فتحي عثمان - حكمة الشعب والتغيير

وددت منذ فترة طويلة الكتابة عن هذا الموضوع، ولم أجد فرصة أكثر مناسبة من هذه الأيام حيث يدور الحديث عن التغيير وكيف يأتي.
للشعوب حكمة عميقة لا ندركها إلا عند الجلوس في التراب إلى الشيوخ وكبار السن لنسمع منهم. هذه الواقعة تبقى في ذهني حاضرة وأحب أن أشارككم إياها لمغزاها الوطني العميق. بعد جلاء القوات الاثيوبية من مدينة صنعفي في جنوب ارتريا بحوالي ثلاثة أيام طلب مني مدير مكتب الرئيس، يماني قبر مسقل، ووزير الاعلام حاليا، قيادة فريق فني لتقييم الأضرار التي أحدثتها قوات الجيش الاثيوبي. وحذرني بأن الوضع الأمني والالغام لا زالت متواجدة واحتمال الأذى أو الموت كبير، ولكن هناك حاجة لتصوير المدينة بعد مغادرة الجيش الاثيوبي مباشرة حتى لا تتغير معالم التدمير الذي عم المدينة، خاصة بعد توفر صور بالأقمار الصناعية له. السيارة التي كنت استغلها مع الفريق لم تكن أقل خطورة من الموقف حيث احتوت على رشاشات وقنابل يدوية جاهزة للاستخدام في حال مواجهة مجموعة استطلاع متقدمة من جيش العدو حينها. وصلنا المدينة فوجدنا مبنى إدارة المدينة، وهو مبنى من عهد الطليان مدمرا بالكامل وكذلك مبنى الاتصالات والفندق المملوك لأخت مسؤول الشئون الاقتصادية للجبهة الشعبية حقوص قبرهيوت "كشة" وهو أكبر فندق في المدينة مدمرا تماما، ومستشفى المدينة، وفي أطراف المدينة تم تدمير مسلة "مطرا" التاريخية الشهيرة بعد صدمها بدبابة كآخر عمل انتقامي للجيش المغادر للأراضي الارترية. كان سكان المدينة قد شردوا إلى القرى والأرياف لتجنب فظاعات يمكن أن يرتكبها الجيش الغازي. الانطباعات كانت مؤلمة وحجم الدمار لا يبرر. جلست مع أعيان المدينة لتسجيل افاداتهم حول ما حدث وكان أكثر الأشياء إيلاما هو قيام الأعيان بالتوسل لقائد الجيش في المنطقة بعدم تدمير المستشفى لأنه مبنى بالعون الذاتي ويقدم خدمات للمواطنين وليس للحكومة دخل به؛ كل الترجي ذهب أدراج الرياح وتم وضع عبوات ناسفة في أعمدة المستشفى وتدميره بالكامل وعندما دخلنا المدينة وجدنا الطبيب الوحيد دكتور برخت يباشر علاج المرضي من خيمة داخل المستشفى المهدم.
في سوق المدينة المهجور وجدنا كتابات باللغة العربية والتجرينية والساهو تسب الحكومة الارترية ورئيسها اسياس افورقي وتدعو الشعب إلى الثورة ضد الديكتاتور. طفت بالمكان وجلست إلى أحد الشيوخ من أبناء المدينة وكان رجلا في العقد السابع من عمره تبدو الشجاعة والحكمة في عينيه. فجلست معه في الساحة الترابية المطلة على السوق وسألته عن هذه الشعارات ومن كتبها، فحكي لي قائلا بأن هذه الشعارات كتبها شباب ارتريون جاءوا مع قوات الوياني ونظموا لنا اجتماعات في المدينة وطلبوا منا الثورة على ديكتاتورية اسياس وكتبوا الشعارات التي تراها في الجدران. سألته، وماذا كان ردكم عليهم؟
قال بصوت تخالطه مرارة العقوق: "يا بني، قلنا لهم أتريدون أن تغيروا اسياس وحكومته بدبابات العدو الذي "داس" على أبنائنا؟ نحن لنا نقف مع عدونا. وأضاف بنفس المرارة: "ثم عادوا على ظهور الدبابات التي أتوا بها". سألته: الم يساعدوكم في الطلب من قوات الوياني عدم تدمير المنشآت المدنية، فقال لي مبتسما بإسنان بيضاء لم تهدمها السنون: "سؤالك ماكر يا بني: أتظنهم يهتمون؟"
هذه القصة والمعاناة التي ترافقت معها لها مدلولها الذي نحتاج إلى التوقف عنده اليوم. الشعب لا يحتاج إلى مجلدات ولايفات ليعرف أن التغيير القادم على ظهر دبابات الأعداء التي تدوس على الأبناء خيانة. والحكمة الشعبية تعرف أن من يحملك اليوم على ظهره لن ينزلك في المحل الذي ترغب فيه إلا بعد أن تحرر له صك تنازل عن عزيز ونفيس.
هذه الحكمة الشعبية هي من يعطي التغيير مشروعيته وصدقيته؛ وأصحاب هذه الحكمة هم المعنيون بالتغيير في الجوهر والشكل، ولن يقبلوا بتغيير يناقض حكمة السنين وتجارب الزمن.
ثم...
أكل الرؤوس سواء
أقلب الغريب كقلب أخيك؟
وهل تتساوى يد سيفها كان لك
بيد سيفها أثكلك.
أمل دنقل.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى