أيمن دراوشة – راضية جراد - دراسة نقدية سيكولوجية حضور الأب في رواية "عائد الى قبري" للكاتبة الجزائرية زكيــة عـلال

يمكن اعتبار البطل الفعلي في راوية "عائد إلى قبري" للأديبة الجزائرية زكية علال هو الأب، وهذا بسبب حضوره مرافقًا لشخصيات مختلفة في معظم فصول الرواية، هذا الحضور الملفت للانتباه جعلنا نبحث في حياة الكاتبة لنكتشف من خلال تصريحات لها بأنها عاشت وتعيش حالة مصالحة مع الرجل الذي يمثل الأب، الأخ والزوج، حضورهم الإيجابي في حياتها انعكس في كتاباتها، إلا أنَّ وفاة والدها سنة 1993 كان الصدمة القوية التي عاشتها ولازمتها إلى يومنا هذا.

فوجع غياب الأب في اللاوعي لدى الكاتبة دفع بها لتعويضه بجعله حيًّا ومتواجدًا في كل الرواية، وهذا يتطابق مع نظرية التحليل النفسي، والكتابة الأدبية للمحلل النفسي " فرويد" الذي أعطى بعدًا سيكولوجيًا للرواية أحدث ثورة في الساحة النقدية الأدبية في العالم.

فحسب المحلل النفسي فإنَّ تتبع مصائر وسلوكيات شخصيات الرواية تعد كمرجعية لاكتشاف اللاوعي لدى الكاتب، حيث إنه اعتبر الكتابة بالنسبة للكاتب إحدى طرق العلاج النفسي، فمن خلالها يفرغ جزءًا من مكنونات اللاوعي : يحب ، ينتقم يحيي من مات ويقتل الحي (حالة رشيد بوجدرة الذي قام باغتياله الرمزي لأب البطل وقد صرح أنها كانت رغبته وقتها في وفاة والده بسبب سوء معاملته لوالدته)،” فرويد ” ركز على اكتشاف الدلالات الباطنة في العمل الأدبي والفني ، مفترضًا أنَّ هذا العمل يتأثر باللاشعور أو العقل الباطن بدرجة ربما تفوق تأثره بعقله الواعي.

ويخبرنا العنوان منذ البداية، أنَّ حياة بطلنا مليئة بالمواجع والدمار والظلم، فها هو يعود بعد سنوات إلى قريته لا كي يبنيها ويعمرها، وهي القرية النائية التي تنقصها أساسيات الحياة بل إلى قبره، وكأن القرية التعيسة ليست سوى قبر. يقول: أول ما يستقبلك عند الدخول إلى القرية النائمة بأحضان الجبل المقبرة، "وكأنها تحيلك إلى سكون الموت الذي ينتظرك عندما تدخلها". (زكية علال. عائد إلى قبري. الجزائر: منشورات الاوطان. ط1. 2015م. ص 15) بل إنه عاد مهزومًا مكسورًا.

ومن خلال قراءتنا السيكولوجية للرواية حاولنا إبراز مواطن انعكاس لا وعي الكاتبة فيها، الأب كان حاضرًا في أغلب فصول الرواية المكونة من ستة عشرة فصلا بدءًا بأب -البطل الإشكالي- فالرواية افتتحت بزيارة الابن يوسف لقبر أبيه، ومن خلال منولوج مطول ليوسف استحضر فيه الماضي بأفراحه وأحزانه لينتهيَ فيه برسم صورة واضحة لآباء شخصياته، والد يوسف يعكس صورة الأب الحنون وشيخ القرية الحكيم المتشبع بثقافة الحياة، وهذا مقتطف على لسانه يبرز النظرة المثالية ليوسف اتجاهه:

"هذا الموقف أول ما عرفني بتم وفاة الأب بعد عملية اغتيال وحشية أثناء العشرية السوداء أسدل الستار على هذه الشخصية (ليبقى امتداد تأثيرها الى نهاية الرواية) ليظهر الأب مرة اخرى مرافقًا لشخصية جديدة "سعاد “حبيبة يوسف هي ابنة الصحفي الشهير سعد الجزائري ، الأب المتشبع بثقافة الكتب والمطالعة، مقتطف آخر بلسان سعاد يوضح أهمية وجود والدها في حياتها: " يوسف...كم أنا بحاجة الى وجودك بجانبي...أحس ان حضورك في قلبي امتداد لحضور أبي"، أسدل الستار مرة ثانية على سعاد وسعد الجزائري بسفر يوسف الى العراق لنشهد ميلاد شخصيات أخرى.

"هذا الموقف عرفني بسر تميز أبي وسر احترام القرية له"

وفاة الأب بعد عملية اغتيال وحشية أثناء العشرية السوداء أسدل الستار على هذه الشخصية (ليبقى امتداد تأثيرها الى نهاية الرواية) ليظهر الأب مرة اخرى مرافقًا لشخصية جديدة "سعاد “حبيبة يوسف هي ابنة الصحفي الشهير سعد الجزائري، الأب المتشبع بثقافة الكتب والمطالعة، مقتطف آخر بلسان سعاد يوضح أهمية وجود والدها في حياتها: " يوسف...كم أنا بحاجة الى وجودك بجانبي...أحس ان حضورك في قلبي امتداد لحضور أبي"، أسدل الستار مرة ثانية على سعاد وسعد الجزائري بسفر يوسف الى العراق لنشهد ميلاد شخصيات أخرى.

وتيرة السرد كانت متباطئة في الفصول الأولى لتتسارع الأحداث في منتصفها وفي خضم هذا ولدت شخصية أخرى "إنعام" صحفية مصرية التقت بيوسف في العراق لتغطية الاجتياح الأمريكي لبلاد الرافدين، وككل مرة على أنقاض الخراب تولد علاقات حب يوسف، شخصية "إنعام" تختزل ماضي الشرق الجميل الذي يعيدنا إلى شهرزاد وشهريار، إنعام هي روح مصر أم الدنيا وهي الوجع العربي من سقوط فلسطين إلى النكبة وصولا الى الاستيلاء على بوابة الشرق ومهد حضارات العالم العراق، لتتوالى بعدها جروح الأمة العربية.

مقتطف يلخص ما سبق كتابته:" كل عربي مشروع مقتول... كل عربي يحمل قبرًا مفتوحًا يتحرك به أَينما ذهب ويتوقع أَنْ يقع فيه بين اللحظة والأخرى"

ببساطة إنعام هي الهاربة بخيبتها من زمن الانحناء إلى زمن اعتقدت أنه شامخًا، هي الأخرى والدها كان مرافقًا لها طيلة ظهورها في الرواية وتأثيره على مسيرتها كان واضحًا، وهذا مقتطف تكلمت فيه إنعام عن ألم والدها الضابط المصري بعد هزيمة 67: "أبي يبكي...أحسست أنَّ أبا الهول وكل جثث الفراعنة المحنطة تبكي...".

لقد ولد الحب بين يوسف وسعاد على أنقاض العشرية السوداء، وبين يوسف وإنعام على أنقاض العراق وبين عمار وسلمى على أنقاض فجيعة فلسطين ... فمن كل الأوجاع العربية يولد حب يعطي أملا أنَّ القادم أفضل.

شخصية أخرى ظهرت في أواخر الفصول من الرواية لتروي قصتها وككل مرة سابقة الأب كان حاضرًا، إنها شخصية عمار الفلسطيني ربما أعطي اسم عمار للفلسطيني ككناية للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات رحمه الله المكنى بـِ "أبو عمار" عمار هو الابن الرمزي لأبي الفلسطينيين ياسر عرفات هو الذي يمثل نظرة جيل الأبناء للقضية الفلسطينية.

في الرواية اعتقلت زوجة عمار بتهمة التخطيط لعمليات تفجيرية لتضع مولودهما داخل أسوار السجن ويوكل لأخيه بتربيته، عمار الأب الذي يذرف دموعًا على زوجته وابنه ليستحضر هو الآخر ذكرى والده وقصة الحب التي جمعته مع جزائرية.

اختلفت صور الآباء بين المثقف، البسيط والوطني إلاٌ أنها صُبِّت في نهر واحد وهو أهمية وجودها في حياة الشخصية، وكما قال أرسطو فإنَّ محاكاة الشخصية ليس نسخًا مباشرًا لها وإنما هو عملية تمثيل لها، يحاكي بها أوجه الحياة.

حسب "فرويد " فإن داخل كل منا أصواتاً فطرية تولَّتِ المعطيات الثقافية قمعها، أمَّا بالنسبة للكاتبة زكية علال فلقد كانت صرخة فطرية لوجع الفراق والفراغ الذي خلفه رحيل الأب في حياتها، كبحها لهذه المشاعر جاء كرغبة طبيعية لاستمرار حياتها كزوجة وأم، ولكن الرغبة في وجود الأب معها وبجانبها عادت للظهور لتنفلت من سيطرة اللاشعور وتفرض نفسها معلنة وجوده الدائم من خلال قلمها وبين السطور...

تتنوع الأمكنة في الرواية، ويكون مسرحها الرئيس، الجزائر والعراق وفلسطين ومصر.

تتناول الرواية جبروت الآخر متمثلا بالاحتلال الأمريكي للعراق، والاحتلال الصهيوني لفلسطين. والعجز العربي الذي يبدو وكأنه قدر.

هي رواية أحلام الشباب العربي بالنهوض، وبناء العالم العربي على الحرية والتقدم العلمي، في مقابل فساد الحكومات التي ستعجز حتى عن حماية أراضيها رغم صرفها المليارات على جيوش لا تحمي الوطن، إنما أُنشئت لحماية العروش المتهالكة.

وتنتهي الرواية باستشهاد عمار، وفقد إنعام عينها اليمنى، ويوسف إحدى رجليه، كما يصاب بالعجز الجنسي، نتيجة قذيفة سقطت على بوابة الفندق المليء بالصحفيين، وكأن الأمريكان أرادوا بقتل الصحفيين دفن حقيقة همجيتهم، وإيغالهم بقتل العرب.

وإذا كانت شخوص الرواية كل منها يحمل همّه وأوجاعه، واندثار أحلامه، وبدت الرواية وكأنها متخمة بالتشاؤم إلا أنَّ الكاتبة تعلي من قيمة الشارع، وهو المكان الذي يشكل قلب المدينة والقرية، فمنه يروحون ويجيئون، وإنْ ظهر ساكنًا، إلا أنه "كالبركان الخامد، لا نعرف متى يثور... قد ينام مئات السنين، لكنه سيثور يومًا". (ص 104) وسيكنس كل غبار الظلم والدكتاتورية.

وما لفت انتباهي في الرواية، امتلاك الروائية لناصية اللغة، وقدرتها على تشكيلها كما تريد. فجاءت اللغة فصحى وواضحة، وطعمتها ببعض الأمثال والأشعار والكلمات العامية القليلة، وبدا تأثير الكاتبة بالكتب المقدسة والتاريخ العربي والإسلامي والعالمي جليًا.

يقول باختين إنه لا يوجد نصًّا مستقلا بذاته، إنما هو "امتداد طبيعي لما هو خارج عنه، إنه رهين النصوص الأخرى، ففي أي نص، أو أي عمل أدبي يمكننا أنْ نكشف عن علاقات خارجية واضحة". (وائل بركات نظرية النقد الروائي عند باختين، مجلة جامعة دمشق للآداب والعلوم الإنسانية مح 14، ع 3،1988م، ص 84)

إن محاورة التراث تمنح الرواية الصدق والحرارة الفاعلية.

يقول يوسف عن حادث مقتل والده، وكأن الموت للمواطن الجزائري لا بد منه: "وأنه كان عليه أن ينفذ من أقطار السماوات والأرض، ويطّلع الغيب ليغير وجهته وينجو بحكمته". (ص 56)

وتأتي الكاتبة على شخصيات من التاريخ العربي الإسلامي والعالمي، ففي الطائرة الذاهبة إلى بغداد، يحلم يوسف بالرشيد والحجاج، يقول هارون الرشيد: "أمطري أين شئت فإن خراجك سيعود إلي". (ص 176) دلالة ثقته بالنصر على أمريكا!

وتأتي على ضياع الأندلس لتقارنه بضياع بغداد، تقول أم عبد الله الأحمر مؤنبة ابنها الذي أضاع آخر أرض عربية هناك: "إنك تبكي بكاء النساء على ملك لم تحافظ عليه حفاظ الرجال". (ص 251)

وعن ضرورة هزيمة الاستسلام، يقول يوسف بلغة موحية وتشير إلى التأثر بالدين: "ونغتسل كما التائب من ذنبه". (ص 236)

إنَّ الكتَّاب العرب لجأوا إلى التراث إمَّا محاولة للوقوف أمام التغريب، الذي جعله الاستعمار أولية، وأما لسبب جمالي مما يتطلب من الكاتب الشعور العميق بالزمن والتاريخ.

امتازت لغتها بالشعرية، والقدرة على النفاذ إلى الواقع، والتصوير الدقيق لحالة الشخصيات النفسية والاجتماعية.

لا شك أن اللغة هي المكون الأساسي للنص، ويقول عبد الملك مرتاض عن اللغة الشعرية للرواية إنها تتجسد "في تقديم الشخصيات ووصف المناظر والأحياز، والأهواء والعواطف..." (عبد الملك مرتاض. في نظرية الرواية. الكويت: سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، رقم 240، 1998م. ص 132) إذ لا يمكن للروائي أنْ يستغنى عن ذلك.




ومن الأمثلة على استخدام الشعرية، قول يوسف يصف حالته النفسية الكئيبة: "خريف يتحرك على أطراف أصابعه، يمد يده بسكون موجع وهو يقترب من نافذة أيامي المتسارعة، ويتسلل هاربًا من دفتر العمر". (ص 93)

وأيضا في وصفه لحبيبته سعاد، وغبطته بها، يقول: "آه...أيتها الراقصة في منعرج أفكاري...كيف سمحت لك أنْ تعبثي بأحلامي الصغيرة...". (ص 81)

نجحت الروائية في منح القارئ رواية قوية وعميقة ومتماسكة وممتعة في آن، رغم الآلآم التي لا تكاد صفحة تخلو منها.

فإن تكن عربيًا وطنيًا تسعى إلى الحرية، وإزاحة الظلم، وبناء مستقبل زاهر، يعني أنْ تضعَ الموت نصب عينيك في زمن المجرمين والفاسدين والخائنين الذي يسعون للمحافظة على امتيازاتهم بشرب دماء الفقراء والبسطاء.



أيمن دراوشة – نــــاقد أردني

راضية جراد – ناقدة جزائرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى