د. محمد الشرقاوي - الحنق السياسي: ما وراء ضعف الإقبال على صناديق الاقتراع في المغرب!

ثمة مشهدٌ متدرجٌ في تغير الدلالات من إجراء الانتخابات بين أعوام 2021 و 2016 و 2011 في ظل الدستور الذي يدخل سريانه العام العاشر. ويعتد المغرب بأنه بلد متعدد الأحزاب ولديه كتلة انتخابية مهمة بوجود ثمانية عشر مليون ناخب، فيما تشعر بعض الأحزاب أنها تكابد احتباسا سياسيا بسبب "القاسم الانتخابي" المثير للجدل الذي تم اعتماده بإيعاز من وزارة الداخلية وتأييد المحكمة الدستورية، ويقضي ب"قسمة مجموع الناخبين المسجلين على عدد المقاعد بدل عدد الأصوات الصحيحة."
بلغت نسبة الإقبال على التصويت في انتخابات المغرب نسبة 12% بحلول الثانية عشرة زوالا بالتوقيت المحلي في ظروف يعتريها الحنق السياسي الذي ظهرت مؤشراته بشكل ملموس خلال الحملات الانتخابية بين واحد وثلاثين حزبا، خاصة تردي خطاب التنافس بين الأحزاب الرئيسية: العدالة والتنمية، والتجمع الوطني للأحرار، والأصالة والمعاصرة، والإستقلال. ويتنافس 6815 مرشحا على 395 مجموع مقاعد مجلس النواب ، فضلا عن 157569 مرشحا في انتخابات مجالس البلديات والجهات.
يتجلى الحنق السياسي هذا العام في مستوى الإحباط من الطبقة السياسية لدى نسبة ليست بالقليلة من الناخبين، وسط دعوات لمقاطعة صناديق الاقتراع والعزوف عن المشاركة السياسية. وفي ثنايا هذا الخطاب صدى الاحتجاج والشعور المرّ من عبثية العمل السياسي، فضلا عن حوادث العنف الجسدي واللفظي ضد بعض قيادات الأحزاب.
هناك أيضا زيادة عدم الثقة في الأحزاب والبرلمان والمؤسسات السياسية الأخرى. يقول أحد المعلقين "لم يعد في العملية الانتخابية المغربية ما يدفع المواطن إلى التصويت والمشاركة، لقد قتلوا الأمل في النفوس."وثمة قناعة متواترة في الشارع المغربي بأن الحكومات التي تنبثق من الأحزاب الفائزة في الانتخابات قد "تكون في الحكومة، ولكنها لا تحكم"، وهي كناية عن أن الملكية والدولة المركزية أو المخزن هي صاحبة الحل والعقد، وهي من تسمك مفاتيح القضايا الكبرى في المحصلة النهائية.
هذه وضعية تمنح المغرب استثناء على قاعدة السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية والمتعارف عليها في الدول الديمقراطية، بل يعمل المغرب بـ أربع سلطات: تشريعية (مجلسا النواب والمستشارين)، وقضائية (المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية)، وتنفيذية تنقسم إلى فئتين: حكومة عادية وحكومة عظمى super cabinet أو حكومة ظل تحت إشراف بعض مستشاري الملك تحتفظ بصلاحية إقرار الملفات والمشاريع الكبرى.
من تجليات الحنق السياسي أيضا ابتعاد أغلبية الشباب عن العمل الحزبي، وليس هناك قبول بمبدأ ضخ دماء جديدة أو #تشبيب قيادات تلك الأحزاب. وتزداد خيبة الأمل في الأحزاب بسبب مدى التشابه وأحيانا التماهي في خططها وبرامجها الانتخابية. ولم بعد من السهل تقييمها ولا تصنيفها حتى ضمن ثلاث فئات رئيسية: أحزاب يمين، أحزاب وسط، وأحزاب يسار.
تكمن المعضلة الجديدة هذا العام في ما يمكن اعتباره "مرجعية" النموذج التنموي، وكأنه وثيقة "مقدسة" ينبغي التركيز على التوافق مع بنودها. حضر النموذج التنموي الذي سيظل وافر_الظلال وملهما لأحزاب العقم السياسي حتى عام 2035، وغابت ألمعية الأحزاب في بلورة رؤى بديلة وخطط إصلاح قابلة للتطبيق واستشرافات تستند إلى دراسات استراتيجية متنورة.
هو حنقٌ مستشرٍ حتى في نفوس الشخصيات السياسية ذاتها ناهيك عن المغاربة البسطاء. وعند تأمل تصريح عبد الإلاه بنكيران وحديثه عن عزيز أخنوش وما تذهب إليه بعض الوجوه الصحفية التي أسماها "نگافات" الأحزاب، يظهر مدى التراجع في الخطاب السياسي وتحوّل ما كان يفترض تنافسا بالأفكار والبرامج والرؤى لدى الأحزاب إلى تراشقاتحماسية لا تخرج عن نزعة الشخصنة والإسقاطات الانطباعية، وإن وصف البعض السيد بنكيران بأنه "رأس الحربة الخطابية" أو " الظاهرة التواصلية" لحزب العدالة والتنمية.
لم تُظهر انتخابات هذا العام خطيبا سياسيا مفوّها أو ملهما برؤية استشراف جديد يختزل الأمل المشترك لدى غالبية المغاربة. ولم يخرج خطاب الدولة أو المخزن عن دائرة ما هو تقني يعتدّ بقانونية القاسم الانتخابي، وينفخ في قِربة "تكافؤ الفرص" بين الأحزاب، فيما ينبؤ الوجه الآخر للعملة بتفتيت أو بلقنة العمل السياسي والتشريعي داخل الحكومة وداخل البرلمان المقبلين.
يزداد الحنق حنقا عندما تفتقر بعض الأحزاب للقدرة على الابتكار السياسي بتقديم أطروحات ملهمة للتغيير والبناء الديمقراطي وتحقيق التنمية، بل تركّب استراتيجيتها على مجرد شيطنة العدالة والتنمية وتحميلها وزر كافة الإخفاقات خلال السنوات العشر الماضية. فافترضت أن معاداة حزب بنكيران والعثماني قد تغدو بمثابة حصان طروادة للفوز وإنهاء حقبة هيمنة "الإسلاميين" على الحكومة والبرلمان.
في المقابل، يتصرف أغلب أعضاء العدالة والتنمية وكأنهم "رجال مقاومة انتخابية" أمام ما يبدو أنها مناصرة ضمنية من قبل الدولة المركزية والبلديات والعاملات لمرشحي التجمع الوطني للأحرار هذا العام، على غرار وقوفها في صف مرشحي الأصالة والمعاصرة عام 2016. ويستدخلون في أنفسهم أنهم "الحزب الصنديد خارج وصاية الدولة" مقابل حزب إداري ترعاه الدولة منذ ميلاده عام 1978، ويترأسه وزير فلاحة وصيد بحري على أمل أن يفلح هذه المرة ويصطاد أصواتا أكثر من غريمه الإسلامي لارتداء عباءة رئيس الحكومة المقبلة، بعدما لم يتقن إلياس العماري الاصطياد الانتخابي قبل خمس سنوات.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى