د. عبدالجبار العلمي - الشاون التي في خاطري

حديث عن مدينة شفشاون بعد زيارتي الأخيرة لها منذ أيام وتجاوبا مع ما ورد في كلمة الصديق محمد الأزرق حول التغيرات التي عرفتها المدينة في السنوات الأخيرة :
شفشاون مسقط رأسي وموطن الآباء والأجداد ومدفن الوالدين رحمهما الله . كنت فيما مضى أجدها فضاء مفعما بالجمال الطبيعي والإنساني وبالأجواء الروحية والبساطة والقناعة والبركة. لي ذكريات جميلة رفقة أبناء أعمامي في مرحلة الطفولة لدى كل زيارة لها من تطوان ،حيث انتقلت العائلة إليها وأنا بعد رضيع. أنا الآن لا أزورها إلا نادرا لأداء واجبات عائلية . لم تعد شفشاون التي عرفتها في الزمن الجميل. تغير شكلها ومضمونها. لونها الأصلي الذي تركه عليها أجدادنا النازحون من الأندلس لون بني وسطوح منازلها من القراميد البنية اللون أيضا. لا علاقة لمدينتنا باللون الأزرق . وصف شفشاون بالمدينة الزرقاء غير صحيح . رأس الماء المعروفة به هذه المدينة العريقة ، والذي لا تذكر إلا ويذكر معها كانت مياهه متدفقة كل فصول السنة حتى في فصل الصيف. كان رأس الماء والفضاء المحيط به مثالا للطبيعة البكر والغاب اليوتوبيا التي تغنى بها شعراء المهجر ، وملاذا للمتعبين من ضجيج المدن ، يجدون في خرير مياهه وأفياء أشجاره راحتهم ونعيما حقيقيا على الأرض. لقد تحول هذا المكان إلى فضاء للمقاهي التي حلت محل البقاع الخضراء والأراضي البكر المواجهة للجبل الشامخ الذي يطل من أحد سفوحه أبو العصافير . التحول الذي طال هذه المدينة الجميلة ، تحول في كل شيئ وأهمه القيم ، فلم تعد ثمة إلا قيم الابتذال لم تكن تعرفها :جشع وغش ومكر وخداع وسيادة علاقات تقوم على الانتهاز والربح السريع والاتجار القائم على الغبن والغش في المجالات التجارية والمرافق السياحية. أين ذهبت بركة أوليائها الصالحين وإشعاع مساجدها وزواياها التي تمتلئ بها المدينة ؟ . لقد كانت شفشاون أكثر اتساعا من الدار البيضاء كما قال أحد حكماء المدينة الشعبيين ، وكانت وطاء الحمام أوسع من أكبر ساحة فيها. ثمة معالم انعكست في الوجدان في مرحلة طفولتنا وصبانا محتها يد التغيير والهدم . أين الرحى المائية الجميلة البسيطة بالصبانين القريبة من بيت عمنا الحنون .. ؟ كانت أيام صبانا تحفة فنية ، ومصدرا للرزق وتمكين السكان من طحن حبوبهم التي كنا فيما بعد نراها وقد صارت بعض الطحن والعجن بأيادي الأمهات الكريمة ، خبزا محمرا يتصاعد منه البخار لخروجه توا من الفرن القريب من سور القنطرة القصير ، وقد حملته أيادي صغيرة لأطفال وطفلات الحومة . ما أشد حنيننا إلى هذا الفضاء الجميل ، وهذه الأجواء الحميمية التي عدنا نفتقر إليها في توأم مدينة غرناطة الأندلسية. من حقنا أن نستعيد ذكرياتنا فيها ونعبر عن حنيننا إلى ماضيها الحضاري العريق . إننا نؤمن بالتطور والتحولات التي تطرأ على الأماكن عبر الزمن ، لكننا نتساءل : لماذا لا يكون هذا التطور وهذه التحولات إلى الأفضل والأجمل كما نرى في مدن مثلها في أقطار أخرى ، وبعضها ليس ببعيد عنا لا يفصلنا عنه إلا بضعة كيلومترات في البحر؟

بقلم الأديب عبدالجبار العلمي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى