أسامة الرحيمي - من حكايات الصحافة (1) البسطاء لا يحلمون بأكثر من الستر !

في بداية اشتغالي بالصحافة عملت في مجلة «نصف الدنيا» لست سنوات تقريبا. وصادفتني حكايات كثيرة مدهشة، وطريفة، بعضها موجع!!
أحببت تسجيلها قبل أن تضعف الذاكرة، وتتوه التفاصيل.
عملت تحقيقا ذات مرة بعنوان «لو جالك مليون جنيه؟» قبل برنامج «من سيربح المليون» بسنوات عديدة!.
سألت خلاله بعض أصحاب الدخل المحدود جدا، ممن يبذلون جهودا هائلة لتحصيل لقمة عيشهم الحاف بالكاد، ولا يعرفون أكثر من الاستيقاظ مبكرا، والدوران بلا توقف في ساقية المشقة، من دون تفكير في غير هذا!
تخيرت سوقاً مزدحمة في حي شعبي بالجيزة. ومشيت متمهلا، أتأمل الناس علِّي ألمح من أبحث عنهم تحديدا، أولئك الذين يصدمهم السؤال.
كان أول حظي مع بائعة شاي شابة نشطة، وتمتلك حيوية ظاهرة، وتتحرك بدأب وخفَّة في أنحاء السوق، ولها «نَصبَة» صغيرة ملتصقة بحائط، وبجوارها كرسي واحد متهالك، تجلس عليه لتريح ساقيها كلما تأخرت الطلبات قليلا.
استأذنتها بالجلوس وطلبت شاي. قالت بتشكك وطيبة: «انت تبع البلدية؟؟». قبل أن أجيبها استدركت: «بس انت مش زيّهم»!.
تعجبت حين أخبرتها أنني صحفي، وقالت وهي تبتعد حاملة الصينية إلى باعة الخضار في المحيط:
«الصُحَفِيين دول بتوع مشاكل».
نطقتها بضم الصاد، وهي صحيحة لُغوياً، ولمحت ابتسامة ساخرة على جانب فمها قبل أن تختفي.
حين عادت سألتني:«سُكرك إيه يا أستاذ»؟. وغسلت الكوب باهتمام زائد وأعدت لي شايا لا أنسى مذاقه، ولا فواح نعنانه المذهل!
نظرت في عيني مباشرة بعين جسورة أربكتني، وسألتني بتركيز:«خير!!».
قلت ببساطة:
«لو جالك مليون جنيه هتعملي إيه؟».
كانت تُقلِّب الشاي في أكواب أمامها واستغرقها تأمل السؤال تماما، ورفرفت رموشها بتوتر. ثم حملت الصينية ودارت بها باحترافية مدهشة، وابتعدت، ورأيتها تهز رأسها متعجبة!. كأن السؤال أربكها، وللحظة بنجاح فكرتي، ومنَّيت نفسي بالفوز بتحقيق لافت.
كانت ساهمة تماما حين عادت، ونظرت إلي مجددا من فوق لتحت. وقالت بصوت يخلو من الود:
«بقولك إيه يا أستاذ.. تشرب شايك وتتكل على الله كده من سُكات..».
ابتعدت لثالث مرة وهي تقول بصوت جريح: «الحكاية مش ناقصة تريقة.. ربنا يسهّلك».
تركت ثمن الشاي، وأشرت لها وأنا مبتسم، واعتبرت كلامها الصادم «من الإجابات غير المتوقعة التي تثري الموضوع». فلوحت لي بالصينية الفارغة من بعيد وهي متجهمة، وكأنها استراحت من عبء التفكير في سؤال ليس له إجابة عندها.
غير بعيد. وجدت امرأة عجوز. ليست عجوز وحسب. وضامرة تماما!!
لها جسد طفلة نحيل. تجلس متربعة بجوار «مِشنَّة ليمون» صغيرة، كأنها بردانة بدورها.
جلست بجوارها. وردّت على سلامي بود حميم. اشتريت منها بضع ليمونات. وبكلمات قليلة أخبرتها من أنا، وشرحت فكرة تحقيقي ببساطة لا تزعجها، فصاحت:«يا جاه النبي. ماليووون جنيه حتة واحدة»، نطقتها بلهجة ريفية و«بفتح ميم المليون ووضع ألف وعِدّة واوات بعدها.
وأكملت: « طب قول حتى ميت جنيه، دا الدَكَتور (بفتح الدال والكاف) بتاع العينين بيقول إن الكشف والقطرة والدوا والنضارة على بعضهم يييجوا بميت جنيه، ويمكن زيادة كمان شوية».
وكررت كمن تحدث نفسها: «ماليوون، ربنا يرزقك ويطعمك، انت وكل اللي زيّك، وما يحوجك لحد».
قبل أن أرد سألتني هي: «عارف يا ابني آني عاوزة النضارة ليه؟».
ليه يا أُمِّي؟
قالت وهي تضحك بسماحة هزَّت قلبي: «لأن الزباين بيغشُّوني في عدد اللمون وبياخدوا زيادة عن حقهم، وأنا نظري طشاش على قدي، بس مسمحاهم، ما هم مهمن كان برضه زيّنا، كلنا غلابة في بعض، فقول بس ربك يقدرنا ونحوِّش الميت جنيه بتوع النضارة، حتى عشان المشي، دا أنا بقع في حُفر كتير، وأهي رجلي لسه وارمة من آخر وقعة، وربك حنين عللي زيّنا برضه، الحمد لله مفيش كسر ولا حاجة، شوية وجع ويروحوا لحالهم»!.
أحسست بخجل شديد، وحيرة، وشعرت بضآلة سؤالي بجانب منطقها العجيب. وملأت بساطتها العميقة قلبي بالحزن حين أخبرتني أنها وحيدة تماماً في الحياة. وليس لها أي أحد، وأنها تخرج للسوق يوميا لتوفر ثمن العيش والطعمية، وربنا يجبر خاطرها «كل فين وفين بحسنة من هنا، ولا هدية من هناك، وكلنا على فيض الكريم، وآهي ماشية!».
وفوجئت بالموضوع منشورا لاحقا، بدون كلام كثير مما قالته، لأن بعض من كانوا يراجعون الشغل، لا يحبون إزعاج قراء المجلة الشهيرة!
إلى الآن ما تزال تلك العجوز الطيبة ترد على بالي بلا انقطاع، وظللت أشفق عليها من وحشة الوحدة. أو وحشة القبر، الذي أرجح أنه ذهبت إليه بنظرها الطشاش، من دون أن تتمكن من جمع «الميت جنيه ثمن النضارة»!
كان الثالث «مبيض محارة»، يقف أمام بناء جديد، يشطب واجهته على سقالات خشبية. في شارع جانبي من السوق. بعد السلام والدردشة حول أسعار الشقق وقتها، والإيجارات. تأمل سؤالي مبتسما، وهو يضع كفه وأصابعه المكسوة كلها بالأسمنت الجاف على فمه ووجه بحياء.
أجاب بحماس: «أول شئ هعمله، أشتري شقة أوضتين وصالة، علشان أمي والعيال يناموا في أوضه لوحدهم، وأعرف آخد راحتي في النومة أنا والجماعة، وتاني هام أشتري عِدَّة كبيرة».
سألته: «يعني إيه عِدَّة كبيرة» قال: « سقالات. السقالات اللي أنت شايفها دي مأجّرها، وأجرتها بتاكل من حقي كتير لأنها على حسابي مش على صاحب البيت».
أكملت سؤالي: «بس ده اللي هتعمله؟!».
قال: «وأجيب للعيال وأمي والجماعة شوية حاجات جديدة، لأن هدومهم دابت. وأوسع عليهم في الأكل حبتين، وكده يعني».
سكت للحظات، كأنه أسرف في أحلامه، وأراد تدارك إحساسه بالإفراط في التمني، وقال بصدق آسر كأنه يؤدب نفسه على تخيل كل هذا:« إن جيت للحق يا أستاذ، إحنا مالناش غير الشقا، قدر ومكتوب، والفلوس ما تجيش للي زيِّنا غير بالعرق والشقا، ومهما اشتغلنا بتكون عالقد، مش احنا اللي تجري ورانا الفلوس، إحنا اللي يتقطع نفسنا زي ما انت شايف واحنا بنجري ورا اللقمة بالمشوار».
وأردف وهو يستأنف عمله: «ربنا يصلح حالنا وحالك..».
ظل كلامه يتردد في ذهني لسنوات كوقع الحِكَم.
وكان الرابع أظرفهم في استقبال السؤال، والرد عليه من فوره بلا تردد:«هجيب راس عربية نقل.. إسكانيا قطش... ومقطورة تريلا كبيرة... وأفتح ورشة واسعة فيها كل العِدَّد. واملاها صنايعية».
ضحكت بعمق على كلمته «إسكانيا قطش»!
أثناء كتابتي الموضوع، شغلتني، وشغفتني إجاباتهم. ووضعني استغرابهم السؤال، وعجزهم عن الرد عليه أمام فكرة أن أغلب أبناء الشقاء، وليس جميعهم ربما، لا يملكون آلية للتفكير في الغنى المفاجئ بالأساس، لذا أربكهم السؤال، واستهولوا المبلغ، لغرقهم طوال حياتهم في كدِّ متصل من أجل لقمة العيش، ونتيجة لظروف معيشتهم القاسية التي حرمتهم الوعي الكافي لفهم أسباب بؤسهم، وقضت على منطقة الحلم والطموح في وجدانهم، وحصرت تفكيرهم فقط في مواجهة متطلبات المعيشة اليومية لا أكثر، ذلك «الستر» الذي يجمعون على تسميته، ولا يعرفون غيره.
الموضوع نُشر لاحقا، بشكل أكثر تهذيبا مما قصدته!!




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى