في الرابع من الشهر الجاري قدم الدكتور ادريس موشي في منبر الحوار الوطني ندوة تحت عنوان: من سرق مشروع الأمة؟ وطرح الدكتور موشي فيها طرحا متداخل الأبعاد لمفهوم الأمة ومن سرق المشروع وأرجو أن نرى هذه الندوة في كتاب جديد للدكتور كما وعد.
ارتأيت رصد وكتابة مداخلتي هنا وذلك لعدة أسباب منها: أهمية الانتقال من السياسي الآني إلى اتجاهات فتح حوار حول القضايا الوطنية الكبرى؛ وهذا المقال هو فصل في الكتاب المقبل من ثلاثية تفكيك التفاعل السياسي الارتري. ولا أشك أن الحوار البناء حول الموضوع سوف يفتح لي أفاقا أوسع عند التناول المستقبلي.
بداية أحب أن أبدا بنقد ونقض مفهوم شائع وهو أن من لم يكن عضوا في الجبهة الشعبية أو جبهة التحرير أو الأحزاب السياسية السابقة لن يستطع الكتابة عنها.. وهذا مفهوم يضع "تابو" أو مانع أمام دراسة تجارب التنظيمات والأحزاب في التجربة السياسية الارترية. فهل كان جون ماركاكيس المتخصص في شئون القرن الافريقي ارتريا حتى يكتب عن ارتريا؟ أو جوزيف فينوسا الباحث الأمريكي ارتريا ومسلما عندما كتب كتابا قيما حول الإسلام والحراك السياسي في ارتريا في الاربعينات وحتى الستينات من القرن الماضي؟
كل ما يحتاج إليه أي فرد في دراسة هذه الأحزاب والتنظيمات ليس الانتماء الوطني والتنظيمي؛ بل الموضوعية والفضول العلمي وروح البحث الوثابة ورحابة الصدر. أقول ذلك بغرض توسعة مواعين الحوار الهادف ولكسر حاجز الموانع غير المقبولة.
مدخلي لتناول فكرة المشروع الوطني هو استمداد من تقعيد البروفيسور الراحل باتريك شابال، أستاذ التاريخ الافريقي والعلوم السياسية في كلية كينغز كوليج في لندن، والذي رحل عن عالمنا في عام 2014.
تجاوز شابال، ذو الأصول البرتغالية، أحداث التاريخ ليضع منهجا في دراسة السياسة والاستعمار في افريقيا، ويعتبر كتابه "القوة في افريقيا" الصادر في عام 1992 محددا لمنهجه الأكاديمي البحثي.
تخصص شابال في دراسة افريقيا البرتغالية، أي مستعمرات البرتغال في افريقيا كأنغولا وجزر الرأس الأخضر، ولكنه وبحكم المامه بالفرنسية والانجليزية توسع في دراسة مسائل الثورة والثقافة وبناء دولة ما بعد الاستعمار وأزماتها. ضمن هذه التوسع الدراسي قدم شابال تحديدا للمشروع الوطني في افريقيا حيث أشار إلى أنه المشروع الهادف إلى صنع ثقافة بديلة ضمن حدود الدولة القومية الموروثة من الاستعمار للإجابة على أسئلة الهوية والأمة في السياق الخاص لكل بلد بشكل منفرد. ويهدف المشروع إلى بناء أوطان مستقلة ذات هوية منفصلة ومتميزة في ظل تداخل الحدود والسكان واللغات والأصول التكوينية.
استخلص شابال بأن الأفارقة تصدوا لواجبين هما مقاومة المستعمر وبناء الامة أو الدولة. ولتحقيق هذه الأهداف اعتمدت حركات التحرر الوطني على شروط وهي: أن يهدف المشروع إلى تحويل أعضاء القبائل إلى مواطنين: أي تحويل قبائل الماساي في كينيا او الأشانتي في غانا، أو اليوربا في نيجيريا إلى مواطنين ضمن محددات الدولة القومية المشابهة للدولة الأوروبية القائمة على مفهوم الأمة والقومية. هذا الانتقال الحداثي لن يتم بدوره ما لم تتوفر له الشروط التالية: وجود أحزاب ثورية طليعية تقود الثورة وتحقق مفهوم الأمة. ثانيا أن يكون للمشروع أيديولوجية ذات طابع علماني تعتمد مفاهيم المساواة والعدالة والمواطنة؛ حتى لو كان على المستوى الرمزي فقط، ثالثا أن تكون هناك لغة "قومية" محددة لهذا المشروع؛ لأنها قوام الهوية الجامعة، وهذا من أعوص القضايا التي واجهت أصحاب المشروع القومي، لأنه محدد الهوية مقارنة باللغة القومية في أوروبا مثل اللغات الألمانية، والإيطالية، والفرنسية، والانجليزية. عقد من هذا الخيار أن اللغات الافريقية في الغالب غير مكتوبة "فيرناكيولر" أو عابرة للبلدان: كالسواحلية مثلا في شرق افريقيا والتي تنتشر، ولو بشكل متقطع، في المساحة من البحيرات الكبرى حتى جزر القمر في جنوب القارة.
وأخيرا هناك القيادة الكاريزمية للحزب الطليعي، وهذا يفسر وجود قادة التحرر الافريقي وأباءه مثل جومو كينياتا في كينيا، وكينيث كاوندا في زامبيا، وجوليوس نيريري في تنجانيقا، وكوامي نكروما في غانا وأحمد سيكو توريه في غينيا وآخرين.
لأغراض المقال سأتناول المشروع القومي لدى الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا وبالتحديد لدى قائد التنظيم اسياس افورقي في تجسده العملي في المراحل الأولى للتنظيم وفي دولة ما بعد الاستقلال ضمن مفهوم الهوية الارترية الواحدة. إذا طبقنا محددات شابال كعلامات طريق؛ يمكننا القول بأن الجبهة الشعبية اعتبرت نفسها التنظيم الطليعي القادر على خلق الهوية الوطنية الارترية الجامعة، اعتمادا على مبدأي أن العيش المشترك في كيان موحد تحت الإدارة الاستعمارية الإيطالية وفترة النضال المشترك كانتا المحددين الأساسيين للهوية الارترية الجامعة. ثانيا أن التنظيم هو الطليعة الثورية خاصة بعد تبنيه الأيديولوجية الماركسية وحسب هذه الأيديولوجية التي تم تبنيها في بدايات تأسيس التنظيم وعبرها تم تبني شعار تغييري وهو شعار "ثقافة جديدة لمجتمع جديد" أو "حديش بهلي نحديش حبرتسب" باللغة "الوطنية" الارترية للمشروع القومي وهي لغة التجرينية. وجاء من ضمن اختيارات هذه اللغة أنها غير عابرة للبلدان "ما عدا انتشارها "المحمود والمقبول" إلى الجنوب من ارتريا، ثم تميزها حسب فهم افورقي عن العربية التي هي عابرة للبلدان، ولغة غير أصيلة في الكيان الارتري. وبهذا تصبح هذه اللغة هي لغة المشروع القومي ابتداء من التعليم العسكري في الميدان انتهاء بمخاطبة الرئيس "للأمة" بها في الاحتفالات القومية للبلاد إضافة إلى كونها "اللغة الرسمية" للبلاد في الواقع. أما الثقافة الجديدة تضع اللغة العربية ضمن حيز الدين باعتباره ممارسة "بالية" وتحاول الثقافة الجديدة تجاوزه في مسيرتها لبناء المجتمع الجديد ذي الثقافة الجديدة، وهنا لا تستثني الديانة المسيحية أيضا من النظر إليها كأحد الممارسات الثقافية البالية أيضا. وبعد تحديد القوى الطليعية القائدة للمشروع الوطني ننتقل إلى القائد الكاريزمي؛ حيث استطاع القائد اسياس افورقي فرض نفسه كقائد "وأب" للمشروع الوطني الارتري، وهذا يفسر من ناحية تهميش دور "ولد آب ولد ماريام" كأحد أباء المشروع الوطني في الثقافة التي ينتمي لها هو؛ واعتباره غير المصرح به قولا، ولكن المشاهد عملا هو أن الثورة الارترية بدأت به وانتهت به، في تغييب كامل لأدوار الرموز الوطنية السابقة له على مختلف الوانها الثقافية والسياسية.
في الأخير قد يقدم منهج شابال ومحدداته تفسيرا "تاريخيا" يصلح لفترة زمنية محددة في السياق الارتري؛ وقد يتجاوزه الزمن خاصة في ظل تبدى نوايا جديد لقائد المشروع الوطني اسياس افورقي؛ وهذه النوايا وإن تلبست الشعارات والسرديات الوطنية إلا أنها أصبحت محل شك وريبة لدى الشعب الارتري، بل محل أسئلة مرتابة وشائكة وخائفة في نفس الوقت في ظل إضعاف ممنهج للكيان الوطني الارتري.
وتبقى الطرق والأسئلة ودفة الحوار مفتوحة على كل الاحتمالات، حتى الأكثر شؤما منها.
ارتأيت رصد وكتابة مداخلتي هنا وذلك لعدة أسباب منها: أهمية الانتقال من السياسي الآني إلى اتجاهات فتح حوار حول القضايا الوطنية الكبرى؛ وهذا المقال هو فصل في الكتاب المقبل من ثلاثية تفكيك التفاعل السياسي الارتري. ولا أشك أن الحوار البناء حول الموضوع سوف يفتح لي أفاقا أوسع عند التناول المستقبلي.
بداية أحب أن أبدا بنقد ونقض مفهوم شائع وهو أن من لم يكن عضوا في الجبهة الشعبية أو جبهة التحرير أو الأحزاب السياسية السابقة لن يستطع الكتابة عنها.. وهذا مفهوم يضع "تابو" أو مانع أمام دراسة تجارب التنظيمات والأحزاب في التجربة السياسية الارترية. فهل كان جون ماركاكيس المتخصص في شئون القرن الافريقي ارتريا حتى يكتب عن ارتريا؟ أو جوزيف فينوسا الباحث الأمريكي ارتريا ومسلما عندما كتب كتابا قيما حول الإسلام والحراك السياسي في ارتريا في الاربعينات وحتى الستينات من القرن الماضي؟
كل ما يحتاج إليه أي فرد في دراسة هذه الأحزاب والتنظيمات ليس الانتماء الوطني والتنظيمي؛ بل الموضوعية والفضول العلمي وروح البحث الوثابة ورحابة الصدر. أقول ذلك بغرض توسعة مواعين الحوار الهادف ولكسر حاجز الموانع غير المقبولة.
مدخلي لتناول فكرة المشروع الوطني هو استمداد من تقعيد البروفيسور الراحل باتريك شابال، أستاذ التاريخ الافريقي والعلوم السياسية في كلية كينغز كوليج في لندن، والذي رحل عن عالمنا في عام 2014.
تجاوز شابال، ذو الأصول البرتغالية، أحداث التاريخ ليضع منهجا في دراسة السياسة والاستعمار في افريقيا، ويعتبر كتابه "القوة في افريقيا" الصادر في عام 1992 محددا لمنهجه الأكاديمي البحثي.
تخصص شابال في دراسة افريقيا البرتغالية، أي مستعمرات البرتغال في افريقيا كأنغولا وجزر الرأس الأخضر، ولكنه وبحكم المامه بالفرنسية والانجليزية توسع في دراسة مسائل الثورة والثقافة وبناء دولة ما بعد الاستعمار وأزماتها. ضمن هذه التوسع الدراسي قدم شابال تحديدا للمشروع الوطني في افريقيا حيث أشار إلى أنه المشروع الهادف إلى صنع ثقافة بديلة ضمن حدود الدولة القومية الموروثة من الاستعمار للإجابة على أسئلة الهوية والأمة في السياق الخاص لكل بلد بشكل منفرد. ويهدف المشروع إلى بناء أوطان مستقلة ذات هوية منفصلة ومتميزة في ظل تداخل الحدود والسكان واللغات والأصول التكوينية.
استخلص شابال بأن الأفارقة تصدوا لواجبين هما مقاومة المستعمر وبناء الامة أو الدولة. ولتحقيق هذه الأهداف اعتمدت حركات التحرر الوطني على شروط وهي: أن يهدف المشروع إلى تحويل أعضاء القبائل إلى مواطنين: أي تحويل قبائل الماساي في كينيا او الأشانتي في غانا، أو اليوربا في نيجيريا إلى مواطنين ضمن محددات الدولة القومية المشابهة للدولة الأوروبية القائمة على مفهوم الأمة والقومية. هذا الانتقال الحداثي لن يتم بدوره ما لم تتوفر له الشروط التالية: وجود أحزاب ثورية طليعية تقود الثورة وتحقق مفهوم الأمة. ثانيا أن يكون للمشروع أيديولوجية ذات طابع علماني تعتمد مفاهيم المساواة والعدالة والمواطنة؛ حتى لو كان على المستوى الرمزي فقط، ثالثا أن تكون هناك لغة "قومية" محددة لهذا المشروع؛ لأنها قوام الهوية الجامعة، وهذا من أعوص القضايا التي واجهت أصحاب المشروع القومي، لأنه محدد الهوية مقارنة باللغة القومية في أوروبا مثل اللغات الألمانية، والإيطالية، والفرنسية، والانجليزية. عقد من هذا الخيار أن اللغات الافريقية في الغالب غير مكتوبة "فيرناكيولر" أو عابرة للبلدان: كالسواحلية مثلا في شرق افريقيا والتي تنتشر، ولو بشكل متقطع، في المساحة من البحيرات الكبرى حتى جزر القمر في جنوب القارة.
وأخيرا هناك القيادة الكاريزمية للحزب الطليعي، وهذا يفسر وجود قادة التحرر الافريقي وأباءه مثل جومو كينياتا في كينيا، وكينيث كاوندا في زامبيا، وجوليوس نيريري في تنجانيقا، وكوامي نكروما في غانا وأحمد سيكو توريه في غينيا وآخرين.
لأغراض المقال سأتناول المشروع القومي لدى الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا وبالتحديد لدى قائد التنظيم اسياس افورقي في تجسده العملي في المراحل الأولى للتنظيم وفي دولة ما بعد الاستقلال ضمن مفهوم الهوية الارترية الواحدة. إذا طبقنا محددات شابال كعلامات طريق؛ يمكننا القول بأن الجبهة الشعبية اعتبرت نفسها التنظيم الطليعي القادر على خلق الهوية الوطنية الارترية الجامعة، اعتمادا على مبدأي أن العيش المشترك في كيان موحد تحت الإدارة الاستعمارية الإيطالية وفترة النضال المشترك كانتا المحددين الأساسيين للهوية الارترية الجامعة. ثانيا أن التنظيم هو الطليعة الثورية خاصة بعد تبنيه الأيديولوجية الماركسية وحسب هذه الأيديولوجية التي تم تبنيها في بدايات تأسيس التنظيم وعبرها تم تبني شعار تغييري وهو شعار "ثقافة جديدة لمجتمع جديد" أو "حديش بهلي نحديش حبرتسب" باللغة "الوطنية" الارترية للمشروع القومي وهي لغة التجرينية. وجاء من ضمن اختيارات هذه اللغة أنها غير عابرة للبلدان "ما عدا انتشارها "المحمود والمقبول" إلى الجنوب من ارتريا، ثم تميزها حسب فهم افورقي عن العربية التي هي عابرة للبلدان، ولغة غير أصيلة في الكيان الارتري. وبهذا تصبح هذه اللغة هي لغة المشروع القومي ابتداء من التعليم العسكري في الميدان انتهاء بمخاطبة الرئيس "للأمة" بها في الاحتفالات القومية للبلاد إضافة إلى كونها "اللغة الرسمية" للبلاد في الواقع. أما الثقافة الجديدة تضع اللغة العربية ضمن حيز الدين باعتباره ممارسة "بالية" وتحاول الثقافة الجديدة تجاوزه في مسيرتها لبناء المجتمع الجديد ذي الثقافة الجديدة، وهنا لا تستثني الديانة المسيحية أيضا من النظر إليها كأحد الممارسات الثقافية البالية أيضا. وبعد تحديد القوى الطليعية القائدة للمشروع الوطني ننتقل إلى القائد الكاريزمي؛ حيث استطاع القائد اسياس افورقي فرض نفسه كقائد "وأب" للمشروع الوطني الارتري، وهذا يفسر من ناحية تهميش دور "ولد آب ولد ماريام" كأحد أباء المشروع الوطني في الثقافة التي ينتمي لها هو؛ واعتباره غير المصرح به قولا، ولكن المشاهد عملا هو أن الثورة الارترية بدأت به وانتهت به، في تغييب كامل لأدوار الرموز الوطنية السابقة له على مختلف الوانها الثقافية والسياسية.
في الأخير قد يقدم منهج شابال ومحدداته تفسيرا "تاريخيا" يصلح لفترة زمنية محددة في السياق الارتري؛ وقد يتجاوزه الزمن خاصة في ظل تبدى نوايا جديد لقائد المشروع الوطني اسياس افورقي؛ وهذه النوايا وإن تلبست الشعارات والسرديات الوطنية إلا أنها أصبحت محل شك وريبة لدى الشعب الارتري، بل محل أسئلة مرتابة وشائكة وخائفة في نفس الوقت في ظل إضعاف ممنهج للكيان الوطني الارتري.
وتبقى الطرق والأسئلة ودفة الحوار مفتوحة على كل الاحتمالات، حتى الأكثر شؤما منها.
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com