عبدالله البقالي - سان شيطان في دار "بن احساين"

بعد غروب الشمس، اتجه شباب جوق" الروينة" المشكل من الطلبة و بعض تلاميذ القرية إلى دار " بن احساين"، حاملين آلاتهم الموسيقية و بعض الأكل لقضاء سهرة هناك تضامنا مع " سان شيطان" الذي كان قد أودع السجن المحلي نتيجة تهمة بالسطو على خم أحد الأعيان.
لم يكن في الأمر مشكلة. فسجن دار بن احساين يتحول بعد انصراف المخزني العجوز في السادسة مساء إلى ما يشبه أي مأوى. يمكن دخوله أو مغادرته في أي وقت دون رقابة. و في الغالب كان يعهد إلى أحد السجناء بمراقبة الوضع.و هذا لم يكن ليثير مشاكل ما دام أن جل السجناء موقوفين نتيجة قضايا بسيطة لا تستدعي تهورا من الموقوفين كأن يفكروا في الفرار.
من قبل كان الوضع مختلفا، خصوصا في الفترة الاستعمارية، و ما تلاها من عقود في مرحلة ما بعد الاستقلال. و التي خلالها عرف السجن أزهى فترات نشاطه. و لأهمية المرحلة، فقد أنشئ حي صغير بجواره لا يسكنه غير المخازنية. أولئك الذين كانوا يقومون بأدوار حيوية. حتى أنه كان لديهم جياد كانت تصرف لها مستحقات إضافية بسبب توسيع مجال خدمتهم التي كانت تتضمن اختراق الضواحي بحثا عن مطلوبين، أو لتسلم معتقلين كأولئك الذين رفضوا تسليم أسلحتهم بعد رحيل القوات الفرنسية، أو لاعتقال بعض المنتسبين لحزب الشورى. و لعل الكثير من الناس انطبعت في ذاكرتهم صور أشخاص كانوا يساقون مكبلين و أجسادهم تتلقى ضربات سياط المخازنية خصوصا حين يقف الناس على جنبات المسار مستعرضين المشهد صامتين. يفعلون ذلك بزهو و استعراض مبالغ فيه. لكن أهمية دار بن احساين تراجعت مع الزمن بعد أن صار مخفر درك الورزاغ هو ما يتابع القضايا المهمة. و بالتالي اقتصر السجن المحلي على وجود اشخاص متابعين في قضايا تافهة من جهة. و لحاجة وجود مساجين يقومون بصيانة و رعاية حديقة دار القايد.
عند مدخل دار بن احساين وقف سان شيطان مرحبا بالوافدين. و يبدو أنه كان في أشد الحاجة لحقنة معنوية تنسيه ما تعرض له طوال اليوم من تنكيل و جلد كانت آثاره بادية. و أيضا كي يبرز مكانته بين السجناء الغرباء الذين كانت تضمهم الدار.
من قبل، لم يكن ليحدث أمر كهذا. فنخبة " الجماعة" التي كانت تتخذ مقرا لها مدخل مسجد القرية كانت تطوق كل النزاعات التي تنشب بين ساكنة القرية. فينزل الأعيان بثقلهم المعنوي، و يجدون مخرجا للمشاكل الصغيرة. لكن في حالة سان شيطان لم يحدث ذلك. و يبدو ان انعكاسات تصرفاته الميالة للعنف، أفقدته كل تعاطف من قبل الأعيان. خصوصا و أنهم يجدون أنفسهم مستهدفين من قبله.
عامل اضافي آخر لعدم تدخل الاعيان هو أنه لم يكن سليل إحدى الأسر الكبيرة في القرية.بل كان نسل أسرة ارتبطت بخدمة " الخليفة الحساين" الذي تم تعيينه من قبل الفرنسيين كحاكم للقرية. و ظلت على هذا الوضع حتى بعد تبدل الاحوال و موت الحاكم. و سان شيطان هو من القلة القليلة من أطفال القرية التي لم تلتحق بالمدرسة. و عوضا عن ذلك التحق بكتاب القرية الذي كان عبارة عن غرفة بدار " الخليفة" نفسها. و لأن الفقيه سي " المكي" كان معوقا. فقد كان في حاجة الى من يخدمه و لو في الحاجيات الصغيرة. و لم يكن من أحد مناسب لذلك غير " سان شيطان" الذي تطوع بمنحه لقب" الشيطان" و كان اكثر من التزموا بالكتاب إلى غاية موت سي المكي. و لحظتها كان قد بلغ " البقرة الصغيرة" أي أنه حفظ نصف القرآن. غير أنه و بكيفية يصعب فهمها، ارتد إلى الأمية. و عمل في ورشات البناء و أعمال بسيطة أخرى.
في بداية شبابه أدرك أشياء كثيرة، من ضمنها وضعه الاجتماعي المتواضع. و من ثم عمد إلى تصحيح ذلك الوضع موظفا قوته البدنية المخيفة. و كان أول ما هدف إليه هو محاولة اقتلاع اللقب الملتصق به " الشيطان" غير إن هذا المسعى سرعان ما تبخر حين تطوع إحد الشباب و أضاف للقب كلمة " سان" و تحول اللقب إلى مشروع انضاف له مع الوقت" العظيم" ليصبح اللقب " سان شيطان العظيم" و لكونه يتضمن تلك المفردة الفرنسية، فقد أعجب باللقب لحد أنه صار يتبجح به حين كان يصل الثمالة في سهراته فلا يتردد في ان يكسر سكون الليل صارخا: أنا سان شيطان العظيم.
بحفاوة فيها الكثير من الامتنان تقدم سان شيطان رفاقه وهو يقودهم الى المكان الذي كان قد نظفه و بسط فيه بعض الافرشة.
السجناء كانوا ينظرون للزوار بغرابة. فهم لم يتوقعوا جلسة كهذه، أو على الأقل ألا تتم في مكان كهذا. و يبدو ان الطعام الذي حمله الزوار، و الذي كان كميته تفيد أنه أعد لعدة اشخاص قد لطف من مزاجهم و خفف من الأحاسيس التي يمكن ان يشعر بها شخص موقوف.أما بعد أن كشف الزوار عن ما حملوه من كيف و حشيش، فقد انسجم الموقوفون المدخنون كليا مع اجواء السهرة، و التهموا كل ما كان فوق البساط. ثم بدأ العزف.
العزف في مكان مظلم أو قليل الإضاءة له وقع خاص. هو إشبه بذلك التبادل الذي يتم بين أجسام ساخنة و أخرى باردة، إذ يبدو أن كل واحد يرغب في أن يقتحم و يسكن عالم الآخر ، خصوصا حين يتمدد مفعول التخذير كدرج يرسم مكانة يتوهم من سيبلغها أنه سيطوي كل التاريخ الذي خلفه و يلقي به في لهيب الجحيم، لتبدأ حياة أخرى مستوية بلا عقبات.
سان شيطان لم يتعلم بالطريقة نفسها التي رفعت من شأن الآخرين. لكنه سلك طريقا مختصرا، إلا أن الثمن كان باهضا. و مع ذلك، فشأنه ظل هو هو لحد يتوهم أن وجهه كان أكثر ما حدقت فيه الأقدار العابسة و حفظت ملامح وجهه ، و خصته بالتعاسة التي يستحقها كائن صنفته فائضا عن الوجود.
آلام السياط التي تلقاها من المخزني"بودرهم" تؤكد ذلك. لم تؤلمه الضربات، لكن الذي أوجعه آلمه حقا كان تساؤله عن ذلك العناد و الإصرار الذي ابداه المخزني من أجل أن يلحق به أكبر قدر من الأذى. لا يذكر أنه جرت بينهما واقعة ما ترتب عنها بحثا عن ثأر. ثم إن المخزني كان يمكن ان يكون في نفس الوضع لو لم تجعله الظروف يرتدي زيا مخزنيا. هل المهم في هذه الحياة هو الأزياء التي يرتديها الإنسان؟
يستعيد على إيقاع وصلة غنائية جميلة كيف تغيرت أحوال رفاقه و ظل هو في المكان نفسه. لم يكن هناك فرق بينه و بينهم. بضعة أحرف لا تعتبر ضرورية من أجل الالتحاق بالجندية. لكنهم على الأقل في نظر الآخرين أحدثوا التصويب الذي رفع مقاهم إلى مصاف الأسوياء الذين يتودد اليهم الناس، و يطمح البعض في مصاهرتهم. لكنه هو ظل في المرتبة نفسها.
لم تنفع كحول " ادريس الصنهاجي" المخصصة للموقد في إحداث التصويب. كان يشعر بطاقة هائلة حين يخرج ليلا إلى الشارع. و لم يكن يجد من شئ يفعله سوى أن يعترض المارة. يطالبهم بأوراق تعريفهم. و حين يخاف الغرباء منه، يمتثلون لأوامره اتقاء لشره. يتقدم بعدها باستفسارات كثيرة يهدف منها فتح باب عدوانيته التي تدفع الآخرين للخوف واللفرار من إجل أن يلاحقهم، حتى و ان كان يتعمد عدم الامساك بهم. هروبهم كان يكفيه ليرضي نفسه و يشعر العالم أنه هنا. لكن عودة رفاقه المجندين في إجازات كان يبدد هذا الإحساس. هو نفسه كان يظل ملتصقا بهم طيلة تواجدهم بالقرية. كان ينبهر وهو ينظر إلى الحمولات التي يعودون بها من البعيد. حقائب كبيرة محشوة بالسجائر و قنينات العطر. آلات التسجيل. ملابس. أحذية. و أموال كان يرى لها تجسيدا في الولائم التي كانوا يعدونها على طول الإجازة. و أهم من كل هذا الحفاوة التي كان يبديها الناس كلما طالعتهم وجوههم.
مرات عدة حاول الالتحاق بالجندية. و في كل مرة كان يتم الكشف عنه، كان يرفض بسبب ضغط الدم العالي الذي كان يلازمه....

يتبع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى