أمل الكردفاني- أزمة الطبقة الوسطى

على الفيس قرأت منشوراً عابراً لشاب مصري يبكي على والده الذي توفى، ووضعه أمام مسؤولية أن يحيا بدون سند. أي أن يواجه الحياة بمفرده.
أدركت مباشرة أنه من الطبقى الوسطى، والتي ستعاني مستقبلاً معاناة كبيرة قبل أن تنهار، لأن العالم اليوم ينقسم ببطء ولكن بإصرار، إلى طبقة ارستقراطية جديدة، وطبقة بروليتارية. أما الطبقى الوسطى فستنهار تماماً خلال الخمسين عاماً القادمة.
الطبقة الوسطى اليوم هي طبقة الأكاديميين والمثقفين، والطبقة الارستقراطية هي طبقة التجار (أصحاب الاقطاعيات الجديدة)، أما البروليتاريا فهم معروفون. ستكون فرص الانتقال من طبقة الكادحين سهلة لأن النظام العالمي يتجه نحو فتح منافذ ولكن هذه المنافذ ستكون فقط لأصحاب الإرادة القوية والعصاميين الأذكياء حتى لو كانوا أقل تعليماً وثقافة، (هذا النموذج ظهر لدينا جلياً في صعود البعض عبر شهرة بيعهم للسمك أو للشاي أو السعوط أو الغناء أو التماهي السياسي مع الفرصة).سنلاحظ أن أغلب أعضاء الحكومة اليوم هم من الطبقة الكادحة مع قلة من الطبقة الوسطى، مع ملاحظة أن الطبقة الكادحة (بمفهوم ثقافي) تعني عدم وجود توارث مدني ثقافي حتى لو صعد الشخص من البروليتاريا إلى الوسطى أكاديمياً فإنه سيحمل ثقافة الكادحين، غير أن أبناءه سيحملون ثقافة الطبقة الوسطى فيما بعد (نهاية الإنزياح التعاقبي).
وهذه الطبقة الوسطى وليس المتقاربين معها، تعاني من مشكلة ذلك الشاب المصري، إذ أنها تعتمد على التعليم الأكاديمي لتترقى عملياً واجتماعياً، وهذا ما يستهلك وقتا طويلاً قبل الولوج إلى عالم المال. عالم المال يحتاج لعقليات نشأت كعقليات تجارية، ومتصيدة للفرصة، وغير مكترثة بما حولها إن لم يكن ما حولها مفيداً لها مادياً كما لا تكترث بالكوابح الأخلاقية. لذلك فالسياسة بالنسبة لها فرصة يجب اصطيادها، أما الثقافة فلا أهمية لها. وهكذا ففي الغالب سيجد ابناء البروليتاريا قواسم مشتركة مع المؤسسات المالية الارستقراطية الجديدة. في حين يصبح المثقف مهمشاً باستمرار، وتُستخدم الطبقة الوسطى في حدود الحوجة إليها. لكنها لن تتمكن أبداً من الصعود لأعلى ولن تعترف أبداً بأنها قد سقطت عندما تسقط.
إن المستقبل للنصابين واللا أخلاقيين واسع، الذين لم ينشأوا على ثقافة الطبقة الوسطى التي كانت تخلق ذلك التوازن في العهد القريب. وهذا الشاب سيعاني من السقوط قبل أن يستسلم ويعترف بسقوطه حين تنفد ذخيرته من الأسلحة الممكنة.
أزمة الطبقة الوسطى لا يمكن تخيلها أو فهمها بسهولة، لكنها ستحدث لا محالة، وستنشأ طبقة بروليتاريا من أصحاب ثقافة الطبقة الوسطى لبضعة عقود ثم تندمج في ثقافة البروليتاريا أخيرا، أو ما أسميه بالإنزياح التعاقبي للثقافة. الفكرة بسيطة جداً وتفسر لنا غموض بعض الحالات. فهي تنطلق من فيديو شاهدته قبل سنتين أو ثلاث لتجربة حقيقية حيث جيئ بمجموعة قليلة من الممثلين تجلس داخل صالة انتظار. وقد اتفقوا على النهوض من كراسيهم عندما يصدر صوت جرس ما، ثم يجلسوا مرة أخرى بعد توقف صوت الجرس. يدخل شخص جديد لا علم له بالخدعة، ويجلس إلى جانب المجموعة، التي تنهض وتجلس على صوت الجرس، فينهض الشخص الجديد ويجلس متبعاً سلوك الجماعة. يدخل أشخاص جدد آخرون واحداً تلو الآخر ويقلدوا الباقين، ويخرج الممثلون الأصليون واحداً تلو الآخر، حتى لا يبق إلا الأشخاص المخدوعين، ومع ذلك فكلما دق الجرس تراهم وقد نهضوا ثم جلسوا. هكذا يتم الإنزياح التعاقبي، مهما حصلت من تغيرات إجتماعية، إذ تبقى الثقافة الأولى مؤثرة لعقود قبل أن تتمكن ثقافة جديدة من التملص من مؤثراتها البيئية الأصلية. لذلك فالانتقال الاقتصادي من طبقة لأخرى (صعوداً وهبوطاً) يحتاج لوقت طويل كي ينقل معه ثقافته؛ أي يحتاج لجيل أو جيلين آخرين.
الرابط بين الإقطاعيات الرأسمالية الجديدة بالطبقة الوسطى: ستعمل الارستقراطيات الجديدة على ربط مؤسساتها بالطبقة الوسطى إلى الحد الذي يخدمها ربحياً، ولكنها خارج هذا الحد ستعمل على تهميشها، لتنهار وتسقط وتستبدلها بطبقة (بروليتاريا وسطى) أي لم تتخلص من ثقافتها القديمة بعد رغم انتقالها إلى الطبقة الوسطى، لأن هذه الطبقة الجديدة تملك (القدرة على اقتناص الفرص والمعرفة واللا أخلاقيات الكابحة) كما تمتلك التملق الكافي لتأمين مصالح الطبقة الأرستقراطية الجديدة. بعد جيلين على الأقل تضعف مملكة هذه الطبقة الوسطى داخل النظام (system) وتكرر ما حدث لسابقتها، ولكن بعد ثبات الثقافة البروليتارية لفترة طويلة داخلها كطبقة وسطى (نتيجة الانزياح التعاقبي)، وخلال هذه الفترة ما بين الصعود والهبوط ستكون قد خدمت المؤسسات المالية بحيث تتمكن هذه الأخيرة من استرداد ما انفقته من تكاليف بل والحصول على أرباح ضخمة.
نيتشه داخل اللعبة: ظل نيتشه ملهماً لهتلر، إذ لا مكان للضعفاء، وهذا هو نفسه التوجه الرأسمالي العالمي. إذ يعتبر أبناء الطبقة الوسطى عالة على المؤسسات المالية المسيطرة أثناء انحدارهم إلى طبقة مسحوقة. وهم في الواقع بلا نفع حتى لأنفسهم، لأنهم لا يملكون موهبة اقتناص الفرص خلافاً لأبناء الطبقة الكادحة والطبقة الارستقراطية الجديدة، كما أنهم -أي أبناء الطبقة الوسطى- يتمتعون بقيم أخلاقية ضيقة لا تتفق مع ثقافة التجارة والأعمال والسياسة. فالتحالف بين السلاح والمال (كما هو عندنا الآن) هو في الواقع تحالف بين أبناء الطبقة الكادحة وأبناء الطبقة الارستقراطية. تعمل الأخيرة على تأمين مصالحها بالأولى وتستفيد الأولى من توجيهات وارشادات الثانية، وبما أن كلا الطرفين ليس لديه قيم أخلاقية، فإن كل طرف على استعداد للإنقضاض على الطرف الآخر والتهامه، ولذلك ستكون القوانين بينهما عادلة جداً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى