حسام المقدم - قهوة بُوتيرو...

اليوم، في الضُّحى تحديدا، صحوتُ. كالعادة رميتُ نظرة نحو الشجرة القائمة في ركن الحجرة: لا تزال على حالها وزهوتها الخضراء المُراوغة. من فراشي صفقتُ كفيّ ببعضهما، وخرجت حروف بطيئة من شفتيّ المزمومتين: بوتيرو! جرى ريقي على رائحة القهوة، فقمت لإعدادها. في المطبخ الصغير المسنود على حجرتي؛ تناولتُ الكيس الورقي المحندق، ووقفت تلقائيا أمام صورة الفنجان وأذنه التي تُشكل علامة استفهام فوق طبق بلون القشدة. لابد من المرور على اسم “بُن بوتيرو” قبل أن أسحب الملعقتين إلى قلب الكنكة. حين تعلو الرغوة وتبدأ في الفوران؛ علىّ أن أقطفها في الوقت المناسب، وعلىّ أن أعود لرشدي: رغم كل شيء، لا يمكن تعويض فنجان القهوة عند بوتيرو! سيكون بوتيرو الخمسيني هناك جنب المكتب القديم، الذي يحاسب من خلاله الزبائن. سيلقاني بابتسامة من وجهه الأبيض المُدوّر. بعينيه الصغيرتين، الغائصتين في محيط لحمي يلمع كله؛ سيرسل رقصة بحاجبيه نحوي، وهذه هي طريقته الفريدة في الاندهاش لغياب زبون حميم. عمود الشيشة أمامه مثل مسلة صغيرة ثابتة، والماء يكركر في أسفل الزجاج الملون على مهل واسترخاء. ينام المبسم في فمه، ويتلوى الخرطوم الوبري على كرشه المستدير. تدور المراوح المُغببة في دوائر ناعمة، تتناسق مع سرعة قرص عداد الكهرباء، وصوت الطنين المكتوم لمطحنة البُن الدائرة هناك في الوراء عند مدخل حارة “علاء” بيّاع الجرائد. عند بوتيرو ستمدد رجليك وتسترخي، وسيراودك أنفك لاستنشاق المعسل الفائح دون إذن منك. ثورة لسانك ستكون مدوية، حين يتلصص من فرجات شفتيك تجاه تابلوه مفاتيح المراوح وكوبسات الكهرباء وجسم العداد نفسه، حيث يكاد التبغ البُني المتجمد يسيل برعشة لاذعة. عيناك ستأخذهما صورة لأربعة أشخاص، أربعة أجساد تسد عين الإطار.. الأب المرحوم بالجلباب والتلفيعة الطويلة، وفي الخلف يقف بوتيرو والأخوان جورج ووليم. أن تجلس هنا؛ فأنت في سُرّة مدينتنا الصغيرة، حيث امتداد شارع “عمر أفندي” يتقاطع مع ناصية النادي الرياضي على النهر، والقهوة نفسها عن يمينها محل للكشري وزقاق يُفضي إلى الجرائد والكتب، وعن الشِّمال بطول الشارع محلات ومكتبات وكل شيء. في ذلك الجو المُستغني؛ ومنذ شهر تقريبا، استقبلَ بوتيرو حكاية جديدة من حكاياتي. دلّى دماغه فوق مبسم الشيشة، وشفتاه كانتا تتذبذبان بانفراجات متتابعة: “كنتُ يا بوتيرو يا أخي في نفس الحجرة الوحدانية على سطح العمارة، وفي وقت التهيؤ للنوم. استغربت جدا من طرقات خفيفة على الباب. فتحتُ فوجدت واحدا مهيبا لا أعرفه يحمل بين يديه شجرة زاهية الخضرة، منداة بقطرات على أوراقها وثابتة في إصيصها الفخاري المملوء بطين أسود خصب. قال إنه جاءني من طرف فلان الذي لم أسمع به، وأن هذا الفلان يبعث لي هذه الهدية عربونا لمحبة قادمة، ويطلب مني أن أهتم بهذه الشجرة بشكل يومي من حيث السقاية وملاحظة تفتح الزهور والتقاط ما يسقط أولا بأول. الشرط العجيب الذي طلبه هو ألا ألمس الشجرة أبدا مهما حدث، لأن في ذلك موتها الأكيد، فهي من فصيلة نادرة جدا. ونمت يا أخي وهذا الشيء بجواري في ركن الحجرة. وفي الصباح كانت نضارتها تشع على المكان كله. العجيب أني عملت بالوصية واعتبرتها شجرتي. ما هذا؟ ومَن الذي أرسلها دون معرفة؟ يظهر أنه شغل عفاريت”. رفع بوتيرو رأسه الذي ظننته نام مع الشيشة. كنت أعرف أن هذا الدماغ الحشّاش يُقلب الموضوع يمينا وشمالا: “يا سيدي الشجرة الآن عندك، وهي جميلة كما تقول. ثم ما المانع أن واحدا يُقدرك ويُقدر ذوقك؟ أكيد يعرفك ويعرف أنك فنان وصاحب مزاج، لولا الأيام. ومن الممكن أن يكون سمعك وسمع حكاياتك بنفسه هنا. هل نسيت حكاية القطة؟ أنت بنفسك حكيتها في القهوة قدّام كل الموجودين”. امتدت شفتاي ودارت رأسي نصف دورة. كل الوجوه بدت غريبة على عيني. مَن منهم يضعني في دماغه لهذه الدرجة؟ صحيح أنا أتكلم وأحكي باستمرار، لكن كلامي يكون لبوتيرو بالأخص. هل يكون صوتي عاليا؟ يوم أن رحت أحكي عن القطة لم أنتبه إلى أن الآذان ربما كانت معي، والعيون تسمرت على وجهي ولساني الدافق. تُرى أين هي القطة الآن؟ أنا لم أرغمها على شيء، جاءت في طريقي وتمادت في التمسح. لم تقتنع أن حجرتي على السطوح، والمطبخ المتقشف غير العامر بالروائح التي تأخذ بالأنوف الحساسة؛ غير صالحيْن لها بالمرة. كان لها لون رمادي ثقيل يتموج على جسد بدين ملفوف، وذيل ناعم مستكين برخاوة في حضنها الراقد. لم تزعجها مناغشاتي، بالعكس.. كانت مع كل هشة لتطفيشها تكتفي باختلاجة بطيئة من رأسها للوراء، وشبه إغماضة لعينين كريستاليتين ملونتين. آه لو أرسم هاتين العينين. كلمتها كثيرا: يا بنت الحلال امشي، أنتِ بنت نعمة ولستِ وِش بهدلة. تُحرك ذيلها نصف قوس وتُدلي رأسها المتكور، ثم ترفعه كمن يفيق من حلم. على الأرجح كانت تفكر في كلامي وتسخر: “ليس لك شأن، اخترت أن أكون هنا في هذا العالم البليد وسأظل”. شيء رائع أن يُقاسمك عالَمَك كائن بهذه العجرفة البدينة وهذا الاستغناء، والأروع أن تشتركا معا في صفة جسدية. راحت القطة تتشبه بي، تتبعني في الحجرة بحركات مُتعَبة لاهثة، تنام على فرشتها جنب سريري في وقت نومي وتصحو معي. لا أدري هل كانت تحس بإحساسي الرهيب- أنا البدين المُثقَل- حين أنام وهناك شخص ثان يركب على صدري دوما؟ تقف قدام الحمام الضيق انتظارا لخروجي ثم تسبقني للمطبخ لأنها تعلم طقس إعداد القهوة. تستمر في لعبها الشيطاني وتتوسد حِجري، تحتك بباطن قدمي. في تلك اللحظة انبعثت أصوات الصراخ الليلي الذي يشبه بكاء الأطفال، وذكرى التندر على لقاءات الحب العنيفة لفصيلتها كلها. اشتعلت شرارة ساخنة داخلي، فكشطتُ القطة بقدمي بعد أن جرى لسانها الناعس على مفرق الأصابع. تكورتْ بزخم وقلب مرتج في ركن الحجرة، وأرسلت بعينيها عتابا أنثويا لافحا. قمت نحوها وجرت يدي باهتزاز على شعرها المصقول: ” لا تخافي، نحن بدينان مثل بعضنا. تعالي يا حلوتي”. وبالحبل المفتول الرفيع ربطتها في رِجل السرير من رقبتها الوثيرة، فما دامت ارتضت عالمي؛ فلابد أن تبقى على طريقتي. استكانت لي وكنت أعتني بأكلها وكنس ما تخلفه. لم تُظهِر أي مقاومة، وبقيت ترسل عيونها النائمة الفاتنة نحوي. ضربتها ولم تخمشني. تحسست مواضع غائبة في جسدها ولم تهتم. فككتُ رباطها كي تهرب مني ولم تفعل. اذهبي لمصيرك أيتها المنحوسة، لستُ في حاجة للمزيد. لم أعد أطيق لمسها. جعلتها بسذاجتها تتكوم فوق جريدة كاملة كنت قد فرشتها ورميت عليها سمكتين، ثم حملتها بالجريدة وطوحت بهما من الأعالي. سقط جسدها قبل الجريدة فوق سطح واطئ، ونسيتها تماما حتى انبعثت حكايتها مرة أخرى يا بوتيرو. دعنا الآن مع الشجرة التي تشغلني منذ آخر مرة رأيتك فيها. فات شهر أو أكثر على وجود الشجرة عندي، ومن يومها وأنا لا أريد الحضور إليك كي أُجنب نفسي عناء متابعة الوجوه التي تترصد حكاياتي كما ادعيت. اليوم، في الضحى، لسعتني شرارة اسمك وتلبستني القضية التي آمنت بصحتها لأبعد حد. الشجرة يا بوتيرو، الشجرة والقطة وقهوتك نفسها أيها الوغد. عند الظهيرة، وفي جو شتوي تبوس فيه الشمس الرفيقة إسفلت الشارع والبيوت والوجوه؛ دخلتُ قهوة بوتيرو. كرسيه كان خاليا جنب المكتب، والشيشة قائمة في مطرحها يلتف خرطومها الثعباني حتى الحجر الأسود. رآني جورج فجاء يترجرج مادا يده بحرارة للسلام. رددتُ بالانشغال حين استفهمَ عن غيابي. سألت عن بوتيرو وعرفت أنه في مشوار صغير وسيرجع. استدار المربرب الطيب جورج لتجهيز القهوة المانو. ما زالت ملابسه الداخلية البيضاء تبين مقلوبة من تحت البلوفر عند دائر البنطلون المحبوك دون حزام. إلى أين ذهبتَ يا بوتيرو؟ وليم الصامت هناك، منكفئ على شيشة يُجهزها لزبون. هو الآخر استفسر عني من مكانه بكفه المكورة، فهززتُ رأسي مرتين وابتسمت. أنظر في ساعة الحائط. بوتيرو يا جبان، ربما تعلم بمجيئي. برواز الثلاثة غير بعيد عن الساعة. بوتيرو أكثرهم شبها بأبيه، والمتمسك بالجلباب البلدي حتى الآن. له الكلمة على أخويه، ويُظلل المكان كله بحضوره. تأخرَ ليلعب بأعصابي. جورج أتى يُزحِّف بشبشبه وجوربه على البلاط. وضع صينية القهوة أمامي وقال من قلب ضحكته الصفراء: “سيأتي، لا تقلق”. مضى إلى أول القهوة، يُدلي المظلة أكثر لتُعرش فوق الكراسي المنثورة على حد الشارع. راحت الشمس وبدأ المطر يتدرب فوق الوجوه والملابس. أغلقها يا جورج حتى لا نرى أحدا ولا يرانا أحد. مؤخرتك مفروشة مسطحة وعلى استقامة مع ظهرك! أنت ووليم دُميتان محشوتان بالقطن. يلزمني كرسيان آخران عن يميني وشمالي. لحم فخذي يتدلى من حَز الكرسي. هناك خمسة على الأقل من الجالسين لا يقلون عن حالتي. ما هذا العالم الذي يتبدى لي تدريجيا؟ أين الاسترخاء المراوغ الذي كان؟ إذا لم تأت الآن يا بوتيرو؛ سأُدشدش القهوة على مَن فيها. طنين مطحنة البُن سيخرم دماغي، ورائحة الكشري لا تطاق. السحب في السماء تقتتل في معركة طاحنة، وسلاسل الماء المصفوفة عموديا تخرق الأرض في الخارج. تسرح بداخلي حرارة بركانية تقترب من الفوهة. بركان في جو جليدي! أعجوبة جديدة من أعاجيبك أنت وقهوتك يا بوتيرو. هناك أخبار سأقولها على الملأ هنا. لن يهمني مَن يسمع ويترصد كما أوهَمتَني. شهر كامل يا بوتيرو وأنا أراقب الشجرة وأرعاها. أسقي وأُسمِّد وأرش أوراقها اليانعة، وأكبح رغبتي الشيطانية. تمتد يدي بارتجافة نحوها، ثم تتقوس الأصابع خانعة منسحبة. كل مرة: ها.. وتنشل يدي على مسافة من السحر الأخضر دون لمس. وفي الخمسة أيام الأخيرة قررت أن أهملها وأنساها كما نسيت القطة، وأن أعود لعملي وأتخلى عن عبث هذه القضية. في خروجي ودخولي أعاين حال الشجرة وأغتاظ: لم تتأثر في تألقها وخضرتها الباذخة التي تشك في أعصابي. سأقف وسط القهوة كلها وأُشهد الموجودين عليك يا بوتيرو. إني في انتظارك وسترى. سأقول إنني فعلا كنت نسيت القطة وأحاول نسيان الملعونة الأخرى، لكنّ القطة ظهرت لي صدفة! هل تعرفون أين يا سادة؟ في بلكونة بوتيرو! والله، لا يمكن أن أتوه عنها، تلك الرمادية المربربة. كانت مستلقية على سور البلكونة، وحين رأتني أرسلتْ نفس النظرة المجنونة التي أعرفها بها منذ أيام الوصال! ابتسمت، ولوت رأسها بميوعة ثم انسحبت قافزة كأن شيئا لم يكن. بعدها دخلتُ حجرتي على نار، ووقفتُ راشقا الشجرة بعينين من لهب: القطة وفهمنا لعبتها، أنتِ ما سرك؟ واقتربتُ هاجما، راكلا، شادا. الغريب يا سادتي أن القطرات اللزجة بقيت على أوراقها، وأصيص الفخار كان خفيفا جدا. كيف خُدِعتُ طوال الوقت بشجرة صناعية؟! يمكنني الآن أن أتذكر الرجل المهيب الذي أتى لي بها: كان بدينا! قبل أن أنصرف لابد أن أُحذركم: الوغد بوتيرو سيفعل معكم مثلما فعل معي. لم يأت بوتيرو كما توقعت. غادرتُ القهوة متسكعا، وفي نيتي الاعتصام بالحجرة ضد بوتيرو والبرد وثقل جسدي الذي أحسه الأضخم في هذا العالم. كنت أرسم مفردات الشارع في لوحات تتلاشى سريعا ببدائل متماوجة. لوحة وحيدة هي التي ثبتتْ فجأة وبلا مقدمات: وجه حمادة وزوجته وأطفاله الثلاثة يقفون هناك أمام محل ملابس. هل كنا صديقين لا نفترق تقريبا؟ اقتربتُ وسلّمت وناوشت الأطفال. قدمني حمادة بالدكتور أمام زوجته، وسألني عن لوحاتي والرسالة وأخبارها وموعد المناقشة. تلجلجتُ، فشدني من ذراعي ووقفنا على جنب: “لابد أن تنتهي من هذه الرسالة الملعونة، وتبدأ حياتك بجد”. طمأنته بأنني قريبا سأنتهي من إعداد رسالتي، وإن كنت لم أرسم منذ مدة. تعجبت حين طلب مني أن أُذكِّره باسم الفنان الأجنبي الذي أُعِد الرسالة عنه. (متى وأين تحدثتُ معه عن ذلك؟!). قلت له إن اسمه “بوتيرو”*. ضحك وقال: “نعم أتذكر هذا الاسم”. لفّت رأسي. (هل تحدثت معه عن ذلك أيضا؟!). لم أرد، وقبل أن يستدير لعائلته، قال إنه سينتظرني بعد العِشاء على قهوة جورج. رأى الدهشة في عينيّ، فأشار بيديه: “قهوة جورج يا عم. جنب علاء بيّاع الجرائد”. أومأت برأسي: “تمام”. أسلمتُ له يدي دون أن أنظر في وجهه، وتابعتُ خطوي. **(*) “فرناندو بوتيرو” فنان ونحّات عالمي ولد في كولومبيا عام 1932. في كل لوحات “بوتيرو” تقريبا، كما منحوتاته أيضا، هناك ما قد يبدو متشابها ومُكررا: سيدة بدينة عارية في البانيو، رجل عسكري بدين يحمل بندقية بدينة هي الأخرى! آخَر يركب حصانا أحمر أضخم منه، وثالث يطير من فوق حلبة سيرك رغم امتلاء جسده. كثيرا ما هوجم “بوتيرو” من النقّاد لاعتناقه تلك التيمة في أعماله، وفي إحدى المرات عندما اشتد الهجوم عليه؛ ردّ بأنه “أكثر فناني كولومبيا وطنية وتمسكًا بالتراث”.

***



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى