محمود خيرالله - "يا أزرق العينين يا كايد الحكومة يا محمد....".. "أفيون وبنادق".. صلاح عيسى يقرأ أسرار المقاومة الشعبية في سيرة "خُط الصعيد"

تعلمنا من كتابات الصحفي الكبير والمؤرخ اليساري الراحل صلاح عيسى (1939 - 2017)، أنّ التاريخ لا يكتبه المؤرخون الرسميون وحدَهُم، فيسقط في بئر من حكايات القصور ومؤامراتها وحبائل الحريم السلطاني ومشكلاتهن التافهات، كما تعلمنا أيضاً أن التاريخ لا يكتبه ـ في المقابل ـ الرواةُ الشعبيون وحدَهم، فيخلطون بين العصور والأزمنة والحُكام، وهم يروونه على "الربابة" من أجل تسلية البسطاء في الليالي الملاح، لقد تعلمنا من كتابات الرجل أن التاريخ هو القدرة على دراسة الحدث من جميع جوانبه والاستفادة من كل العلوم والفنون والآداب، من أجل معرفة الحقيقة عن ذلك الذي كان يحدث في الماضي.
تعلمنا من كتابات صلاح عيسى ـ وقد قرأنا له على صفحات هذه المجلة من قبل كتابيه: "هوامش المقريزي" و"دستور في صندوق القمامة" ـ أيضاً أن الشعب المصري سيظل دائماً بحاجة إلى فهم ما مرّ به من حوادث عُنف، خصوصاً أن العنف ليس سمة عامة في هذا البلد، وبالتالي فهو شيء يُمكن ملاحظته بسهولة ودراسته في تلك الفترات التي يبدو فيها العنف ناتئاً فوق الأحداث.
يقول صلاح عيسى إنه عثر على الخطوط الأولى لهذا الكتاب، بينما كان يحاول رصد ملامح موجة العنف السياسي التي خضَّبت بالدم تاريخ العقد السابق على قيام ثورة 23 يوليو 1952، حيث لاحظ أن حياة أولاد الليل أبطال (موجة العنف الجنائي) هي الوجه المُكمِّل لهذه الظاهرة، التي انتشرت في الوجهين البحري والقبلي خلال هذه الفترة فأثارت الذعر وأقلقت السلطات، فقام على الفور بالربط بين وجهي هذه الموجة، سارداً الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي صنعت قصة زعيم "أولاد الليل"، محمد محمود منصور الشهير بـ "الخُط"، لتكون محوراً لكتابه المهم "أفيون وبنادق سيرة سياسية واجتماعية لخُط الصعيد الذي دوَّخ ثلاث حكومات"، الصادر مؤخراً أصدر "مركز المحروسة للنشر".
كنتُ قد أعياني البحث عن هذا العنوان حين عرفت من رفيقة درب صلاح عيسى الكاتبة أمينة النقاش أنه نُشر مسلسلاً فقط في مجلة "23 يوليو الأسبوعية"، التي كانت تصدر أواخر عقد السبعينيات من العاصمة البريطانية لندن، وأنه لم ينشر في كتاب من قبل، وأحسب أنني طالبتها بإعادة نشره ذات مرة ـ قبل سنوات ـ حين تزاملنا في مهنة البحث عن المتاعب، غير أنني سارعت إلى اقتناء الكتاب من جناح الدار "مركز المحروسة" في معرض القاهرة الدولي للكتاب، في دورته الأخيرة يوليو الماضي.
هكذا قررت أن أبدأ لأول مرة قراءة اجتماعية لظاهرة "أولاد الليل" في مصر، من وجهة نظر مؤرخ يساري منحاز إلى قضايا الجماهير سبق أن قدم كتاباً فريداً بعنوان "رجال ريا وسكينة سيرة اجتماعية وسياسية"، وبالتالي سيكون قادراً بما يملك من ثقافة واسعة على أن يجمع التاريخ من مصادره المتعددة، وألا يكتفي بالجوانب الرسمية وما تنشره الصحف والدوريات والأرشيفات، بل يتعداها إلى الاستفادة أيضاً من المذكرات الشخصية التي كتبها الضابط محمد هلال قائد "فرقة الموت" التي اصطادت الخُط، بغية إيضاح جوانب جديدة تكشف في صورة ماضينا الكثير من السمات التي لم نعد نعرفها فيه.
لقد اعتاد المؤرخ الراحل أن يجعل من كتبِهِ مدونة بصرية معززة بالصور للأماكن والأحداث والحُليّ المستخدمة في العصر الذي يحكي عنه، والموضة السائدة والنكت المتداولة والعملة وأفيشات الأفلام، على حد تعبير الصحفية أمينة النقاش التي قالت في سطور تذيل الكتاب: "كان صلاح عيسى يجعل من الكتاب ـ فضلاً عن متعة القراءة ـ متعة بصرية فاتنة".
طبعاً كلنا يعرف أن الأوساط الثقافية العالمية شهدت ثورة في القرن العشرين فيما يخص الدراسات التاريخية، حيث زادت من الاهتمام بنواحي النشاط الإنساني على حساب أنشطة الحكام والقصور، بحيث انتقل الفكر التاريخي عبر رحلة طويلة من الاعتماد على "الأسطورة" أولاً في تدوين التاريخ، ثم إلى الاعتماد على طرق "التسجيل الرسمي"، ثم إلى الاعتماد على قراءة التاريخ الشعبي، حيث تسجل الشعوب عادةً رؤيتها لتاريخها في فنونها الشعبية بأشكالها المختلفة، وبالتالي لم يكن صلاح عيسى أول من اكتشف هذا الطريق، لكنه كان أول من طبَّق ذلك المنهج على التاريخ المصري الحديث، خصوصاً على ظاهرة "أولاد الليل"، وقد أشار في الـ "افتتاحية" "خونة ومستعمرون وأولاد ليل.."، إلى أنه قرر قراءة تاريخ الأشقياء أولاد الليل، قبيل ثورة يوليو 1952، خلال محاولته فهم حركات المقاومة المصرية ضد الاستعمار والاستبداد، لكنه صادف كثيراً من الحوادث التي يرتكبها أشقياء، تبدو في الظاهر حوادث جنائية عادية، لكنها تكشف عن دوافع وقصص يُمكن أن تجعلها شكلاً من أشكال المقاومة الشعبية للاستعمار، حتى وإن ضلت الطريق أو انحرفت عن المسار المرجو.
سلاح عرابي
يُقر الكاتب بأنه لا يريد أن "تختل المقاييس بين أيدينا، فيتقدَّس مُجرمون"، لكنه يطالب بأن تكون الظاهرة محل دراسة معمقة، يقول: "إذ لاشك أن التاريخ الرسمي لأولاد الليل، غير دقيق تماماً، ومن المؤكد أن هناك جوانب من حياتهم قد طمست عمداً أو جهلاً، والأرجح أن المؤرخ الشعبي المجهول قد شك في ذمة المؤرخين الرسميين، فحرص على تسجيل سيرة أولاد الليل بأسلوبه الخاص، الذي يكفل حفظه وتواتره وبقاءه، رغم أنف التأريخ الرسمي الذي أصبح تزويره تقليداً عربياً".
وقبل أن يتوقف الكاتب أمام الحكاية الشخصية البسيطة التي أفرزت محمد محمود منصور الشهير بالخط، والذي أثار الذعر إلى أن قتله الضابط محمد هلال، في "قرية جحدم" وتحديداً أمام وابور "مالطي"، في أحد أيام شهر أغسطس الحارة عام 1947، يقدم أولاً لذلك الميراث الطويل لهؤلاء الأشقياء على أرض مصر، منذ نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومنهم "أدهم الشرقاوي" الذي جعلته الرواية الشعبية بطلاً، بينما وصفته "مجلة اللطائف المصورة" في خبر مصرعه في 31 أكتوبر 1921 قائلة: "شقيٌ وقاطعُ طريق، ومجرمٌ أكبر، وطاغية. طارده رجال الضبط والبوليس واصطادوه، فأراحوا البلاد من شره وجرائمه"
يؤصل الكاتب الظاهرة بالقول إن الفترة التي تلت الثورة العرابية 1881، شهدت فيها مصر حوادث عنف وقتل وتخريب، خصوصاً بعد دخول قوات الاحتلال الانجليزي أرض مصر 1882، لكن التاريخ يشير إلى فئة من الأثرياء والبدو تعاونت مع الاستعمار وخانت عرابي، الذي كان سبقها بأن وزع السلاح على بعض الفلاحين المخلصين للثورة، يقول عيسى إن الفلاحين ساعتها ساهموا في الانتقام من خونة عرابي شر انتقام:
"أستطيع هنا أن أتحمَّل مسئولية القول إن السنوات التي تلت هزيمة الثورة العرابية قد شهدت موجةً من هؤلاء الأشقياء، وجّهوا رصاصهم ـ في الغالب ـ ضد الذين خانوا الثورة وباعوها، فقتلهم الأشقياء وسرقوا دورهم وسمٌّوا مواشيَهم واقتلعوا زراعاتِهم، بسلاحٍ ـ ثبت فيما بعد ـ أنه بقيّة ما وزعه عرابي من أسلحةٍ على الفلاحين، للمشاركة في صد الغزو، وأحدثوا اختلالاً شديداً في الأمن العام".
الكيد للحكومة
يبدأ صلاح عيسى قصته شديدة الثراء من تلك اللحظة التي تحوَّل فيها صياد سمك وسيم أزرق العينين فضي الشارب، من قرية "درنكة" في أسيوط، إلى سفاحٍ يحمل اسم "الخط"، يُرعب مجرد ذكر اسمه الكثيرين، من أصغر مواطنٍ في درنكة، وانتهاء بثلاثة من وزراء الداخلية ورؤساء الوزراء، وهم: أحمد ماهر باشا ومحمود النقراشي باشا وإسماعيل صدقي باشا.
الروايات التي تشير إلى بداية تحول الشاب الوسيم إلى مجرم يقيم في الجبل، لا تختلف كثيراً سوى في بعض التفاصيل، لكن كلها تشير إلى أن شيخ الخفر في قرية "درنكة"، نهر الشاب وصفعه بالقلم على وجهه ذات مرة، تلك الصفعة ربما تكون هي التي أطلقت الوحش نعم، لكن هذا الوحش وجد بيئة ومناخاً أسرياً واجتماعياً وسياسياً ملائماً له لكي ينمو ويزدهر، فقد كان محمد هو الشقيق الرابع لخمسة من الأشقاء الذين ينتمون إلى أسرة فقيرة ويعملون في الصيد، وكانت أمهم إمرأة صعيدية قاسية القلب والملامح، وفور تلقي الشاب الوسيم الصفعة توجه لقتل ابن "شيخ الخفر"، الذي لم يبلغ السلطات بالحادث وبدأت سلسلة من جرائم الثأر بين الطرفين، فأسقط الخط تسعة من عائلة "شيخ الخفر" في ثلاثة أيام، قبل أن يلوذ وأشقاؤه بالفرار، ويبدأون تكوين عصابتهم التي صارت واحدة من أكبر عصابات السرقة والنهب في بر الصعيد كله.
لقد دوَّخ الخُط ثلاث حكومات لأنه كان يحظى بتعاون رموز الأغنياء في ريف الصعيد ومدنه، فقد كان يساعدهم في قضاء حوائجهم والدفاع عن قصورهم وزراعاتهم مثلما كانوا يساعدونه بإغداق المال عليه وتوفير الأماكن اللازمة للاختباء، أما الناس العاديون في الشارع فقد كانوا يلجأون إلى فكرة الخوف من الخُط، ربما على سبيل المداراة على مشاعرهم الحقيقية تجاه الرجل الذي يقوم نيابة عنهم بدور المنتقم من الحكومة، فتكون النتيجة أن الخُط نزل عدة مرات إلى أرض القرية، والتقى عدداً من جنود الأمن لكن الشهود قالوا إن أحداً لم يتعرض له، وأن الجنود ـ بالذات ـ كانوا يفرون منه فور ظهوره خوفاً ورعباً، لدرجة أن أحد الضباط واجهه ذات مرة بالصُدفة فأصيب الضابط بالشلل من فوره.
هكذا إذن يحتاج المجرم إلى أم تقف له بالسلاح لكي تحرس الطريق على عتبة البيت، إلى أن ينتهي ولدها المطارد من قضاء حاجته مع زوجته، مثلما يحتاج المجرم أيضاً إلى مساعدة الأعيان وشراء السلاح الرخيص الذي ينفِّذ به عملياته، في هذا الزمان كانت عصابات سرقة "الكامب" الانجليزي ومخازن الأغذية التابعة للجيش الانجليزي كثيرة ومنتشرة، وكان السلاح المهرب في السوق السوداء يباع رخيصاً جداً ومتطوراً جداً أكثر من السلاح الميري الذي كانت تستعمله وزارة الداخلية وكان لا يصلح إلا للزينة، فبعد هزيمة الألمان في معركة "العلمين" وانسحابهم أمام الجيش الثامن الانجليزي، تركوا خلفهم تلالاً من البنادق والمدافع الرشاشة والطلقات النارية مكدسة في الصحراء، ونتج عن كل ذلك أن أصبح السلاح أرخص السلع في مصر، يقول عيسى:
"في الوقت الذي كانت أسعار الطعام ترتفع فيه إلى درجة اختفى فيها الخبز يوماً من أسواق القاهرة، كانت الأسواق تعج بالأسلحة، وكانت الطلقات النارية تباع بالكوم، بسعر خمس قروش للكوم الواحد، ووصل ثمن البندقية إلى مائة وثمانين قرشاً، وإذا كانت من نوع جيد ارتفع ثمنها إلى جنيهين، وكانت القنبلة اليدوية تباع بمليم واحد، وكان المسدس الكبير بعيد المدى بثلاثين قرشاً".
يلمَس صلاح عيسى ذلك الجانب الإنساني و"الفني" في شخصية "الخُط"، لكنه يضع يده أيضاً ـ وبكل وضوح ـ على النغم الإنساني البسيط والخفي، الذي يُدير حياة بعض "أولاد الليل"، وقد كشفَتْه كلمات "خالتي فضة" أم "الخُط" في جنازة ابنها، حين هَمسَت بها مُنغَّمة، كأنها تُهدهده كي ينام إلى الأبد:
"يا أزرق العينين يا كايد الحكومة يا محمد...."


1631351885193.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى