فتحي عثمان - عدو مشترك لمصيرك مشترك

أعاد أحد أصدقاء الفيسبوك إحياء مقابلة أجرتها صحيفة لومانتيه في عام 2016 مع أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب شلومو صاند. مناسبة المقابلة كانت صدور كتابه "غسق التاريخ: نهاية المسرودة الوطنية" وكان قد سبق هذا الكتاب إصداره عدة كتب مثيرة للجدل منها: "اختراع الشعب اليهودي" و"كيف تم اختراع أرض إسرائيل "كيف توقفت عن أكون يهوديا".
من عناوين وموضوعات صاند يسهل معرفة موقفه الأيديولوجي من دولة إسرائيل وتاريخها وكتابة هذا التاريخ.
في المقابلة يقول شولومو صاد بأنه لا يتوقف عن مساءلة التاريخ، كحرفة أولا وكحقل معرفي ثانيا؛ خاصة لأن التاريخ يكتب بمجاورة مع القوة ليخلق تصور لبناء الأمة؛ وهذا هو الهدف من تدريسه في المدارس. محاولة أعادة تقويم حرفة كتابة التاريخ بمنأى عن صناعة الدولة-الأمة يعيد التوجيه نحو السؤال الأساسي لماذا ندرس التاريخ؟
إقامة وصناعة الدولة- الأمة وفقا لشلومو صاند احتاجت إلى لغة مشتركة وذاكرة جمعية مشتركة وعدو مشترك؛ والتاريخ كحقل معرفي، والتاريخ كحرفة أسهما في خلق المسرودة الوطنية أو "الميثولوجيا" الوطنية. وقد تكون هذه الأسطورة باردة، كما يقول صاند، في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة أو "ساخنة" كما هو الحال في إسرائيل اليوم.
وينصرف قبل نهاية اللقاء إلى القول: إذا كانت الفلسفة تدرس الطلاب "كيف" يفكرون؛ فإن التاريخ يعلمهم "بماذا" يجب أن يفكروا.
يبدو تناول شلومو صاند خاصة عبر دراسة التجربة الإسرائيلية وتأريخها أن صناعة المسرودة الوطنية لا تستغنى عن صنع العدو؛ ذلك العدو الذي يعمل على صناعة الوحدة والتآزر والتميز ضد الآخر والتشبث بالحياة مقابل الموت في داخل بناء سمى قديما بالإمبراطورية وحاليا بالوطن. الإمبراطورية الرومانية وعدوها اللدود قرطاج عاشا من أجل تدمير أحدهما الآخر؛ فوصل هانيبال القرطاجني أبواب روما وصده عن دخولها الجنرال الروماني فابيوس واستعادت روما الكرة ودمرت قرطاج تنفيذا لوصية كاتو الكبير التي قال فيها: "قرطاج يجب أن تباد" وخلد المقولة المؤرخ البريطاني ريتشارد مايلز في كتاب تحت نفس العنوان.
وما كانت الإمبراطورية العثمانية في بداياتها أن يهنأ لها بال والدولة الصفوية تقابلها وتحد من سيطرتها على الشرق. أما في الأزمنة الحديثة فكان البريطانيون والفرنسيين أعداء الداء، وتلوثت الخصومة الفرنسية الألمانية بالدماء والمهانة في حرب 1871 وأثناء احتلال باريس1940. ثم جاءت الحرب الباردة لتشهد العداء الأمريكي السوفياتي والذي عم العالم وأحاله إلى ميدان حرب بين معسكرين متناحرين، وظهرت مسميات الستار الحديدي، الخطر الأحمر وامبراطورية الشر، والعوالم الأول والثالث والعالم الحر، وتلك الحالة من الهيجان والالتهاب الدولي المعروف. وبانتهاء الحرب الباردة تحولت الحرب الامريكية إلى مكافحة الإرهاب وانتقل العالم إلى مواجهة عدو آخر عبر السلاح البارد والحار معا. صامويل هنتنغون في كتابه "صراع الحضارات" تصور بأن العالم لن يعيش بدون حالة "تعادي" مستمرة، ونقل الفكرة من نطاق الدول القومية الضيق إلى حيز صراع الحضارات الكبرى مفترضا أن كل الحضارات هي كل واحد متمازج.
تستطيع "فكرة" العدو المتربص، إضافة إلى إسهامها في تغذية الشعور الجمعي المشترك، في وضع الشعب في حالة "استعداد" نفسي للدفاع عن الوطن والقيم والشرف وكل مكونات المسرودة الوطنية؛ وينفع التاريخ هنا في حياكة الرداء الذي يلبسه الوطن في أثناء خروجه لمقابلة العدو. وبقدر ما تنجح فكرة العدو المتربص في الحشد من أجل "حق" الدفاع عن الذات؛ فإنها بنفس المقدار تنجح في تحويل مسرح التفاعل الدولي إلى ميدان معركة كبير بناء على حيثيات "المعادلة الصفرية"؛ أي لا منتصرين اثنين في حرب واحدة.
في سياق الحلم الارتري من أجل تقرير المصير ومنذ الاربعينات ارتكز في المخيلة العامة على أن العدو هو اثيوبيا الإمبراطورية التي تتربص بالكيان والحق الارتري في الحياة؛ وامتد ذلك إلى سجال أحمر دام ثلاثين عاما، استطاعت الثورة فيه، وعبر تحديد معسكرات الأعداء والأصدقاء أن ترسم خطها الوطني وتتبين أعدائها واصدقائها؛ وإن كان هذا يرسمه التوجه الأيديولوجي لكل تنظيم في الثورة بشكل منفرد بناء على مشروعه القومي وتحالفاته الخارجية، رغم ذلك كان دائما في منتصف دائرة الهدف "العدو الاثيوبي" بسياساته، وجيشه، وموارده، وأطماعه.
بعد تحرير التراب الارتري وتكوين الدولة الارترية وإمساك حليف بزمام الأمور في الدولة التي كانت عدو سابق تخلخلت فكرة "العدو التاريخي"؛ مؤقتا، خاصة في ظل حالة الاستغراب من توقيع ارتريا واثيوبيا اتفاق الدفاع والأمن المشترك في يوليو 1993 وميثاق التعاون الأمني والدفاعي بين البلدين في أبريل 1994. فهل ترك "التاريخ" المسرح للسياسة لتحديد العدو المتربص بالأجندة الوطنية؟
تطور السياق السياسي يساعد على الاستنجاد بالتاريخ خاصة عند الحاجة لاستدعاء "مرارات الماضي"؛ وكانت الحرب الحدودية أو حرب بادمي إحياء للعداء التاريخي وإعادة ظهور العدو على المسرح مما أكد الحاجة إلى استدعاء كل "ثيمات" توكيد اللحمة الوطنية لأن المعركة معركة بقاء أو فناء.
ثم أعقبت تلك الفترة وحتى الحرب الأخيرة الحاجة الماسة إلى التذكير الدائم "بالمؤامرة" التي تستهدف البلاد؛ والمؤامرة تختلف عن العدو المتربص في أنها أكثر مرونة وأكثر ليونة عند التوجيه بحيث يمكن أن تشير إلى عدو "ظاهر" معروف أو أكثر من عدو متخف ومتربص في آن واحد؛ ومن سمات المؤامرة أنها "شبحية" غير محددة الأبعاد بطبيعتها؛ لأنها لو اكتسبت صورة الوجود المحسوس فقدت وظيفتها على الإثارة والتحفيز. وهي لا تحدد مصدر الصفعة أو الخطر حتى لا تفقد صلاحيتها.وبسبب من سماتها هذه يمكن استخدامها بعدة أبعاد داخلية وخارجية: على مستوى الداخل هناك المتآمرون، مجموعة الخمسة عشر نموذجا. أما على مستوى الخارج فإن الاعداء تحددهم التقلبات السياسية، إذا لم نلجأ مرة أخرى لخزانة التاريخ. استمرار نظرية المؤامرة، تمييزا لها عن العدو المتربص والموجود فعلا، يؤكد أن المؤامرة وبحكم طبيعتها الشبحية، هي أيضا بارانويا لدى الحاكم أو مجموعة الحاكمين؛ لأننا ببساطة لا نتعرف على أبعادها الموضوعية بحكم طبيعتها الهلامية المتغيرة. فالمتآمرون في مرة ما قد يكونوا "متطرفي الخرطوم" أو "متعصبي صنعاء" أو غيرهم أو غيرهم. فالثبات في المؤامرة أول نقاط مقتلها.
نعود إلى شلومو صاد مرة أخرى لنتساءل معه: رغم أن دروس التاريخ تشير إلى أن "الآخر" متمثلا في العدو المتربص كان لازما لتحديد شروط "الأنا الجمعية"؛ لكن هل علينا أن نعيش ماراثون من الهواجس والمخاوف والعداء المتصور والحقيقي من أجل بناء نسيج وطني متماسك: كنموذج حالة ارتريا اليوم؟
بالطبع الإجابة لا تشير إلى اتجاه جبري يلغي تماما وجود العدو المتربص؛ ففي الأخير نحن في عالم لا تحكمه الملائكة، ولكن نفس هذا العالم المزروع بالمخاوف الداخلية والخارجية هو الذي يحتم علينا التساؤل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى