قطرة المطر الصغيرة، في صومعتها أعلى السحاب، في ذلك اليوم الخريفي من شهر سبتمبر، كانت تتأهب للنزول نحو الأرض المثقلة بالجَفاف، وخيالها الحالم يُصوّرها قديسة بحجم قطرة، تراقب الأرض في حب.
وكُنْتُ أنا قطرة المطر الآدمية، أجلس على مقعد المحطة الخشبي، جلوساً يليق بطفل صغير، أمرجح ساقيّ إلى الأمام والخلف، وأراقب الناس يتحركون بشغف، يمشون أمامي، يتجمعون عند نقطة واحدة، بعضهم يتذمر من قرب هطول المطر، من الريح الباردة التي تهب في قوة، وبعضهم مغبوط وينتظر.
نظرت إلى السماء الحبلى بملايين القطرات الصغيرة، رأيتها تبتسم لي كلها، كانت سعيدة من أجلي، وسمعت صوتهاً جلياً، تهتف رعداً: اليوم أيُّها الصغير، سترى قطاراً أوَّل مرة في حياتك، كيف هو؟ ألا تذكر قول مسعود؟ عندما كنتما تلعبان معاً تحت ضوء القمر:(إن القطار يطير بأجنحة بيضاء وطويلة، وله وجه رجل عجوز) !؟
سَمِعْتُ صافرة القطار، لكنه لم يظهر بعد، كأنه قادم من مكان ما أكثر غورا ًمن هذه الأرض المنبسطة أمامي، كانت صافرة عالية وبعيدة، فانتصبتُ واقفاً، أخذت شهيقاً ثم نظرت إلى السماء، وقلت في نفسي، اليوم أبدأ رحلة طويلة، مثل قطرات المطر تماماً، وأغمضت عيني الصغيرتين دقائقَ، رأيتني أمتطي القطار وأطير، أجنحة القطار بيضاء من غير سوء طويلة وكبيرة، رأيتني أطير فوق قريتنا، تلك الجزيرة الصغيرة وسط النيل، كأن الوقت ليل، رأيت مسعود يتوسط الصغار، وهو يضرب الأرضَ بيده لينال انتباههم، البدر بادٍ من غير احتجاب أو ضجر، والنجوم المبعثرة على صفحة السماء السوداء تبدو أجمل من المعتاد، تتراقص مثل فتيات إفرنجيات، في حين اكتفت النسمات الباردة بهزّ جريد النخل المنتشر هنا وهناك، نعم أنا أطير فوق القرية على الجزيرة الصغيرة، بيوتنا هنا منذ مئات السنين، منذ أن قرر جدي الرجل الصوفي الصالح، أن يحرك الجزيرة النائية بعصاه من خشب حرازة، غرسها في أرض الجزيرة ثم قال سيري فسارت ببركته، ومن أقصى أقاصي الشمال انطلقت، شقت النيل إلى نصفين وارتكزت هنا فبنى فيها بيتاً، أنا الآن فوقها تماماً، أعلوها بمقدار جناحين مرفرفين، أرى والدي ووالد مسعود يتسامران أمام الدكان، وأوراق اللعب متناثرة على الرمل أمامهما، وأرى مسعود الآن وقد ضرب طفلاً على قفاه بقوة ولم يبكِ الطفل، لابدَّ أنّه قد تعود ضرباتِ مسعود أخيراً، مثلي تماماً، ابتسمت ابتسامة خفيفة، أتذكره وهو يرفعني عن الأرض بعد أن أوسعني ضرباً، أمسك يدي بقوة وضحك ثم قال: بعد الآن لن أضربك لقد أصبحت كبيراً، سمعت والدي يقول بأنك أكملت الأولية، وستسافر بالقطار إلى المدينة لإكمال المتوسطة، يا لك من فتىً كبير، لن أضربك بعد اليوم، لم يمضِ على ذلك الكثير، أيام قليلة ارتحلت بعدها إلى مدينة عطبرة في طريقي إلى كسلا، أتذكر ابتسامته وهو يودعني، وأتذكر دمعة تتدحرج على ذلك الخد الصغير المنتفخ، ربما سيفتقد قفاي الذي ورمته يده.
القرية من هذا المكان تبدو أجمل، خشيت ألا أعود إليها يوماً، فحسب علمي أن المدن ملعونة، ما إن تطأ قدمك أرضها حتى تحبسك فيها، تلتف حولك مثل أفعى سامة وعنيفة، وتنشب أنيابها فيك بقوة، فتنسى ذاتك وأهلك، وترتدي كفن الأسمنت.
لكزة قوية من حقيبة مسافر أعادتني إلى المحطة، والقطار أمامي يقف في شموخ، يبدو كما لو أنه يسير على الأرض، أين أجنحته، ولماذا ليس له وجه رجل عجوز، فعرفت أن مسعود كان يكذب أو أنه يجنح بخياله، لكني لم أشعر بالسوء، وانفرج فمي مبتسماً، عيناي الصغيرتان صارتا مثل فنجانين فارغين إلا من الدهشة، هذا هو القطار إذًا، وهؤلاء هم المسافرون على ضفتي السّكة، وهأنذا هنا لا أقوى على شيء سوى الركوب بالبوابة، أزاحم رجالاً ونساءً يتلهفون إلى السفر، لأعبر إلى داخل هذا العالم الغريب عني أنا ذلك الطفل الصغير.
بحثت عن مقعد قرب الشّباك، لأكون قريباً من العالم، أمر عليه بسرعة، وأراقب كل شجرة تسابق القطار من بعيد، وضعت يدي على النافذة، جاعلاً مرفقي بارزاً نحو الخارج، وأخذ القطار يتهادى على السكة يشق طريقه نحو الشمال الشرقي، وفي لحظة أخذت أراقب النيل، يرافق السّكة أحياناً حتى يكاد يلمسها، ثم ينحرف عنها كأنه يودعها، وفي مرات كثيرة يتعرج فرحاً، ويرسل نسمة باردة تمسح على خدي الصغير.
لا شيء أسعد منا نحن الاثنان، أنا والنيل، ففي حين أنا أريح يدي على النافذة منتظراً أن يرسو القطار في كسلا، لأقابل عمي هناك، فالنيل أيضاً يجري مسرعاً نحو الشمال، يجري بلا كلل، صامت لا ينطق، وصامد، هو أقوى من أن تهزه مراكب صغيرة يحملها الموج على ظهره، لا يأبه بثرثرة المطر ولا بزمجرة الرياح، يولي وجهه شطر أبيه البحر، يأخذه إليه حب وشوق، وعطره طمي ناعم وماؤه بلون البلح، لذلك هو سعيد، وأنا سعيدله.
ثم بدأ المطر يتساقط بنعومة، سقطت قطرة صغيرة على يدي، أخذت أراقبها من كثب، انتظرتها حتى تجف، لكن قطرة أخرى سقطت فوقها، ثم توالى سقوط القطرات حتى تبللت يدي كاملة، فانسحبت إلى الداخل وأغلقت النافذة، لم أنزعج، بل تيقنت أن القطرات القديسة ظفرت بما تريد، أن تروي هذه الأرض، أرحت رأسي على الكرسي، أغلقت عيني فأحسست بالقطار يرتفع في الهواء، لم أصدق، فتحت عيني وأخرجت رأسي بالشباك، فرأيت أجنحة القطار البيضاء تلامس السّحاب.
وكُنْتُ أنا قطرة المطر الآدمية، أجلس على مقعد المحطة الخشبي، جلوساً يليق بطفل صغير، أمرجح ساقيّ إلى الأمام والخلف، وأراقب الناس يتحركون بشغف، يمشون أمامي، يتجمعون عند نقطة واحدة، بعضهم يتذمر من قرب هطول المطر، من الريح الباردة التي تهب في قوة، وبعضهم مغبوط وينتظر.
نظرت إلى السماء الحبلى بملايين القطرات الصغيرة، رأيتها تبتسم لي كلها، كانت سعيدة من أجلي، وسمعت صوتهاً جلياً، تهتف رعداً: اليوم أيُّها الصغير، سترى قطاراً أوَّل مرة في حياتك، كيف هو؟ ألا تذكر قول مسعود؟ عندما كنتما تلعبان معاً تحت ضوء القمر:(إن القطار يطير بأجنحة بيضاء وطويلة، وله وجه رجل عجوز) !؟
سَمِعْتُ صافرة القطار، لكنه لم يظهر بعد، كأنه قادم من مكان ما أكثر غورا ًمن هذه الأرض المنبسطة أمامي، كانت صافرة عالية وبعيدة، فانتصبتُ واقفاً، أخذت شهيقاً ثم نظرت إلى السماء، وقلت في نفسي، اليوم أبدأ رحلة طويلة، مثل قطرات المطر تماماً، وأغمضت عيني الصغيرتين دقائقَ، رأيتني أمتطي القطار وأطير، أجنحة القطار بيضاء من غير سوء طويلة وكبيرة، رأيتني أطير فوق قريتنا، تلك الجزيرة الصغيرة وسط النيل، كأن الوقت ليل، رأيت مسعود يتوسط الصغار، وهو يضرب الأرضَ بيده لينال انتباههم، البدر بادٍ من غير احتجاب أو ضجر، والنجوم المبعثرة على صفحة السماء السوداء تبدو أجمل من المعتاد، تتراقص مثل فتيات إفرنجيات، في حين اكتفت النسمات الباردة بهزّ جريد النخل المنتشر هنا وهناك، نعم أنا أطير فوق القرية على الجزيرة الصغيرة، بيوتنا هنا منذ مئات السنين، منذ أن قرر جدي الرجل الصوفي الصالح، أن يحرك الجزيرة النائية بعصاه من خشب حرازة، غرسها في أرض الجزيرة ثم قال سيري فسارت ببركته، ومن أقصى أقاصي الشمال انطلقت، شقت النيل إلى نصفين وارتكزت هنا فبنى فيها بيتاً، أنا الآن فوقها تماماً، أعلوها بمقدار جناحين مرفرفين، أرى والدي ووالد مسعود يتسامران أمام الدكان، وأوراق اللعب متناثرة على الرمل أمامهما، وأرى مسعود الآن وقد ضرب طفلاً على قفاه بقوة ولم يبكِ الطفل، لابدَّ أنّه قد تعود ضرباتِ مسعود أخيراً، مثلي تماماً، ابتسمت ابتسامة خفيفة، أتذكره وهو يرفعني عن الأرض بعد أن أوسعني ضرباً، أمسك يدي بقوة وضحك ثم قال: بعد الآن لن أضربك لقد أصبحت كبيراً، سمعت والدي يقول بأنك أكملت الأولية، وستسافر بالقطار إلى المدينة لإكمال المتوسطة، يا لك من فتىً كبير، لن أضربك بعد اليوم، لم يمضِ على ذلك الكثير، أيام قليلة ارتحلت بعدها إلى مدينة عطبرة في طريقي إلى كسلا، أتذكر ابتسامته وهو يودعني، وأتذكر دمعة تتدحرج على ذلك الخد الصغير المنتفخ، ربما سيفتقد قفاي الذي ورمته يده.
القرية من هذا المكان تبدو أجمل، خشيت ألا أعود إليها يوماً، فحسب علمي أن المدن ملعونة، ما إن تطأ قدمك أرضها حتى تحبسك فيها، تلتف حولك مثل أفعى سامة وعنيفة، وتنشب أنيابها فيك بقوة، فتنسى ذاتك وأهلك، وترتدي كفن الأسمنت.
لكزة قوية من حقيبة مسافر أعادتني إلى المحطة، والقطار أمامي يقف في شموخ، يبدو كما لو أنه يسير على الأرض، أين أجنحته، ولماذا ليس له وجه رجل عجوز، فعرفت أن مسعود كان يكذب أو أنه يجنح بخياله، لكني لم أشعر بالسوء، وانفرج فمي مبتسماً، عيناي الصغيرتان صارتا مثل فنجانين فارغين إلا من الدهشة، هذا هو القطار إذًا، وهؤلاء هم المسافرون على ضفتي السّكة، وهأنذا هنا لا أقوى على شيء سوى الركوب بالبوابة، أزاحم رجالاً ونساءً يتلهفون إلى السفر، لأعبر إلى داخل هذا العالم الغريب عني أنا ذلك الطفل الصغير.
بحثت عن مقعد قرب الشّباك، لأكون قريباً من العالم، أمر عليه بسرعة، وأراقب كل شجرة تسابق القطار من بعيد، وضعت يدي على النافذة، جاعلاً مرفقي بارزاً نحو الخارج، وأخذ القطار يتهادى على السكة يشق طريقه نحو الشمال الشرقي، وفي لحظة أخذت أراقب النيل، يرافق السّكة أحياناً حتى يكاد يلمسها، ثم ينحرف عنها كأنه يودعها، وفي مرات كثيرة يتعرج فرحاً، ويرسل نسمة باردة تمسح على خدي الصغير.
لا شيء أسعد منا نحن الاثنان، أنا والنيل، ففي حين أنا أريح يدي على النافذة منتظراً أن يرسو القطار في كسلا، لأقابل عمي هناك، فالنيل أيضاً يجري مسرعاً نحو الشمال، يجري بلا كلل، صامت لا ينطق، وصامد، هو أقوى من أن تهزه مراكب صغيرة يحملها الموج على ظهره، لا يأبه بثرثرة المطر ولا بزمجرة الرياح، يولي وجهه شطر أبيه البحر، يأخذه إليه حب وشوق، وعطره طمي ناعم وماؤه بلون البلح، لذلك هو سعيد، وأنا سعيدله.
ثم بدأ المطر يتساقط بنعومة، سقطت قطرة صغيرة على يدي، أخذت أراقبها من كثب، انتظرتها حتى تجف، لكن قطرة أخرى سقطت فوقها، ثم توالى سقوط القطرات حتى تبللت يدي كاملة، فانسحبت إلى الداخل وأغلقت النافذة، لم أنزعج، بل تيقنت أن القطرات القديسة ظفرت بما تريد، أن تروي هذه الأرض، أرحت رأسي على الكرسي، أغلقت عيني فأحسست بالقطار يرتفع في الهواء، لم أصدق، فتحت عيني وأخرجت رأسي بالشباك، فرأيت أجنحة القطار البيضاء تلامس السّحاب.