نزار قباني - زمانـك بستـانٌ .. وعصـركَ أخضرُ

زمانـك بستـانٌ .. وعصـركَ أخضرُ = وذكـراكَ ، عصـفورٌ مـن القلب ينقرُ
ملأنا لك الأقــداحَ ، يا مــن بِحُبّـه = سكِـرنا ، كما الصـوفىّ بالله يســكرُ
دخلت على تاريخنـــا ذات ليلـــةٍ = فرائحــةُ التاريــخ مسكٌ وعنبــرُ
وكنت َ، فكـانت فى الحقــول سنابلٌ = وكانت عصــافير ٌ.. وكان صــنوبرُ
لمسْتَ أمانينــا ، فصــارتْ جداولاً = وأمطــرتنا حبّـا ، ولا زلتَ تمطــرُ
تأخّــرت عن وعــد الهوى يا حبيبنا = وما كنت عن وعــد الهــوى تتأخرُ
سَهِدْنا .. وفكّــرنا .. وشاخت دموعنـا = وشابت ليالينــا ، وما كنت تحضــُرُ
تعاودنـــى ذكــراك كلّ عشيّــةٍ = ويورق فكـــرى حين فيــك أفكّر ..
وتأبى جراحـــى أن تضــمّ شفاهها = كأن جــراح الحــبّ لا تتخثّـــرُ
أحبّك لا تفسيــر عنــدى لصَبْوتـى = أفسّـر ماذا ؟ والهـــوى لا يفسَّــر
تأخرت يا أغلـى الرجـــال ، فليلنـا = طويـل ، وأضــواء القناديـل تسهرُ
تأخّـرت .. فالسـاعات تـأكل نفسهـا = وأيامنا فــى بعضهــــا تتعثّــرُ
أتسأل عن أعمــارنا ؟ أنت عمــرنا = وأنت لنا المهــدىّ .. أنت المحــرّرُ
وأنت أبو الثــورات ، أنت وقـودهـا = وأنت انبعـاث الأرض، أنت التغيّــرُ
تضيق قبـور الميتيــن بمــن بهـا = وفى كل يــوم أنت فــى القبر تكبرُ
تأخــرت عنّا .. فالجيــاد حـزينـة = وسيفك مـن أشـواقه ، كـاد يكفـــرُ
حصانـك فـى سينـاء يشـرب دمعَهُ = ويا لعــذاب الخيــل ، إذ تتـذكـّرُ
وراياتك الخضــراء تمضــغ دربها = وفـوقك آلاف الأكاليــل تُضـــْفَرُ
تأخــرت عنا .. فالمسيــح معـذّبٌ = هناك ، وجــرح المجــدلية أحمرُ ..
نساء فلسطيـنٍ تكحّلـن بالأســــى = وفى بيت لحــمٍ قاصـراتٌ .. وقصّرُ
وليمونُ يـافـا يـابسٌ فـى حقولــهِ = وهل شجــرٌ فى قبضـة الظلم يُزهرُ ؟
رفيق صــلاح الدين .. هل لك عودةٌ = فإن جيـوش الــروم تنهــى وتأمرُ
رفاقك فى الأغــوار شـدّوا سُروجَهم = وجنـدك فى حِطِّين ، صلّوا .. وكبّروا ..
تُغنّـى بـك الدّنيــا .. كأنك طـارقٌ = على بـركات الله ، يرســو .. ويُبحرُ
تناديـك من شــوقٍ مـآذنُ مكّــةٍ = وتبكيـك بَــدر ٌ، يا حبيبـى ، وخيبرُ
ويبكيـك صـفصاف الشــام ووردها = ويبكيـك زهـرُ الغـوطتين ، ودُمَّــرُ
تعال إلينــا .. فالمــروءات أطرقتْ = وموطــن آبائــى زجـاج مكسّرُ ..
هزمنـا .. ومـا زلنـا شِتـاتَ قبائـلِ = تعيشُ على الحقــد الدفيــن وتثـأرُ
رفيق صــلاح الدين .. هل لك عـودةٌ = فإن جيـوش الــروم تنهـى ، وتأمرُ
يحاصــرنا كالمــوت ألفُ خليفــةً = ففى الشرق هولاكو .. وفى الغرب قيصرُ
أبا خالـد أشكـو إليــك مـواجعـى = ومثلــى له عــذرٌ .. ومثلك يعــذرُ
أنا شجــرُ الأحــزان ، أنـزفُ دائماً = وفى الثلـج والأنـواءِ .. أعطـى وأُثمرُ
يثيـرُ حــزيـرانٌ جنونـى ونقْمتَـى = فأغتال أوثانــى .. وأبكـى .. وأكفـرُ
وأذبــح أهـلَ الكـهف فـوق فراشهم = جميعاً ، ومن بـوّابـة المــوت أعبرُ
وأتـرك خلفــى ناقتـى وعباءتــى = وأمشى .. أنا فى رَقْبــة الشمس خِنجرُ
وأصـرخُ : يا أرض الخرافات ِ.. احْبلى = لعلّ مسيحــاً ثانيـاً .. سوف يظهرُ ..
أعلى