعياً قيّماً ، سواء أكان ذلك في تلامذته الأفذاذ الذين نهلوا من معين علمه وحكمته فاستكملوا مسيرته الخيّرة في العلم والعمل ، من أمثال:
محمد رشيد رضا والشاعر حافظ ابراهيم والشيخ عزالدين القسّام، والشيخ مصطفى عبد الرازق، والزعيم سعد زغلول، وقاسم أمين، وطه حسين، وغيرهم من أرباب العلم والفكر والعمل الوطني.
أم في المؤلّفات القيّمة التي اتّسمتْ بالتجديد والتحرّر العقلي والانفتاح .
ومن أشهر هذه المؤلّفات:
١- رسالة التوحيد.
٢- شرح وتحقيق كتابَي دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة.
٣-شرح نهج البلاغة.
٤- العروة الوثقى.
٥- شرح مقامات الهمذاني.
٦- الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية.
هذا وقد قام الدكتور محمد عمارة بتحقيق أعمال الإمام محمد عبده في خمسة أجزاء صدرت عن دار الشروق المصرية ، وكذلك عن المؤسسة العربية في بيروت ، عام(١٩٧٢).
أورد فيما يلي سطوراً مختارة من ردّ الأستاذ الإمام على مقالات وزير خارجية فرنسا(هانوتو) المنشورة في جريدة( الجورنال) الفرنسية والتي نُشرت مترجمة فيا بعد في جريدة( المؤيّد) المصرية في عام(١٩٠٠):
" بقي الكلام على جمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد يقول فيه مسيو ( هانوتو) إنّ أوربا لم تتقدّم إلّا بعد بعد أن فصلت السلطة الدينية عن السلطة المدنية، وهو كلام صحيح لكنّه لم يدرِ ما معنى جمع السلطتين في شخص عند المسلمين. لم يعرف المسلمون في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت للبابا على الأمم المسيحيّة، عندما كان يعزل الملوك ويحرم الأمراء ويقرّر الضرائب على الممالك ، ويضع لها القوانين الإلهية.
وقد قرّرت الشريعة الإسلامية حقوقاً للحاكم الأعلى، وهو الخليفة أو السلطان، ليست للقاضي صاحب السلطة الدينية ، وإنّما السلطان مدبّر البلاد بالسياسة الداخلية ، والمدافع عنها بالحرب أو بالسياسة الخارجية.
وأهل الدين قائمون بوظائفهم وليس له عليهم إلّا التولية أو العزل ، ولا لهم عليه إلّا تنفيذ الأحكام بعد الحكم، ورفع المظالم إنْ أمكن.
وهذه الدولة العثمانية قد وضعتْ في بلادها قوانين مدنيّة، وشرعت نظاماً لطريقة الحكم وعدد الحاكمين ومِللهم، وسمحت بأنْ يكون في محاكمها أعضاء من المسيحيين وغيرهم من الملل التي تحت رعايتها، وكذلك حكومة مصر أُنشِئت فيها محاكم مختلطة ومحاكم أهلية بأمر الحاكم السياسي، وشأن هذه المحاكم وقوانينها معلوم، ولا دخل لشيء من ذلك في الدين، فالسلطة المدنية هي صاحبة الكلمة الأولى كما يطلب المسيو(هانوتو)، ولكن ، مع ذلك، لم يظهر نفعها في صلاح حال المسلمين، بل كان الأمر معكوساً؛ فإنّ أمراءنا السابقين لو اعتبروا أنفسهم أمراء الدين لما استطاعوا المجاهرة بمخالفة في ارتكاب المظالم ، والمغالاة في وضع المغارم، والمبالغة في التبذير الذي جر ّ الويل على بلاد المسلمين وأعدمها أعزّ شيء كان لديها، وهو الاستقلال.
إنّ فرنسا تسمّي نفسها حامية الكاثوليك في الشرق، وملكة انجلترا تُلقّب بملكة البروتستانت، وامبراطور روسيا ملك ورئيس كنيسة معاً، فلِمَ لَمْ يُسمَح للسلطان عبد الحميد أن يُلقّب بخليفة المسلمين أو أمير المؤمنين؟". *
*-الإمام محمّد عبده،الإسلام بين العلم والمدنية،كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة،٢٠١١، ص.٧

دكتور زياد العوف







تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى